رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
مزمور 19 (18 في الأجبية) - تفسير سفر المزامير الله يعلن عن ذاتهمناسبة كتابية: ربما كان داود يتأمل جمال السموات وقت السحر حين أُلهم بكتابة هذا المزمور. يرى بعض الدارسين أن هذا المزمور يحوي تسبحتين منفصلتين[379] [1-6؛ 7-14]، بينما يؤكد آخرون وحدة المزمور. فهو يظهر أن الله يعلن عن نفسه بإصدار ثلاثة كتب لتثقيف أبناءه، هي: الخليقة، والكتاب المقدس، والخبرة اليومية أو معاملات الله معنا كل يوم. تعلن الخليقة عن قدرة الله ومجده، أما كلمته فتعرفنا حب الله الخلاصي من أجل تقديسنا، أي تعلن عن قداسته. ومن خلال خبرتنا اليومية نكتشف العلاقة الشخصية بين الله وكل عضو من أعضاء الكنيسة، التي تتحقق خلال نعمته الإلهية. هذا المزمور هو تسبحة حمد لإله الكون "الوهيم" [1-6]، الذي يُظهر صدى كلمته السرية وبهاء لاهوته في السماء والأرض. يمجد المزمور الرب "يهوه" الذي له علاقة فريدة بشعبه تحيي كل جانب من جوانب وجودهم وتُضفي عليهم بالبهاء، بكونهم كنيسته الواحدة [7-11] وكأعضاء فيها [12-14]. يقول Stuhlmueller: [يحمل مزمور 19 تفاؤلًا روحيًا واتجاهًا مسكونيًا قويًا. 1. يتضمن تقديرًا خاصًا للكون في كليته؛ عالمنا يتخلله مجد الله! 2. يجب ألا يفسر سرّ الكون ولا يطبق فقط على حياتنا اليومية خلال القوانين الطبيعية، إذ يلزم ألا يضيع سرّه أو يتلاشى في موكب الحياة. فالمزمور يطلب منا أن نحفظ سرّ الإيمان في كل تعاليمنا وتفسيرنا للكون. 3. يجب أن يوجد صدى (أو تفاعل) بين ليتورجية الكون وليتورجية الهيكل (كأن الطبيعة في شهادتها لعمل الله لا تنفصل عن عبادتنا في الكنيسة). 4. الخطية ليست دائمًا هي ثمرة الإرادة الشريرة، لكنها قد تلقى بظلالها حتى على المثاليات والصلاح في ضمير الإنسان المرهف الحس[380]]. الإطار العام: 1. إعلان الخليقة [1-6]. 2. إعلان الكتاب المقدس [7-11]. المسيح كلمة الله 3. إعلان الحياة اليومية [12-14]. اقبل حياتي شاهدة لك يا الله! 1. إعلان الله في الخليقة: تحمل خلقة الله العجيبة شهادة له كخالق. يقول القديس بولس: "لأن أموره غير المنظورة تُرى منذ خلق العالم مدركة بالمصنوعات قدرته السرمدية ولاهوته" (رو 1: 20). الخلقة هي الشاهد الأول لله عند البشر، خليقته، بكونها لغة يفهمها الطفل ويستمتع بها الفيلسوف والعالم. لا توجد قطعة شعرية تحمل دلائل ضد الإلحاد أروع وأفضل مما ورد في هذا المزمور. في عودة نابليون من مصر خلال البحر الأبيض المتوسط سمع أحد ضباطه يتفوه بصراحة بكلمات إلحادية، عندئذ أشار نابليون إلى النجوم، وقال: "من صنع هذه؟" ولم يكن للإلحاد إجابة[381]. أعمال الله في الخليقة تشهد لله ليس بكونه القدير وكلي الحكمة فحسب بل بكونه الآب الذي يهتم بالكبائر والصغائر. قيل إن إلهنا قد أصدر كتابين: كتاب الخليقة فيه نقرأ عن قدرة الخالق ولاهوته؛ والكتاب المقدس الذي يعرفنا إرادة الله[382]. كانت الخطورة الكبرى في العصور الأولى أن يؤلّه