رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||
|
|||||||||
من تعاليم القديس برصنوفيوس
ليكن الأخُ الذي يقيمُ معك مثلَ ابنٍ وتلميذٍ، وإن هو أخطأ وأفسدَ شيئاً فعظه واكشف له خطأه لكي ما يرجع عنه، وإن هو كتجربةٍ نيَّح آخرَ أكثرَ منك، فلا تحزن، فلعل الله أراد ذلك. فاصطبر لكلِّ محنةٍ لأنه بالصبرِ على الأحزانِ نقتني أنفسَنا، وبالأحزانِ نشارك يسوعَ في أوجاعهِ، وإذا شاركناه في أوجاعهِ، فإننا نشاركه في مجدِه. كذلك عظ ابنَك بخوفِ الله، صافحاً عن خطايا أخيك، ألا تعلم أنه إنسانٌ تحت التجارب، والله يعطيكما طقسَ السلامةِ بخوفهِ. اعلم أن الشيطان يريدُ أن يبلبلك بالغضبِ بسببِ الأخِ الذي معك قائلاً لك: «إذا كلَّمتَه مرةً ومرتين فاتركه يعمل حسبَ هواه وكن بلا همٍ كما قال الآباء». فاعلم أن هذا الفكرَ ليس بحسبِ مشيئةِ الله، لأن ما تجمعه وتستزيده في أيامٍ كثيرةٍ، تفرغ الكيسُ منه في لحظةٍ واحدةٍ فتبقى مفلساً. أما طولُ الروحِ الذي بحسب مشيئةِ الله، فهو بالصبرِ إلى التمامِ بدون قلقٍ، وأما طولُ الروحِ الكاذب الذي أصابك من خداعِ الشيطانِ، الذي يولِّد للأخِ سجساً وغضباً، فإنه يصيب قليلي الرأي. وهذا ما أقوله لك، فإذا علمتَ أنك مع تلميذِك مثلُ الأبِ مع ابنِه، فبدلاً من أن تلكز نيَّة الأخِ دفعةً واحدةً كلَّ يومٍ وتُعرِّفه خطأه كما هو واجبٌ عليك، نراك وقد صيَّرته بسكوتِك لا يعلم غَلَطَه، وبعد أن تطيلَ روحَك عليه أياماً كثيرةً، إذا بك تلكزه لكزةً واحدةً في موضعٍ يصيبُ منه مقتلاً، فتنزع روحَه منه. فاعلم يا أخي أنك مخدوعٌ، إذ تقول إن خطايا الأخ كائنةٌ حقاً، فقل لي: إذا كنتَ تعلم باستقصاءٍ أن خطاياه حقٌ، فهل وصفتَ له العلاج ليصِحَّ منها؟ أليس هذا من الإعجابِ والكبرياءِ؟ وأيضاً بشأنِ أيِّ الخطايا قال الربُّ: إن لم تتركوا للناسِ خطاياهم، لا يترك لكم أبوكم خطاياكم. أليس بشأنِ الخطايا الحقانية؟ فكيف تدين أنت أخاك من أجلِ ما لا صحة له، فأنت بذلك تُلقي نفسَك في أشدِّ العذاب. لأنك إذا طالبتَ أخاك هكذا، طالبَك الله بشأنِ خطاياك، فأما المكتوب فهو: لا تدع الشمسَ تغرُب على غيظِكم، واحملوا ثِقلَ بعضِكم بعضاً. وكيف يخدمك الأخ؟ أليس في شأنِ الله؟ فإذا قرعت فكرَه، فأمسك أنت لفكرِك، ولا تحسب نفسَك شيئاً وأنت تتنيح، وقاتل الأفكار التي تجلب لك السجسَ وأنت تُعان. سؤال: «إني قد وعظتُ الأخَ بحبِّ الله، وقد تسجستُ بسببِ كونهِ لم يقبل مني، فماذا أفعل»؟ الجواب: «أنت لا تفهم ما تقول، فإن كنتَ من أجلِ الله وعظتَه فكيف تسجَّستَ؟ لأن العظةَ من أجلِ اللهِ لا تدع الإنسانَ يتسجس، حتى ولو وقع الموعوظُ في الواعظِ لاحتمل ثقلَه ولم يتسجس، وإنما كلُّ عظةٍ تدع السجس يدخلُ في قلبِ الإنسانِ فهي ليست في ذاتِ الله، لكنها شيطانيةٌ، مختلطةٌ بتزكيةِ الذاتِ. فقد بان إذن أن الأمرَ تجربةٌ، ولكن اللهَ يُبطلها عنكما ويمنحكما معرفةً لتفهما حيلَ العدو، وينجيكما منه، فصليا من أجلي». سؤال: «يا أبي، إن الأخ يحتقرني جداً، وأحبُّ أن أُبدِّله بتلميذٍ آخر، أو أبقى وحدي، لأن فكري يقول لي: لو كنتَ وحدك ما كنت تحزن». الجواب: «لا يجب أن تقبل تزكيةَ نفسِك، ولا تقل: لو كنتُ وحدي ما كنتُ أحزن، لأنه لا يكون خلاصٌ بدونِ أحزان، لأنك بقولِك هذا تُبطل الكتابَ القائل: كثيرةٌ هي أحزان الصديقين ومن جميعِها ينجيهم الربُّ. وأيضاً: كثيرةٌ هي جلدات الخطاة. فإن كنتَ صدِّيقاً أو كنتَ خاطئاً، فواجبٌ عليك قبول الأحزان، وليست هناك أشياء يتساوى الأمر في فائدتِها مثلَ الأحزان، لأن الأحزانَ هي مقدمة الخلاص، لأن الرسولَ يقول: إننا بأحزانٍ كثيرةٍ ندخل ملكوت السموات. فالذي يطلبُ النياحَ في كلِّ شيءٍ ليسمع: إنك قد أخذتَ خيراتك في حياتِك. فإن كان ربنا قد صبر من أجلِنا على الأوجاعِ، فواجبٌ علينا أن نصبرَ على الأحزانِ لنكونَ شركاءَه في آلامهِ المحيية. أما بخصوص استبدال تلميذك بتلميذٍ آخر، فالأمر واحدٌ، لأنك إذا اتخذتَ آخر، وصادفك منه ما يحزنك، فماذا عملتَ؟ فيجب عليك إذن احتمال التلميذ الذي لك، وسياسته، ويلزمه هو القبول منك، على أن تحتمل أنت ثقله بخوفِ الله». من أجلِ العملِ الداخلي، قال: «العملُ الداخل هو وجعُ القلبِ الذي يجلبُ الطهارةَ، والطهارةُ تلد سكوتَ القلبِ الحقاني، وهذا السكوتُ يلدُ التواضعَ، والتواضع يصيِّر الإنسانَ مسكناً لله. وهذه السكنى تطرد الأعداءَ الأشرارَ مع كافةِ الأوجاعِ الوسخةِ، وتحطم الشيطانَ رئيسَها، فيصير الإنسانُ هيكلاً لله طاهراً مقدساً مستنيراً فرحاً ممتلئاً من كلِّ رائحةٍ طيبةٍ وصلاحٍ وسرورٍ، ويصبح الإنسانُ لابساً لله، نعم، ويصير إلهاً، لأنه قال: أنا قلتُ إنكم آلهةٌ، وبني العليِّ تُدعَون. وحينئذ تنفتح عينا قلبهِ، وينظر النورَ الحقاني، ويفهم أن يقولَ: إني بالنعمةِ تخلصت بالرب يسوع المسيح. فالذي يريد أن يُرضي الله، فليقطع هواه لأخيه ومعلمِه، لأنه إذا فعل ذلك فهو يجد نياحاً بالربِ». سؤال: «كيف أعرف الفكرَ الذي من الله والفكرَ الذي من الطبيعةِ والفكرَ الذي من الشيطان»؟ الجواب: «إفراز هذه المسألة إنما يكون للذين قد بلغوا إلى التمامِ، لأنه إن لم تَطهُر العينُ الداخلةُ بالعرقِ والعناءِ الكثير، فلا تقدر أن تفرزَ، فاقطع هواكَ للهِ في كلِّ شيءٍ وقل: ليس كما أريدُ أنا، بل ليكن ما تريده أنت يا ربي وإلهي، وهو يعمل معك كهواه. فاسمع الآن فرزَ هذه الأفكارِ الثلاثةِ: إذا تحرَّك في قلبِك فكرٌ في ذاتِ الله، ووجدتَ فرحاً، وحزناً يساوي هذا الفرح، فاعلم أن ذلك الفكرَ هو من اللهِ، فداوم فيه. فإن جاء عليك فكرٌ طبيعيٌ الذي هو الهوى الجَسَداني فادفعه، وأتمم القول القائل: أن تكفرَ بنفسِك، أي أنك تكفر بالمشيئات الطبيعية وتقطع هواك الجَسَداني. وأما أفكار الشيطان فتكون مبلبلِةً وممتلئةً أحزاناً، وهي تجرُّ إلى الخلفِ، فكلُّ أمرٍ تفكر فيه وتحس في قلبك ببلبلةٍ ولو بمقدارِ شعرةٍ، فاعلم أن ذلك من الشياطين واعلم أن ضوءَ الشياطين آخره ظلمةٌ». وقال أيضاً: «الذين يريدون أن يسلكوا طريقاً ما، فإن لم يمشوا مع من يُريهم الطريقَ من أولهِا إلى آخرها، فلن يستطيعوا بلوغَ المدينةِ، فإن لم يترك التلميذُ هواه خلفَه ويخضع في كلِّ شيءٍ ويتضع، فلن يبلغَ مدينةَ السلامِ». سؤال: «ما هو الاتضاع»؟ الجواب: «الاتضاع هو أن يحسبَ الإنسانُ نفسَه تراباً ورماداً، ويقول: أنا من أنا، ومن يحسبني أنا شيئاً، ومالي أنا مع الناسِ، لأني عاجزٌ. ولا يقول عن أمرٍ: ماذا؟ أو ماذا يكون هذا؟ ويكون ماشياً بخضوعٍ كثيرٍ في طرقِهِ، ولا يساوي نفسَه بغيرِه، وإذا اُحتقر ورُذل لا يغضب». سؤال: «أخبرني يا أبي كيف يقتني الإنسانُ الاتضاعَ الكاملَ والصلاةَ الحقانية»؟ الجواب: أمّا كيف يقتني الإنسانُ الاتضاعَ الكاملَ، فالربُ قد علَّمنا ذلك بقولِه: «تعلَّموا مني فإني وديعٌ ومتواضعُ القلبِ، فستجدوا راحةً لنفوسِكم». إن كنتَ تريدَ أن تقتني الاتضاعَ فافهم ماذا عَمِلَ وتأمَّل صبرَه، واصّبر مثلَه، واقطع هواكَ لكلِّ أحدٍ، لأنه قال: «إني ما نزلتُ من السماءِ لأعمل مشيئتي، بل مشيئةَ مَن أرسلني». هذا هو الاتضاعُ الكامل، أن نحتملَ الشتيمةَ والعارَ وكلَّ شيءٍ أصاب مُعلِّمَ الفضيلةِ ربنا يسوع المسيح. وأما الصلاةُ الحقانية فهي أن يكونَ الإنسانُ مخاطباً للهِ بلا طياشةٍ، ناظراً إليه بجملتِه وأفكارِه وحواسِه والذي يسوقُ الإنسانَ إلى ذلك، هو أن يموتَ من كلِّ إنسانٍ، ومن العالمِ وكلِّ ما فيه، ويُصوِّر في عقلِه أنه قائمٌ قدام الله وإياه يُكلِّم. وهكذا يكون قد انفلتَ من الطياشةِ وانعتق منها وصار عقلُه فرحاً مضيئاً بالربِّ. وعلامته إذا وصل إلى الصلاةِ الكاملةِ، فإنه لا يتسجس البتة، ولو سجَّسه كلُّ العالمِ، لأن المصلي بالكمالِ، قد مات من العالمِ ونياحِه كلِّه، وكلُّ شيءٍ يعمله من أمورِه يكون فيه بلا طياشةٍ. سؤال: «كيف أقدر أن أُمسكَ بطني وأن آكلَ دون حاجتي، لأني لا أستطيعُ صبراً»؟ الجواب: ليس أحدٌ يفلِتُ من هذا الأمرِ، إلا الذي بلغ إلى مقدارِ ذلك الذي قال: «إني نَسيْتُ أكْلَ خبزي من صوتِ تنهدي، وقد لَصِقَ لحمي بعظمي». فمَن كانت حالهُ هكذا، فإنه يأتي بسرعةٍ إلى قلةِ الطعامِ لأن دموعَه تصيرُ له مثلَ الخبزِ، ويبدأ إذ ذاك يتغذى من نعمةِ الروحِ القدس. صدقني يا أخي، إني أعرفُ إنساناً يعلم الربُّ أنه قد بلغ إلى هذا المقدارِ الذي ذكرتُ، حتى أنه كان لا يأكل في كلِّ أسبوعٍ مرةً أو مرتين، وكان مراراً كثيرةً يُسبى في النظرِ الروحاني، ومن حلاوةِ ذلك كان ينسى أكْلَ الطعامِ المحسوس، وكان إذا أراد أن يأكلَ يشعر كأنه شبعانٌ، ولا يجدُ لذّةً للطعامِ، وكان يأكلُ بدونِ شهوةٍ، لأنه كان يشتهي أن يكونَ دائماً مع الله، وكان يقول: «أين نحن»؟ فقال الأخُ السائل: «أنا أطلبُ إليك يا أبي أن توضِّحَ لي قوةَ هذا الأمرِ، وكيف يصيرُ الإنسانُ إلى ما ذكرتَ، فإني أجهلُ ذلك، وإذا أنا بدأتُ أقلِّل طعامي، فما يدعني الضعفُ حتى أعودَ إلى المقدارِ الأولِ، وأنت قلتَ لي إن الذي يبلغُ إلى المقدارِ الذي قيل فيه: إن لحمي لصق بعظمي من صوتِ تنهدي، هذا يصير إلى قلةِ الطعام، فبيِّن لي هذا الأمرَ»؟ قال الشيخ: هذا هو التصاقُ اللحمِ بالعظمِ، أن تصيرَ جميعُ أعضاءِ الإنسانِ ملتصقةً، أي أن تكونَ أفكارُ الإنسانِ كلُّها فكراً واحداً بالله، عند ذلك يلتصق الجَسَداني ويصير روحانياً، ويلحق الجسدُ بالفكرِ الإلهي، وحينئذ يصيرُ الفرحُ الروحاني في القلبِ يُغذِّي النفسَ ويُشبعُ الجسدَ، ويقوى كلاهُما حتى لا يكون فيهما ضعفٌ ولا ملل، لأن ربَنا يسوعَ المسيح إذ ذاك يكون الوسيطَ ويوقف الإنسانَ بالقربِ من الأبوابِ التي ليس داخلها حزنٌ ولا وجعٌ ولا تنهد. وحينئذ يتمُّ القولُ: «حيث يكون كنزُك، فهناك يكون عقلُك». فالذي يبلغُ إلى هذا المقدارِ فقد اقتنى الاتضاعَ الكاملَ بيسوعَ المسيحِ ربنا الذي له المجد إلى الأبد آمين. من كلام القديس سمعان العمودي: «إذا كانت حُمَّى الجسدِ تمنعه من أن يعملَ أعمالَه الجَسَدَانية، كذلك مرضُ النفسِ بالخطيةِ يمنعها من ممارسةِ أعمالِ الحياةِ الروحانية، فالله يريدُ من النفسِ أن تحبَّه وتطلبه بحرصٍ، فإذا أحبَّته وطلبته بكلِّ قوَّتِها، فحينئذ يسكنُ فيها ويملك على أفكارِها فيهديها إلى ما يريدُ لها». قال شيخٌ: «إنَّ الله يطالبُ الإنسانَ بثلاثةٍ: العقلَ، الكلامَ الروحاني، والعملَ به. المجدُ الباطل يتولَّد من ثلاثةٍ: طلب التعليم، وطلب الاتساع في الأشياءِ، وطلب الأخذ والعطاء. وثلاثةٌ تسبقُ كلَّ خطيةٍ: الغفلة، النسيان، والشهوة. حاملُ الأمواتِ يأخذُ الأجرةَ من الناسِ، وحاملُ الأحياءِ، أعني المحتمل، يأخذُ الأجرةَ من الله». سأل أخٌ الأنبا بيمين قائلاً: «كيف ينبغي للراهبِ أن يجلسَ في قلايتهِ»؟ فقال له: «أما الظاهر من الجلوسِ في القلايةِ فهو أن تعملَ بيدِك، وتأكلَ مرةً واحدةً فقط كلَّ يومٍ، والهذيذ في الزبور وقراءة الكتب والتعليم، أما غيرُ الظاهرِ والسرِّي من الأمور فهو أن تلوم نفسَك في كلِّ أمرٍ تصنعه وحيثما توجهتَ، وفي ساعة صلاتك لا تتوانَ من جهةِ أفكارك، وإن أردتَ أن تقوم من عمل يديك إلى الصلاةِ، فقم وأكمل صلاتك بلا سجس، وتمام هذا كله أن تسكن مع جماعةٍ صالحةٍ، وتتباعد من جماعة السوء». وقال له أخٌ: «إني خاطئ فماذا أعملُ»؟ فقال له: «مكتوبٌ: خطيئتي أمامي في كلِّ حينٍ، فأنا أهتمُّ بآثامي وأعترفُ بذنبي، فقلتُ أكشف خطيئتي أمامَ الربِّ وهو يغفرُ لي نفاقَ قلبي». وقال: «من يضبط فَمَه فإن أفكارَه تموت، كالجَرَّةِ التي يوجد فيها حياتٌ وعقارب وسُدَّ فمها فإنها تموت». وسُئل: «أيهما أصلحُ، الكلامُ أم الصمت»؟ فقال: «إن الصمتَ من أجلِ الله جيدٌ، كما أن الكلامَ من أجلِ اللهِ جيدٌ كذلك». وقال: «من يُكثر من الاختلاطِ بالناسِ، لا يمكنه أن ينجوَ من النميمةِ». وقال كذلك: «إن اللجاجةَ والحسدَ يتولَّدان من السُبحِ الباطل، لأن الإنسانَ الذي يطلبُ مجدَ الناسِ فإنه يناصبُ الذي يعملُ وينجحُ ويُمجَّد، ويحسده. والاتضاعُ هو دواءُ ذلك». سُئل القديس باسيليوس: «كيف يكون حالُ من صَعُبَ عليه إتمام قانونِ التوبةِ»؟ فأجاب وقال: «حالُ ذاك يجب أن يكونَ كحالِ ابنٍ مريضٍ وفي شدةِ الموتِ بالنسبةِ لأبيه الخبير بصناعةِ الطبِّ والذي يرغب في مداواته، فلمعرفتِه بصعوبةِ وصفِ الأدويةِ والتعبِ الكثير في صناعتها، وبخبرةِ أبيه في الطبِ، ولأن قلبَه يطيبُ بمحبةِ أبيه له، ولرغبتهِ كذلك في الشفاء، فكلُّ هذه العوامل تجعله يرسخ لمداواته، فيمكِّنه من نفسِه ليتداوى ويحيا، لذلك من يَصْعُب عليه قانون التوبةِ، فليترك الأمرَ بين يدي معلمهِ». وسُئل أيضاً: «كيف ينبغي للإنسانِ أن ينتهرَ»؟ قال: «كما ينتهرُ الأبُ ابنَه، وكالطبيبِ الذي يقصد شفاءَ المريض». كما سُئل: «كيف يجب أن يُقبل الانتهار»؟ فقال: «كما يَقبل الولدُ تأديبَ والدِهِ، والمريضُ مداواةَ طبيبهِ». وسُئل كذلك: «كيف ينبغي للإنسان أن يحبَّ قريبَه»؟ فقال: «كالمكتوبِ: تحب قريبَك مثلَ نفسِك، وأيضاً ما من حبٍ أعظمُ من هذا أن يبذلَ الإنسانُ نفسَه عن أحبائِهِ». وأيضاً سُئل هكذا: «ما هي الكلمةُ البطالة التي نعطي عنها جواباً»؟ فقال: «هي تلك التي ليست للبنيان، كقول الرسولِ: كلُّ كلمةٍ قبيحةٍ لا تخرجُ من أفواهكم، بل الكلمةُ الصالحةُ التي تكون للبنيان، وتُعطي نعمةً للذين يسمعونها». وقال أيضاً: «إن الصومَ الحقيقي هو سجنُ الرذائل، أعني ضبطَ اللسانِ، وإمساكَ الغضبِ، وقهرَ الشهواتِ الدنسة. الذي يُصالح نفسَه خيرٌ من الذي يُصالح الغضوبين، والذي يُدبِّر نفسَه خيرٌ من الذي يُدبِّر غيرَه. ابتداءُ المحبةِ حُسنُ الثناءِ، وابتداءُ البُغضَةِ الوقيعةُ. عوِّد جسدَك طاعةَ نفسِك، ونفسَك طاعةَ اللهِ. ما لا ينبغي أن تفعله لا تفكر فيه ولا تذكره. إن أردتَ أن تكونَ معروفاً عندَ الله، فاحرص ألا تكون معروفاً عندَ الناسِ. عاتب نفسَك فهذا أفضلُ من أن تعاتبَ غيرَك. ابتعد من نظرِ وسماعِ ما لا يفيد، فتتخلص من فِعلِ ما لا يفيد. جيدٌ ألا تخطئَ، وإن أخطأتَ فجيدٌ ألا تؤخرَ التوبةَ، وإن تُبتَ فجيدٌ أن لا تعاودَ الخطيةَ، وإذا لم تعاودها فجيدٌ أن تعرفَ أن ذلك بمعونةِ اللهِ، وإذا عرفتَ ذلك فجيدٌ أن تشكرَه على نعمتِهِ وتلازمَ سؤاله في إدامة معونته. إن كان ليس بجيدٍ أن تستشهد بإنسانٍ شريفٍ على أمرٍ حقيرٍ، فكم بالحري الله تعالى. علامةُ الخوفِ من الله، الهربُ من العيوبِ الصغارِ، حذراً من الوقوعِ في الذنوبِ الكبارِ. علامةُ مَن غلبَ الشيطانَ أن يحتملَ شرَّ أخيه ولا يدينه. علامةُ الخلوةِ مع الله هي الابتعادُ من القلقِ، والبغضةُ لسيرةِ العالم. علامةُ التكبِر قنوعُ الإنسانِ برأي نفسه. عمومُ الناسِ يظنون أن الله في الهياكلِ فقط، فيحسِّنون سيرتَهم فيها فقط، وذوو المعرفةِ يعلمون أن اللهَ في كلِّ موضعٍ، فينبغي أن يحسِّنوا سيرتَهم في كلِّ موضعٍ. كما أن الجسديين لا يقدرون أن يَغضبوا بحضرةِ الملك، كذلك الذين يتدبرون بالروحانيةِ يمنعهم من الغضبِ الخوفُ من اللهِ الملك المعقول الناظر إليهم دائماً. الحكيمُ لا يتقي غيرَ المخوفِ، ولا يرجو غيرَ المدرَكِ، ولذلك لا يخافُ الآلام ولا يرجو دوام اللّذات العالمية، لأنها سريعةُ الزوالِ، فإذ لا يخاف هذه الآلام احتملها، وإذ لا يرجو هذه الّلذات فلا يطلبها». قال شيخٌ: «إذا قوتِلَ راهبٌ بالزنى وحفظ بطنَه ولسانَه وغربتَه، فلي إيمانٌ أنه لا يسقط بمعونةِ اللهِ». قال أخٌ لشيخٍ: «لستُ قادراً على إتمامِ الطاعة الكاملة». فقال له: «اعمل بقدرِ قوتِك، وأنا أؤمن أن اللهَ يحسبك مع من يُكمِل الطاعةَ». وقد قال: «لا تختنق إذا سقطتَ، بل انهض وتُب. فقد قال سليمان الحكيم: إنَّ الصديقَ إذا سقطَ سبعَ مراتٍ في اليومِ فهو يقوم سبعَ مراتٍ». قال شيخٌ: «إذا شَتَمَ الراهبُ أخاه بذكرِ شيءٍ من الخطأِ مثل أن يقول: يا زانٍ، يا سارق، ويا كذاب، فإن سَكَتَ المشتوم وغفر للشاتم وقال في نفسِه: بالحقيقة إني خاطئ؛ فإن تلك الخطية التي شُتم بذِكرها والتي أشار إليها بقولِهِ: بالحقيقةِ إني خاطئٌ، تُغفر له، وتصبح على الشاتم له بذِكرها، لأنه ترك الاعترافَ بخطيئتهِ وأظهر خطيةَ أخيه، ولكون المشتوم احتمل إشهار خطيئتهِ فحُسب له اعترافاً، ولكونه غفر لأخيه نال المغفرةَ». ثلاثةٌ من الرهبانِ تآخوا في الربِ، فاختار أحدُهم الصلحَ بين الناسِ كقولِ الربِّ: «طوبى لصانعي السلام فإنهم بني الله يُدعَوْن». واختار الآخرُ خدمةَ المرضى وتعاهدهم كقوله: «كنتُ مريضاً فتعهدتموني». أما الأخير فقد اختار لنفسِه الوحدةَ ليتفرغَ لخدمةِ الربِّ وحده والصلاةِ كلَّ حينٍ كقولِ الرسول. فأما الأول فإنه ضجر من خصومةٍ الناسِ ولم يقدر أن يرضيهم كلَّهم، فلما تعب مضى إلى صاحبهِ الذي يفتقدُ المرضى فوجده قد ضجر هو الآخر مما هو فيه، فقاما معاً وأتيا إلى المتوحدِ، وأعلماه بحالِهما واستخبراه عن حالهِ، فسكت قليلاً، ثم سكب ماءً