مزمور 125 (124 في الأجبية) - تفسير سفر المزامير
المسكن الأبدي
لم ينته هذا القسم الثاني من مزامير الصعود بإقامة خيمة الاجتماع التي كانت على مثال السماء ليسكن الله وسط شعبه، وإنما يرى المرتل وهو يرنم مزامير الصعود أن الرب حال حول شعبه من الآن وإلى الأبد. يرى الأبدية أمام عينيه، حيث يسكن مستقيمو القلوب في أورشليم العليا، أما السالكون في طرق معوجة فمصيرهم مع فعلة الإثم.
إذ يبلغ المؤمن أورشليم يرى نفسه في المدينة المقدسة المبنية على تلٍ عالٍ وقد أحاطت الجبال بها من حولها، فيدرك الحقائق الروحية التالية:
1. يحوط الله بكنيسته ويحتضنها ويحمي كل عضو فيها، مادام لم يخرج منها. فمن يلتزم بالعضوية الكنسية الروحية الحقيقة يحوط به الرب كالجبال. فلا يخشى المؤمن من العواصف والأنواء، إذ هو مخفي في الله الجبل الوطيد.
2. يبدو المؤمن كأورشليم المقُامة على تلٍ عالٍ، يبقى راسخًا كالصخرة لا تتزعزع إلى الأبد. إيمانه بمسيحه صخر الدهور ووحدته وبناؤه الروحي... هذا كله لن يهتز، لأن الله هو بانيه على الصخرة.
3. يرى المؤمن الطريق الآمن الوحيد، أرض السلام مع الله حيث الحرية الحقيقية على مستوى أبدي! كما يرى طرقًا ملتوية معوجة يختبئ فيها اللصوص للسرقة والقتل، من يسلك فيها يجلب على نفسه اللعنة كفاعل شرٍ.
1. مسكن أبدي
1.
2. الرب حول شعبه
2.
3. مواطنون أحرار صالحون
3-4.
4. عزل الأشرار عن الصالحين
5.
من وحي المزمور 125
1. مسكن أبدي
اَلْمُتَوَكِّلُونَ عَلَى الرَّبِّ،
مِثْلُ جَبَلِ صِهْيَوْنَ الَّذِي لاَ يَتَزَعْزَع،ُ
بَلْ يَسْكُنُ إِلَى الدَّهْر [1].
إذ حررهم من عبودية فرعون، وأخرجهم تحت قيادة موسى وهرون إلى البرية، طلب الله محررهم الحقيقي من موسى أن يقيم خيمة الاجتماع كمسكنٍ له وسط شعبه.
إنها صورة رمزية لما تمتعنا نحن به بعد أن قدم لنا بصليبه الحرية، ووهبنا سلطانًا على إبليس وكل قوات الظلمة، إذ أعدنا للدخول إلى أورشليم العليا، نحيا مع محررنا السماوي إلى الأبد.
فتح لنا بصليبه العجيب باب الرجاء، وقدم لنا إمكانيات جديدة للاتكال عليه، فنصير بالحق جبالًا مقدسة لا تتزعزع، إذ يقيم مخلصنا في أعماقنا.
يعرِّف المرتل شعب الله بالمتوكلين على الله. خلال فترة السبي تعرض جبل صهيون للخراب فصار مهجورًا، لكن إلى حين، ثم عاد إليه جماله بعد السبي. هكذا يتعرض المتوكلون على الله إلى تجاربٍ وأحزانٍ، لكن سرعان ما يمجدهم الله أبديًا. يقول الرسول: "قد أتيتم إلى جبل صهيون، وإلى مدينة الله الحيّ أورشليم السماوية، وإلى ربوات هم محفل ملائكة، وكنيسة أبكار مكتوبين في السماوات وإلى الله" (عب 12: 22-23).