الإنسان في ضعفه قوى الطبيعة التي لم يعرف كيف يتحكم فيها؛ أما اليوم إذ يظن الإنسان أنه قادر على ذلك يؤلّه نفسه؛ أما المرتل فقد أدرك بوضوح قوة الله وحكمته في الطبيعة[383]. الأعداد [1-6] هي "مزمور الطبيعة"، يشبه المزمور 8، مع تركيز أعظم على إظهار إبداع الله، متأملًا في شيء من الرهبة جلال الله المعلن في الخليقة. انعكاس فكر كاتب المزمور 8 يكمن بالأكثر في العلاقة بين الخالق وخليقته، أما موضوع المزمور (19: 1-6) فقد ركز بالأكثر على إعلان الله في الخليقة. كل الخليقة هي في خدمة الله، واجبها أن تتغنى بحمد الله وأن تكون أداة للإعلان عنه. السموات والجَلَد والنهار والليل كلها شهود وُهبت القدرة على الحديث عن الجلال الإلهي وعظمة عمل الخالق. فالسيد يُعرف خلال عمله[384]. *أعطى الله بواسطة كلمته، للكون ترتيبه وتدبيره، حتى يمكن للبشر أن يتعرفوا عليه بطريقة ما خلال أعماله ما دام هو بطبعه غير منظور. غالبًا ما يُعرف الفنان بأعماله حتى وإن لم يره الشخص[385]. البابا أثناسيوس الرسولي القديس يوحنا الذهبي الفم "السموات تذيع مجد الله" [1]. السموات هي الكتاب الذي يمكن للعالم كله أن يستقي منه معرفته بالله. يكشف علم الفلك عن بعض عجائب السموات غير المدركة. القليل الذي نعرفه عن ملايين النجوم والمجموعات الشمسية يكشف عن مجد الله، كما يقدم لنا شعورًا بالفرح إذ خلق الله الكون كله لأجلنا. فنحن الخليقة الترابة ننظر إلى فوق نحو السموات، متأملين أعمال الله، ممجدين إياه، لا نعيش كالحيوانات متطلعين بأنظارنا إلى أسفل نحو الرض. *ألا تسمع السموات وهي تبعث صوتًا خلال الرؤية (أي تتحدث معنا خلال تطلعنا إليها)، بينما ينطق النظام العجيب في كل الأمور بأكثر وضوح من بوقٍ؟ ألا ترى ساعات الليل والنهار مترابطة معًا بلا توقف، النظام البديع للشتاء والربيع وغيرهما من فصول السنة كأمر ثابت أكيد، والتزام البحر حدوده رغم دواماته وأمواجه؟ هكذا ترتبط كل الأمور بنظام مع جمالٍ وإبداع، كارزة بالخالق بصوت عالٍ[388]! القديس يوحنا الذهبي الفم القديس غريغوريوس أسقف نيصص ثيؤدورت أسقف قورش السموات هي الكنيسة الحقيقية المقدسة هي التي يسكنها المخلص السماوي. إنها تشترك في التسابيح الملائكية وفي الشركة مع السمائيين. بحياتها السماوية تحمل قوة الشهادة لمخلصها المؤثرة أكثر من أي جدال آخر. *"السموات تحدث بمجد الله" [1]. الإنجيليون القديسون، الذين يسكن الله في داخلهم كما في السموات يعلنون عن مجد ربنا يسوع المسيح، أو ربما المجد الذي قدمه الابن للآب في حياته على الأرض. * السموات هي القديسون، الذين يرفرفون فوق الأرض، حاملين الرب. *إننا عمله، مخلوقون في المسيح يسوع لأعمال صالحة (أف 2: 10)؛ حقًا خلقنا الله ولم نخلق أنفسنا، ليس بشرًا فحسب وإنما خلقنا أناسًا أبرارًا إن كنا هكذا. القديس أغسطينوس يقول إشعياء النبي: "إرفعوا إلى العلاء عيونكم وانظروا من خلق هذه؛ من الذي يُخرج بعدد جندها يدعو كلها بأسماء، لكثرة القوة وكونه شديد القدرة لا يُفقد أحد" (إش 40: 26).