إنّ مريم العذراء هي لنا أمٌ، ومثالٌ أي معلّمة، وشفيعة.
هي أمّ الله theotokos لأنّها ولدت يسوع المسيح، وهو إلهٌ كامل وإنسانٌ كامل. فالمسيح الذي تكّون في حشاها يومَ قالت "نعم" للملاك جبرائيل، هو نفسه الله، الكلمة الأزليّ، المساوي لله في الجوهر، وهو نورٌ من نور، إله حقّ من إله حقّ (قانون الإيمان). ويكمن سرّ التجسّد الإلهي بأنّ المسيح، الاقنوم الثاني في الثالوت، تجسّد جنينا في حشا مريم الطاهر، ولم يبرح في الوقت عينه في حضنِ أبيه. إنّ هذا لسرٌ عجيب (مار أفرام). فالله الذي صار انسانا، لم يبرح في كلّ حين هو الله. لذا، فإنّ مريم العذارء، وبحق، هي أم الإله، وقد حملته في أحشائها تسعة أشهر، وولده في بيت لحم. ولكي تستيطع أن تحمل هذه النعمة، ظلّلها الروح القدس، وملأها نعمة ... فصارت بتواضعها أمّ الله.
هي أيضا أم الكنيسة، اذ سلّمها يسوع مهمّة الإعتناء بأبنائه، يوم نادها من علي الصليب: "يا امرأة هذا ابنك، وقال ليوحنا هذه امّك" (يوحنا 19|26، 27). نعم لقد كانت مريم العذاراء أغلى ما ليسوع على الارض، فأعطانا إياها كأجمل هديّة للكنيسة، لتكون لنا، كما كانت له، الأم الحنون. فالكنيسة يتيمة من دون مريم الأم، التي تلّمُ أبناءها حول المسيح. ألم تجمع هي الرسل في عليّة صهيون للصلاة، بانتظار الروح القدس؟ لم يكن يعرف الرُسل الروح القدس، آنها، لكّن مريم، حواء الجديدة، كانت قد حبلت من الروح القدس الذي ظللها في بدء العهد الجديد، كما كان يرّفُ في بدء العهد القديم على المياه.
مريمُ العذراء هي لنا معلّمة في الأيمان والرجاء والمحبّة، وبذلك بمثالها الحيّ، بعيشها تلك الفضائل الإنجيليّة. ألم يقل يسوع في مديحها يوما "إنَّ أمي هي كلّ مَن يعمل مشيئة أبي ..."؟ وأن "مَن أحبّني حفظ وصاياي"؟ وهل أكثر من مريم طاعةً لله؟ أليست هي أم النعم بسبب "نعمها" المطيعة، المحبّة؟ لقد أحبّها الله بسبب تواضعها، كما تقول في نشيدها "حطّ المقتدرين عن الكراسي ورفع المتواضعين ...". أحبّها ألله بسبب جوعها إليه، إذ "اشبع الجياع خبزا والأغنياء أرسلهم فارغين". أحبّها الله فاحترمها، ولم يفرض نفسه عليها، بل أوفد إليها الملاك، يسألُها بكلّ حرّية لكي تصير أمّا لإبنه. ولأنّ الله احبّها أوّلا، واحترم حريّتها في تقرير مصيرها، وملأها نعمة، فكان جوابها على محبّته الإلهيّة: "نعم". لقد تواضعت مريم أمام عظمة الله، فرأت صغرها، واعترفت بضعفها: "ها أنا أمة الربّ!" لكنّ الله لا يُعامل أحباءه كعبيد وإماء، بل كإخوة. لذا رفعها إلى مرتبة كرامة أبناء الله، بل بالحريّ تجسّد في أحشائها وصارت له امّاً. ما أعظم الله في تواضعه، وما أرفع مريم في طاعتها ومحبّتها.
تواضعت مريم الفتاة الشابة حتى الإمحاء، فاختارت أن تكون بكلّتها لله، لا تسأل عمّا هو لها، وعن حريّتها بتحقيق ذاتها، بل بالحريّ عمّا تستطيع فعله لخلاص شعبها. لذا رفعها الله إلى فوق مراتب الملائكة. إنّ تواضع مريم أدّى بها إلى فهم سرّ الله، وبالتالي إلى محبّته والتكرّس له، وبالتالي إلى طاعته، حتى عندما لم تفهم سرّ التجسّد بكلّ عمقه. لذا نتعلّم منها التواضع، على مثال ابنها الذي أخلى ذاته آخذا صورة عبد ليخلّصنا، والمحبّة والطاعة.