في إناءٍ وقال لهما: «تأمَّلا هذا الماء»، فتأمَّلاه مضطرباً ولم ينظرا فيه شيئاً. وبعد أن سكن الماءُ قال لهما: «انظرا الآن». فنظرا، وإذا الماءُ يريهما وجهيهما مثل المرآةِ. فقال لهما: «هكذا تكون حالُ من يكون بين الناسِ، فإنه لأجل اضطرابهم لا يمكنه أن ينظرَ ما فيه، أما إذا انفرد ولا سيما في بريةٍ، فحينئذ يرى نقائصَه». قيل إن شيخاً كان يأكلُ أثناءِ تأدية عمله، فسُئل عن ذلك فقال: «إني لا أؤثر أن أجعلَ الطعامَ عملاً يُتفرغ له، حتى لا تحس نفسي بتلذذ في الطعامِ». وهو قال: «ليس شيءٌ يغسلُ دنسَ الزنى مثل دموعِ التوبةِ، لأن الزنى يخرج من الجسد والقلب، وكذلك الدموع تخرج من الجسد والقلب». قال شيخٌ: «يجبُ أن نحاسبَ نفوسَنا كلَّ يومٍ ونفتقد حياتنا بالتوبةِ». وقال أيضاً: يجبُ أن نشكرَ الله على الأوجاعِ الجسمانية، فإن الرسولَ يقول: «إذا ما فسد إنسانُنا الخارجي، فإن الداخلي يتجدد يوماً فيوماً». فلن نشاركَ المسيحَ في مجدِه إلا إذا شاركناه في أوجاعِه، ولا نقدر أن نشاركه في أوجاعِه، إلا بالصبرِ على الشدائدِ. الشكرُ في الشدةِ يعينُ على الخلاصِ منها. ينبغي ألا نرغب في نياح هذا العالمِ لئلا يُقال لنا: «قد أخذتَ خيراتك في حياتك». لا تظن أنك أكملتَ شيئاً من الخيرِ، فيُحفَظ لك أجرُ برِّك. لا تحسب نفسك أنك شيءٌ، فتكون أفكارُك هادئةً. إن الشياطين يخفون شرَهم وراءهم، ونورُهم آخره ظلامٌ، فلا تعمل شيئاً بغير مشورةِ الآباءِ العارفين بقتالهم. الزم الصلاةَ في التجارب، فإن الربَّ قد قال: «الله ينتقم لعبيدهِ الصارخين إليه». ينبغي للمجاهدِ أن يبتعدَ عن كلِّ امتلاءٍ، ولو من الخبزِ والماء، وأن يجمعَ عقلَه في صلاتِه، ليكمل قربانَه الروحاني، ويتذكر خطاياه دائماً ويحزن عليها، وليكن كلَّ ما يعمله ويقوله من أجلِ مرضاة الله لا من أجلِ مجدِ الناس، وأن يفحصَ تدبيرَه دائماً، لكي لا تكون سكناه في البريةِ على غيرِ مذهب الرهبنة، فإنه قد سكن البريةَ كثيرٌ من اللصوصِ وهي مأوى للوحوشِ والطيورِ المؤذية، أما الراهب فإنه يسكنها هرباً من سجسِ العالم الذي يشغل عن عبادةِ الله التامة، كما ينبغي أن يصبرَ على البلايا ويكلِّف نفسَه في كلِّ شيءٍ، وأن يقدِّم حبَّ الله على حبِّ القريب، وحبَّ القريبِ على حبِّ نفسه، وحبَّ نفسه على حبِّ كلِّ ما سواها، وليكن له إيمانٌ قويٌ بالله ورجاءٌ واتضاع وإمساكٌ وصمتٌ وصلاةٌ دائمة وتهاونٌ بالأرضيات وتذكر الموت والمجازاة، وقراءة الكتب وتمييز كلِّ الأمور وحفظُ العقلِ والقلبِ، وطاعةٌ للآباء والوصايا من أجلِ الله. قال أحدُ الإخوةِ لشيخٍ من الرهبان: «يا أبي، إني أطلبُ إلى الشيوخِ فيكلموني فيما هو لخلاصِ نفسي، ولكني لستُ عاملاً بشيءٍ مما يقولون لي، فما الذي أنتفعُ به من هذا الأمر، وأنا ممتلئٌ من الوسخِ». وكان عند الشيخِ كوزان فارغان، فقال له الشيخُ: «أحضر أحدَ هذين الكوزين وصبّ فيه ماءً وخضخضه». فجعله الشيخُ يغسل الكوزَ مراتٍ كثيرةً ثم قال له: «ضعه عند الكوز الآخر». ففعل، وبعد ساعةٍ قال له: «أحضر الكوزين معاً، وانظر أيَّ الكوزين أنقى». فقال له الأخُ: «الذي صببنا فيه الماءَ أنقى». قال له الشيخُ: «كذلك تكون نفسُ من يسأل الشيوخَ ولا يعمل بما يقولونه، أنقى من نفسِ من لا يسأل ولا يعمل معاً». قال شيخٌ: «ينبغي للمتوحدِ في قلايتهِ أن يكون له إفرازٌ ومعرفةٌ وحرصٌ وتيقظٌ، كما يكون ضابطاً لحواسهِ حافظاً لعقلِه، لا يفكر في إنسانٍ، ولا يَفْتُر في الصلاةِ والقراءةِ». قال أحدُ الشيوخِ: «إن الإفرازَ الحقيقي، لا يكون إلا من الاتضاع، والاتضاع هو أن نكشف لآبائِنا أفكارَنا وأعمالَنا، ولا نثق برأينا، بل نستشير الشيوخَ المجرَّبين الذين نالوا نعمةَ الإفرازِ، ونعمل بكلِّ ما يشيرون به علينا، فالذي يكشفُ أفكارَه الرديئة لآبائهِ فإنها تخف عنه، وكما أن الحيةَ إذا خرجت من موضعٍ مظلمٍ إلى ضوءٍ تهرب بسرعةٍ، كذلك الأفكارُ الرديئةُ إذا كُشفت تبطل من أجلِ فضيلةِ الاتضاع. وإذا كانت الصناعات التي نبصرها بعيوننا ونسمعها بآذاننا ونعملها بأيدينا، لا نقدر أن نمارسها بذواتنا إن لم نتعلمها أولاً من معلميها، أفليست إذن جهالةً وحماقةً ممن يريد أن يمارسَ الصناعةَ الروحانية غيرَ المرئية بغير معلمٍ؟، علماً بأنها أكثر خفاءً من جميعِ الصنائعِ، والغلط فيها أعظمُ خسارة من كلِّ ما عداها»؟ قال شيخٌ: «من اجتمع يإخوةٍ عمَّالين، فلو كان هو غيرَ عمَّالٍ فإن لم يتقدم إلى قدام، فلن يتأخر إلى وراء، كذلك من يجتمع بإخوةٍ متهاونين فلو كان عمَّالاً، فإن لم يخسر، فلن يربح. الساقطُ فلينهض لئلا يهلك، والقائمُ فليتحفظ لئلا يسقط». وقال آخر: «إذا مشيْتَ مع رفيقٍ صالحٍ من قلايتك إلى الكنيسة، فإنه يقدِّمك ستة أشهر، وإذا مشيتَ مع رفيقٍ رديء من قلايتك إلى الكنيسة فهو يؤخرك سنةً». سأل أخٌ شيخاً قائلاً: «يا أبي، لماذا لا يثبت جيلُنا هذا في أتعابِ الآباء الأولين»؟ فأجابه الشيخُ قائلاً: «لأنه لا يحبُّ الله ولا يفرُّ من الناسِ ولا يبغض قشاش العالم، إن كلَّ شخصٍ يفرُّ من الناسِ ومن المقتنيات فإن تعبَ الرهبنةِ يأتيه قبلَ سِنهِ، فكمثل إنسانٍ يريدُ أن يطفئ ناراً قد اشتعلت في بقعةٍ، فما لم يسبق ويبعد القشَ من قدام النار، لا يمكنه إطفاءَها، كذلك الإنسان، إن لم يذهب إلى موضعٍ لا يجد فيه الخبزَ والماءَ إلا بشدةٍ، فلا يستطيع أن يقتني تعبَ الرهبنةِ، لأن النفسَ ما لم تبصر فلا تشتهي سريعاً». قيل إن أحدَ الآباءِ كان يجلسُ في البراري البعيدة ويسكت، وفي يومٍ من الأيامِ سأله تلميذُه قائلاً: «لماذا يا أبي تفرُّ هارباً في البراري البعيدة، مع أني أسمعُ أن الناسَ تقولُ إن الذي يسكن بقربِ العالمِ ويقاتل أفكارَه من أجلِ اللهِ، يصير أكثرَ أجراً»؟ أجابه الشيخُ: «إن الذي ينتفع من قربهِ للعالمِ فهو ذاك الإنسان الذي يصل إلى أن ينظرَ مناظرَ موسى النبي ويصير ابناً لله، أما أنا فإني ابن آدم، وأنا مثل آدم أبي الذي بمجرد أن أبصرَ ثمرةَ الخطيةِ اشتهاها فأخذ وأكل منها ومات. من أجل ذلك كان آباؤنا يهربون إلى البراري، وهناك كانوا يقتلون شهوةَ البطنِ لعدم الأطعمة، إذ كانوا لا يجدون هناك الأشياءَ التي تلد الأوجاعَ كلَّها». وقال أيضاً: «إن كلَّ إنسانٍ يُسلِّم نفسَه لشدةٍ بهواه من أجلِ الله فلي إيمانٌ أن الله يحسبه مع الشهداءِ، وذلك البكاء الذي يأتيه في تلك الشدةِ يحسبه الله عوضَ الدمِ». قال شيخٌ: «من لا يقتني تعبَ الرهبنةِ فلن يقتني فضائلها، ومن لا يقتني فضائلها فلن يقتني مواهبها». قال القديس أنطونيوس: «إن أفضلَ ما يقتنيه الإنسانُ هو أن يُقرَّ بخطاياه قدام الله ويلوم نفسَه، وأن يكون متأنياً لكلِّ بليةٍ تأتيه حتى آخر نسمةٍ من حياتِه». قال شيخٌ: «يجبُ على الراهبِ في كلِّ بُكرةِ وعشية أن يحاسبَ نفسَه ويقول: ماذا عملنا مما يحبُّه الله؟ وماذا عملنا مما لا يحبُّه الله؟ لأنه يجب علينا أن نفتقدَ حياتَنا بالتوبةِ هكذا، وبهذه السيرةِ عاش أرسانيوس، لأن من عمل كثيراً ولم يحفظه، أتلفه، ومن يعمل قليلاً ويحفظه، يبقى معه. وقال أيضاً: «من أجلِ هذا لسنا نفلحُ، لأننا لا نعرفُ أقدارنا، وليس لنا صبرٌ في عملٍ نبدأ به، ولكننا نريد أن نقتني الفضائلَ بلا تعبٍ». وقال شيخٌ: «إذا حلَّت بليةٌ بإنسانٍ فإن الأحزانَ تحيطُ به من كلِّ ناحيةٍ لكي ما تُضجره وتزعجه، وبيان ذلك في أنه كان أخٌ في القلالي، هذا جاءت عليه بليةٌ لدرجةِ أنه إذا أبصرَه أحدٌ ما، فكان لا يسلِّم عليه ولا يُدخله قلايته، وإن احتاج إلى خبزٍ، ما كان أحدٌ يُقرضه، وإذا جاء من الحصادِ، ما كان أحدٌ يدعوه للكنيسةِ لأجل المحبةِ كالمعتاد. وحدث أن جاء مرةً من ذلك الحصاد فلم يجد في قلايته خبزاً، ومع ذلك كلِّه، كان يشكر الله على ما يأتي عليه من الأحزانِ. فلما أبصر الله صبرَه رفع عنه قتال البليةِ، وإذا إنسانٌ قد جاء فضرب بابَ قلايتهِ ومعه جملٌ موثقٌ خبزاً جاءه من مصرَ، فبدأ الأخ يبكي ويحزن ويقول: يا ربُّ، ما أنا بأهلٍ أن تتركني أحزنُ قليلاً، لكني يا ربُّ أنا مستوجبٌ لذلك، ولستُ أهلاً لشيءٍ من النياحِ، فلما جازت عنه تلك البليةِ، صار الإخوةُ يأخذونه وينيحونه في قلاليهم وفي الكنيسة». قال شيخٌ: «إن الراهبَ يُدعى راهباً من جهتين: الأولى: أن يبتعدَ من مناظرِ النساءِ، ويرفض العالمَ وكلَّ ما فيه ولا يهتم بشيءٍ البتة. والثانية، أن ينقي عقلَه من الآلام ويتحد بالربِّ وحده، وحينئذ يثمر ثمرَ الروحِ الذي هو