*إن كنت تشك في عناية الله سلْ الأرض والسماء والشمس والقمر. سلْ الكائنات غير العاقلة والزروع... سلْ الصخور والجبال والكثبان الرملية والتلال. سلْ الليل والنهار؛ فإن عناية الله أوضح من الشمس وأشعتها، في كل مكان: في البراري والمدن المسكونة، على الأرض وفي البحار... أينما ذهبت تسمع شهادة ناطقة بهذه العناية الفائقة[391]. القديس يوحنا الذهبي الفم القديس يوحنا الذهبي الفم وليل إلى ليل يظهر علمًا" [2]. كل الأيام والليالي هي ينابيع تفيض بمجد الله وتعلن مراحم الله ورعايته المتجددة في حياتنا. تفتح قلوبنا بالحب المتجاوب مع حب الله فنسمع صوته الإلهي إلينا بكلمة خاصة بنا، وينير أذهاننا بالعلم الروحي والمعرفة. مع كل نهار إذ يشرق شمس البّر ينطق المؤمنون بكلمات جديدة تعكس تجديدهم المستمر وخبرتهم مع الثالوث القدوس. تصير حياتهم ينبوعًا يفيض مياه حيَّة بلا توقف. لا يعبر يوم إلا ويُظهر الله شهادة واضحة عن قدرته وحنِّوه. يساهم كل يوم في تقديم برهان جديد على أبّوة الله الحانية لنا. ونحن من جانبنا نشهد لإلهنا نهارًا وليلًا، أعني في الفرج والضيق. نشكر إلهنا على عطاياه، ونصلي إليه بثقة عندما يحل بنا ضيق. النهار والليل ينطقان معًا في حياتنا، معلنين حب الله. يمكننا أيضًا القول بإننا نمجد إلهنا نهارًا وليلًا، يكون النهار رمزًا للعمل والليل رمزًا للتأمل في الله... نمجده بجهادنا بنعمته وأيضًا بتأملنا في أسراره؛ وإن كان العمل والتأمل يمثلان حياة واحدة متكاملة. يرى القديس أغسطينوسأن النهار يشير إلى الروحانيين وأن الليل يشير إلى الجسدانيين؛ بالإيمان الحيّ يتمجد الله في هؤلاء وأولئك... * "يوم إلى يوم يبدي الكلمة". يعلن الروح للروحيين عن "حكمة الله" غير المتغير في كماله، وأن الكلمة الذي كان مع الله من البدء هو الله (يو 1: 1). "وليل إلى ليل يظهر علمًا"؛ هذا الجسد القابل للموت الذي يقدم الإيمان إلى غير الروحيين يصرخ إليهم كما لو كانوا واقفين بعيدًا عن المعرفة التي تتبع الإيمان. القديس أغسطينوس الذي لا تُسمع أصواتهم، في كل الأرض خرج منطقهم، وإلى أقطار المسكونة بلغت أقوالهم" [3-4]. تشهد الكنيسة للإنجيل بحياتها أكثر مما بكلماتها. إذ يسكن كلمة الله في حياتنا الداخلية ينطق للآخرين حتى بصمتنا. بالحياة المقدسة في المسيح نعلن عن الأخبار السارة خلال الصمت كما بالكلمات. * كل جنس وكل لسان يسمع إعلانات الليل والنهار. لسان يختلف عن لسان، ولكن الطبيعة واحدة وتقدم ذات الدرس بالنهار كما بالليل[393]. ثيؤدورث أسقف قورش القديس أغسطينوس القديس أثناسيوس الإسكندري القديس جيروم القديس يوحنا الذهبي الفم *مرة أخرى يقول داود في المزامير: "تعالوا إلى الله يا مدن الأمم، وذلك بلا شك لأنه "إلى كل الأرض" بلغت كرازة الرسل. قدموا للرب مجدًا وكرامة، قدموا لله ذبائح لاسمه، خذوا ذبائح وادخلوا إلى دياره"[397]. *لديكم نبوة عن عمل الرسل: "ما أجمل أقدام المبشرين بإنجيل