سهر الجسد مع الروح
سهر الجسد سهرًا روحيًا
+ أما قدرتم أن تسهروا معي ساعة واحدة "[مر 13: 37]
+ اسهروا وصلوا لئلا تدخلوا في تجربة "[متى 26: 41]
يوجد سهر للجسد، وسهر للروح. ويهمنا بالأكثر سهر الروح.
وسهر الروح معناه أن يكون الإنسان ساهرًا على خلاص نفسه، أي متيقظًا ومتنبهًا لكل ما يتعلق بهذا الخلاص.
أما سهر الجسد الذي نقصده، فليس هو مجرد عدم النوم. فقد يسهر أشخاص في اللهو والعبث والخطية. وقد يسهر آخرون في أمور تتعلق بمشغوليات العالم الحاضر، دون أن يخطر الله على فكرهم! والبعض قد يسهرون ليالي صاخبة، أو يسهرون في ضياع أنفسهم.
ولكن سهر الجسد الذي نقصده، هو سهر بطريقة روحية..
إنه سهر الجسد في عمل الروح، مع الله..
سهر الجسد هذا، يساعد على سهر الروح، ويشترك معه. فالذي ينام كثيرًا بالجسد، يمكن أن تنام روحه أيضًا، أو على الأقل في أثناء هذا النوم الكثير، لا يكون منشغلًا بعمل روحي. وحرب النوم هى حرب مشهورة في الكتب النسكية والروحية..
لذلك ما أجمل قول الرب لتلاميذه في البستان:
اسهروا وصلوا، لئلا تدخلوا في تجربة (متى 26: 41)
وهنا لا يطلب منهم السيد السهر فقط، إنما السهر مع الصلاة، أو السهر في الصلاة. وهذا ما نقصده بقولنا "سهر الجسد في عمل الروح".. أو سهر الجسد مع الله. ولم يكن الرب محتاجًا في بستان جثسيمانى إلى سهر تلاميذه معه، إنما كان هذا نافعًا لهم هم "لئلا يدخلوا في تجربة". وكأنه يقول لهم:
وإن لم تصلوا، يكمن أن تقعوا في تجربة،
" اسهروا إذن، وصلوا". وهذا يوافق تمامًا قول المزمور:
"في الليالي ارفعوا أيديكم أيها القديسون، وباركوا الرب" (مز 133)
وقد وبخ السيد تلاميذه بقوله "أما قدرتم أن تسروا معي ساعة واحدة؟!" (مر13: 37). ولعل البعض يسأل: أتكفى ساعة واحدة يطلبها الرب منا في السهر؟
فنقول: إنك إن سهرت مع الرب ولو ساعة واحدة، فإن هذه الساعة ستوقظ روحك، تشجعك على السهر ساعة ثانية، وربما أيضًا ثالثة ورابعة.. ويصبح السهر عادة عندك.
وكما أن دقيقة نوم، قد تحرك إلى نوم كامل، كذلك ساعة سهر يمكن أن تساعدك على سهر طويل0على أننا نلاحظ في عبارة الرب كلمة جميلة وهى:
"سهرتم معي". وليس مجرد السهر، بل السهر مع الرب.
اسهروا إذن مع الرب، ولو ساعة واحدة، فإنها ستكون بركة لليل كله.. ولا تقتصر فائدتها على مجرد الساعة.. فما فائدتها إذن؟
ساعة الصلاة بالليل، تقدس فراشك، وتقدس عقلك الباطن..
لذلك قبل أن تنام، قدس فراشك بالصلوات، بحديث القلب مع الله. وافرش سريرك بالتسابيح والمزامير والترانيم والألحان والتأملات الروحية لكي تستطيع أن تنام على فراش مقدس، ويكون الله هو آخر ما يلصق بذهنك قبل النوم، وأخر صورة تصحبها معك في رحلة النوم ومسالك الأحلام إلى أن تستيقظ،رحلة النوم التي يقودك فيها العقل الباطن وما اكتنزته فيه من أفكار ومشاعر وصور وأخبار.
وهكذا فإن ساعة الصلاة قبل النوم، تساعدك على نوم طاهر نقى، بما تغرسه في ذهنك من أفكار روحانية.. وبالتالي تقدس أحلامك أثناء النوم.
آباونا القديسون كانوا يقطعوا ليلهم ونومهم بالصلاة..
فلا يسمحون لأنفسهم بفترة نوم طويلة ينقطعون فيها عن الحديث مع الله.. وإنما -حسب ترتيب الكنيسة في صلوات الأجبية- جعل النوم من ثلاث هجعات، لكل هجعة صلاة، وتشملها كلها صلاة نصف الليل..
