26 - 06 - 2014, 03:06 PM | رقم المشاركة : ( 91 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي
فتنة طائفيّة أم افتتان بالطائفيّة -1 نقرأ المشهد الحالي في مصر ولا نملك إلاّ تأوهّات الألم، الذي يمتزج بالحيرة عند البعض، على تفسُّخِ مجتمعٍ وقفت أمامه الحضارة في اندهاشٍ وإعجابٍ لعدّة أجيال. كانت مصر هي مخزن الحضارة الذي يعبر عليه كلّ من أراد أن يصنع حضارته. ولكنّها الآن أضحت أطلال وأكوام من التاريخ الباهت على وريقات حاضرِه المتهرّئة، والتي تلوّنت بلون الرماد وكّأنها تشارك الهواء الملوّث حصاره لمصر الآن. وإن أردنا أن نعرف الحقيقة خلف ما يجري لا يجب علينا أن ندور في دائرة ما اعتدناه من مفاهيم لا تُعبِّر عن / ولا تُوصِّف الحقيقة كما هي واقعة الآن! فالواقع يخفي من الوقائع ما لا نرصده، ولكن يمكن قراءته بعدسات العقل الهادئ المكبّرة وفي مكان يخلو من صخب الشارع والأحداث. أوّل محاولات الفهم هي الخروج خارج المشهد لرؤيته من علوٍ، كليًّا، حتى يمكن ربط الأحداث الفرادى معًا لنحصل على صورة أكثر تعبيرًا عن الواقع لا تنبأنا بغيبٍ آت، ولكن تنبّهنا إلى ما يمكن أن ينتج ممّا هو حال. ولعلّ القراءة الهادئّة ليست الآن رفاهيّة ولكنّها ضرورة لوعي ما الذي يحدث حقيقة، إذ لا يمكن لإنسانٍ في خضمّ مشاعر مختلطة من الألم والأسى والجرح العميق والغضب العاصف أن يصل لتحليل واقعي حقيقي لما يحدث. يجب علينا أن ندرك أولاً وقبل كلّ شيء، أنّ تلك الحالة التي تشبه البحر المتلاطم مقصودة، إن لم تكن مدبّرة بشكل مباشر من خلال تحريضٍ، أو غير مباشر من خلال غضّ الطرف عمّا يجري، أو استثمار مستصغر الشرر في صناعة الحرائق الكبرى، وذلك من أجل تمرير الكثير والكثير من الأشياء، في ظلّ أزمات ذات صدىً عالٍ في المجتمع تهدّد هناء الحكم واستواءه على عرشه! ولعلّ لمحة خاطفة سريعة لكلّ المواقف المأساويّة التي مرّت بها الكنيسة عبر العقود الماضيّة نجدها متشابهة.. قتل مفتعل على أسباب تافهة.. ردّ فعل من الجانب الآخر.. كلمات من الغضب والسباب المتبادل.. مشاعر ثائرة على الجانب المجني عليه.. هتافات ثوريّة.. تصادم مع الآخر.. إلخ.. والنتيجة النهائيّة من كلّ هذا، قتلى وجرحي ثم لا شيء على الإطلاق. لذا فإن تكرار ردود الأفعال كلّ مرّة إنّما يُعبّر عن غياب تام للوعي والعقل الذي يجب أن نخرجه من بين بحر المشاعر المتلاطم والملتهب. وبمشاهده سريعة لأيّة جنازة لقتلى عدوانٍ غادرٍ في أيّة دولّة عربيّة، ولأي فريقٍ من اليمين أو اليسار، سيجد الأمور متشابهة من حيث الانفعال الذي يُنفّس عن ثورة من الغضب لا أكثر ولكنّه لم ولن يصل إلى حلّ واقعي لما يحدث، بل على العكس! لذا فإنّ أوّل انتصار حقيقي يكون بألاّ نصل بمفجّري الأزمة إلى مبتغاهم من تحريك الجموع وفق إرادتهم، وفي اللّحظات التي يريدونها، بل على العكس يجب من خلال القراءة الهادئة ألاّ نصل إلى حالة الثورة العشوائيّة لكي لا يصلوا هم إلى ما يريدونه. يجب أن نهدأ إن أرادونا ثائرين، ونهبّ بنداء الحقّ إن أرادونا صامتين. هذا الأمر لا يجب النظر إليه وكأنّه تنصّل من الواجب أو عدم مراعاة الحقوق، بل على العكس هو وعي أعمق بالوسائل الصحيحة، وإن كانت طويلة المدى، للحصول على الحقوق. فثورة المشاعر الجيّاشة، والغضب الناتج من الكبت المتراكم يجعل من الجموع في الشرق الأوسط سهلة التحريك غير المباشر