السلام، تجلب الأخبار الصالحة، وليس أخبار حرب أو أخبار شر". "في كل الأرض خرج منطقهم وإلى أقطار المسكونة بلغت كلماتهم"، بمعنى أن كلماتهم التي حوت الشريعة الصادرة من صهيون وكلمة الرب الصادرة من أورشليم قد انتشرت كما كتب: "الذين كانوا بعيدين عن بِرّي صاروا قريبين من بِرّي ومن الحق"[398]. العلامة ترتليان وهو مثل العريس الخارج من خدره" [5]. الشمس في العبرية كما في الآرامية "مذكر"، لهذا تقارن الشمس بالعريس. السيد المسيح - العريس السماوي - هو شمس البر الذي يشرق والشفاء في أجنحته (ملا 3). في كبد السماء نصبت الشمس خيمتها، وتبدو كأنها تسير مثل ملك جبار في موكب علني عالمي، تشع ببهائها على مشارق الأرض ومغاربها... إنها كملك يرحل، يضرب خيمته ثم سرعام ما يخلعها ويرحل إلى موضع آخر. تشرق الشمس بنورها وتبعث حرارتها لتهب حياة، هكذا جاء شمس البر يشرق على نفوس مؤمنيه في المشارق والمغارب ليهبهم استنارة ودفئًا روحيًا وحياة متجددة على الدوام. * إنه هو الذي يعد خيمته - الكنيسة - في الشمس، على مرأى من جميع الناس. القديس أغسطينوس القديس يوحنا الذهب الفم *من ثَم، فأنه جاء في المزمور: "كالعريس الخارج من خدره". لقد خطبنا عروسًا له خلال إعادة ميلادنا سريًا، نحن الذين كنا كفتاة ارتكبت الزنا مع الأوثان (حز 23: 37)، وقد غيّر طبيعتنا إلى عذراوية غير قابلة للفساد. مراسيم الزواج لم تكمل بعد؛ لقد زُفت الكنيسة إلى الكلمة، كما قال يوحنا: "من له العروس فهو العريس" (يو 3: 29). دخلت حِجال العُرسِ السرَّي، وها الملائكة تترقب عودة ملكهم الذي يقود الكنيسة إلى تلك الطوباوية اللائقة بطبيعتها[400]. القديس غريغوريوس أسقف نيصص يليق بنا أن نلاحظ أن المرتل يرى العريس السماوي كالجبار المسرع فرحًا. إنه يهب المؤمن به فرحه الأبدي، بينما يظهر كجبار أمام الشرير الذي لا يقدر أن يلتقي معه أو يرى مخافيه. أما المؤمنون الذين يتحدون مع العريس فيشاركونه سماته: تصير حياتهم عذبة جدًا ومفرحة وفي نفس الوقت ينالون قوة وسلطانًا للغلبة على الأعداء حتى الموت نفسه. في عبادتنا ننعم بعريسنا المرتبك جدًا بحياتنا الداخلية، إذ نتحد نحن معه؛ وفي ذات الوقت نعبده بمخافة. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [بإن المؤمن إذ ينعم بالتبني للآب يتشبه بالابن الوحيد، يبعث أشعة روحية في هذا العالم بالمسيح الساكن فيه. * ما قيل عن الشمس "كالعريس الخارج من خدره" يمكننا بالحري أن نقوله الآن عن المؤمنين الذين يبعثون أشعة أكثر بهاءًا من الشمس[401]. القديس يوحنا الذهبي الفم القديس إيريناؤس * تبرد محبة الكثيرين من أجل برود خطاياهم المتزايدة، الذين يصيرون جامدين كالثلج، على أي الأحوال إذ يحل دفء الرحمة الإلهية بهم يذوبون[403]. الأب قيصريوس أسقف آرل 2. شهادة الكتاب المقدس لله: إن كان الإنسان لا يقدر أن يعيش بدون الشمس التي خلقها الله لأجله، بل أقام الكون كله لأجله، لكنه بالأحرى يجد في كلمة الله ما هو أهم وأعظم. الطبيعة