إذن ما أجمل ألا يعود الإنسان نفسه على النوم الطويل. وكلما صحا من نومه، عن قصد أو غير قصد، يرفع قلبه إلى الله ولو بصلاة قصيرة، ولو ببارة واحدة، أو كلمة حب، أو فكر روحي، أو تأمل.
ولكن هل الليل له أهمية خاصة في الصلاة؟
نعم، الليل له أهمية خاصة. ولهذا قيل في المزمور "في الليالي ارفعوا أيديكم أيها القديسون وباركوا الرب".. وقد قيل عن السيد المسيح نفسه إنه كان يقضى الليل كله في الصلاة (لو 6: 12). وكان يقضى هذا الليل في جبل الزيتون، وفى بستان جثسيمانى..
وقيل في المزمور الكبير "ذكرت في الليل اسمك يا رب" (مز 119: 55). وقيل أيضًا "في نصف الليل نهضت لأشكرك على أحكام عدلك" (مز 119: 62).
والكنيسة المقدسة تعطى أهمية كبيرة لصلوات الليل..
ثلاث صلوات تقال في نصف الليل، تعقبها التسبحة اليومية في الليل أيضًا. وصلاة النوم، وصلاة الستار، في الليل كذلك، وأيضًا صلاة الغروب التي نقول في تحليلها "نشكرك يا مليكنا المتحنن، لأنك منحتنا أن نعبر هذا اليوم بسلام، وأتيت بنا إلى المساء شاكرين".. وحتى صلاة باكر نقول فيها "سبقت عيناي وقت السحر، لأتلو في جميع أقوالك"..
فلماذا كل هذه الأهمية لليل؟
يقول ماراسحق: الليل مفروز لعمل الصلاة.
بل يقول أكثر من هذا "صلاة واحدة يصليها الإنسان بالليل، أحسن من مائة صلاة يصليها في النهار.
فلماذا كل هذا الاهتمام بالليل؟ ولماذا يصلح للعمل الروحي أكثر مما يصلح النهار؟
إنه الليل الهادئ الساكن، البعيد عن صخب الطبيعة، وعن صخب الناس.
إنه الليل الذي يمكن للإنسان فيه أن ينفرد بالله، بعيدًا عن المشغوليات وعن المعطلات، وبعيدًا عن المحادثات البشرية وكثرة الكلام، والضوضاء..
نعم، ما أكثر ما يعطلك الناس بالنهار، بزياراتهم وأحاديثهم وأفكارهم وخلطتهم، حتى ما يبقى لك وقت تقضيه مع الله، يضاف إلى هذا انشغالك بعملك ومسئولياتك حيال المجتمع الذي تعيش فيه. أما في الليل الهادئ، فإنك تستطيع أن تلتقي بالله..
ولكن ليس هذا عذرًا تقدمه عن انشغالك بالنهار وتقصيرك في الصلاة.. ولكن الذي نقصده هو أن الفرص في الليل أوفر، والحالة أهدأ، وما تضيعه بالنهار على الرغم منك، يمكنك أن تعوضه في الليل
قيل عن أبينا إسحق أب الآباء:
وخرج اسحق ليتأمل في الحقل عند المساء (تك 24: 63)
كان المساء إذن وقتًا مناسبًا للتأمل منذ أيام الأيام الأول ولعل هذه الآية هى أول آية وردت في الكتاب المقدس عن التأمل..
أحدثكم في هذه الليلة عن السهر. ولعلكم لاحظتم أن الليالي الماضية كانت ليالي قمرية، وكانت الطبيعة ساكنة جميلة. والإنسان في أمثال هذه الليالي ينظر إلى السماء الصافية والليل الهادئ، وكأن صوتًا يصرخ في داخله ويقول (اليوم حرام فيه النوم)..
إن الله قد خلق هذه الطبيعة الجميلة لكم.
وهى في جمالها وفى هدوئها تذكرنا بقول المزمور "السموات تحدث بمجد الله، والفلك يخبر بعمل يديه" (مز 19: 1). يخاطبها داود فيقول: سبحي الرب أيتها الشمس والقمر. سبحيه يا جميع كواكب النور. سبحيه يا سماء السموات" (مز 148: 3، 4).
عجيب أن السماء والنجوم تسبح الله، ونحن صامتون..
ندعوها في الأبصلمودية، في ألحان التسبحة، أن تسبح الله جميعها.. ولكن هل نحن في الليل نسبح الله معها..؟ أم أننا نضيع الليل، ولا نستفيد منه روحيًا، مثل الذين أفسدوا الليل بضوضائهم وعبثهم وأغانيهم، وصيروا الليل صاخبًا كالنهار، بل قد يكون عندهم أكثر صخبًا ولهوًا من النهار..