وبخيوط خفيّة يصعب الوصول إليها تحديدًا. لا نجد هذا الأمر في الدول المتحضّرة، فلم نرصد في أحداث سبتمبر 2011، على سبيل المثال، ثورات تندّد برحيل نظم وصرخات ثوريّة واندفاع في الشوارع وتصادم مع الآخر.. إلخ، لم نجد شيئًا من هذا، وذلك ببساطة لأنّ الانفعال لا يصل إلى المنشود. إنّ التفكير والعقل الهادئ الذي يدرس الأمور على كافّة الأصعدة هو الذي يستطيع أن يصل إلى الحلّ الجذري للإشكاليات المتلاحقة. وهنا يلوح السؤال في الآفاق: هل نحن بصدد فتنة طائفيّة؟؟ وهو ما يجري على الألسنة جريًّا على العادة. وفي إجابة سريعة تزحف على السطح يردد الكثيرون نعم! إلاّ أنّ الأمر أصبح أكبر من فتنة طائفيّة لأنّه لم يعد يعبّر عن خيط شارد في رداء المجتمع، ولا عن موقف عابر في أحداث المجتمع، ولا عن أزمة فائرة في محيط المجتمع. لقد أصبح الإنسان المصري، في الكثير من الأماكن، أشبه بكتلةٍ من الرماد يحمل في طيّاته جمرًا مشتعلاً يفور ويفور.. يريد أن ينطلق وينفجر كما تنفجر قشور الأرض من تدافع نيران البراكين الثائرة الهادرة من تحتها! إن كانت كلّ مقومات الكراهيّة في القلب، وكلّ تعليمٍ مسمومٍ قد سرى في الذهن، وفي اليد أطلّت كلّ أدوات البغي والعنف، ومن العقل غاب كلّ منطقٍ، ومن السلوك تبخّر كلّ تديّن سليم لتفوح منه كلّ ما هو سقيم. فكيف لا ينتج هذا الإنسان المُلغَّم بالموت، افتتانًا بصناعة الموت؟! لقد انتقلنا منذ زمنٍ من الفتنة الطائفيّة العابرة إلى الافتتان الطائفي الدائم وفي الافتتان تفنّن في الإيلام! وتأتي ألويّة التبرير للقتل والسحق لتُحيِّد الضمير في تلك المعركة الضروس، من أجل أن يصير الإنسان أقرب للآلة المؤدلجة منه للإنسان المتعقّل الواعي. لقد تمّت صناعة هذا الكائن الجديد بحرفيّة شديدة، وقد مرّ بطفولة العنف العابثة اللاهيّة ومراهقة العنف الذاتيّة الانفعاليّة وفتوّة العنف القاسيّة المحتدمة ومنهم الآن من يحيا فترة رجولة العنف الخبيثة الخبيئة عن الأنظار.. إلخ، والنتاج هو ما أطلّت به علينا أجيالٌ أشبه بماردٍ، تعتنق عقيدة السيف والرصاصة والقنبلة، وهي في انتظار، بل ترقُّب للحظتها المقدّسة والتي تقذف فيها حممها البركانيّة لتقضي على الأخضر واليابس! نكمل تلك القراءة في مقالٍ قادمٍ.. |
||||
26 - 06 - 2014, 03:07 PM | رقم المشاركة : ( 92 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي
أسبوع العبور: فلنلتف حوله -1 في هذه الأيام نلتفّ حول المسيح في رحلته الأورشليّمية الأخيرة التي لن يعود بعدها إلى بحر الجليل ولن يرى بعدها طرق السامرة ولن يصعد إلى كفرناحوم ولن يترجّل مرتقيًّا جبل تابور الذي شهد قبس النور المتدفّق منه وسط غلالة من سحابٍ. لن يداعب سنابل القمح بأنامله الرقيقة ولن يتأمّل في زنابق الحقل فيما بعد.. لن يشير لضوء القمر السني ولا للفحات الشمس اللاّهبة فيما بعد.. لن يحبس في قبضة يديه مجموعة من بذار الحنطة فيزرعها مَثَلاً في خيال من حوله، ولن ينحني ليكتب بأصبعه على أتربة العالم رسالة تبكيتٍ لمن ظنّوا أنفسهم أصحّاء فيما بعد.. لن يتنسّم هواء الصباح البكر نافثًا في العالم نسمات الألوهة، ولن يعتلي القارب المترنّح على صفحات المياه المذهّبة مُعَلِّمًا رفقته وقت الغروب فيما بعد.. لن يُبَلِّل وريقات الشجر المتطايرة بدموع ألمه على خليقته الرافضة الخلاص، ولن يمسّ بركبتيه المنحنيّة العشب الخفيض