تحدث الإنسان عن مركزه كمخلوق يحتل المركز الأسمى على الأرض، أما كلمة الله فتعلن عن مركز الإنسان كابن لله. في مديح الناموس إنما يمجد المرتل الله نفسه المتجلي في الناموس. الأعداد الثلاثة الأولى [7-9] أشبه بقطعة ليتورجية، تمجد ناموس الله بكونه هبة إلهية تنير وتقود. كلمة الله كاملة، أمينة، مستقيمة، نقية... يقدم المرتل ستة ألقاب لكلمة الله، ربما ليشير إلى ستة أيام العمل، وكأنه يليق بنا في جهادنا اليومي أن ننعم بكلمة الله كما بلقب جديد، وبتذوق جديد. كلمة الله لن تشيخ مطلقًا. أما في اليوم السابع، أي السبت والراحة، ففيها نلتقي بكلمة الله نفسه وجهًا لوجه بطريقة لا يُنطق بها. ألقاب كلمة الله الستة الواردة في هذا المزمور هي: ناموس الرب، شهادة الرب، فرائض الرب، وصية الرب، خشية الرب، أحكام الرب. "ناموس الرب بلا عيب، يرد النفوس. شهادة الرب صادقة، تعلم الأطفال" [7]. يقول القديس بولس: "فإننا نعلم أن الناموس روحي، وأما أنا فجسدي، مبيع تحت الخطية" (رو 7: 14). إن كلمة الله ترد النفس حيث تكشف عن الخطايا وتشير إلى طريق الخلاص منها بنعمة الله المجانية ومن جانب آخر فهي تهب المؤمنين البسطاء حكمة من فوق. "وأنك منذ الطفولة تعرف الكتب المقدسة القادرة أن تحكمك للخلاص بالإيمان الذي في المسيح يسوع" (1 تي 3: 15). إن كنا قد فسدنا بالخطية فلم يعد فينا أي في جسدنا شيء صالح، كقول الرسول بولس، فإن ناموس الرب أو كلمة الله بلا عيب، تحمل النفس الفاسدة إلى الصليب لتنهل من الدم الكفاري، فتصير هي أيضًا بلا عيب. وراء الكلمة المكتوبة يختفي مسيحنا الذي بلا خطية وحده، الكامل، الذي بلا عيب، نتحد به بروحه القدوس فنحمل سماته فينا ونُحسب في عيني الآب بلا لوم، إذ يرى صورة ابنه الوحيد الجنس مطبوعة في أعماقنا. يقول القديس مرقس الناسك: [إن السيد المسيح "كلمة الله" مخفي وراء الوصية، فمن يدخل إلى الوصية بحياته العملية إنما يلتقي بالمسيح نفسه]. * ناموس الرب ليس إلا الرب نفسه، الذي جاء لكي يكمل الناموس، وليس لكي ينقضه (مت 5: 17). القديس أغسطينوس الأب دوروثيؤوس من غزة "شهادة الرب صادقة، تعلم الأطفال" [7]. كلمة الرب صادقة، تدعى "شهادة الرب"، تشهد عن مرارة الخطية، وعن صدق وعود الله بالخلاص التي تُقدم للنفوس الواثقة في الرب، كثقة الأطفال البسطاء في والديهم، الذين يلتقون على صدورهم كما على صخرة الحب، يتمتعون بعهده الإلهي الصادق. "فرائض الرب مستقيمة تفرح القلب، وصية الرب مضيئة، تنير العينين عن بعد" [8]. كلمة الرب ليست أوامر ونواهٍ تسبب مرارة للنفس، إنما هي علامة حب بين الله والإنسان، تبعث الفرح الداخلي... لاحظ كيف بدأ المرتل برجوع النفس إلى الله (ترد النفس) ثم تلاها بالتعليم (تعلم الأطفال)، بعد ذلك فرح القلب. عندما تقود الكلمة النفس تردها بالتوبة إلى الحضن الأبوي، فيتعلم كطفل صغير كيف يثق في مشيئة أبيه، ويفرح داخليًا بتحقيق إرادة الله أبيه فيه. أفراح العالم تقف إلى حد ما عند الشفتين وإلى