الحب والفرح والسلامة والخيرية، وطول الروح والإيمان والود والوداعة والإمساك، ومن كان هكذا فلن يوجد له ناموسٌ يقاومه. وبقدر ما تكون همةُ الإنسانِ ملازمةً لله بلا طياشةٍ، بقدر ما تكون نعمةُ اللهِ متضاعفةً عليه، وبقدر ما نتقرَّب إليه بقدر ما يهتم هو بنا، وبقدر ما نبتعد عنه بهمتنا بقدر ذلك يبتعد هو منا، لأنه جعل الاختيارَ لنا في ذلك، إذ خلق نفسَ الإنسانِ على صورتهِ، فهي بطبعها تحبُّه وتشتاقُ إليه، وهي روحانية، فهي تشتاقُ إلى الأمورِ الروحانية المناسبة لها، وأما الجسدُ فَخَلقَه من الأرض، فهو يحبُّ الأرضيات وإليها يميل بطبعِه، والشيطان بتحريك الشهوات الجَسَدَانية يجذبُ النفسَ إلى الأمورِ الأرضية. فينبغي للراهب أن يكون له إفراز، ويطلب من الله الهدايةَ والمعونةَ حتى لا ينخدع، ويعتمد عليه بإيمانٍ تام، لأنه بغير معونةٍ من الله لا يقدر أن يناصب الشيطانَ ولا يبعد منه الأفكارَ الرديئة. لكنه إذا سلَّم نفسَه لله ولازم الصلاةَ، فإن الله حينئذ يملك على نفسِه ويجعل فيه هواه، ويُكمِّل فيه وصاياه. فالذي يعلم أنه لا يقدر أن يعملَ شيئاً بغير الله، فلا يفتخر كأنه قد عمل شيئاً، لكنه يشكر الله الذي عمل فيه، والشيطان إذا رأى إنساناً مجاهداً، فإنه يُحرِّك عليه الأوجاع الخبيثة، وقد يُفسح الله له المجال في ذلك، حتى لا يتعظم بأنه جاهد، حتى يلتصق به بالصلاةِ الدائمة، فإذا هو عرف ضعفَه، فإن الله يُبطلها عنه، أعني الأوجاعَ الخبيثة، وتصير نفسُه في هدوءٍ وسلامٍ». من أقوال سمعان العمودي: «كما أن الجسدَ إذا عَدِمَ أصغرَ أعضائه كان ذلك نُقصاناً له، هكذا النفسَ إذا عجزت عن ممارسةِ أصغرِ أجزاء الفضيلةِ، كان ذلك نقصاناً لها. وكما أن الإنسانَ إذا مشى كثيراً نحو المدينةِ ونقص سَيْرُهُ ميلاً واحداً، فقد أضاع كلَّ تعبهِ ولم يدخلها، كذلك الراهب إذا لم يجاهد إلى النفسِ الأخيرِ لا يدرك مدينةَ الأطهار. وكما أن الإنسانَ إذا عَدِمَ آلةً واحدةً لا يقدر أن يُكمِّل الصناعةَ اللازمة لها تلك الآلة، هكذا الراهب إذا عَدِمَ وصيةً واحدةً، لا يقدر أن يُكمِّل سيرته. فليس يكفيه أن يمنع جسدَه من الزنى فقط، بل وأن يضبطَ فكرَه ونظرَه وشهوةَ لسانهِ من الكذبِ والنميمة والشتم والتعيير والمداينة والمزاح والمماحكة، وبالإجمالِ من كلِّ كلامٍ بطَّال، كما ينبغي له أيضاً أن يُعلِّم أعضاءَه الخضوعَ لإرادةِ الله، وليست أعضاء بشريتهِ فقط، بل وأعضاء إنسانه الجواني كذلك. وكما أن الجسدَ يهلك بكلِّ واحدٍ من الوحوش النفاثة إذا ألقى فيه سمَّه، كذلك النفسَ تهلك بكلِّ واحدٍ من الأرواح الخبيثةِ إذا ألقى فيها فكرَه». وقال أيضاً: «كما أن الخبزَ يُقيتُ الجسدَ ويحييه، كذلك الكلام الروحاني يُقيتُ النفسَ ويحييها، وهو نورٌ للعينين ومرآةٌ للقديسين، يشفي من أمراضِ الخطية، وكلُّ من لا يعمل بكلام الناموسِ فقد احتقر واضعَ الناموسِ. وليس يكفي استماع الناموس والتكلم به من دونِ العمل بما قيل فيه. فكما نؤمن أنّ الله رحيمٌ، كذلك نؤمن أنه صادقٌ وأنه عادلٌ، ويجازي كلَّ واحدٍ كنحو عملهِ، له المجد». كما قال أيضاً: «لتكن أسماءُ الإخوةِ حُلوةً في فيك، ومناظرهم جميلةً محبوبةً في عينيك، وخدمتهم سهلةً ميسورةً في يديك، اعمل برغبةٍ واتضاع، وعلِّم بلا حسدٍ ولا بُخلٍ، ولا تنحلَّ في الشدائد لتكون مُرضياً لله، عالماً أنه لو أراد لرفع عنك الشدةَ، وإذا لم يرفعها عنك، فإنما يريد نفعَك، فاشكر في كلِّ حالٍ. كما أن الذهبَ لا يمكن أن يُعمل منه إناءٌ مختارٌ للملك بدون سبكٍ وصياغةٍ، وكذلك الشمع لا يقبل الانطباع بالصورةِ الملكية بدون تليين، هكذا النفس لا تصلح لأن تُنقش فيها صورةُ المسيح الملك بدونِ أدبٍ كثيرٍ ظاهر وباطن، ورياضةٍ وافرة، ومحنٍ شديدةٍ». قال شيخٌ: «كما أن الإنسانَ الذي ترك المملكةَ وترهب يُمدح من كلِّ العقلاءِ والفضلاءِ، لأن الرهبنةَ أفضلُ من كلِّ ما تركه، إذ هي توصِّل إلى المملكةِ السمائية الدائمة، كذلك إذا ترك إنسانٌ الرهبنةَ وصار ملكاً، فإنه يُذمُّ من كلِّ الفضلاءِ». وقال أيضاً: «لقد كان الإنسانُ في البدءِ شبهَ الملائكةِ، فلما سقطَ صار شبهَ البهائمِ، لكن إذا كانت الطبيعةُ الإنسانية تسوقُ إلى الشهواتِ البهيميةِ، فإن الشريعةَ المسيحية تؤدي إلى الغاية الملائكية، لأن المسيحَ وعد الذين يعملون إرادتَه أنهم سيكونون مثل ملائكةِ الله. فاعلم يا أخي أنه ليس شيءٌ يُقرِّب إلى الله مثلَ الطهارةِ والاتضاع، ويمكن اقتناؤهما بالصومِ والصلاةِ والسهرِ والتعب، وإتمام الخيرات بقطع رأسِ الشرِّ الذي هو حب المقتنيات». وقال شيخٌ: «كلُّ راهبٍ يجلس في قلايته ويدرس في مزاميرِه، فهو يشبه مَن يجري في طلب الملكِ، والذي يداوم في الصلاةِ فهو يشبه إنساناً يكلِّم الملكَ، وأما الذي يسأل ببكاءٍ فهو يشبه من هو ممسكٌ برجليْ الملك يطلب منه المغفرةَ». قيل: سَمع أخٌ بأخبارِ القديسين فظن أنه يمكنه أن يقتني فضائلهم بلا تعبٍ، فسأل شيخاً كبيراً، فقال له: «إن أردتَ أن تقتني فضائلَ القديسين، فصيِّر نفسَك مثلَ صبيٍ يكتب كلَّ يومٍ آيةً من معلمِه، فإذا حفظها كتب غيرَها، فافعل أنت كذلك هكذا: قاتل بطنَك في هذه السنةِ بالجوعِ، فإذا أحكمتَ ذلك، قاتل حينئذ السُبحَ الباطل لتبغضه كالعدوِ. وإذا قوَّمتَ هذين فاحرص على أن تزهد في أمورِ الدنيا وتطرح همَّك على الله، فإن تيقنتَ أنك قوَّمت هذه الثلاث خصال، فستلقَى المسيحَ بدالةٍ كثيرةٍ». سُئل شيخٌ من أحدِ الإخوةِ: «ما هي فلاحةُ النفسِ لتثمرَ»؟ فقال له: «السكوتُ والإمساك وتعبُ الجسد والصلاةُ الدائمة. وأن لا يجعل الإنسانُ بالَه من عيوبِ غيره، بل من عيوبهِ فقط، فمن دام في هذه الخصال، أثمر سريعاً». قال شيخٌ: «لا تملأ بطنَك من الخبزِ والماءِ، ولا تشبع من نومِ الليلِ، فإن الجوعَ والسهرَ ينقيان أوساخَ القلبِ من الأفكارِ، والجسدَ من قتالِ النجاسةِ، فيسكنه الروح القدس. لا تقل: اليومَ عيدٌ، آكل وأشرب! فإن الرهبانَ ليس لهم عيدٌ على الأرضِ، وإنما فصحهم هو خروجهم من الشرِّ، وعنصرتهم تكميل وصايا المسيح، ومظالّهم حصولهم ملكوت السماوات. فأما الشبع من الخبزِ فإنما هو والد الخطيةِ. حصنُ الراهبِ هو الصوم، وسلاحُه هو الصلاة، فمَن ليس له صومٌ دائمٌ فلا يوجد له حصنٌ يمنع عنه العدو، ومن ليست له صلاةٌ نقية، فليس له سلاحٌ يقاتل به الأعداءَ. كلُّ من يجعل الموتَ مقابله كلَّ حين، فإنه يغلب الضجرَ وصغرَ النفسِ». وقال أيضاً: «إذا تمسكنت النفسُ فإنها تزداد قوةً على قوتها، كالجلود التي تُدبغ وتداس وتبيَّض وتجفف». قال أنبا دانيال: «مادام الجسدُ يَنبُتُ، فبقدر ذلك تذبل النفسُ وتضعف، وكلما ذبل الجسد نبتت النفسُ». طلب إخوةٌ إلى شيخٍ أن يترفَّقَ بنفسِه من كثرةِ الجهاد، فقال: «حقاً أقولُ لكم يا إخوتي: كان مصيرُ إبراهيم خليل الله أن يندمَ إذا رأى كثرة مواهب الله، وذلك إن لم يجاهد ويتعب أكثرَ مما فعل». قال أخٌ لشيخٍ: «إن أفكاري تدور وتحزنني جداً». فقال له الشيخُ: «اجلس في قلايتك ولا تخرج منها، والأفكار تعودُ إليك، كمثل حمارةٍ مربوطةٍ وجحشُها يدورُ ثم يرجعُ إليها، هكذا من يصبر في قلايتهِ من أجلِ الله، فإن دارت الأفكارُ فإنها ترجعُ إليه». وقال أيضاً: «كما أن الغرسَ إذا قُلع من موضعٍ وغُرس في غيرهِ لا يثمر ما لم يثبت في موضعٍ واحدٍ، كذلك الراهب الذي ينتقل من ديرٍ إلى ديرٍ، لا يثمر ما دام متنقلاً». كان أخٌ يقاتَل بأن يخرجَ من ديرِه، فذهب وأعلم رئيسَ الدير. فقال له الرئيسُ: «اذهب واجلس في قلايتك، وارهن جسدَكَ رهينةً لحائط القلاية، واترك الفكرَ يهيمُ حيثما يشاء، وأنت لا تبرح من القلايةِ قط». وقال شيخٌ: «ينبغي للراهب أن يقاتل بجهادٍ كثيرٍ شيطانَ الضجر وصِغر النفسِ وبخاصة وقت الصلاةِ، فإذا قَوِيَ على هذا، فليحذر من شيطان الكبرياء، وليقل: إن لم يبنِ الربُّ البيتَ فباطلاً يتعب البناءون، وإن لم يحرس الربُ المدينةَ فباطلاً يسهر الحراسُ. كما يذكر كلامَ النبي: إن الله يعاند المستكبرين ويعطي المتواضعين النعمةَ». رأى شيخٌ مغنيةً مزيَّنةً، فدمعت عيناه وتنهَّد، فسُئل عن السببِ، فقال: «لقد حرَّكني أمران؛ أحدهما إهلاك هذه المرأة لنفسِها، والآخر أنه ليس فيَّ من الحرصِ في سبيلِ إرضاءِ الله، بقدر حرص هذه في سبيلِ إرضاءِ الناس». قال شيخٌ بخصوص لعازر المسكين: «إننا لم نجده عمل شيئاً من الفضيلةِ غير أنه لم يدمدم قط على ذلك الغني الذي لم يرحمه، كما كان شاكراً الله على ما كان فيه، فمن أجلِ هذا فقط رحمه الله». وقع أخٌ في بليةٍ، ومع الحزنِ أتلف عملَ رهبانيتهِ، وإذا أراد أن يبدأ بالعملِ من الرأسِ، كان يستثقل ذلك ويقول: «متى أبلُغ إلى ما كنتُ فيه»؟ وكان يضجر، وتصغر نفسُه، فلا يقدر أن يبدأ بعملِ الرهبنةِ مرةً أخرى، وأخيراً ذهب إلى أحدِ الشيوخ وقصَّ عليه أمرَه، فلما رأى الشيخُ حزنَه، ضرب مثلاً قائلاً له: «كان إنسانٌ له بقيع، فمن توانيه امتلأ ذلك البقيع شوكاً، وإنه بعد ذلك انتبه، وأراد أن ينقي ذلك البقيع من الشوكِ، فقال لابنِه: يا بُني، اذهب إلى البقيع ونقهِ واقلع شوكَه. فلما ذهب ابنهُ وأبصر كثرةَ الشوكِ، سئم وملَّ، ونام. وبعد أيامٍ كثيرةٍ، أتاه أبوه لينظرَ ماذا عمل الغلام، فلما رآه لم يعمل شيئاً، قال له: حتى الآن لم تنقِّ شيئاً؟ فقال الغلامُ: أخبرك يا أبتاه، كلما عزمتُ على البدءِ في العملِ، أبصر كثرةَ الشوكِ فأحزن، ومن كثرةِ الحزنِ كنتُ أضع رأسي وأنام. فقال أبوه: لا يكون الأمرُ هكذا يا ابني، ولكن نقِّ كلَّ يومٍ قدرَ مفرشك فقط، قليلاً قليلاً. ففعل الغلام كما أمره أبوه، وداوم على ذلك حتى فرغ الشوكُ من ذلك البقيع. وأنت كذلك يا حبيبي، ابدأ بالعمل شيئاً فشيئاً ولا تضجر، والله بطيبهِ ونعمتهِ يردُّك إلى سيرتك الأولى». فذهب ذلك الأخُ وعمل وصبر كما علَّمه الشيخُ فوجد نياحاً وأفلح. قال شيخٌ: «احذر أن تصنعَ خطيةً بهواك، لئلا تعتادها فتصنعها بغير هواك، كالضحك». وسُئل: «كيف أسكنُ في ديرٍ بغيرِ قلقٍ»؟ فقال: «ذلك بأن تَعُدَّ نفسَك غريباً، ولا تطلب أن يكون لك فيه كلمةٌ مسموعةٌ، كما تقطع هواك ولا تحسب نفسَك شيئاً». كما سُئل عن الغربةِ، فقال: «هي الصمتُ، وترك الالتفاتِ إلى الأمورِ». قال أخٌ لشيخٍ: «إني أرى فكري دائماً مع الله». فقال له: «الأعجب من هذا أن ترى نفسَك تحت جميعِ الخليقةِ، فلا سقوط مع الاتضاع». وسُئل: «ما هو الاتضاع»؟ فقال: «أن تحسن إلى من أساء إليك، وتسكت في جميع الأمور». قال أحدُ الشيوخِ: «إذا صرنا في السلامِ غيَر مُقاتَلين فسبيلُنا أن نتضعَ كثيراً، لئلا نُدخل علينا فرحاً غريباً، فنفتخر وننسب ذلك إلى جهادِنا ونتعظَّم في أنفسِنا فيتركنا من عنايتهِ، ونُسلَّم إلى القتالِ فنسقط، لأن الله لأجلِ ضعفِنا، مراراً كثيرة يرفع عنا القتالَ». سأل الأنبا آمونالأنبا بيمينعن الأفكارِ النجسةِ التي تتولد في قلبِ الإنسانِ والحسيات البطالة، فقال له: «هل يقطع الفأسُ بغير إنسانٍ يقطعُ به؟ فلا تحادث أنت هذه الأفكار وهي تبطل». وسأله أيضاً أنبا إشعياء عن هذه المسألة فأجابه: «إن وضع إنسانٌ ثيابَ صوفٍ في صندوق ولم يتعاهدها، أكلتها العثة وهلكت، كذلك الأفكار إن لم تفعلها جسدانياً بطلت». وأيضاً سأله أنبا يوسف بهذا الخصوص، فقال له: «كما أنه إذا دخلت حيةٌ أو عقربٌ في جرابٍ، فإن ربطتَّه ولم تدعها تدخل وتخرج فهي تموت مع طول الزمان، وإن تركته مفتوحاً فهي تخرجُ وتؤذيك، كذلك الأفكار السوء التي تعرض لنا تبطل بالحراسة والصبرِ». قال أخٌ لشيخٍ: «إن أصابني ثِقَلُ النومِ أو فاتني وقتُ صلاةٍ ثم انتبهتُ ولم تنبسط نفسي للصلاة حزناً، فماذا أعمل»؟ فقال له: «ولو نمتَ إلى الصباح فقم وأغلق بابك واعمل قانونك، فالنبي داود يقول مخاطباً الله: لك النهار ولك الليل، وإلهنا لكثرةِ جودِه ورحمتِه في أي وقتٍ دُعيَ أجاب». قال شيخٌ: «الذي يأكلُ كثيراً ويقومُ عن المائدةِ وهو جائعٌ، أفضل من الذي يأكلُ قليلاً ويبطئ أمام المائدةِ حتى يشبعَ». وقال آخر: «إذا رأيتَ شاباً يصعدُ إلى السماءِ بهواه، فَشِدْ رِجلَه واطرحه فإن هذا أنفع له». كان أحدُ الرهبان المجاهدين إذا قالت له الشياطين في فكرِه: «ها قد ارتفعتَ وصرتَ كبيراً»، كان يتذكَّر ذنوبَه قائلاً: «ماذا أصنعُ من أجل خطاياي الكثيرة». وإذا قالوا له: «لقد فعلتَ ذنوباً كثيرةً وما بقي لك خلاصٌ»، يقول: «وأين رحمة الله الكثيرة». فانهزمت عنه الشياطين قائلين: «لقد قهرتنا، إن رفعناك اتضعتَ، وإن وضعناك ارتفعتَ». أخبر أبٌ أنه أبصرَ أربع مراتب مرتفعةً في السماءِ، الأولى: مريضٌ شاكرٌ لله. والثانية: صحيحٌ يضيفُ الغرباء وينيح الضعفاء. والثالثة: منفردٌ في البريةِ مجتهدٌ. والرابعة: تلميذٌ ملازمٌ لطاعةِ أبيه من أجلِ الله. ووجد أن مرتبةَ التلميذ أسمى من المراتب الثلاث الأخرى، وزعم أنه سأل الذي أراه ذلك قائلاً: «كيف صار هذا هكذا وهو أصغرهم، فأصبح أكبرهم مرتبةً»؟ فقال: «إن كلَّ واحدٍ منهم يعمل الخيرَ بهواه، وأما هذا فقد قطع هواه لله، وأطاع معلمه، والطاعة لأجلِ اللهِ أفضل الفضائل». قال شيخٌ لتلميذهِ: «ويحٌ لي يا ابني، فإنني ربما إذا مضيْتُ بالليلِ إلى موضعٍ يُبعدني من اللهِ، وسمعتُ صوتَ الكلابِ، أخرج لساعتي فزعاً منها، فالخطأ الذي لا يردُّني عنه خوفُ اللهِ، ردَّني عنه خوفُ الكلابِ». وقال أيضاً: «لو أننا نحبُّ اللهَ مثلما نحبُّ أصدقاءَنا، لكنا مغبوطين، لأنني رأيتُ مَن أحزن صديقَه، فلم يجد هدوءاً حتى تجدَّدت المودةُ بينهم بالمراسلة وبالاعتذار وبالاستغفار وبالهدايا، أما الله فنغضبه بذنوبنا ولا نكترث لذلك». قال شيخٌ: ذهبنا مع إخوةٍ إلى ديرٍ خارج الإسكندرية على بعد خمسة عشر ميلاً، فلقينا أنبا تودري، وقد كان رجلاً كثيرَ التعبِ في الرهبنةِ، ومعه موهبة الصبر، فحدثنا عن أخٍ كان ساكناً في القلالي الكائنة خارج الإسكندرية، وكان قد اقتنى له موهبة البكاء، وفي يومٍ من الأيامِ أوجعه قلبُه وجاءه بكاءٌ كثير، فلما رأى كثرةَ البكاءِ، قال لنفسِه: «هذه علامةٌ دالةٌ على أن يومَ موتي قد دنا»، فكان كلما تفكَّر في ذلك، كان البكاء يزداد ويكثر كلَّ يوم. فلما انتفعنا من حديثِ الشيخِ سألناه عن الدموع: «لأي سببٍ يا أبانا تأتي الدموع من نفسِها مرةً ولا تأتي من نفسِها مرةً أخرى»؟ فقال لنا الشيخُ: «الدموعُ مثل المطر، والراهبُ مثل الفلاح، فينبغي له إذا أبصر المطرَ قد جاء، أن يحرصَ ألا يفوته شيءٌ منه، بل يصرفه كلَّه إلى أرضهِ، حقاً أقول لكم يا بَنيَّ إنه ربما يكون يومٌ واحدٌ ممطر أخيَر من السنةِ كلِّها. فمن أجل ذلك، إذا رأينا المطرَ قد جاءنا، فلنحرص أن نحفظَ أنفسَنا ونتفرغ إلى التضرع إلى الله دائماً، إذ لا ندري هل نجد يوماً آخرَ مثلَ اليوم الذي جاءنا فيه البكاءُ أم لا». فسألناه نحن أيضاً وقلنا: «أخبرنا يا أبانا كيف ينبغي للإنسان أن يحفظَ ذلك البكاء إذا جاء»؟ فقال لنا الشيخ: «من قبل كلِّ شيءٍ، لا يتوجه ذلك الإنساُن الذي يأتيه البكاء في ذلك اليوم، أو تلك الساعة، أو تلك السنة، إلى إنسانٍ، ويتحفَّظ ألا يملأ بطنَه وألا يستكبر في قلبهِ، ويُفضَّل أن يبكي وأن يتفرَّغ للصلاةِ والقراءة، فإذا جاء النوحُ فهو يعلِّمه الأمورَ التي تضره، والأمورَ التي تأتي به». ثم إن الشيخ حدثنا وقال: «إني أعرفُ أخاً كان جالساً في قلايته يعمل في الضفيرةِ، وكانت الدموعُ تأتيه بغزارةٍ، فكان إذا رجع إلى العمل في الضفيرة، يجمع عقلَه ويأتيه البكاء، حتى في القراءةِ كذلك، فإنه إذا أخذ المصحفَ جاءه البكاءُ، وإذا تركه ذهب البكاء عنه، حينئذ قال لنفسه: حسناً قال الآباءُ، إنَّ النوحَ هو معلمٌ، يعلِّم الإنسانَ كلَّ شيءٍ ينفع نفسَه». مضى أخٌ إلى الأب سلوانس وأخبره بأن له عدواً قد كثر شرُّه، وقد سأل السحرةَ في إهلاكِه، وأنه يريدُ أن يسلِّمه إلى السلطان ليؤدِّبه وتنفع نفسه. فقال له الشيخ: «اعمل ما شئتَ». فقال الأخ: «اصنع لي صلاةً». فقام الشيخُ ليصلي، ولما بلغ إلى قولهِ: «اغفر لنا يا ربُّ خطايانا كما نغفر نحن لمن أخطأ إلينا»، قال: «لا تغفر لنا يا ربُّ خطايانا، كما لا نغفر نحن لمن أخطأ إلينا». فقال الأخ: «لا تقل هكذا يا أبي». فأجابه الشيخُ: «إذا كنتَ تريدَ أن تنتقمَ ممن أساء إليك، فهذا ما يجب أن يقال يا ولدي وهكذا يكون». فصنع الأخُ مطانية وصفح عن عدوهِ. فسَّر أحدُ الشيوخِ قولَ الله: «على خطيتين وثلاث خطايا صبور، وأما الرابعة فلا أحتمل». فقال: «الأولى هي التفكير في الشرِّ، والثانية هي الخضوع للفكر، والثالثة هي التحدث باللسان، والرابعة هي إتمام الفعل، وعن هذه ينتقم». قال شيخٌ: «إن من يحب السكوت ينجو من سهام العدو، أما الذي يحب الجماعات فإنه يُصاب بجراحات كثيرةٍ». كان إنسانٌ يريد أن يترهب، وكانت أمُه تمنعه، ولم يزل يلحُّ عليها قائلاً أريد أن أخلِّص نفسي، حتى توفيت أمه بعد قليل، فمضى وترهب، وصار متوانياً في رهبنته. فحدث أن مرض جداً، وخُطف عقلُه إلى موضع الدينونةِ، فرأى أمَه مع الذين يُعذَّبون، ولما رأته قالت: «ما هذا يا ولدي، وكيف جئتَ إلى ها هنا، وأين قولك: أريد أن أخلِّص نفسي»؟ فبقي حائراً ولم يدرِ كيف يجيبها. فرجع إلى نفسِه وقام من مرضِه، وعلم أن الله الرحوم قد افتقده ونبهه، فحبس ذاته في قلايةٍ لطيفة، وجلس يهتم بخلاص نفسِه بالتوبةِ، والبكاء على ما سلف من توانيه، حتى كان الآباء يطلبون إليه أن يكفَّ عن البكاء قليلاً، فكان يجيبهم: «إن كنتُ لم أحتمل تعيير أمي، فكيف يكون حالي إذا وقفتُ قدام المسيح بحضرةِ الملائكة يوم الدينونة. أيمكنني أن أحتمل ذلك الخزي المعد للخطاة»؟ قال شيخٌ: أراد إنسانٌ موسر أن يعلِّم أولاده النشاطَ، فقال لهم: «هل تعلمون كيف صرتُ غنياً؟ إن سمعتم مشورتي استغنيتم مثلي». فسألوه عنها، فقال لهم: «في كلِّ سنةٍ يوجد يومٌ من أيامِها كلُّ من عمل فيه باجتهادٍ استغنى، إلا أني لشيخوختي قد نسيت أيَّ يومٍ هو، فلا تتوانوا أنتم في العمل كلَّ يومٍ، لئلا يفوتكم العمل في ذلك اليوم المبارك، فيضيع تعبُكم في السنةِ كلِّها». ثم قال الشيخُ: «هكذا نحن أيضاً لسنا نعرفُ يومَ وفاتِنا، فإن توانينا حين وفاتنا، فاتنا مقصدنا وضاع كلُّ تعبنا، وإن اجتهدنا إلى الآخر وجدنا ملكوت السماوات». وقال أخٌ آخر: «كما أن الكنزَ إذا ظهر نقص، كذلك الفضائل إذا اشتهرت وعُرفت تبيد كلُّها، وكما يذوب الشمع من أمام وجه النار، كذلك تسترخي النفس وتهلك وينقطع نشاطُها من مديحِ الناسِ». كان أحدُ الإخوةِ يرى نعمةَ الله على الهيكلِ، فلما قال لأخيه: «لِمَ تأكل مبكراً»؟ ارتفعت ولم يرها بعد. أخبر أحدُ الآباء إنه كان ساكناً بالقربِ من أخٍ عمَّال مع الله، فاعتراه توانٍ وكسل، وبعد مدة انتبه من توانيه ولام نفسَه قائلاً: «يا نفسي، إلى متى تتوانين عن خلاصِك؟ أما تخافين من دينونة الله يا شقية وأنت في مثل هذا التواني، فتُسلَّمين للعذاب الدائم»؟ فلما تفكَّر في مثل هذا، أنهضَ نفسَه في عملِ الله. ففي بعض الأيام وهو واقفٌ يصلي، أحاطت به الشياطين وعذَّبته، فقال لهم: «إلى متى تؤذونني؟ أما كفى ما قاسيته في زماني من التواني»؟ فقالت له الشياطين: «لما كنا نراك متوانياً، كنا متوانين عنك، ولما رأيناك قمتَ وتجردت لنا، قمنا نحن أيضاً عليك، فتلقَّى ما يأتيك». فعندما سمع ذلك، أخذته غيرةٌ، وازداد نشاطاً وحرارةً في عمل الله. وبنعمة الله حصل على الغَلَبة. كان شيخٌ قديس له عادة إذا جلس في عمل يديه ينظر إلى الأرضِ، ويجمع عقلَه ثم يحرِّك رأسه ويقول بتنهدٍ: «تُرى ماذا يكون»؟ ثم يسكتُ قليلاً ويرجع إلى عملِه في الضفيرة، ثم يعيد القول، وهكذا استمر على هذه الحال جميع أيام حياتهِ. أخٌ أغلق على نفسِه بابَ قلايته زماناً يسيراً، فقاتلته أفكارٌ مكتومة وأحلامٌ سمجة، فأراد الامتناعَ من شربِ الخمر، فبعث إلى شيخٍ قديس يستشيره في ذلك، فأجابه الشيخُ قائلاً: «إن كنتَ تريد أن تخلص فاهرب من شيطانِ العظمةِ، واجعل لك قليلَ محقرةٍ لأن المحقرةَ تُهلك العظمةَ وتبعدها، ولا تدع أحداً يخدمك، بل اخدم أنت نفسك، وأنت تخلص بمعونة الله، والآن فلا تغلق البابَ الخشب، بل بالحري أغلق بابَ لسانِك». قال شيخٌ: «إذا كنتَ جالساً في قلايتك بسكوتٍ، فلا تظن أنك تفعل أمراً كبيراً، بل افتكر أنك كلبٌ عَقُور مسجون، كيلا تبصر الناسَ فتعقرهم». قال أحدُ الشيوخِ: «عوِّد نفسَك يا ابني عند كلامِك عن الرهبان أن تقول: إن هذا أخيَرُ مني، وهذا أحرصُ مني في رهبانيته، وهذا أبرُّ مني. على أن تقول ذلك بنيةٍ صادقةٍ من كلِّ قلبك، لأن ذلك يجعلك تنظر ذاتَك تحت الخليقةِ كلِّها، وحينئذ يسكن فيك روحُ الله، أما إن كنتَ تزدري بإخوتك وتحتقرهم وتَعُدَّ نفسَك شيئاً وتستكبر، فإن نعمة الله تبعد عنك، وتُسلَّم إلى دنس الجسد الذي يقسِّي قلبَك مثل الحجرِ». قال أحدُ الشيوخ: «إذا كان الراهبُ حريصاً مجاهداً، فإن الله يطلب منه ألا يرتبطَ بشيءٍ من أمورِ هذه الدنيا، لئلا يشغله ذلك عن ذِكر ربِّهِ، وعليه أن يطلبَ إليه بلجاجةٍ وبكاءٍ ليغفرَ الله خطاياه». وقال شيخٌ: «كلُّ من ذاق حلاوةَ المسكنةِ، فإنه يستثقل ثوبَه الذي يلبسه وكوزَ الماء الذي يشرب به، لأن عقلَه قد اشتغل بالروحانيات. فإذا ما ارتبط الراهبُ بالدنيا وما فيها، وصنع هواه، فإن جميعَ تعبهِ يذهبُ باطلاً». وقال أيضاً: «الجوعُ والتعبُ يُبطلان قتالَ الزنى، وطولُ الروحِ والرحمةُ يهدئان الغضبَ، وقراءةُ الكتبِ والسهرُ في الصلاةِ يجمعان العقلَ الطوَّاف». قال شيخ: «كلُّ من يحاربه إبليس وجنوده بالقتال، وهو لأجل ذلك ينوح ويبكي ساهراً، طالباً معونة الله، فهو يُستجابُ، لأن السهرَ يحلُّ الخطيةَ، والبكاءُ يغسلُ الذنوبَ». كما قال شيخٌ: «إن الهدوءَ هو أولُ زكاوة النفس، لأن اللسانَ حينئذ لا يتكلم بكلام الناس، والعينان لا تنظران الجمالَ والحسنَ المنحرف عن الواجب، والأذنان لا تسمعان الأصوات اللذيذة التي ترخي قوة النفس، مع كلام الضحك واللعب، والقلب لا يتبدد بالعلل البرانية، ولا الحواس تنصبُّ إلى العالم، ولكنه يرفع نفسه ويهتم بالله». كان شابٌ في المدينةِ قد صنع شروراً كثيرةً، وكان منغمساً في الخطايا، وبرحمةِ الله، أحسَّ بعد ذلك بكثرةِ خطاياه، فحبس نفسَه في قبرٍ لكي ما يتوب عما صدر منه، وطرح وجهَه على الأرضِ وهو يقول: «لا ينبغي لي أن أرفعَ نظري إلى السماءِ لكثرة خطاياي، ولا أن أذكرَ اسمَ الله بفمي النجس، ولا أن أصلي». وكان يقول في نفسِه: «إني لا أستأهل السُكنى مع الناسِ الأحياء، ولكن مع الموتى». فحبس نفسَه في القبرِ وهو يائسٌ من الحياةِ، وكان يتنهد من وجعِ قلبهِ، فلما انقضى أسبوعٌ وهو على هذه الحال، أتاه بالليلِ أجنادُ الشياطين وهم يصيحون قائلين: «أين ذلك النجس الذي لم يشبع من الدنس، هل يريد الآن أن يصير نصرانياً؟ ألا تنطلق بعجلةٍ من ههنا، لأن الزناةَ والخمارين أصحابك يتوقعون حضورك إليهم، فاطرح عنك هذا الأمرَّ البطال، فما الذي يحملك على أن تقتلَ نفسَك أيها الأرعن، إنما أنت بجملتك لنا وقت وهبت لنا حياتك بعهودٍ، فأنت غريمٌ لنا، لماذا تهرب منا؟ ألا تردَّ علينا جواباً؟ ألا تقوم وتذهب معنا»؟ أمَّا هو، فمن وجعِ قلبهِ لزم السكوتَ، فلما كثُرَ عليه الكلامُ ولم يجبهم، حينئذ بدءوا يضربونه، واستمروا يضربونه حتى مزَّقوا جسَده، فلم يستطع أن يتحركَ، كما لم يقدروا أن يُزيغوه عن فكرِه الصالح. فتركوه مثل ميتٍ وانصرفوا وهو في تنهدٍ شديدٍ مسلِّماً نفسَه لله، ثم أن أهل بيتهِ خرجوا يطلبونه، فلما وجدوه سألوه عن أمرهِ، فأخبرهم بما حلَّ به، فأرادوا أن يأخذوه معهم، فامتنع. وفي الليلةِ التالية، عاد إليه الشياطين، وضربوه، ولما كانت الليلة الثالثة، أتوه أيضاً وضربوه حتى بقي فيه قليلُ نفسٍ، فلما رأى الله انكسارَ قلبهِ، منعهم عنه، فهربوا وهم يقولون: «قد غلبتنا». ولم يعودوا إليه بعد ذلك، فسكن في ذلك القبر بقية حياته بالزكاوةِ، واقتنى رهبنةً فاضلةً، وصار سبباً لرجوع خطاةٍ كثيرين إلى التوبةِ». قال شيخٌ: «الاتضاع هو شجرة الحياة، التي لا يموت آكلوها». وقال أيضاً: «تشبَّه بالعشارِ، لئلا تُدان مع الفريسي». |
16 - 09 - 2013, 01:38 PM | رقم المشاركة : ( 2 ) | |||
..::| مشرفة |::..
|
رد: من تعاليم القديس برصنوفيوس
قوتل أخان بالزنى، فانطلقا إلى العالمِ وتزوَّجا، وبعد ذلك ندما وقال أحدُهما للآخرِ: «ماذا ربحنا، لقد تركنا عملَ الملائكةِ وجئنا إلى هذه النجاسة، ومصيرُنا بعد ذلك أن نمضي إلى جهنم النار. لنرجع إلى البريةِ ونتوب». فرجعا إلى البريةِ، وأتيا إلى الشيوخِ وسألاهم أن يطلبوا إلى الله من أجلهما. فأمروهما أن يحبسا نفسيهما سنةً واحدةً ويتضرعا إلى الله كي يتحنن عليهما. وكانوا يعطونهما خبزاً وماءً بالتساوي. فلما انقضى زمانُ توبتهما وخرجا من حبسِهما، أبصر الشيوخُ أحدَهما متغير الوجه معبَّساً، وأبصروا الآخرَ حسنَ المنظرِ باشّاً، فعجب الآباءُ من ذلك، لأن حبسَهما وطعامَهما كان واحداً. ولكن منظرهما ليس بواحدٍ. فسألوا المتغير الصورةِ: «ماذا كان تفكيرُك أثناء مدة حبسِك»؟ فقال: «كنتُ أتذكر الشرورَ التي عملتُها، والعذابَ المعدَّ لي، ومن شدة فزعي لصق لحمي بعظمي». ثم سألوا الآخر: «وأنت ماذا كنتَ تفكر وأنت جالسٌ في حبسِك». فقال: «كنتُ أشكر الله الذي خلَّصني من نجس العالم ومن العذاب الدائم، وأنعم عليَّ بأن أعمل عملَ الملائكةِ، وعلى ذلك كنتُ أفرح». فقال الشيوخ: «إن توبةَ كليهما واحدةٌ عند الله».