نتعلّمُ من مريم المحبّة، والطائعة خدمة القريب بكلّ تواضع. فمريم لم تَعُدّ كونها أمّ الله غنيمة، بل أخلت ذاتها ولبست ثياب الخدمة، وهمّت مسرعة تقطعُ جبال يهوذا قاصدة بيت زكريا للخدمة والمساعدة. لقد كان سفرُ مريم في الجبال الوعرة، ونزولها في بيت زكريا "الأبكم" كرياضة روحيّة تتأمّلُ فيها عظمة الرّب، وتسبّحُ اسمه. وقد بدت علامات هذه الرياضة في نشيد مريم.
نتعلّمُ من مريم كيف نتكلُ على الله، بخاصة في المصاعب بتواضع وتسليم كُلّي. فهي لم تتوانى في السفر في جبال يهوذا لكي تخدم نسيبتها الهرمة أليصابات. لقد كتمت سرّ حبلها من الروح القدس عن خطيّبها يوسف ما يزيد عن ستة أشهر، وسلّمت أمرها لله. ولم تختبئ في بيتها، كما فعلت اليصابات التي أخفت أمرها عن الناس، بل خرجت مسرعة للخدمة، حاملة المسيح نور العالم إلى أقاربه في جبل اليهوديّة. كيف لمريم أن تشرح سرّ حبلها، بل سرّ التجسد ليوسف؟! إنّه لسرٌ عظيم، سرّ محبّة الله للإنسان! لقد تواضعت مريم أما هذا السرّ، ولم تحاول حتى أن تخبر يوسف به، بل سلّمت أمرها كلّيا لله، الذي "صنع بها العجائب". وهي بذلك مثالٌ لنا في التواضع أمام سرّ الله، والاتكال عليه.
لم تشك مريم بكلام الملاك، ولم تطلب تفسيرا أو برهانا لصحتّه، بل كان قولها "كيف يكون هذا -أنّي أحبل وألدُ ابنا-، وأنا لا أعرف رجُلا؟"، سؤالا واعيا ومنطقيا، ملؤه الحكمة والتواضع. فمريم تعرف بأنّ الحبل إنما يكون من زرعِ رجُل، وتعيّ أيضا بأنّها قد كرّست بتوليتها لله، وهو قَبِلَ تكرّسها كفعل محبّة شاملة. "فكيف لها أن تصير أمّا؟ هل يدعوها الله لأن تتزوّج بيوسف مثل إبراهيم بهاجر، لكي تكتمل مواعيده؟! أو أنّ ابنها سيكون، كما اسحق، ابن الموعد، ابن الكلمة؟ فمريم لم تخطأ في هذا كلّه، بل كان حبّها يقودها للطاعة، وللبحث عن مشيئة الله. وكانت كلمتها "نعم" كما ابنها يسوع، مصدر حياة وبركة، وخلقٍ جديد.
ويمكننا أن نقول بأن من هذه الكلمة: "نعم" ولدت الخليقة الجديدة بالمسيح يسوع الكلمة الأزلي. بكلمة "محبّة، وطاعة، وتواضع، وحكمة" قبلت مريم العذراء الكمة الأزلي. فأعطت بذلك نطقا بشريّا للكلمة الأزلي. صار ابنا لها، أي ابن الإنسان، وما زال ابن الله الوحيد، بالتجسّد صار المسيح اخا للبشر لكي يستطيع وهو الكلمة الأزليّ أن يتكلّم لغتنا، ويخبرنا عن أبيه وعن الملكوت. لولا سرّ التجسّد لما استطاع يسوع أن يقول "أنا هو الطريق" "لا يأتي أحدٌ إلى الآب إلاّ بي." لأنّ هذا الطريق يجب أن يكون بشريّا لكي يستطيع البشر أن يسلكوه. لقد صار يسوع انسانا لكي يشق طريق كلّ إنسان إلى الله، لذا فإنّ إنسانيّة المسيح المأخوذة من مريم أمّه، هي طريق الإنسان إلى الله.
نتعلّم من مريم الإيمان. لقد آمنت مريم بكلمة الملاك. ألم تمدحها أليصابات قائلة: "طوبى للتي آمنت بأنّه سيتّم ما بلغها من عند الربّ" (لوقا 1|46). لقد آمنت مريم بيسوع، وطلبت منه أن يتدّخل في عرس قانا، يوم فرغ الخمر، أي نقص الفرح في حياتنا. وبثقةٍ لا تتزعزع، طلبت من الخَدم: "إفعلوا ما يأمركم به"، وكأنّها تقول: هو وحده قادرٌ أن ينتشلكم من هذه الورطة، هو وحده طريق السعادة ومصدر الحياة، فلا تفتشوا عن الخمر، عن الفرح والسعادة خارجا عنه. لأنّه "لا يأتي أحدٌ إلى الآبِ، إلا به" (يوحنا 14|6).