حين أما فرح الرب فيهز أعماق النفس الداخلية، لذا قال "يفرّح القلب". تفيض تعزيات الروح في أعماق الإنسان إذ يجد أنه بكلمة الله قد ارتد إلى الحضن الأبوي، وتغيرت طبيعته من أعماقها، وتمتع بأسرار الله خلال اتحاده معه! إن كانت الخطية قد أظلمت بصيرتنا الداخلية فصار الله بالنسبة لنا مرعبًا ومخيفًا، نهرب منه كما فعل أبوانا الأولان حين سمعا صوت الله ماشيًا في الجنة، فإن كلمة الله الخلاصية تفرّح القلب وتنزع عنه الحزن القاتل وتنيره بروح الفرح والرجاء فترى في الله إلهها المخلص. تنفتح البصيرة لا لمعرفة الخير والشر وإنما لإدراك وخبرة عربون الحياة الجديدة السماوية والميراث الأبدي. لذلك يترنم داود النبي، قائلًا: "وصية الرب مضيئة، تنير العينين من البعد"، أي تهبهما أبعاد جديدة في النظر... ترفع العينين إلى السماء عينها لتعاين الأمور غير المنظورة. "خشية الرب زكية، دائمة إلى أبد الأبد. أحكام الرب أحكام حق وعادلة معًا" [9]. يدعو كلمة الرب "خشية الرب" أو مخافته... وكما سبق فقلنا أن مخافة الرب هنا لا تعني خوف العبيد إنما روح التقوى. فإن كانت الكلمة الإلهية تحملنا للاتحاد مع الله في ابنه الكلمة المتجسد، فإننا إذ ننال - في مياه المعمودية - البنوة لله نحمل خشية البنين الذين يحرصون ألا يجرحوا مشاعر أبيهم المترفق بأولاده. بالمخافة نحرص ألا نخطئ، ونمتنع عن أن نخطئ بفعل النعمة الإلهية، فنثبت في الكلمة الأبدي، ونصير معه وبه خالدين، نعيش معه في سمواته إلى الأبد. يرى القديس أكلمندس الإسكندري أن الخوف يحفظنا من ارتكاب الخطية وأما الحب فيدفعنا إلى ممارسة الصلاح تلقائيًا كأبناء محبين لأبيهم القدوس الصالح. *أما بالنسبة لهؤلاء الذين بدافع الخوف يتحولون إلى الإيمان والبر، يبقى فيهم الخوف إلى الأبد. يُولّد الخوف امتناعًا عن الشر، أما الحب فيدفع إلى ممارسة الفضيلة بالبناء تلقائيًا، حتى يُسمع قول الله: "لست أدعوكم عبيدًا بل أحباءً، ويمكن للإنسان عندئذ أن يتقدم إلى الصلاة بثقة[405]. القديس أكليمندس الإسكندري "شهوات قلبه مختارة أفضل من الذهب والحجر الكثير الثمن، وأحلى من العسل والشهد. وأن عبدك يحفظها، وفي حفظها مجازاة كثيرة" [10-11]. الكلمة الإلهية الشاهدة عن أبوة الله وحنانه ليست فرضًا نتغصَّبه، وإنما هي أولًا "شهوة قلب"، تطلبها الأعماق إذ تجد فيها شبعها الحقيقي، وهي الغنى الحق أفضل من الذهب والحجر الكريم، وعذبة أحلى من العسل والشهد، بجانب هذا كله تقدم مجازاة كثيرة... أبدية لا يُعبر عنها. إنها فوق كل غنى العالم وقِيمِه وملذاته الأرضية. إذ يرتبط المؤمن بكلمة الله التي هي أفضل من الذهب والحجر الكثير الثمن، يصير هو بدوره ذهبًا وحجرًا كريمًا مُمتحنًا بالنار، محفوظًا ككنز إلهي مخفي، يحب كلمة الرب وأحكامه أكثر من حبه لنفسه أو لحياته الزمنية، مفضلًا إرادة الله عن إرادته الذاتية. *"أحلى من العسل والشهد" [10]. إذ تلتزم النفس بأن تصير عسلًا نقيًا، متحررة من رباطات الحياة المائتة، تنتظر