* "المتوكلون على الرب مثل جبل صهيون" [1]. ما هي قوة إضافة كلمة "صهيون"؟ أعني عوض أن يقول فقط "مثل جبل"، لماذا يشير إلى جبل معين؟ لكي يُعلمنا ألا نسقط تحت المحنة ولا نغرق فيها، بل نعتمد على الله في رجاءٍ، ونحتمل كل شيء بنُبلٍ: سواء كانت حروبًا أو نزاعات أو مخاطر. فإن هذا الجبل كان يومًا ما مهجورًا، خاليًا من السكان، وبدوره استرد رخاءه السابق، واستعاد شعبيته القديمة بتدفق السكان عليه وظهور عجائب. هكذا الإنسان النبيل لا ينهار، حتى وإن عانى من متاعب لا حصر لها. لهذا لا تنظر إلى حياة بلا مخاطر. فإن الذي يطلب ممارسة مهاراته في حياة مريحة ليس كذاك الذي يقود عاصفة. الأول يصير بليدًا، رخوًا، ومنحلًا. بينما الأخير يكافح مع صخور كثيرة سواء تحت السطح أو فوقه، ويواجه عواصف ريح شديدة ومخاطر جمة للبحر، وبنجاته وسط هذا كله يجعل نفسه أكثر قوة. بمعنى آخر لقد جُلبت لهذه الحياة، لا لتعيش في خمولٍ، ولا أن تعيش فاترًا، ولا أن تهرب من مواجهة المتاعب، بل أن تصير بالأكثر مستحقًا للمديح خلال الألم. لا تطلب الاسترخاء ولا حياة الترف، فإن هذا علامة حياة غير نبيلة بل خاملة ينقصها العقل... ولكن عوض هذا اطلب ألا تسقط في تجربة إن واجهتها. على أي الأحوال لا تكن قنوطًا ولا مصابًا بالرعب ولا بالذعر، بل افعل كل شيء لكي تصير مستحقًا بالأكثر للثناء...
ألا تلاحظ الجنود الشجعان كيف عندما يُستدعون بالبوق يركزون أنظارهم على النُصب التذكارية والنصرات والأكاليل والأعمال الباسلة لأسلافهم؟ ... لك قائد شجاع، قادر على أية مغامرة، وحل المشاكل برغبته المجردة. كل شيءٍ هو له: السماء والأرض والبحر والوحوش والنار، بالنسبة له بسهولة يمكنه أن يغير كل الأشياء، ويحسب تغييرها عملًا سهلًا...
ألا تسمع قول الكاتب الموحى إليه: "المتوكلون على الرب مثل جبل صهيون"؟ قال: "مثل الجبل" ليشير إلى سمة الرجاء في الله التي لا تُغلب، واستقرارها وعدم قهرها وحصانتها، تمامًا مثل عدم النجاح قط في الإطاحة بجبلٍ أو تحطيمه مهما أُتيت بأسلحة لا حصر لها ووجهتها ضده، هكذا من يهاجم ذاك الذي له رجاء في الله يرجع فارغ اليدين. الرجاء في الرب أكثر أمانًا من الجبل...!
"الذي لا يتزعزع (يتحرك)، بل يسكن إلى الدهر" [1]... ماذا إذن؟ ألَم يتحرك الثلاثة فتية ودانيال؟ ليس الأمر هكذا. لقد رُحِلُّوا من مدينتهم، وصاروا في السبي، لكنهم تحت أي وضع لم يتحرك أحد منهم. بالحري، وإن كان قد لحق بهم وضع مُقلق، ووجدوا أنفسهم في وسط اضطرابات كثيرة صعبة، لكنهم كانوا كمن هم واقفون على صخرة، وقد رسوا في ميناءٍ هادئٍ، وبهذا لم يعانوا من شيء مضرٍ. هكذا لا تشيروا إلى ظروف معينة كمثالٍ للتزعزع، عوض هذا فإن التزعزع هو تحرك. مفقدٍ للنفس، وسقوط من الفضيلة... الذين ينجحون في ذلك يتحررون من كل ظروفٍ متغيرة، ولا يستطيع شيء ما أن يجعلهم يخطئون، لا شهوة ولا ملذات، ولا ظروف خاصة بالخطية ولا حزن أو صراع أو خطر، فإن هذه كلها تتلاشى[1].
* إنه لأمرٌ عجيبٌ أنّ شخصًا وحيدًا (القديس أنطونيوس الكبير) في بريّةٍ كهذه لم يخشَ الشياطين التي هاجمته، ولا وحشية الوحوش والزحافات، إذ كانت كثيرة جدًا، لكنه حقًا كما هو مكتوب: "توكل على الرب مثل جبل صهيون" (مز 125: 1)، بإيمانٍ لا يتزعزع ولا يضطرب، حتى هربت الشياطين منه، وسالمته وحوش البرية كما هو مكتوب (أي 5: 23).