متضرعًا عن العالم المنحدر فيما بعد.. لن يجلس على صخور الجيل متأملاًّ، ولن يدلف إلى مغارات الجبال العميقة في ليالي الشتاء والمطر فيما بعد.. نلتف حول المسيح إذ أنّ تلك الرحلة هي رحلتنا نحن؛ فالمرض هو مرضنا، والألم قدرنا، والموت مصيرنا! نلتف حوله لنرى مقدار الحبّ الذي كلّفه وهو ما يَعِنَّ لبشريٍّ أن يستوعبه.. نلفت حوله وسط الجماهير الصارخة بالأوصنّا، الطالبة الخلاص، المحتفيّة بمَقْدِم يسوع وسط أناشيد المزامير وأهازيج الاحتفال العازفة على نغمات جمهور التلاميذ البريء الذي عرف كيف يفك شفرة يسوع الناصري فيراه المسيّا المخلّص.. فنشاركهم الهتاف بالإفلوجيمينوس وتقديم الذوكصا لإلهنا وسط نغمات الهلّلويا.. نلتف حول ذاك الوديع والمتواضع وهو يمتطي الجحش الصغير صانعًا من حركته البطيئة والمتعثّرة موكبًا تحفه سعفات الاتضاع العظيم الذي لملكٍ عظيمٍ.. نلتف حول من ارتجَّت المدينة لِمَقْدَمه وهو لم يأت مُدَّجَجًا بالسلاح ولا مزوّدًا بالحرس الملكي ولا مُؤمَّنًا بحاميات عسكريّة، كما لم يمتطي صهوات الخيول العربيّة الأصيلة.. في عالمه من يقدر على امتطاء مطيّة الذات ترتج أمامه مدن العالم؛ فهو يهزّ أركان العظمة الزائفة بالعبور الرقيق المليء بالمعنى ويعلن مُلْكُه أنّه ملكوت الرقّة والعذوبة والوداعة لا ملكوت الخوف والإرهاب والطغيان.. نلتف حوله وهو يبكي بوجعٍ ومرارةٍ وأنينٍ على تلك المدينة اللاّهية عن خلاصها النائمة في حضن أمانٍ زائفٍ، القانعة بسفك الدماء المُزْمَع أن يكون.. نلتف حوله وهو يستحضر من المستقبل صورة أعدائها وهم يحيطونها بالمتاريس الضخمة ويقذفونها بوابل من النيران، ويدكّونها أرضًا، ويذبحون بلا رحمة من فيها وسط صرخات الألم وحشرجات الاحتضار.. فنبكي على مدننا قبل أن تحيط بها ليل التجربة وينفث الشيطان لهبًا في بيوتّها القشّ فيحيلها رمادًا وسط قهقهات الانتصار.. نلفت حوله وقد بدأت مؤامرات الفريّسيّين المُبَكِّرة تُحاك، حينما صَرَّوا بأسنانهم من صرخات الحمد التي حملت موكبه على أمنيات الرجاء، والتي لم تخرج من قبل لتكريمهم وهم الذين يرتدون العصائب العريضة والأهداب الطويلة ذات الجلاجل، فالحناجر المقيّدة في مقطرة شبح الموت سنين طوال بالعبوديّة، لم تملك حريّة الغناء قبل رؤية موكب يسوع المُلْهِم بعالم آخر ليس فيه للمظهريّة مكانة ولا مكان.. نلتف حوله وهو يصرخ في رواق الهيكل مناديًّا في الزحام العابث أنّ بيت الآب بيتٌ للصلاة! وقد استحال مغارة يتقاسم فيها اللّصوص ربحهم الدنيء من تجارة ممسوحة بالدين ومشفوعة بالبركة التي تفرضها أجواء الهيكل وحاجات مرتاديه.. نلتف حوله في ليلته التي قضاها في بيت عنيا برفقة تلاميذه البسطاء وهم لا يعلمون بعد ما هم مُقْبِلُون عليه في غضون أيامٍ معدودات.. نلتف حوله في ليلته التي قضاها مُتَسَرْبِلاً بظلّ القمر الخافت ليلاً، والممتزج بتلألؤ النجمات القصيّة، وهو يناجي بصرخاتٍ لم تبدأ في الجسثيمانيّة بل تحّركت مُفرداتها في قلبه وهو في بيت عنيا، قائلاً: ها الكأس أمامي فإن كانت إرادتك عبورها أيّها الآب فليكن؛ فما لي شراب سوى من كأس مشيئتك.. فلنلتف حوله بقلوب تصنع من نبضاتها سعفات حبٍّ وتنشدها:
|
||||
26 - 06 - 2014, 03:08 PM | رقم المشاركة : ( 93 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي
تساؤلات هادئة حول الفكر الإلحادي: خواطر أوليّة -1 يتحدّث الكثيرون الآن حول فكرة الإلحاد؛ منهم من طالهم هذا الفكر، ومنهم من يحوم حولهم هذا الفكر، ومنهم من يرصدونه من بعيد! ولعلّ الحديث عن الإلحاد قد يكون غريبًا عن آذاننا الشرق - أوسطيّة وعن ذهنيتنا المصريّة؛ فمن المشاع عن المصريين أنّهم يميلون للإيمان بالفطرة! إلاّ أنّ المستجدات الكثيرة من حولنا خلّقت أجيالاً جديدة لها تساؤلات مشروعة، وهي لا تخاف من طرحها والجهر بها في وسط مجتمع لم يعد يقبل بالمسلّمات غير القابلة للفحص الدقيق. والإلحاد ظاهرة قد استشرت في أوروبا عقب الثورة الصناعيّة هذا من جهة الرصد الزمني إلاّ أنّ جذوره كانت كامنة ومتراكمة نتيجة عبث رجال الدين بالإيمان وتطبيقاته وتحويله إلى صولجان حكم مدني وتحكّم في مصائر الناس وضمائرهم بشكل غير مسبوق لا سابقًا ولا لاحقًا في إطار تلك المجتمعات عينها. هناك بالطبع نماذج أشد وطأة في استغلال النفوذ الديني في أماكن أخرى، ولكنّها لم تكن في دائرة الحضارة كما بدت أوروبا الناهضة من منتصف القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر. على كلّ الأحوال يمكن رؤية الأمر من منظور آخر وهو أنّه يُحسب لتلك المجتمعات أنّها لم تقبل العبث الديني بضمائرهم، إلاّ أنّ ردّة الفعل كانت عنيفة للغاية وباتت تتعلّق بوجود هذا الإله الذي تعكسه تلك القيادات وقتها. وهذا أشبه بالانتقال من الحكم الاستبدادي الديني إلى الاستبداد العقلي، والحقيقة تائهة بين الفريقين!! والإلحاد لا يجب أن ننظر إليه بتوتّر، بقدر ما يجب أن نكون على استعداد لفتح حوار حقيقي مخلص حول ماهيّة الله الحقّ. لا يجب أن نعاديه لئلا يتغوّل ويصير كتلة معاندة، ولكن علينا التقاؤه في صميم ألمه ووجعه؛ فالإلحاد هو صرخة ألم وجوديّة من هول الحياة ومآسيها، كما أنّه صرخة نداء لأسئلة لم تجاوب بعد. المشكلة الحقيقيّة تكمن حينما يبدأ الفكر يطرح قضايا ماورائيّة تتعلّق بوجود الله مطالبًا ببراهين موضوعيّة وليست شخصيّة؛ براهين مُشاهَدة وقابلة للتحقُّق! هذه الإشكاليّة تجعلنا نتسائل: هل عرفنا السبب أو العلّة في وجود كلّ شيء في الكون؟ هنا ستكون الإجابة لا، ولكن العلم يكتشف هذه الأمور يومًا بعد يوم. إلاّ أنّ السؤال هنا يتحدّث عن العلّة (السبب / المسبب) لا تفسير الظاهرة، يتحدّث عن “لماذا؟” وليس “كيف؟”. فمثلاً نحن اكتشفنا دائريّة الأرض؛ تلك هي الظاهرة وجاء تفسير الظاهرة ليشرح أهميّة دائريّة الأرض في سياق الحركة في المجموعة الشمسيّة والتي تحافظ على مسارات محدّدة تضمن بقاءها في نقطة الاتزان والذي يؤهلها لسكنى البشر من جهة الجاذبيّة ودرجة الحرارة.. إلخ. إلاّ أنّ السؤال هو لماذا من الأساس وُجدت الأرض؟؟ يبقى بلا جواب، إلاّ من نظريّة الصدّفة الانفجاريّة! وهنا نتسائل كيف للمصادفة أن تصنع القوانين؟ وكيف للمصادفة أن تحافظ على استمراريّة القانون عبر العصور؟! ونعود إلى سؤال آخر عن المادّة التي وجدت في داخلها تلك الطاقة التي انفجرت في لحظة ما ونشأ عنها، صدفةً، هذا الكون بتلك القوانين الدقيقة؟ سنجد أنفسنا نعود إلى الخلف إلى نقطة كيف وجدت المادّة الأولى؟؟ هنا سيتلاشى الجواب الموضوعي تمامًا. بل ستكون الإجابة في إطار الوجود الذاتي، في شكل ما أوّلي، وهو ما لا يستوعبه العقل! بل ويضاد طبيعة المادّة نفسها التي تحمل قوانين فناءها بداخلها وهو ما يشير إلى محدوديّتها ولا أزلّيتها. إذًا فقد قبل العلم بقدر من المنطلقات التي لا يستوعبها العقل ولا توجد في مخطّطات العلم الحديث حتى يمكن أن نبني عليها النظريات التاليّة أو البناء العلمي بأكمله. فلماذا حينما يكون التساؤل حول وجود الله مخيبًا لرجاء العقل العلمي يرفضه لأنه لا يستوعبه؟! فإن كان العقل العلمي لا يستوعب الوجود الذاتي للمادّة، فلما يرفض الخلق الإلهي؟؟ هنا ازدواجيّة في المعيار القياسي للأمور.. وإنْ دخلنا في إطار نظريّة التطوُّر والتي تأتي مشفوعة بكم من الحفريات التي لكائنات من أزمنة سحيقة لتشير إلى ترجيح تلك النظريّة. وهنا أتسائل هل الشكل المورفولوجي الخارجي هو جوهر نظريّة التطوّر أم الوعي الإنساني بمعناه الإبداعي الخلاّق هو جوهر نظريّة التطوُّر؟؟؟ أو بمعنى آخر، هل تقوم النظريّة على تحوّل القردة العليا (في المرحلة النهائيّ) إلى إنسانٍ، مورفولجيًّا (البناء الجسدي الخارجي) أم هذه النقلة في الوعي والذكاء والإدراك الخلاّق؟؟ إن كانت النظريّة تتحدّث عن الشكل الخارجي، فلا بأس، فليس في ذلك أيّة إشكاليّة، ولكن إن كانت تلك النقلّة النوعيّة في وعي الكائن، فما البرهان العلمي على ذلك، وهل اكتشاف مجموعة حفريات لها ملامح مورفولوجيّة خارجيّة معيّنة هي تعبير عن نقلة نوعيّة في الوعي بين القردة العليا والإنسان؟؟؟ كيف يبرهن العلم عن النقلة النوعيّة في الوعي الخلاّق، هذا هو السؤال؟؟ الأمر الآخر، هل يمكن توصيف الإنسان أنّه مجموعة مجرّدة من الجينات؟؟ فما الفارق بين الإنسان الحي والإنسان الميّت فكلاهما يحمل نفس الجينات؟؟ فلماذا يتوقّف الأخير عن الحياة؟ وإن كان الجواب بسبب تلف في أحد الأعضاء التي تؤثّر على المخ، يكون التساؤل لماذا لا ننقل عضو سليم ومخ آخر من كائن ما في جدول التطوّر الأقرب للإنسان لنعيد الحياة للإنسان، في سياق نفس المجموع الجينيّ لهذا الإنسان عينه، حتى يحيا الإنسان مجدّدًا؟!! وهل ينتهي الكائن بانتهاء صلاحيّته الجينيّة أو العضويّة إن جاز القول؟؟ ويمكن أن نتساءل حول مشاعر الإنسان لماذا يفرح؟؟ وإن كانت الإجابة في سياق الحديث عن حركة هرمونات فإنّ مثل تلك الإجابة تتحدّث عن آليّة الشعور بالفرح وليس السبب في حركة الهرمونات تلك أو إعطاء الإشارة من العقل إلى الخلايا العصبيّة.. إلخ. ويمكن أن نتسائل حول سبب الحزن والغضب والألم.. ولماذا نتألّم على فقدان شخصٍ ما، إن كانت الحقيقة المجرّدة هي فقط عقليّة وهي تستوعب وجود الموت كمكوّن أساسي في دورة حياة الإنسان؟! وإن كانت الإجابة بأنّها ناتجة عن التعوّد والذي يؤثّر في هرمونات بعينها أيضًا، نعود للسؤال الأصلي ولماذا تكوين الإنسان هكذا؟؟ ففي معظم الكائنات اعتياد الموت شيء طبيعي؛ فمثلا لا نسمع عن مناحة موت في عالم النمل أو عالم السلاحف أو عالم الأسماك أو عالم الطيور.. إلخ. وقد يقول قائل ولكن في عالم الحيوان نرصد بعض ملامح الألم على فقدان شخص مثل الكلاب على سبيل المثال، وهنا يكون التساؤل هل هذه قاعدة أم استثناء في حياة الكائن؟؟؟ وفي المقابل هذه هي القاعدة في حياة الإنسان.. كما أنّ التطوّر هل يتحدّث عن تطُّور من الكلب إلى الإنسان مباشرة أم أنّ الحلقة الأخيرة ما قبل الإنسان هي القردة العليا؟ فلماذا إن كانت أكثر تطورًّا من الكلب فهي أقل منه في تلك المشاعر؟؟ هل هو تطوّر سلبي ثم فجأة يتحوّل لتطوّر إيجابي؟؟؟!! تساؤلات لا أكثر.. وأيضًا يمكن أن نتسائل حول كيفيّة تفسير الكثير من مظاهر الحياة التي تشير إلى وجود مكوّن آخر في الإنسان أبعد من جسده وعقله؟؟ هذا المكوّن الذي نسمّيه الروح أين يقع من الإنسان؟؟ وكيف يمكن رصده علميًّا؟؟ فإن كنّا لا نستطيع أن نرصد علميًّا الروح الإنسانيّة، فهل يمكننا أنة نرصد الروح الخالقة الكليّة؟!! مجرّد تساؤل.. وإن كان تعريفنا للإنسان أنّه بلا روح، أي أنّه مُجرّد جسد وعقل، فكيف يمكن تفسير الاختلاف الكبير في طباع البشر بالرغم من كونهم يحملون نفس الخصائص العقليّة التشريحيّة تقريبًا. فمثلاً لا نجد فروقات كبيرة عند الكائنات الأخرى في إطار النوع الواحد، إلاّ أنّ الفروقات بين البشر رهيبة جدًّا.. من أقصى الخير إلى أقصى الشرّ.. من أقصى العلم إلى أقصى الجهل.. من أقصى الحبّ والإيثار إلى أقصى الذاتيّة والأنانيّة.. من أقصى القدرة على العمل إلى أقصى درجات الكسل.. من أقصى درجات ضبط النفس إلى أقصى درجات الانفلات الأخلاقي.. إلخ.. وقد يجيب البعض أنّ هذا يرجع لتباينات التكوينات الجينيّة عند الإنسان، وهنا يمكن أن نسأل ولماذا لا يوجد تباينات جينيّة في أي كائن آخر (وسيط) يدلِّل على مرحلة الانتقال من الكائنات غير الواعيّة إلى الواعية؟! كيف يفسّر لنا التشريح المورفولوجي العقلي مثل هذا التباين؟! وإن كان التفسير من منطلق البيئة والتربيّة والأسرة.. إلخ، فكيف يمكن تفسير هذا التباين الذي يحدث في إطار الأسرة الواحدة بل وفي إطار التوائم أنفسهم وذلك في البدايات قبل أن يخرجوا للعالم فيؤثّر عليهم؟؟ مجرد تساؤلات.. إنّ العلم كلّه ما هو إلاّ اكتشاف ما هو كائن في الكون، ونادرًا ما يعطينا أجوبة حول السبب في ذلك؟ أي أنّ العلم اكتشف قانون الجاذبيّة، ولكنّه لم يعطينا تصوّر لمن صانع هذا القانون؟ وأقول من وليس ما، لأنّ العلم ذاته يطلق كلّ فعل خلاّق من الإنسان وليس من الأشياء؛ فالإنسان هو صانع مركبات الفضاء وطائرات الجو وغواصات المياه والحاسبات الآليّة.. إلخ. لم نقرأ أو نسمع عن أي كائن قام بفعل خلاّق بعيدًا عن فطرته التي تتشابه من جيل إلى جيل، إلاّ أنّ الفعل الخلاّق في الإنسان ليس هو الاستثناء ولكنّه هو القاعدة فلا يوجد نسخ كربونيّة بين البشر على الإطلاق في طريقة التفكير... لذا فهناك “من” في الكون يجب أن نبحث عنه لا بأدلّة الحقيقة الحسيّة التي يمكن رصدها في المعامل ولكن بآليات أخرى ولكنّها من نسيج مكونات الإنسان في تعرّفه على الحقيقة.. أولى تلك الآليّات هي رؤيّة الإنسان ككلٍّ لا ينفصل إلى حسّي وروحي؛ الحسي منه في دائرة اليقين والروحي منه في دائرة الشّك.. ومن هذا المنطلق تبدأ رحلة البحث في الحياة لا من حيث تفسير الظواهر لكن من خلال علّة الظواهر وأسبابها.. وفي هذا يرفع الإنسان نظره إلى العلّو في إخلاص وصبر وتهيّؤ لفهم الحقّ القابع وراء كلّ الظواهر.. وهنا علينا بالصلاة المثابرة؛ فالقضيّة تستحق عناء البحث لأنّها قضيّة وجود الإنسان التي تفقد معناها إن فقدنا الله. وإن لم يكن هناك إله، فإنّ الإنسان يتحوّل إلى مَرْتَع للدود في نهاية الأمر!! |
||||
26 - 06 - 2014, 03:09 PM | رقم المشاركة : ( 94 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي
تساؤلات هادئة حول الفكر الإلحادي: خواطر أوليّة -2 حينما سُئِلَ ريتشارد داوكنز Richard Dawkins عن السبب الذي يدفع قطاع كبير من البشر للإيمان بوجود إله أو قوّة عليّا، كان ردّه أنّ ذاك قد يرجع إلى عامل نفسي ينتج عن الرغبة في إلقاء بالمسؤوليّة على آخر أو الانتماء لآخر أو الشعور بأنّ هناك من يحمل الحمل مع الإنسان. كما أضاف أنّ الأمر قد يرجع لعامل يتوافق مع نظريّة التطوُّر وهو أنّ الأجداد الأوائل للإنسان بموجب التطوّر ظهرت لديهم جينات شكّلت العقل بطريقة أدّت إلى خلق هذا التصوّر بقوى عليا أخرى في الكون. إنّ تأمّلنا فيما قاله داوكنز سنجد أنّ طرح الموضوع في الدائرة السيكولوجيّة يعطي دلالة أنّ الأمر في صميم تكوين الإنسان، أي أنّ الإنسان تصرّف بموجب تصميمه الأصلي وهو البحث عن آخر ينتمي إليه ويتشارك معه ويأمن إليه. فالإنسان يتحرّك بحسب نزوعه للأساسيّات في تكوينه؛ فهو إلى الآن يحتاج إلى الأمان والطعام والسكن والشركة مع آخر والجنس والعمل.. إلخ، تلك حفريات على وجدان الإنسان الأصلي. إذًا فالبحث عن الأمان إن كان في صميم النموذج الأصلي الإنساني لا يمكن أن نتّخذه حجّة على لاموضوعيّة الإنسان! بل بالأحرى هذا يحسب له أنّه تحّرك بحسب تكوينه ليكتشف مصدر هذا الأمان. وإن توصّل من خلال الخبرة الوجدانيّة والروحيّة الشخصيّة والجمعيّة إلى أنّ نبع هذا الأمان هو الله لا يمكن أن نلوم الإنسان لأنّ آلية بحثه الطبيعيّة وصلت به إلى نتائج تصيب من لا يؤمنون بالله بخيبة أمل! وإن كان مبحثنا في رأي دارون الخاص بتنميّة الجينات وتوارثها تلك التي شكّلت الْعَقْل على هذا النمط من التفكير، كيف لنا أن نفهم إيمان بعض الملحدين بالله لاحقًا في حياتهم، أي أنّهم بدأوا بعدم توارث هذا الجين المشكّل لهذا النمط من التفكير ثم ما لبثوا أن توصّلوا إلى وجود الله، هذا يعني أنّ حركتهم هي حركة إرادة واعيّة حرّة وليس موروث جمعي لاواعي. وإن اتخّذنا هذا القياس يمكن أن نقول بموجب نظريّة التطوُّر أنّ رفض فكرة الإله هي نتيجة جين تم توارثه وقد نشط في هذه الحقبة الزمنيّة، ومن ثمّ يكون هذا وهم كبير يقع فيه غير المؤمن بالله لا إراديًّا نتيجة توارث الأمر من خلال الانتخاب الطبيعي الجيني! إنّ محاولة تجريد علاقة الإنسان بالله من الإرادة الحرّة والخبرة الشخصيّة تجد لها حظًّا من النجاح لمن لم يصر لهم الله إلهًا خاصًّا في عالمهم الخاص، إلاّ أنّ من تذوّق سكنى الله في القلب وعمله في الحياة يدرك تمامًا أنّ ما يُحفر على الروح لا يمكن لزوابع المنطق المنقوص أن ينتزعه.. وقتها ستقف الخبرة الشخصيّة الحيّة أمام النظريّة التجريديّة ولن تصمد لحظة واحدة في مثل هذا الإنسان.. فقط نختبر الله بشكلٍ خاصِّ.. تلك هي وسيلتنا وآليتنا لمعرفة الله.. |
||||
26 - 06 - 2014, 03:10 PM | رقم المشاركة : ( 95 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي
تساؤلات هادئة حول الفكر الإلحادي: خواطر أوليّة -3 إنّ النظريات العلميّة الحديثة قائمة على المشاهدة في الكثير من الأحيان، لذا فإنّه في هذا الإطار تبدو نظريّة الاختيار الطبيعي للتطوُّر فيما يتعلّق بأصل الإنسان محيّرة! هذا لأنّ أحدًا لم يشاهد عمليّة التطوّر لأنّها جرت على امتداد آلاف وملايين السنوات بحسب ما كتبه مُنظّرو هذه النظريّة. ألاَ يدخلنا هذا الأمر في منطقة الاستدلالات غير المباشرة بدلاً من المشاهدة المباشرة؟ وألا يجعل هذا الأمر من النظريّة بعيدة عن اليقين العلمي؟ وألا يجعل منها في المنطقة الإيمانيّة القائمة على دلائل؟ إنّ كان الله في الاختبار المسيحي نستدل عليه بالكثير من المعطيات، وهذا مثار تشكيك بعض منظرو العلوم، فلما على هذا القياس يتم قبول استدلالات التطوّر وإدراجها في دائرة العلوم؟ قد يقول قائل لأنّ الحفريات تثبت هذا الأمر! وهنا يمكن القول إنّ الإيمان بالله فكرة نجد لها نقوشًا في مختلف الحضارات بمختلف الطرائق عبر العصور، ألا يمكن إدراج هذا الأمر كاستدلال على وجود الله؟! وهنا يخرج علينا البعض ليفسّر فكرة الألوهة في العقل البشري (كما ورد في المقال 2)، وهنا يلجأ لتفسير الاستدلال ليخدم النظريّة الخاصّة. فلما لا يتم تفسير الاستدلالات الحفريّة خارج سياق نظريّة التطوّر وخاصّة أنّه ليست ثمّة دلائل على نمو الوعي الخلاَّق ما بين الأنواع المختلفة؟! مجرّد تساؤل.. |
||||
26 - 06 - 2014, 03:12 PM | رقم المشاركة : ( 96 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي
نحتفي بك،، نحتفي بك،، يا من حاصرتك ظلمة الفساد ليالٍ طوال وكأنّها ممتزجة بسوادٍ بشرةٍ وكأنّ المصير بلون الحياة! نحتفي بك،، يا من استطعت أن تفتضح زيف الظلمة وتمزّق قناعها الهشّ لتتنسّم نور الحياة الجديدة ليغتسل القلب ويصير أبيضَ من نصوع الثلوج على سفوح الجبال. نحتفي بك،، يا من استطاع أن يمزّق كفن العالم الذي أراد أن يحاصر روحه في ليالٍ غاب عنها قمر الضياء وكأنّ الفجر ليس له مكانٍ في سماء تلك الروح المكبّلة. نحتفي بك،، يا من بحث عن ماء الجداول النقي ولم تَرُق له كؤوسٍ مرمريّةٍ ولكن بها مياه الآبار العكرة بالشهوات. نحتفي بك،، يا من سمع دبيب الروح الحبيسة في أعماقه القصيّة، وفتح لها طاقة من وجدان البحث، لتفرد جناجيها على أنغام الحقّ العلوي. نحتفي بك،، يا من كسّر همهمات الأصداء الزائفة التي طالما حاولت أن تعود به إلى ديار القبور الأولى. نحتفي بك،، يا من ارتدى رثّ الثياب واكتفى بجلباب، وهو يتزيّن كلّ يومٍ بثوب البرّ المزركش بفضائل الروح الوديع الهادئ. نحتفي بك،، يا من صار ماهرًا في فن الإصغاء لنداءات الروح وإرشادات المرتحلين على الدرب فصار صوتًا على دروب نغم الحقيقة. نحتفي بك،، يا من استقبل البذار على حقلٍ امتلأ بالأشواك، ولكنّه وصل أيامه بلياليه في انتزاع جذور الأشواك لترى البذار شمس البرّ وتأتي بالشفاء على جناحيها. نحتفي بك،، يا من ذاق من خمر الحبّ الفائض من قنينة الروح في ليال الصلاة، فنسى مذاقات الخمور التي طالما غيّبته عن إنسانيّته ووحّدته ببهيميته في القدم. نحتفي بك،، يا من رفع عيناه إلى جبل المعونة حينما كانت طبول الحرب تدوّي في براري القتال غير المنظور ومن هناك ارتشف من ندى النعمة قدرات صمودٍ ولم يفارق أرض المعركة الحامية الوطيس. نحتفي بك،، يا من ترك دفوف الغربة على أنهار بابل القديمة ليحتفي مع الجمع المسبّح على قيثارات أورشليم الجديدة. نحتفي بك،، يا من روّض الغضب بالصبر، وهذّب الضجر بالرجاء، وجمّل الألم باسم الخلاص الذي ليسوع الحبّ. نحتفي بك،، يا من اشتاق إلى النور فوضع عنقه تحت نصال سيف بربري، وفي صمتٍ وشوقٍ فارق عالمنا ليولد في عالم آخر. نحتفي بك إذ زيّنت بستان الكنيسة برائحة زكيّة فوّاحة بعطور البذل ورسمت ببسمات وجهك الوديع لوحة من المسيحيّة الحقّة بألوان لن يعتريها تغيّر إذ تثبّتت إلى النهاية حتى امتزجت بدماء الحبّ.. يا أبانا القديسّ موسى القوي، اذكرنا واذكر بلادنا.. أمين.. |
||||
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|