أما أنتم أيها المباركون، فاكتسبوا صداقة الليل..
لكن تستطيعوا أن تسلكوا حسنًا في النهار..
إن الذي يقي الليل في الصلاة، أو يقضى جزءًا كبيرًا منه في العمل الروحي، هذا من الصعب عليه أن تخطئ أثناء النهار.. لأن قلبه شبعان بالله طول الليل. المشكلة أن العدو يقابلك بالنهار وأنت غير محصن وغير مؤيد بقوة روحية. فلما تأخذ هذه القوة بالليل، تستطيع أن تحارب بها بالنهار..
الرصيد الروحي الذي أخذه القلب بالليل، ينفعه في حروب النهار..
ليتكم إذن تكسبون صداقة الليل، فإن ذلك سيساعدكم أيضا على كسب صداقة النهار.
ليتكم إذن الليل معينًا لكم، يوصلكم إلى الله.. وعلى الأقل، إن لم يكن الليل مصدرًا روحيًا لكم، فلا تسمحوا أن تجعلوا منه مجالًا للخطية. وإنما "في الليالي ارفعوا أيديكم أيها القديسون، وباركوا الرب" (مز 133).
وأنا أحدثكم الآن في الصيف، حيث يسهل السهر ويحلو..
لأن البعض لا يقوون على السهر في الشتاء، إذ يحتجون بالبرد، وبحاجتهم إلى الدفء تحت الأغطية، مما يقودهم إلى النوم.. ولكن ما عذر الإنسان إذا لم يسهر في الصيف؟ نقول هذا لا لنعطى سماحًا بعدم السهر في الشتاء.. وإنما هو تدريب على السهر الآن حيث الأمر سهلًا.
والذي يتدرب على السهر صيفًا، يسهل عليه ذلك في الشتاء.
إنه تعود السهر، وتعود مناجاة الله فيه، وأصبح لا يستغنى عنه مطلقًا، سيان كان ذلك في الصيف أو الشتاء، في الدفء أو في البرد..
فالسهر يعطى نشاطًا للجسد، والنوم قد يعطيه خمولًا..
وخمول الجسد بالنوم، يصحبه خمول الروح، حيث لا صلاة ولا تأمل، ولا تمتع بالوجود في حضرة الله.. ودفء الجسد بكثرة النوم قد يثير عليه محاربات.. وبخاصة إذا استرخى الإنسان على فراشه بلا نوم، لفترة من الوقت.. وهذا المسترخي أو المتوخى، قد يسرح فكره، في أي موضوع، وربما يقف عند موضوع خاطئ ويستقر فكرة، وهكذا يخطئ بفكره قبل أن ينام.. ونفس الوضع نقوله عمن يستيقظ ويبقى في فراشه.
إن النوم الكثير له عيبان: إما حرارة الجسد أو خموله، وحرارة الجسد تتعب الشباب. وخمول الجسد يعود الكسل وكلا الأمرين ضاران روحيًا وجسديًا.
لذلك ننصحك أن تسهر، وتكون نشيطًا جسدًا وروحًا..
وإن لم تستطع السهر بالليل، استيقظ مبكرًا بالنهار..
فالمرتل يقول في المزمور "يا الله أنت إلهي، إليك أبكر، عطشت نفسي إليك" (مز 63: 1). وهنا التبكير المقدس، الذي من أجل الله، الذي فيه تعطى لله باكورة يومك وباكورة وقتك. ويكون الله هو أول من تتحدث إليه في هذا اليوم.. تقوم بسرعة من نومك، وتقدم قلبك لله، لكن يملاْ هذا القلب حبًا وطهارة، ولكي تبدأ بدءًا حسنًا، وتشرق فيك الحواس المضيئة والأفكار النورانية وتبدأ نهارًا مقدسًا. ويتعاون نهارك مع ليلك في بناء حياة روحية سليمة لك، محترسة من كل خطأ. وخذها قاعدة:
النهار المحترس يساعد على ليل مقدس، والليل المقدس يساعد على نهار محترس..
والإنسان الروحي يسهر على قدر ما يستطيع في العمل الروحي، حتى يكون له قلب مستيقظ حتى أثناء نومه، كما تقول عذراء النشيد "أنا نائمة وقلبي مستيقظ" (نش 5: 2).
وكتشجيع لكم على السهر، ليتكم تتأملون في سهر القديسين..