كان إبليس، كما يقول داود النبي في المزامير (مز 35: 16) يراقب أنطونيوس ويصرِّ عليه أسنانه. أما أنطونيوس فكان متعزِّيًا بالمخلِّص، وبقيَ سالمًا من حيله ومكائده المختلفة. كان يسهر بالليل، فيرسل عليه إبليس وحوشًا برّيّة، وكأنّ كل ضباع تلك البرّية تقريبًا قد خرجت من مغايرها وأحاطت به، وهو في وسطها، يهدِّده كلُّ واحدٍ بالعضّ. وإذ رأى حيلة العدو، قال لها: ”إن كان لكم سلطان عليَّ فأنا مستعدٌ أن تلتهموني، أمّا إن كنتم قد أُرسِلتم عليَّ من قِبَل الشياطين، فلا تمكثوا، بل انصرفوا، لأنني عبدٌ للمسيح". فهربت كلها أمام تلك الكلمة، وكأنها قد ضُربت بالسياط[2].
* إنهم واثقون كجبل صهيون، وإن ثارت ضدهم ربوات التجارب، فهم مؤسسون على صخرة التي هي المسيح (1 كو 10: 4؛ مت 7: 25)[3].
القديس أثناسيوس الرسولي
* كل الذين يرغبون في البقاء في الكبرياء ينتمون إلى بابل، أما الذين يظلون في التواضع فينتمون إلى أورشليم. وقد بارك القديسون والأسفار المقدسة باركوا ولا يزالون يباركون المتواضعين بالكلمات: "أحسن يا رب إلى الصالحين، وإلى المستقيمي القلوب"[4].
الأب قيصريوس أسقف آرل
* هذا المزمور الذي ينتمي إلى عداد مزامير المصاعد، يعلمنا أننا ونحن نصعد ونرفع أذهاننا إلى الرب إلهنا، في محبة عذبة وتقوى، لا نركز أنظارنا على البشر الذين هم مقتدرون في هذا العالم، في سعادة باطلة غير مستقرة ومغرية، الذين لا يتعلقون بشيءٍ سوى الكبرياء وقلبهم يجحد ضد نعمته، فلا يحمل ثمرًا[5].
* لماذا إذن الذين يسكنون في أورشليم لا يتزعزعون إلى الأبد، إلا لأنه توجد أورشليم أخرى تشتاقون أن تسمعوا عنها؟ إنها أمنا التي نئن لأجلها ونتنهَّد في رحلتنا هذه لكي ما نرجع إليها... أورشليم الأبدية، أمنا جميعًا التي في السماء[6].
القديس أغسطينوس
2. الرب حول شعبه
أُورُشَلِيمُ الْجِبَالُ حَوْلَهَا،
وَالرَّبُّ حَوْلَ شَعْبِهِ مِنَ الآنَ وَإِلَى الدَّهْرِ [2].
يشبه المؤمنين بالجبال الثابتة، التي لن تزعزعها التجارب لا لقوة فيها، وإنما لأن الرب حول شعبه.
إنها جبال مقدسة، لأن القدوس حول شعبه، ومنيرة لأنه هو سرّ استنارتها وقوتها وصلاحها.
* ما هي أورشليم هذه؟ "أورشليم الجبال حولها" [2].
هل هو أمر عظيم أن نكون في مدينة محاطة بالجبال؟
ألا نعرف ما هذه الجبال؟
وما هي الجبال سوى تضخيم للأرض؟
إذن هذه الجبال مختلفة عن تلك الجبال التي نحبها، الجبال العالية هي الكارزون بالحق، سواء كانوا الملائكة أو الرسل أو الأنبياء. إنهم يحوطون أورشليم كما لو كانوا حصنًا لها. يتكلم الكتاب المقدس باستمرار عن هذه الجبال الجميلة والبهيجة... لا يقول إن لها سلام من عندها، أو تصنع سلامًا أو تولِّد سلامًا، إنما تتقبل سلامًا، هكذا لترفعوا أعينكم إلى الجبال من أجل السلام الذي تقدمه عونًا من عند الرب، الصانع السماوات والأرض... ولئلا تتلكأوا في الجبال، أضاف في الحال: "والرب حول شعبه" [2]، حتى لا يكون رجاؤكم في الجبال، وإنما في ذاك الذي ينير الجبال. فإنه عندما يسكن في الجبال، أي في القديسين يكون هو نفسه حول شعبه. وهو نفسه يُحصن شعبه بحصون روحية، فلا يتزعزعون إلى الأبد...
لتحبوا مثل هذه الجبال التي فيها الرب. عندئذٍ هذه الجبال نفسها تُحبكم إن كنتم لا تضعون رجاءكم فيها... إن كنتم تريدون أن تكونوا محبوبين من الجبال الصالحة، لا تجعلوا اتكالكم حتى في الجبال الصالحة[7].
القديس أغسطينوس
* يقول إنه حتى إن كانت الجبال تحصنها، فإنها تحتاج إلى حماية من الله، تجعلها منيعة...
"الرب حول شعبه"، بمعنى لا تثق في سلسلة الجبال[8].
3. مواطنون أحرار صالحون[
لأَنَّهُ لاَ تَسْتَقِرُّ عَصَا الأَشْرَارِ عَلَى نَصِيبِ الصِّدِّيقِينَ،
لِكَيْ لاَ يَمُدَّ الصِّدِّيقُونَ أَيْدِيَهُمْ إِلَى الإِثْمِ [3].
إنه يحوّط حول شعبه ليقدسه وينيره ويثبته ويحميه من السقوط تحت التجربة، لكنه لا يمنع التجارب تمامًا، حتى يزكيه ويكلله، وينعم بالنضوج والنمو الدائم، أما إن وجَّه العدو ضربه قاضية فلن يسمح الله بها مطلقًا!
* قد يسمح الله أحيانًا لعصا الخطاة أن تصيب الأبرار، لكنه لا يترك هذه العصا تستقر زمانًا طويلًا. ما هي عصا الخطاة إلا قوتهم وسيادتهم وأذيتهم.
* يسمح الرب أحيانًا بالتجارب، ولابد أنها آتية كالمخاض للحبلى. فلا يمكن أن يترك الرب شعبه في راحته طويلًا، لئلا يتكاسلوا عن أمر خلاصهم... ومن جهة أخرى لو سمح بالتجارب لا يتخلى أبدًا عن شعبه لئلا يفشلوا. فلا يمكن أن يتركنا الرب نجرب فوق ما نحتمل، بل يجعل مع التجربة المنفذ (1 كو 10: 12).
* ما يعنيه هو أمر كهذا: إنه سوف لا يسمح أن يكون لهم سلطان على نصيب الصديقين، وإن سمح إلى حين، إنما لأجل إصلاحهم وتحذيرهم وتأديبهم... "لكي لا يمد الصديقون أيديهم إلى الإثم". كل الأمور تحدث لهذا الهدف، أن تصير نفوسهم إلى حالٍ أفضلِ خلال إصلاحهم بحلول الكوارث، وأن يصيروا في أكثر غيرة بتمتعهم بعطية الخيرات[9].
* في الوقت الحاضر حقًا يُعاني الأبرار في حدودٍ مُعينة، وفي الحاضر أحيانًا يتجبر الأشرار على الأبرار.
إن كان رب السماء والأرض، الذي به خُلقت كل الأشياء، خدم غير المستحقين وطلب الرحمة من أجل مضطهديه الهائجين. وكم أظهر نفسه كطبيبٍ لهم عن مجيئه، كم بالأكثر يليق بالإنسان ألا يستخف بكل كيان عقله وإرادته الصالحة وكل حبه من أن يخدم سيدًا شريرًا! تأملوا، فإن الأفضل يخدم من هو أقل، ولكن إلى حين[10].
* عصا الأشرار تترك إلى حين على نصيب الأبرار، لكنها لا تُترك هناك، إنها لا تبقى إلى الأبد. سيأتي الوقت حين يظهر المسيح في مجده ويجمع كل الأمم أمامه (مت 25: 32-33). وسترون كثيرًا من العبيد بين القطيع، وكثيرًا من السادة مع الجداء. فإنه ليس كل العبيد صالحين - هذا لا يُقلل من التعزية التي تُعطى للعبيد - ولا كل السادة أشرار، فإننا قد كبحنا كبرياء السادة. يوجد سادة صالحون، ويوجد سادة أشرار... ويوجد خدم صالحون يؤمنون، وخدم أشرار. ولكن مادام يوجد خدم صالحون يخدمون سادة أشرار فليتحملوهم إلى حين[11].