في بساطة بركات الوليمة الإلهية؛ أو أنها تكون في قرص الشهد، ملتحفة بهذه الحياة كما في خلايا شمع العسل التي تملأها دون أن تصير مثلها (أي دون أن تصير شمعًا). وهي في هذا تحتاج إلى معونة يد الله التي تضغط لا لتحطم بل لكي تقطر عسلًا. تصير أحكام الله بالنسبة لمثل هذه النفس أحلى من كيانها هي ذاته، أحلى من العسل والشهد. القديس أغسطينوس * يجلب مَنّ كلمة الله لفمك التذوُّق الذي تشتهيه. على أي الأحوال، إذا ما تقبله إنسان ما بغير إيمان، فأخفاه عوض أن يأكله يُدوِّد. أتظن أننا نصل إلى التفكير بأن كلمة الله تصير "دودة"؟ ليت سماعك هنا لا يقلقك، إنما إصغ إلى النبي القائل في شخص ربنا "أما أنا فدودة لا إنسان" (مز 22: 6). إذ صار هو نفسه مصدرًا لهلاك البعض (بعدم إيمانهم) ووسيلة القيامة لآخرين، هكذا صار المن هو العسل الحلو للمؤمنين ودود لغير المؤمنين[406]. الأب قيصريوس أسقف آرل * إذ تختلط الكلمة بالحب تنطفئ في الحال شهواتنا ونتطهر من خطايانا؛ ويبدو القول "أحلى من العسل" في مجرى الحديث يخص الكلمة[407]... *عذبة هي الكلمة التي تهبنا نورًا، إنها أثمن من الذهب والحجارة الكريمة، وأشهى من العسل والشهد. كيف لا تشتهيها وهي التي تنير العقل الذي دُفن في الظلمة، وتهب حذاقة لعيني النفس المستنيرة بها؟"[408]. القديس أكليمندس الإسكندري الأب قيصريوس أسقف آرل حينما نتحدث عن الشريعة أو كلمة الله يليق بنا أن ندرك أن ربنا يسوع المسيح هو كلمة الله السرَّمدي، الحق الأبدي، الذي يعلن لنا الأسرار الإلهية. *اقبل المسيح، اقبل البصيرة الداخلية، تَقبّل نورك حتى يمكنك أن ترى الله والناس حسنًا. "عذبة هي الكلمة التي تهبنا نورًا، إنها أثمن من الذهب والحجارة الكريمة، وأشهى من العسل والشهد"[410]. القديس أكليمندس الإسكندري *مخلصنا هو صورة الله غير المنظور؛ إذا قورن بالآب نفسه فهو الحق، وإذا قورن بنا نحن الذين أعلن لهم الآب فهو الصورة التي تأتي بنا إلى معرفة الآب، المعرفة التي ليست إلا للابن، والتي سُرَّ الابن أن يعلنها[412]. العلامة أوريجانوس القديس باسيليوس الكبير 3. إعلان الله في خبرتنا اليومية: هذا القسم عبارة عن صلاة ومرثاة؛ فإنه إذ يتعرف المرتل على الناموس الإلهي كنور يصير أكثر حساسية للخطية حتى بالنسبة للصادرة عن سهو أو بغير إرادة، فيكتشف الإنسان بكلمة الله ظلمات نفسه. فإنه كلما اشتدت الإضاءة صار الظل أكثر وضوحًا. لقد كشف المرتل عن عظمة المكافأة لمن يحفظ الوصايا... لكن من يقدر أن يتبرر أمام الله؟ من يقدر أن يهرب من السهوات...؟ في كل يوم نختبر الله في رحمته كمخلص من الضعفات وغافر للخطايا... هذا ما يؤكده المرتل بقوله: "وإن عبدك يحفظها، وفي حفظها مجازاة كثيرة. من يقدر أن يتفهم الهفوات؟! طهرني يا رب من خفياتي ومن الغرباء اشفق على عبدك" [11-12]. يحدثنا القديس باسيليوس الكبيرعن مكافأة حفظ وصايا الرب، قائلًا: [توجد مكافأة عظيمة للذين يحفظون الوصايا، مجازاة جزيلة، أكاليل عدل، مسكن دائم، حياة بلا نهاية، فرح لا يُنطق به، مواضع لا تفنى مع الآب والابن والروح القدس الإله الحق في السموات، لقاء وجه لوجه، طرب في صحبة الملائكة والآباء والأنبياء والرسل والشهداء والمعترفين وكل الذين يرضون الله منذ البدء[414]]. هذا هو المجد العظيم الذي سيُستعلن فينا كأولاد لله حافظين بالحب وصيته... لكنه من يقدر أن يحفظ الوصية؟! بأنفسنا نحن ضعفاء وعاجزون، نحتاج إلى خبرة أعمال محبة الله اليومية معنا، فتشهد نعمته الغافرة للخطايا عن وجوده في حياتنا. يقول المرتل: "من يقدر أن يتفهم الهفوات؟! طهرني يا رب من خفياتي، ومن الغرباء اشفق على عبدك" [12]. كأنه يقول: "أنت يا رب تجد فيَّ الخطايا التي اختفت فيّ. ما أكثر الخطايا التي تحاربني خفيةً كغرباء وتقتل نفسي دون أن أدري لولا مراحمك عليّ؟!" خبرتي اليومية هي التلاقي مع مخلصي غافر الخطية بدمه الكفاري! * هكذا يعرف القديسون أن برّ الإنسان ضعيف وناقص ويطلبون مراحم الله على الدوام[415]. الأب ثيوناس القديس أغسطينوس القديس كيرلس الإسكندري لا تخف إن كنت مسيحيًا، لا تخف من تسلّط أي إنسان من الخارج، إنما خف الله على الدوام. خف الشر الذي في داخلك، وشهواتك الدنيئة التي لم يصنعها الله بداخلك إنما هي من صنعك أنت. لقد خلقك الله عبدًا أمينًا، لكنك خلقت لنفسك سيدًا شريرًا في قلبك. حقًا لقد صرت مستحقًا للخضوع للشر، تأهلت للخضوع للسيد الذي خلقته أنت لنفسك، إذ رفضت الخضوع لمن خلقك. *"واتنقى من خطية عظيمة"؛ أية خطية؟ بالتأكيد الكبرياء. لا توجد خطية أخطر منها تفصل الإنسان عن الله، فقد بدأت الخطية في الإنسان بالكبرياء. *لأنه ما لم أتبرأ من الخطية العظيمة تكون كلماتي موضع إعجاب في نظر البشرية وليس في نظرك (يا الله). النفس المتكبرة تود أن تشرق في عيني البشر، أما المتضعة فتشرق سرًا حيث يعاينها الله. إن كان أحد يرضي الناس بعمله الصالح فليفرح لأجلهم أي الذين يسرون بالعمل الصالح لكنه لا يفرح بنفسه (أي لا يفتخر بذاته)، ففي الحقيقة إن ممارسة العمل الصالح مشبع في ذاته (ولا يحتاج الإنسان إلى رضاء الناس). القديس أغسطينوس "وتكون جميع أقوال فمي بمسرة. وتلاوة قلبي أمامك في كل حين. يا رب أنت معيني ومخلصي" [14]. هكذا يختم المرتل المزمور بالسرور والفرح المعلنين بالفم والقلب، خلال التسبيح العلني والخفي، لأن الله هو معيننا في كل عمل صالح ومخلصنا غافر الخطية! اقبل حياتي شاهدة لك يا الله! * لتُقم يا رب ملكوتك في داخلي، فتعلن سمواتك فيّ! هب لي أن أتحدث بحبك وعمل خلاصك خلال حبي وحياتي! * أيها العريس شمس البر الجبّار، هب لنفسي بهجتك فلا ينزع العالم فرحك من أعماقي! هب لها قوة فتجاهد بنعمتك ضد إبليس وظلمته! * اغرس أحكامك فيَّ فتشبع نفسي وتغتني بك، أجدك أثمن من كل العالم، وأشهى من كل عذوبة! * إسترني من خطاياي الخفية والظاهرة، واحفظني من عدو الخير الغريب! هب لي برك فيمتلئ لساني تهليلًا وقلبي فرحًا! |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|