ونقرأُ أيضا في إنجيل مار يوحنا الرسول الحبيب (19|25): "وهناك عند صليبِ يسوع، وقفت أمّه". هناك في البُعد، عند الصليب حيث "ضُرِبَ الراعي وتبددت الخراف"، عند صليب العار والهوان، رمز القهر والعذاب والضعف البشري، هناك في أحلك ساعات ليل البشريّة، حيث صرخ يسوع "إلهي، إلهي لما تركتني ..." هناك وقفت مريم. ونعرف بأنّ وقفت مريم هذه، يوم تخلّى عن يسوع تلاميذه وخاصتّه، ويوم إدلهمّ عليه ليلُ الإيمان، وتخلّى عنه الجميع، حتى أبيه فرصخ "إلهي لماذا تركتني؟!"، هناك وقفت مريم، وكلّها إيمان بأنّ يسوع أقوى من الموت. وبأنّ محبّة الله أكبر من قدرة النّاس على فعل الشرّ. لقد عاين التلاميذ كثرة العجائب، وقد كانوا بحاجة إليها ليؤمنوا بيسوع، لقد رأى بطرس ويعقوب ويوحنا (مرقص 9:2) تجلّي يسوع على طور طابور... لكنّهم كلّهم تخاذلوا، خافوا وهربوا أمام هوان الصليب، إلاّ مريم. وقفت هناك بقرب ابنها. وكيف لها أن تهجر أبنها، حبيب قلبها؟ ألم يردد له قلبها الحنون: "يا تقبرني"، وتتمنى له "طول الأيام وسمانة العظام"؟! وها هي اليوم "يجوز قلبها سيفٌ مرّ"، فترى ابنها، وحيدها، بعد ترّملها، معلّق على خشبة العار، مهجور، مكسور، عريان، يستهزئ به.... لكنّها رغم كلّ هذا لم تفقد إيمانها!
فكيف لنا إن لا نتعلّم منها الإيمان؟ وإن كنّا منها لا نتعلّمه، ونفهم عظمة قدرته، وعمق سرّه، فمِمَن نتعلّم الإيمان؟ فإنّ بطرس "صخرة الإيمان" خاف، وارتعد، وهرب، "وأخذ يلعن ويحلف: إنّي لا أعرفُ هذا الرجل!" (مرقص 14|71)، أمّ مريم فقد وقفت بإيمان، وصمت، أمام قهر الصليب. لقد آمنت حتّى النهاية، فاستحقت أن تصير شريكة الفداء، وسلّمها يسوع الكنيسة الممثلة هناك بيوحنا التلميذ الحبيب، قال: "يا امرأة (أي أم الحياة) هذا ابنك" (يوحنا 19|26).
مريم هي مثالنا في الصلاة. لقد كانت تصلّي يوم زارها الملاك جبرائيل، وبصلاتها جمعت الكنيسة الفتيّة بانتظار الروح القدس بعد موت وقيامة يسوع. كيف لها ألاّ تكون امرأة صلاة، وهي في حضرة الله القدّوس دئما أبدا؟! وما الصلاة إلاّ أن نكون في حضرة الله، نتلّمسُ مشيئته لنعملها لمجد اسمه؟ لا تكن مريم العذراء فقط امرأة صلاة، بل هي نفسها ثمرة صلاة أجيالٍ وشعوب، وهي تحملُ مَن يلقاها على الصلاة، وأيضا تُعلّم أبناء الكنيسة الصلاة.
لقد صارت مريم "تابوت العهد" أو "بيت القربان" يوم حلّ الله في حشاها. لذا لم تستطيع أليصابات كتم تسبيحها أمام مريم، فصرخت: "مِن أينَ لي أن تأتي إليّ أمُ رَبّي؟" وبحق تدعى مريم العذراء حسب التقليد الشرقي "ارحب من السموات". لأنّ السموات على لامحدوديتها تضيقُ بالله الضابط الكلّ، بينما أرتضى أن يستريح في حشاها. لذا فإنّ مريم هي أيضا أيقونة الله، إذ أنّنا من خلال النظر إليها نرى الله، ومن خلالها يدخل الله إلينا.