القديس أغسطينوس
أَحْسِنْ يَا رَبُّ إِلَى الصَّالِحِينَ،
وَإِلَى الْمُسْتَقِيمِي الْقُلُوبِ [4].
الكل يحتاج إلى الصلاة من أجلهم حتى الصالحون، فالمرتل يصلي لأجلهم ولأجل مستقيمي القلوب لكي يسندهم الرب في لحظات التجربة والضيق حتى لا ينحرفوا.
مادام الإنسان في الجسد، مهما بلغ سموه الروحي يطلب إخوته عنه حتى يعبر من هذا العالم بسلام.
يميز القديس يوحنا الذهبي الفم بين الصالحين ومستقيمي القلوب وبين فعلة الإثم، فيرى الصالحين في البسطاء الذين ليس فيهم تعقيد، أما فعلة الإثم فهم الذين ليس فيهم بساطة أو استقامة بل اعوجاج وتعقيد. ينطق الصالحون بالحق بدون غش أو خداع أو رياء، ما في ظاهرهم يطابق ما في باطنهم.
كثيرًا ما يردد القديس هذه الفكرة: إن الصلاح يحمل مكافأته فيه، والشر يحمل جزاءه أو عقوبته فيه.
* مستقيمو القلوب الذين كنت أتحدث عنهم منذ قليل هم الذين يتبعون إرادة الله، لا إرادتهم... والذين يرغبون أن يتبعوا الله يسمحون له أن يذهب أمامهم وهم يتبعونه. وفي كل شيءٍ يجدونه صالحًا، سواء في التأديب أو التعزية أو التدريب أو التكليل أو التطهير أو الإنارة، كما يقول الرسول: "نحن نعلم أن كل الأشياء تعمل معًا للخير للذين يُحبون الله" (رو 8: 28)[12].
القديس أغسطينوس
4. عزل الأشرار عن الصالحين
أَمَّا الْعَادِلُونَ إِلَى طُرُقٍ مُعَوَّجَةٍ،
فَيُذْهِبُهُمُ الرَّبُّ مَعَ فَعَلَةِ الإِثْمِ.
سَلاَمٌ عَلَى إِسْرَائِيلَ [5].
ماذا يقصد بالعادلين إلى طرق معوجة؟ إلا الذين يميلون أن ينحرفون إلى التشكك في الإيمان، أو المرتابون غير المؤمنين. وكما يقول الرسول: "أما الخائفون وغير المؤمنين والرجسون والقاتلون... فنصيبهم في البحيرة المتقدة بنار وكبريت الذي هو الموت الثاني" (رؤ 21: 8). وكما قيل: "نزعًا أنزعهم يقول الرب" (إر 8: 13)؛ وذلك كما تُنزع الأغصان الجافة عن الكرمة لتُحرق أو الأشواك عن الأرض الجيدة.
* أولئك الذين يزيِّفون أعمالهم، إذ يجدون بهجتهم في الملذات الحاضرة ولا يعتقدون في العقوبات العتيدة. ماذا إذن يكون للمستقيمي القلب والذين لا ينحرفون؟ لنأتِ إلى الميراث نفسه يا إخوة، لأننا أبناء. ماذا سوف نقتني؟ ما هو ميراثنا؟ ما هي مدينتنا؟ وماذا تُدعى؟ "سلام"...! سلام في المسيح... إذن نحن أبناء سننال ميراثًا!
وماذا يُدعى هذا الميراث إلا سلام؟! ولتعلموا أن من لا يُحب السلام ليس له ميراث. الآن من يشقوا الوحدة لا يحبوا السلام. السلام هو مُقتنى الأبرار، مقتنى الورثة. ومن هم الورثة؟ الأبناء... وحيث أن المسيح ابن الله هو السلام، لهذا سيأتي ويجمع من له ويفصلهم عن الأشرار. من أي أشرار؟ أولئك الذين يبغضون أورشليم، يبغضون السلام، الذين يُريدون أن يُمزقوا الوحدة، الذين لا يؤمنون بالسلام، ويكرزون بسلام باطل للشعب، وهم لا يقتنونه[13].
القديس أغسطينوس
* أجل، إن الرب صالح، ولكنه عادل أيضًا، ومن خصائص العادل أن يجازي بحسب الاستحقاق... إن الرب رحوم، ولكنه ذو إنصافٍ أيضًا، فقد قيل: "الرب يحب الرحمة والعدل" (مز 100: 1)[14].
