الاعتراف
كانت الرهبنة منذ بدايتها الأولى واعية ومُدرِكة بعُمق للخطية، الأمر الذي قاد الآباء إلى الاعتراف الصادِق الذي يعتبره مُشرِعو الرهبنة الأوَّلون أحد الأعمال الأساسية الواجب على المُبتدئ مُمارستها، وصار فيما بعد مُمارسة يومية في حياة الرُّهبان. (60)
وبجانب كونه سِر ضروري ولازم، كان الاعتراف أيضًا أقدس وأعظم أبعاد العلاقة الوطيدة التي تجمع بين الأب والتلميذ، ومن هنا كانت مُهمة أب الاعتراف جل صعبة وأساسية، وتتطلّب قدرًا ليس بالقليل من المهارة والخبرة السيكولوچية، إذ أنَّ الإرشاد الروحي – كما أسلفناه – كان يتم غالبًا أثناء الاعتراف.
ومن النماذِج الرائعة لأب الاعتراف المثالي كان الأنبا مقاريوس الكبير الأب الروحي للإسقيط، وقد حدث أن زار مرَّة راهبًا صغيرًا يُدعى ثيؤبيمبتوس Theopemptos وكان يعرف أنَّ هذا الأخ يُعاني من قِتالات كثيرة، فسأله مقاريوس ”كيف حالك يا أخي؟“ وإذ كان الراهب يخشى أن يقول الحقيقة أجابه بصيغة رهبانية معروفة ”حَسَنْ بصلواتك“ عندئذٍ سأله الأب المُختبِر باهتمام ”ألا تُحارب في أفكارك“ فجاءت إجابته ”حتّى الآن أنا على ما يُرام“ فقال له الأب العظيم بطريقة تربوية تمامًا ”أنا نفسي أُمارِس إنكار الذات لسنوات عديدة ويُكرمني جميع الناس، لكن مع أني رجُل شيخ إلاّ أنَّ شيطان الزنى لا يزال يُؤلمني“ فتشجّع المُبتدئ بهذا القول واعترف بتجارِبه ”صدّقني أنه يُؤلمني أنا أيضًا“.. فالنَّاسِك الشيخ، تظاهر أنَّ الأفكار تحاربه هو الآخر لكي يشجّع الراهب الصغير على الاعتراف. (61)
وغالبًا ما كان آباء الاعتراف يضعون قوانين وعقوبات على الإخوة الذين أخطأوا، وكان هناك أنواع مُتعددة من العقوبات مثل: عمل مِئات الميطانيات، الصوم، الصلوات الإضافية، عدم التقدُّم للأسرار لفترة مُعيَّنة، إلخ... ولم يكُن هدف هذه القوانين مُعاقبة المُخطِئ بل أن تساعده ليفهم ويعرِف خطأه، هذا من ناحية، ومن الناحية الأخرى، تمنحه فرصة ليُثبِت أنه يُريد أن يفعل شيئًا ما للإقلاع عن خطاياه كعلامة على توبته، ورغم أنَّ القانون الكنسي قد قنَّن وحدَّد نوع ومُدّة قوانين كلّ خطية، إلاّ أنَّ الآباء كانوا يضعون في اعتبارهم دومًا شخصية المُخطِئ أكثر من القانون الكنسي، وقد أشار القديس باسيليوس الكبير إلى أنَّ آباء الاعتراف لابد أن يضعوا في اعتبارهم سِنْ المُخطِئ ودوافِعه وعمله وقصده وتوجُهاته وسلوكه بعد الخطية. (62)
وبصفة عامة، كان الفِكْر الرَّهباني يرفُض دومًا فترات التوبة الطويلة، فعندما أخبر أحد الإخوة ذات مرّة الأنبا بيمن أنه قد اقترف ”خطية عظيمة“ ويُريد أن يتوب عنها لمُدّة ثلاث سنوات، أجابه الشيخ ”هذا كثير جدًا“ فقال الأخ ”إذًا بالتأكيد عام واحد“ فكانت الإجابة مثيلة ”هذا كثير جدًا“ بل وحتّى الأربعين يومًا كانت فترة طويلة بالنسبة لهذا القديس فقال للأخ ”أنَّ الإنسان إذا تاب من كلّ قلبه ولم يُخطِئ ثانية، يقبله الله في 3 أيام“ (63)، وهذه الإجابة عينها ردَّدها الأنبا شيشوي، فبحسب آباء البريَّة، كانت نزعات الإنسان وندامته أهم من طول فترة التوبة، ويتصور لنا هذا الفِكْر بوضوح وجمال في قصة بائيسة التائبة التي عاشت في الخطية زمانًا طويلًا، لكن عندما زارها الأنبا يوحنَّا القصير وافتقدِتها النِعمة، تابت ومضت إلى البريَّة، لكنها تنيحت فجأة وهي في طريقها للبريَّة، وتقول خاتمة سيرتها: ”إنَّ ساعة توبتها الواحدة كانت مقبولة أكثر من توبة الذين قضوا زمانًا أطول في التوبة ولكن لم يُظهِروا مثل هذه الحرارة“. (64)
وهدف الاعتراف كما تُخبِرنا ”الأقوال“ هو أن يقتني التائِب السلام بتحرُّره من حِمْل خطاياه الذي يُثقِّل ضميره، وإذا ترجمنا ذلك إلى لُغة مُصطلحات عِلْم النَّفْس الحديث، نقول أنَّ الراهب الذي يفحص نفسه بتدقيق ويعترِف بصِدق، في الغالب لن يُلقي بخطاياه في لا شعوره، وبالتالي لا تتحوَّل الخطية إلى عُنصر في شخصيته، وهذا يُفسِر لنا قول القديس إغريغوريوس أنَّ الاعتراف هو ”علاج“ هام للشر. (65)
أخيرًا، بجانب أنَّ الراهب لابد أن يتضرّع ويتذلّل لأجل خطاياه، أحيانًا كان الراهب يقبل اتهامات باطلة مُوجّهة له، أي يقبل اللوم والعِقاب على شر لم يرتكبه، وأبرز أمثلة ذلك قصة مارينا العذراء التي تزيّنت بزي الرجال واتُهِمَت بأنها أب لطفل لقيط، فلم تُنكِر هذا الاتهام أو تنفيه ولم تُكتشف براءتها إلاّ ساعة دفنها.. (66) وهكذا كان اسلوب تبرير الذات وإلقاء اللوم على الآخرين والذي استخدمه أبونا آدم، غريبًا عن العقلية الرَّهبانية، فكان الآباء مُتدربين ومُعتادين على اتهام الذات ولومِها.
وكان المُصطلح الفِعلي الذي استخدمه الرُّهبان للإشارة إلى أب الاعتراف هو ”بنڤماتيكوس Pnevmatikos“ وهو يعني حرفيًا ”إنسان روحي“ وكان يُستخدم في الحديث عن الرُّهبان الكِبار ورؤساء الأديُرة والمُرشدين الروحيين بصفة عامة.
ولابد أن نذكُر هنا أنَّ اقتناع النُّسَاك الأوَّلين بفترات التوبة القصيرة كان نقطة تباين فيها رأيهم عن باقي الكنيسة وأيضًا عن الرهبنة اللاحقة زمنيًا.