ومريمُ أيضا معلّمة صلاة. ومَن أفضل من مريم أم يسوع، وقدّ علّمته الصلاة منذ نعومة أظافره تعلّمنا الصلاة؟ ألَم تصلّي يوم حملت أبنها إلى الهيكل لتكرّسه لله على يدّ سمعان الشيخ؟ ألم تصلّي باصغائها لكلام سمعان الشيخ وحنّة في الهيكل، ولكلام جبرائيل قبلهما؟ ألم تقبل كلمة الله في قلبها كالأرض الخصبة، فأثمرة الحياة للعالم؟ ألم تلّم الرسُل الخائفين بعد موت يسوع في العليّة تصلّي معهم بانتظار حلول الروح القدس؟
وتبقى صلاة مريم العذراء في بيت زكريّا الكاهن مثالا لنا كيف نصلّي:
تُعظِّمُ نفســـي الرّب وتبتهِجُ روحي باللهِ مخلّصـــي
لأنّهُ نظَرَ إلى تواضُعِ أمتِــــهِ فها مندُ الآنَ تطوبني جميعُ الأجيال
لأنّ القديرَ صنعَ بي عظائم واسمُه قدّوس ورحمتُهُ إلى أجيالٍ وأجيالٍ، للذينَ يتقونهُ
صنعَ عزّاً بساعِدِهِ، وشتتَ المتكبريــن بأفكارِ قلوبهــــم
حَطَّ المُقتدرينَ عن الكراســـــي، ورفعَ المتواضعيـــــــــــــن.
أشبعَ الجياع خيـــــــــراً والأغنيـــاءَ أرسلهُـــــم فارغيـــن
عضَدَ إسرائيلَ فتاهُ فذكرَ رحمتَــــهُ كما كلّمَ إبراهيمَ ونسلِـــه إلى الأبــــد.
بالأناشيد والتسابيح نصلّي. بروح الانسحاق العميق والتواضع أمام الله القدير نصلّي. نعظِّمُ الله القدّوس في كلّ حين، ونتهللُ بالروح، وتبتهجُ قلوبنا لحضوره، ولإتمام خلاصه لنا. نعترفُ ونذيعُ عظائم الله في حياتنا، وننشدُ رحمته علينا وعلى أخوتنا، ونتذكّرُ وعوده الخلاصيّة لنا، وأمانته من جيل إلى جيل.
مريم هي مثالٌ لنا في الرجاء. والرجاءُ كما المحبّة والإيمان، هو فضيلةٌ إلهيّة (1 قور 13). أي أنّه يتعلّقُ بطبيعة الله الذي لا يتخلّى عن شعبه. فالمسيحيّ يرجو ليس إتكالاً على نفسه، بل لأنّه واثقٌ كلّ الثقة بأنّ الله "أمينٌ في مواعده"، لا يتخلّى عن خلاص الإنسان. يقول الرّب لنا "إن "تنسى الأم ولدها، والمرضعة طفلها، فأنا لن أنساكِ يا صهيون" (آشعيا 49|15).
يرجو المسيحيّ، فيتحمّل الإضطهاد وبرضىً يحمل صليب الخلاص من أجل حياة أفضل. وعلى حدِّ قولِ بولس الرسول نتحمّلُ كلّ اضطهاد وعذاب "من أجل الرجاء في قيامة الأموات" (رسل 23|6 ب). والرجاء هو ثمرة الإيمان، كما يشرح القديس بولس: "أؤمنُ بكلّ ما جاءَ في الشريعة وكتب الأنبياء، راجياً من الله ما يرجونه هم أيضا أن الأبرار والفجّار سيقومون" (رسل 24|14، 15). وبالتالي يحملنا الإيمان بالله وترجّي مواعده الخلاصيّة على عيش المحبّة، حيث يشرح مار بولس أيضا: "فأنا أيضا أجاهدُ النفس ليكون ضميري لا لوم عليه عند الله وعند النّاس" (رسل 24|16). ويشرح مار بولس أيضا بأنّ الرجاء يولدُ من فضيلة الإختبار والثبات في الشدّة "والرجاءُ لا يُخيّبُ صاحبه، لأنّ محبّة الله أفيضت في قلوبنا بالروح القدس الذي وُهِبَ لنا" (روما 5|4 و5).