* لا يصنع الله اعوجاجًا يسبب دمارًا، إنما يظهر من هم في اعوجاج. مكتوب: "أما العادلون إلى طرق معوجة، فيُذهبهم الرب مع فعلة الإثم" (مز 125: 5). ليس الله هو الذي يقودهم بغير إرادتهم مع الذين هم فعلة الإثم، إنما يُظهر أولئك الذين انحرفوا عن الطريق بعد أخذهم قرارًا سلوكيًا لأناس كهؤلاء[15].
* قبل حلول العقوبة، تفرض الرذيلة عقوبتها فيها، وقبل نوال مكافأة تقدم الفضيلة مكافأتها فيها. أقصد أنه كما أن الأخيرة تحوى مكافآت فيها حتى قبل نوال الإكليل، هكذا السابقة تحوي جزاءً فيها حتى قبل حلول العقوبة. قبل كل شيءٍ، أي شيء يمكن أن يكون أشر من الخطية تحت زي (مظهر) العقوبة؟ لنفس السبب إذ يشير بولس أيضًا إلى بغاء الذكور، الذين يكرسون زهرة شبابهم في ممارسة ما فيه تحدٍ لقوانين الطبيعة، قائلًا إن هذا ينشئ أثقل جزاء حتى قبل حلول العقوبة:"... فاعلين الفحشاء ذكورًا بذكور، نائلين في أنفسهم جزاء ضلالهم المحقّ" (رو 1: 27) داعيًا سلوكهم الفاسق جزاءً للخطية[16].
من وحي المزمور 125
مواطن في مدينة الأحرار
* إذ حررت الشعب القديم،
أقمت له خيمة الاجتماع ظل مدينة الأحرار الأبدية.
انتقل الشعب من وسط العمل في اللبن،
من وسط الطين والقش،
إلى العبادة في خيمة الاجتماع المملوءة بهاءً.
أردت أن تسحب قلوبهم إلى مدينة أبيهم السماوي،
أورشليم الحرة السماوية!
يسكنون كمواطنين وأصحاب بيتٍ،
مع أبيهم المحرر الحقيقي والمدافع عنهم،
يشتركون مع الطغمات السماوية،
التي لم تذق قط مذلة العبودية،
* في محبتك ورعايتك الفائقة،
تفتح ليّ باب الرجاء المبهج،
وتهبني الثقة واليقين في أبوتك الحانية.
أتكئ على صدرك،
فأصير أشبه بجبلٍ شامخ لا يتزعزع.
لا يقدر العدو بكل إمكانياته وأسلحته أن يحطمني.
لا، بل ولا يحرك مشاعري،
ولا يقترب إليّ، لأنك قوتي وسلاحي!
بل يفزع إذ يراك في أعماقي
تسكن فيّ، وأنا فيك،
يا أيها الصخرة العجيبة.
* بحبك الفائق أقمت منا جبالًا منيرة لا تتزعزع.
سرّ استنارتنا وسرّ صمودنا أنك حولنا.
تحمينا من التجارب المهلكة،
لكن برعايتك الفائقة وحكمتك الإلهية تسمح بالضيقات.
تسمح قدر ما يكون نافعًا لنمونا ونضوجنا، وإلى حين.
حتى نتزكى أمامك ونُكلل!
ما أعجب حبك، فإنك تعطي مع التجربة المنفذ.
مع كل تجربة تشكلني نعمتك،
فأتهيأ لأكون حجرًا حيًّا لائقًا بالهيكل السماوي.
ضربات العدو لن تحطمني،
إنما خلال نعمتك تزيدني بهاءً.
* ليتجبر الأشرار كما يشاءون،
فإنني مستتر فيك،
أنت مشغول بمجدي الأبدي.
هم يضربونني إلى حين، وأنت تمجدني إلى الأبد.
* إخوتي يسندونني بصلواتهم في وسط ضيقي،
وأنا لا أكف عن الصلاة من أجل المتضايقين
متى نجتمع سويًا كمواطنين في بيت أبينا الأبدي!
هناك لا أثر لإبليس ولا لقواته،
ولا للأشرار المصممين على شرورهم!
هناك أرى مدينتي التي طالما أشتاق إليها!
هناك أكتشف كم كنت مشغولًا بمجدي الأبدي!
هناك ألتقي بك يا أب كل المؤمنين ومخلص الجميع!