ومَن أكثر من مريم العذراء امتحنت في الشدّة، واختُبرَت فوجدت طاهرة، ثابتة في الإيمان، راسخة في المحبّة، واثقة في الرجاء؟ أَلم تُختَبر مريم العذراء مع بداية سرّ التجسّد، يوم شكّ خطيّبها الصديق بحبلها؟! ألم تُجرّب في رفض أهل بيتها لها يوم أغلقت بيت لحم أبوابها أمامها، وهي حبلى تُعاني المخاض؟ ألم يتوّعد هيرودوس قتل ابنها؟ ألم تتألّم لموت أطفال بيت لحم؟ ألم تُختَبر في مذلّة التهجير والهرب إلى مصر والعيش في أرضٍ غريبة؟ ألم تُختَبر في انسلاخ ابنها الوحيد عنها ليكون "فيما هو لأبيه"؟ ألم تُختَبر في ألآم ابنها، حبيبها، وفي نكران خاصتّه له، وفي قتله؟ ألم تُختَبر وتعاني من قلّة إيمان الرُسل وبطئ فهمهم؟ وفي هذا كلّه وجدت ابنة الرجاء. فأمام كلّ محنة كانت مريم راسخة في رجاء وطيد، تنظرُ بعين الإيمان وبقلبٍ يطفح بالرجاء إلى شدائدها وشدائد ابنها وشعبها، وتترجّى في قلب العاصفة الوصول إلى ميناء الخلاص الأمين.
فهل نعرف على مثال مريم أن نرى في صلباننا اليوميّة، في مرضنا، في مماحكة النّاس فينا، في الظلم والقهر الذي نعاني، وفي كلّ شدّة، هل نعرف على مثال مريم أن نرى النور في نهاية المطاف، ونرى الخلاص والفداء في الصليب؟ وهلا نبقي عيوننا على مريم، نجمة الصبح، ومعلّمة الرجاء؟
مريم هي لنا شفيعة، تصلّي معنا ومن أجلنا أمام عرش ابنها. ونحنُ نعرف، من عرس قانا، بأن مريم "بتمون على يسوع". هو يسمعُ لها، ولا يتوانى عن تغيير موعد الخلاص –رغم أنّ ساعتة لم تأتي بعد- من أجلِ كلمتها. وتقوم شفاعة القديسين على دالتّهم من الله. ألم يطلب بطرس هامة الرُسل، من يوحنا الحبيب، بأن يسأل يسوع عَمّن كان مزمعا أن يسلمه، لمعرفتة بقرب العلاقة الشخصيّة بين يوحنا ويسوع؟ وتكون دالّة القديسين على الله ووبالتالي عظمتهم بقدر قربهم من الله. فهم كلّهم يُعاينون مجده في كلّ حين، ويسبحون عظمته مع الكاروبيم والسارفين أمام عرشه، لكنّ بدرجات. فهناك مَن هو "عن يمن المسيح في المجد" كمريم العذارء، وهناك مَن هو في حضرة الحمل، إنما أقلّ قربا منه نسبيّا. ويكون قرب القديسين في المجد السمواي من الله، بقدر قربهم منه في حياتهم وجهادهم هنا على الأرض. ومريم هناك، كمان كانت في حياتها أقرب إلى ابنها. ألم تحمله تسعة أشهر في حشاها؟ ألم يختارها بمحبّة فائقة ويعصمها من الخطيئة الأصليّة دون سواها؟ ألم يُرسل ملاكه متواضعا أمامها، يطلب إليها أن تكون له أمّا؟ ألم تكن معها في طفولته، ونشأته، ورجولته، ورسالته حتّى الصليب، والموت؟ لذا فهي الآن تملك في المجد عن يمين ابنها الظافر. تسأله من أجلنا، كما فعلت في عرس قانا، وكما في خدمتها لأليصابات.
فكيف للمسيحي أن يخاف وله شفيعةٌ قديرة عند الله مثل مريم العذراء؟ ملؤها المحبّة، أمٌ عطوف، لا يغفو لها جفنٌ؟ هي القديسة والدة الإله، عذراء العذارى، أمّ النعمة الإلهيّة، أمّا طاهرة، عفيفة، بغير عيب، أمّا حبيبة، عجيبة، أمّ الخالق والمُخلّص، وبتولا حكيمة، مكرّمة، ممدوحة، قادرة، أمينة، هي أيضا مرآة العدل، كرسيّ الحكمة، سبب سرورنا، إناءً روحيّا مختارا، ووردة سريّة، وأرزة لبنان، وبرج داود، وبيت الذهب، وتابوت العهد، وباب السماء، ونجمة الصبح، هي سلطانة الملائكة، والآباء، الأنبياء، الرسل، والشهداء، والقديسين والمعترفين، وهي لنا أم المرضى، أم الكهنة، ملجأ الخطأة، معذيّة الحزانى، معونة النصارى، وسلطانة السلام.