أخٌ من الرهبان قوتل بالزنى، فقام بالليلِ وذهب إلى أحدِ الشيوخِ وكشف له سرَّه، وسأله أن يصلي من أجلهِ، فعزاه الشيخُ وشجَّعه. ولما رجع الأخُ إلى قلايته، اشتد عليه القتالُ، فرجع ثانية إلى الشيخ، وفعل ذلك مراراً، وكان الشيخُ في كلِّ مرةٍ لا يُحزنه، ولكنه كان يكلِّمه بما فيه منفعة نفسِه قائلاً: «كلما قاتلك هذا الشيطان تعال وبُح به فإنه ليس شيءٌ يُبعد شيطان الزنى مثل إظهار أفكارِه وأعمالِه وفضيحتِه، وليس شيءٌ يفرِّحه غير كتمان ذلك». تردد ذلك الأخُ على الشيخِ في تلك الليلةِ إحدى عشرة مرة، وهو يكشف له أفكاراً، أخيراً قال:« قُل لي يا أبي كلمةً»؟ فقال له الشيخ: «ثق يا ابني لو أن الله يدع فكري وقتالي وقفاً عليك لما احتملتَ، ولكنتَ أنت تسقط بالأكثر إلى أسفل». فلما قال الشيخُ هذا الكلام باتضاع، كفَّ الله القتال عن الأخِ. قيل عن أخٍ كان ساكناً في ديرٍ إنه من شدة القتال كان يسقط في الزنى مراراً كثيرةً. فمكث يُكره نفسَه ويصبر كيلا يترك إسكيم الرهبنة، وكان يصنع قانونَه وسواعيه بحرصٍ، ويقول في صلاتهِ: «يا ربُّ أنت ترى شدة حالي وشدة حزني، فانتشلني يا ربُّ إن شئتُ أنا أم لم أشأ، لأني مثل الطين، أشتاقُ وأحبُّ الخطيةَ، ولكن أنت الإله الجبار اكففني عن هذا النجس، لأنك إن كنتَ إنما ترحم القديسين فقط فليس هذا بعجيبٍ، وإن كنتَ إنما تخلِّص الأطهار فما الحاجة، لأن أولئك مستحقون، ولكن فيَّ أنا غير المستحق يا سيدي أرِ عجب رحمتك لأني إليك أسلمتُ نفسي». وهذا ما كان يقوله كلَّ يومٍ، أخطأ أو لم يخطئ، فلما كان ذات يوم وهو دائمٌ في هذه الصلاة، أن ضجرَ الشيطانُ من حُسن رجائهِ ووقاحتهِ المحمودة، فظهر له وجهاً لوجه وهو يرتل مزاميره، وقال له: «أما تخزى أن تقف بين يدي الله بالجملةِ وتسمي اسمَه بفمِك النجس»؟ فقال له الأخ: «ألستَ أنت تضربُ مرزبةً وأنا أضربُ مرزبةً؟ أنت توقعني في الخطيةِ، وأنا أطلب من الله الرحوم أن يتحنن عليَّ، فأنا أضاربك على هذا الصراع حتى يدركني الموتُ. ولا أقطع رجائي من إلهي، ولا أكف من الاستعداد لك، وستنظر من يغلب: أنت أو رحمة الله». فلما سمع الشيطانُ كلامَه قال: «من الآن لا أعود إلى قتالك، لئلا أسبب لك أكاليل في رجائك بإلهك». وتنحى الشيطان عنه من ذلك اليوم، ورجع الأخُ إلى نفسِه وأخذ ينوح ويبكي على خطاياه السالفة، فإذا كان الفكرُ يقول له: «نِعمَّا لأنك تبكي». فكان يجيب فكرَه بذِكرِ خطاياه. وإذا قال الفكرُ له: «أين تذهب لأنك فعلتَ خطايا كثيرة»، يقول: «الربُّ يفرحُ بحياةِ الميِّت ووجود الضال». سُئل أنبا بيمين: «ما هي التوبة»؟ فقال: «الإقلاع عن الخطية وأن لا يعاود فعلها، لأنه لذلك دُعي الصديقون لا عيب فيهم، لأنهم أقلعوا عن الخطيةِ فصارا صديقين». سأل أخٌ الأب شيشوي قائلاً: «ماذا أفعلُ يا أبتاه، فقد سقطتُ»؟ قال له الشيخُ: «انهض أيضاً». قال الأخُ: «نهضتُ ورجعتُ وقعت». فأجابه الشيخُ: «انهض أيضاً». فقال الأخُ: «إلى متى أيها الأب»؟ قال له: «إلى أن نؤخذ، إما في الخير وإما في السقطةِ، لأن الإنسانَ فيما يوجد فيه يؤخذ». قال الأب أموس: «ستةُ دروبٍ توجد للتوبةِ: ذمُ الخطايا والإقلاعُ عنها، الإقرارُ بها، الندامةُ عليها، الصفحُ عن خطايا القريبِ، تركُ دينونةِ المخطئين، وتمسكن القلبِ». قال أحدُ الشيوخِ: «احرص بكلِّ جَهدِك لئلا تسقط، لأن الوقوعَ لا يليقُ بالمجاهدِ القوي، فإن عَرَضَ لك أن تقع، للوقتِ اطفُر واستمر أيضاً في الجهادِ، ولو عَرض لك ذلك ربواتٍ من المراتِ لتربحَ النعمةَ ربواتٍ من الدفعاتِ. وليكن ذلك، أعني النهوضَ والقيامَ، إلى حينِ موتِكَ، لأنه مكتوبٌ: إن سقط البارُ سبعَ مراتٍ، يعني طولَ الدهرِ السباعي، فإنه يقومُ سبعَ دفعاتٍ، إنك تُحسَب مع القائمين ما دمتَ ممسِكاً بسلاحِ التوبةِ بدموعٍ، فتذرَّع بهذه الوسيلةِ إلى الله لأنك وإن سقطتَ، فإنك تُمدَح بالأكثرِ ما دمتَ ملازماً الرهبانِ، مثلَ جندي شجاعٍ يقبلُ الضرباتَ مواجهة. حتى ولا في حالِ ضربهم، إياك أن تتراخى وتتباعد، ولكن إن انفصلتَ عن الرهبانِ فإنك تُضرب على ظهرِك كهاربٍ جبانٍ طارحٍ سلاحَه». قال شيخٌ آخرُ: «إني رأيتُ قوةَ النعمةِ الإلهيةِ الحالة في عمادِ النورِ، هي كما هي، حالةً في وقتِ التسربل بالزي الإسكيمي، أما الذي يطرحُ عنه زي الرهبنةِ فلا حظَّ له مع المؤمنين، بل يُرتَّب مع جاحدي الإيمان، ويُعاقَب، متى لم يتب لله توبةً بالحقِ من كلِّ قلبهِ». قيل عن أخ إنه وقع في تجربةٍ، ومن الشدةِ ترك إسكيمَ الرهبنةِ، لكنه رجِع وندِم، وأراد أن يبدأَ في تدبيرِه الأول، فساعده الربُّ ولم يتركه حتى خلص من مناصبةِ العدوِ. في بعضِ الأوقاتِ، قامت سفينةٌ من ديولفن، ورمتها الرياحُ إلى بعضِ الجبالِ حيث كان هناك رهبانٌ، فخرجت امرأةٌ من السفينةِ، وجلست على الشاطئِ فوقَ تلٍّ من الرملِ، واتفق حينئذ أن جاء أحدُ الرهبانِ ليملأَ جرَّتَه، فأبصرَ المرأةَ، فرمى الجرةَ وعاد مبادِراً إلى رئيسِ الديرِ وقال: «يا أبتاه عند النهرِ امرأةٌ جالسةٌ». فلما سمع الشيخُ قولَه، خفق قلبُه، ثم أخذ عصاه وخرج بسرعةٍ وهو يصيحُ قائلاً: «أغيثوني، فقد جاءنا لصوصٌ أشرارٌ». فلما أبصروا انزعاجَ الشيخِ لَحِقوا به حاملين عِصيهم إلى النهرِ، فلما رأى النوتية قدومَهم عليهم هكذا، خطفوا المرأةَ من فوقَ التلِ بسرعةٍ، ووضعوها في السفينةِ، وقطعوا حبلَ السفينةِ وتركوها منحدرةً في جريانِ النهرِ. قال أنبا إيليا السائح: إنه كان في مغارةٍ في أحد الجبال، فلم يأتِ نصفُ النهارِ في شدةِ الحرِ في شهرِ أغسطس، حتى قرع إنسانٌ على مغارتهِ، فخرج وأبصر امرأةً، فقال لها: «ماذا تصنعين ههنا»؟ قالت له: «أنا بقربِك في مغارةٍ على ميلٍ واحدٍ، أسيرُ سيرَتَك، وفيما كنتُ أدورُ في البريةِ عطِشتُ من شدةِ الحرِ، فاصنع محبةً يا أبي واسقني قليلَ ماءٍ». ثم قال: «فسقيتُها وأخليتُ سبيلَها، فلما انصرفَتْ تملَّكني قتالُ الزنى، فهُزمتُ له، وأخذتُ عصاي ومضيْتُ سائراً إلى مغارتِها في ساعةِ حرٍّ صعبٍ، فلما دنوتُ من مغارتِها والشهوةُ تُلهبُني، سَهوْتُ فأبصرتُ الأرضَ قد انفتحت وظهر من تحتِها أجسادُ موتى كثيرين مُنتِنةٌ جداً، وكان إنسانٌ بهيٌ يُريني تلك الأجسادَ ويقول لي: إلى أين أنت ذاهبٌ يا راهب، وماذا تريد؟ هلم الآن وانظر أجسادَ هذه النسوة التي كانت حسنةَ الصورة كيف صارت رائحتهم، فاشفِ الآن شهوتَك من أيهِا شئتَ، وأبصر كم من الأتعابِ تريدُ أن تُهلكَ من أجلِ هذه الشهوةِ المنتنةِ، وتحرم نفسَك مُلكَ السماءِ. ومن شدةِ رائحةِ النَتَن وقعتُ على الأرضِ، فأقامني ذلك الرجلُ، وأزال عني القتالَ، ورجعتُ إلى مغارتي أسبِّحُ الله وأمجدُه على خلاصي». فانظروا يا إخوتي كيف أن القربَ من النساءِ هو مُهلكٌ، ويسببُ القتالَ حتى للرجالِ الأبرارِ المتعَبين بالنسكِ طول أيامِهم. أخبر أحدُ الشيوخِ: إنه في بعضِ الليالي، في أثناءِ صلاتِه وهو في البريةِ الجوانية، سمع صوتَ بوقٍ يضربُ ضرباً عالياً، كمثل ما تُضرب أبواقُ الحربِ، فتعجب متفكراً بأن البريةَ مقفرةٌ وليس فيها آدمي، فمن أين صوتُ البوقِ في هذه البريةِ، أَتُرى حربٌ ها هنا؟ وإذا بالشيطانِ قد وقف مقابلَه وقال بصوتٍ عالٍ: «نعم يا راهب، حربٌ هي، إن شئتَ فحارب، وإلا سلِّم لأعدائك». سُئل شيخٌ: «كيف يقتني الراهبُ الفضيلةَ»؟ فأجاب: «إن شاء أحدٌ أن يقتني فضيلةً، إن لم يمقُت أولاً الرذيلةَ التي تضادها فلن يستطيعَ أن يقتنيها. فإن شئتَ أن يحصلَ لك النوحُ فامقت الضحكَ. وإن آثرتَ أن تقتني التواضعَ فابغض الكبرياءَ. وإن أحببتَ أن تضبطَ هواك فامقت الشرَّ والتحريفَ في الأشياءِ. وإن شئتَ أن تكونَ عفيفاً فامقت الفسقَ. وإن شئتَ أن تكونَ زاهداً في المقتنياتِ فامقت حبَ الفضةِ. ومن يريدُ أن يسكنَ في البريةِ فليمقت المدنَ. ومن يشتهي أن يكونَ له سكوتٌ، فليمقت الدالةَ. ومن أراد أن يكونَ غريباً من عاداتِهِ فليبغض التخليطَ. ومن يريد أن يضبطَ غضبَه فليبغض مشيئتَه. ومن يريد أن يضبطَ بطنَه فليبغض اللّذاتِ والمقامَ مع أهلِ العالمِ. ومن أراد عدمَ الحقدِ فليبغض المثالبَ. ومن لا يقدر أن يكابدَ الهمومَ فليسكن وحدَه منفرداً. ومن يريد أن يضبطَ لسانَه فليسد أذنيه لئلا يسمع كلاماً كثيراً. ومن يريد أن يحصل على خوفِ الله، فليمقت راحةَ الجسدِ ويحب الضيقةَ والحزنَ. فعلى هذه الصفةِ يمكنك أن تعبدَ الله بإخلاصٍ». قال شيخٌ: «أشرفُ أعمالِ الرهبنةِ أن يُحقِّرَ الإنسانُ نفسَه دائماً، ويردَّ اللومَ عليها». وقال أيضاً: «البابُ إلى اللهِ هو الاتضاع ومنه دخل آباؤنا إلى الملكوتِ بغنيمةٍ عظيمةٍ». وقال أيضاً: «إن الذي يخاصمه أخوه ولا يَحزن قلبُه، فقد تشبَّه بالملائكةِ، فإن خاصمه هو أيضاً ثم رجع صالحه من ساعتِهِ فهذا هو عمل المجاهدين. فأما الذي يُحزن إخوته ويَحزن منهم ويُمسك الحقدَ في قلبهِ، فهذا مطيعٌ للشيطانِ مخالفٌ لله، ولا يغفر له الله ذنوبَه إذا لم يغفر هو لإخوتهِ». وقال أيضاً: «كما أن الذي يُصفِّي الذهبَ، إذا كان يحمِّي النارَ ويشعلها حيناً ثم يخمدها ويطفئها حيناً آخر، لا ينتفع، كذلك الراهب إذا كان يحرص مرةً ويسترخي أخرى». قال شيخٌ: «إن إبراهيم أول دخولهِ أرضَ الميعادِ اشترى قبراً، فوَرِثَ هو وزرعُه الأرضَ بكمالِها، هكذا الذي يتخذ له بيتاً لموتِهِ من هذا العالمِ، ويحزن فيه على نفسِه، فإنه يرث أرضَ الحياةِ». قيل عن أحدِ الشيوخِ: إنه كان رجلاً وديعاً كثيرَ الحبِّ. ولم يفكر في الشرِّ أصلاً، وحدث مرةً أنَّ أحدَ الإخوةِ سَرَقَ زنابيلَ وحملها وأودعها عندَه ولم يعلم الشيخُ بسرِّها، فبعد أيامٍ عُرفت الزنابيل، فاتُّهم الشيخُ بسرقَتِها، فلما اتُّهم أنه السارق، سجد مطانية وقال: «اغفروا لي يا إخوتي من أجلِ الله فأتوب من هذه الدفعةِ الواحدةِ». وصار يبكي، فلما نظر الإخوةُ بكاءَه تركوه، وبعد أيامٍ قلائل جاء الأخُ الذي سرق الزنابيل، وأنشأ خصومةً مع الشيخِ قائلاً: «أنت سارقٌ، وقد سرقتَ زنابيل فلان». فسجد الشيخُ بين يديه قائلاً: «اغفر لي يا أخي كما غفر لي بقيةُ الإخوةِ». وكان هذا الشيخُ دائماً إذا غلط أخٌ وأنكر غلطَتَهُ، يسجد هو قائلاً: «اغفروا لي يا إخوتي هذه الغلطةَ». وكان كلامُه على الدوام بهدوءٍ واتضاع وسكينةٍ، ولم يخاصم أحداً قط، ولا سبَّب وجعَ قلبٍ لأحدٍ قط في وقتٍ من الأوقاتِ حتى ولو بكلمةٍ صغيرةٍ. قيل عن شيخٍ آخر إنه في وقتٍ أتاه اللصوصُ وقالوا له: «جئنا لنأخذ جميعَ ما في قلايتِك»، فقال لهم: «خذوا ما شئتم أيها الأولاد». فلما أخذوا جميعَ ما وجدوه مضوْا ونسوا مخلاةً مستورةً بخوصٍ، فلما نظرها الشيخُ أخذها وخرج يخطر وراءهم وهو يصيح ويقول: «يا بَنيَّ، خذوا ما قد نسيتم». فلما رأوا ذلك منه عجبوا من دعتِهِ وسلامةِ قلبِهِ، وردوا كلَّ ما أخذوه إلى قلايتِهِ. وقال بعضُهم لبعضٍ: «بحقٍ إن هذا رجلُ الله»، وكان ذلك سبب توبتهم وتركهم ما كانوا عليه من اللصوصيةِ. ذكروا عن أحدِ الإخوةِ أنه كان مجاوراً لشيخٍ من المشايخ له فضلٌ، فكان يدخل في قلايتِه كلَّ يومٍ ويسرق ما يجده فيها، وكان الشيخُ يفهم ذلك ولا يوبخه ولا يعاتبه، بل كان يكدُّ ويُزيدُ على وظيفتهِ في عملهِ، ويقول في نفسِه: «لعل الأخَ إنما يفعلُ هذا بسببِ الحاجةِ». وكان الشيخُ شديدَ التعبِ والكدِّ بسببِ ذلك لدرجةِ أنه ما كان يَفْضُل له ما يأكل به خبزاً. فلما حضرت الشيخَ الوفاةُ، أحاط به الإخوةُ، فنظر وإذا بذلك الأخِ الذي كان يسرق متاعَه بينهم، فقال له: «ادّنُ مني يا ابني». واندفع يقبل يديه ويقول: «يا إخوة، أنا أشكرُ هاتين اليدين اللتين بهما أدخلُ ملكوتَ السماءِ». فلما سمع الأخُ ذلك، رجع إلى نفسِه وندم على فعلِه، وكان ذلك سبباً في توبتهِ. من قول البابا أثناسيوس الرسولي: قد يعرض أن يقولَ أحدٌ: «أين هو زمانُ الاضطهادِ حتى كنتُ أصيرُ شهيداً»؟ فأقول له أنا: «الآن يتجه لك أن تكونَ شهيداً إن أردتَ، متّ عن الخطيةِ، أَمِت أعضاءَك التي على الأرضِ، وبذلك تصيرُ شهيداً باختيارِك، فأولئك الشهداءُ كانوا يقاتلون ملوكاً ورؤساءً جسديين، أما أنت فإنك تقاتلُ ملكَ الخطيةِ، محتالاً عنيداً، والشياطين رؤساءَ الظلامِ. أولئك كانوا ينصبون للشهداءِ عقوباتٍ مختلفةً لأجلِ عبادةِ الأصنامِ، فتفطَّن الآن فإنه توجد مائدةٌ ومذبحٌ وصنمٌ مرذولٌ، وقد يكلفون العقلَ للسجودِ، فالمائدةُ هي نهمُ البطنِ، والمذبحُ هو التلذذ بما دَسِمَ من الأطعمةِ، والصنمُ هو شهوةُ الزنى المرذولة والمصوِّرة لتركيب الأجسام. وكذلك فإن من واظب على اللّذاتِ وتعبد للزنى فقد جحد يسوعَ وسجدَ للصنمِ، لأن له في ذاتهِ صنمَ الزهرةِ وهو لذة الأجسامِ القبيحة. ومَن كان مغلوباً من الغيظِ والغضبِ فقد أنكر يسوعَ وله في نفسِه المديحُ إلهاً، وهو يسجدُ للغيظِ الذي هو صنمُ الجنونِ، ومن انغلب لحبِ الفضةِ، وأغلق تحننَه عن الفقراءِ، فقد كفر بيسوعَ وعَبَدَ الأصنامَ لأن له في نفسِه صنمَ عطارد وقد عَبَدَ البَرِية دون باريها. فإن أنت ضبطتَ هواك من هذه الأمورِ، وتحفّظتَ منها فقد وطأت الأصنامَ وصرتَ شهيداً والربُ يسوعُ المسيحُ يساعدك». قصد راهبان أحدَ الشيوخِ، وكان أحدُهما شيخاً والآخرُ شاباً، فشكا الأكبرُ من الأصغرِ، فتأمَّل الشيخُ إلى الشابِ وقال له: «أصحيحٌ ما قاله عنك»؟ فقال: «نعم يا أبانا لأني أحزنتُه»، ثم فكَّر الشابُّ في قلبهِ ونَدِمَ على ما قاله، وقال: «لستُ أنا بل هو الذي أحزنني، إلا أني جعلتُ اللائمةَ على نفسي بكلامي». وتوقف ولم يقدر أن يجيبَ بشيءٍ آخر. وأن الشيخَ صاح بصوتِه، فقالوا له: «لماذا صحتَ يا أبانا»؟ فأجاب: «بأنه عند دخولِ هذين الراهبين عندي رأيتُ زنجياً واقفاً قدامهما وبيده قوسٌ ونشَّابٌ، وكان ينشب نحوهما، وما كانت النشابةُ تصيب سوى ثيابهِما، فلما تذمر الشابُ، أرسل الزنجيُ النشَّابَ نحوه فكادت تقتله، من أجل ذلك كان صراخي هذا عليه كيلا يقتله». ثم أن الأخوين سألا من الشيخِ شفاءَ العارضِ، فقال لهما الشيخُ: «متى وقعت بينكما خصومةٌ فتذكرا الزنجي، فيكُفَّ تأثيرُ الخطيةِ عنكما». فعادا وفعلا ذلك وشُفيا. سأل أخٌ شيخاً قائلاً: «ما هو نجاحُ الراهبِ»؟ فقال: «التواضع، لأن بدونِه لا يكون نجاحٌ، وبمقدارِ نزولِه في التواضع يكون مقدارُ صعودِهِ إلى علوِ الفضيلةِ». فسأله أيضاً: «فكيف تقتني النفسُ الفضيلةَ»؟ فقال: «إذا هي اهتمت بزلاتِها وحدِها». قال أنبا إيليا: «أيُّ مقدرةٍ للخطيةِ حيث تكونُ التوبةُ، وأيُّ منفعةٍ للمحبةِ حيث تكون الكبرياءُ»؟ كان أحدُ الرهبانِ صامتاً وقد شاع فضلُه وعملُه، فزاره في أحدِ الأيامِ اثنان من الفلاسفةِ، فقام وصلَّى وسلَّم عليهما وجلس صامتاً يُضَفِّر الخوصَ ولا يرفع نظرَه إليهما، فقالا له: «يا معلم، انفعنا ولو بكلمةٍ واحدةٍ لأننا لهذا أتينا إليك». فأجابهم الراهبُ قائلاً: «اعلما أنكما أفنيتما أموالَكما لتتعلما فخرَ الكلامِ وتحسينَه، وأما أنا فقد أهملتُ العالمَ وأتيتُ إلى ههنا لا لأقتني جَوْدَةَ الكلامِ بل السكوتَ». فلما سمعا قوله أُعجبا كثيراً وانصرفا منتفعيْن منه. جلس راهبٌ من الرهبانِ في البريةِ صامتاً في قلايته، فضغط عليه الضجرُ وأقلقه الفكرُ وضيَّق عليه شديداً حاثاً إياه على الخروجِ منها. فقال في ذاتِه: «يا نفسي لا تضجري من الجلوسِ في القلايةِ، وإن كنتِ لا تعملين شيئاً، يكفيكِ هذا، أنكِ لا تُحزنينَ أحداً. ولا أحدٌ يُحزنك، فاعرفي كم من الشرورِ خلَّصكِ الله، لأن في سكوتِك وصلاتِك لله تكونين بلا همٍّ يشغلك ولا تتكلمين كلاماً باطلاً، ولا تسمعين ما لا ينفعك ولا تبصرين ما يضرك، وإنما قتالكِ واحدٌ، وهو قتالُ القلبِ، والله قادرٌ أن يبطلَه، وإذا اقتنيتِ الاتضاعَ عرفتِ ضعفك». فعند افتكار الأخ بهذا، صار له عزاءٌ كثيرٌ في صلاتِهِ. في بعضِ الأوقات قوتل أنبا مقاريوس بالعظمةِ وهو في قلايتهِ. وحثه فكرهُ على الخروج منها، والذهاب إلى رومية لينفع كثيرين بحسب ما أملته عليه أفكارُ العظمةِ. فلما ألحت عليه الأفكارُ بذلك، ألقى بنفسِهِ داخل قلايتِهِ عند بابِها، وأخرج رجليه من البابِ، ثم قال لأفكارِ العظمةِ: «أخرجوني إن قدرتم، فإني لن أخرج طائعاً، فإن لم يمكنكم ذلك فلن أطيعَكم». ولم يزل ملقى وهو يقول هذا الكلام إلى الليلِ حيث اشتد عليه القتال والأفكار. وأخيراً أخذ قفةً وملأها رملاً وحملها، وأخذ يطوف بها البريةَ حتى لقيه القديس فسطوس، فقال له: «ماذا تحملُ يا أبتاه، أعطني إياه، ولا تتعب أنت». فقال له: «أريد أن أشقي من يشقيني، فإنه إذا ما نالته الراحةُ سبَّب لي الأسفارَ والشقاءَ». واستمر هكذا إلى أن كفت عنه الأفكارُ. فرجع إلى قلايتِهِ وهو يشكر اللهَ. سُئل شيخٌ: «لماذا تقاتلنا الشياطين جداً»؟ فقال: «لأننا طرحنا سلاحَنا أعني الطاعةَ والاتضاعَ والمسكنةَ». قال شيخٌ: «إذا لم يأتِ علينا قتالٌ، حينئذ ينبغي لنا أن نتضعَ جداً، عالمين أن الله لمعرفتِه بضعفِنا رفع عنا القتالَ، وإن افتخرنا يرفع عنا سِتْرَه فنهلك». سُئل شيخُ: «ما هو كمالُ الراهبِ»؟ فقال: «الاتضاع، فإذا بلغ الإنسانُ إلى الاتضاع فقد أتى إلى الكمالِ». قال أحدُ الشيوخِ: «إذا قال الراهبُ لصاحبهِ: اغفر لي، باتضاعٍ، تحترق الشياطين». قال شيخٌ: «إن جاءك إحساسٌ بالعظمةِ وبدأتَ تفتخر، فانظر في نفسِك هل حفظتَ الوصايا، أن تحبَّ مبغضيك وتفرح بصلاحِ عدوك وتحزن لحزنه وتحسب نفسَك عبداً بطالاً، وأنك أخطأ كلِّ الناسِ، وأن لا تفتخر إذا قوَّمتَ كلَّ صلاحٍ؛ حيث أنه يجب أن تعلم أن هذا الإحساسَ يُهلك ويُبطل جميعَ الحسنات». قال أنبا بيمين: «كما أن الأرضَ لا تسقط لأنها أسفل، هكذا من يضع نفسَه لا يسقط». وسأله أخٌ: «كيف أستطيع ألا أقع في الناسِ»؟ فقال له: «إذا لام الإنسانُ نفسَه حينئذ يكون عنده أخوه أكرمَ منه وأفضلَ، وإذا ظن في نفسِه أنه صالحٌ، حينئذ يكون عنده أخوه حقيراً ومهاناً ويقع فيه». قال شيخٌ: «احذر بكلِّ قوتك ألاَّ تقل شيئاً يستحقُ اللائمةَ، ولا تحب التصنع». وقال أيضاً: «إن نزل الاتضاعُ إلى الجحيمِ فإنه يصعد حتى السماءِ، وإذا صعدت العظمةُ إلى السماءِ فإنها تنزل حتى الجحيمِ». سأل أخٌ أنبا ألينس في معنى تحقيرِ الإنسانِ نفسه فقال له: «هو أن ترى كلَّ الخليقةِ حتى البهائم أخيرَ منك، وتعلم أنهم لا يدانوا». قال شيخٌ: «أُحبُّ أن أكونَ مغلوباً باتضاع أفضلَ من أن أكونَ غالباً بافتخار». وقال آخر: «لو لم يخضع يوسف للعبوديةِ أولاً، لما صار لمصرَ سيداً، وإن لم يُخضع الراهبُ نفسَه للعبوديةِ أولاً بكلِّ تذللٍ ومحقرةٍٍ، فلن يصيرَ سيداً على الأوجاعِ، ولن تخضعَ له الشياطينُ». من سيرةِ الأب باخوميوس: في بعضِ الأحيانِ ظهر الشيطانُ للأب باخوميوس يتجلى بصورةِ السيدِ المسيحِ، وقال له: «افرح يا باخوميوس لأني جئتُ لافتقادِك». ففكر في نفسِه قائلاً: «من شأنِ المناظرِ الإلهيةِ أنها من لذةِ بهجتِها وحلاوةِ نعيمِها تسبي تخيل مستحقيها إليها ولا يبقى لهم فكرٌ آخر، ولكن أفكاري الآن تروي فنوناً وألواناً». فلما وجده الشيطانُ مفكراً، أخذ في استئصالِ أفكاره، فقال الأب في نفسِه: «إني كنتُ أفكرُ أفكاراً والآن فلا وجود لها». وإذ قال ذلك في نفسِه قام إلى الشيطانِ وهو باسطٌ يده كمن يريد أن يمسكَه، وفي الحال صار كدخانٍ وتلاشى. قيل عن أحدِ الآباءِ إن الشيطانَ تراءى له في شبهِ ملاكٍ نوراني وقال له: «أنا غبريال، قد أُرسلت إليك». أجاب الشيخُ: «لعلك أُرسلت إلى غيري وأما أنا فخاطئٌ». فلما سمع الشيطانُ هذا الكلام منه باتضاعٍ، اختفى ولم يره. كان أحدُ الشيوخِ جالساً في قلايتهِ مجاهداً، وكان ينظرُ الشياطينَ عياناً ويحتقرهم، فلما رأى إبليسُ نفسَه مقهوراً من الشيخِ، ظهر له قائلاً: «أنا هو المسيحُ». فأغمض الشيخُ عينيه، فقال له الشيطانُ: «أنا المسيح، وتغمض عينيك»؟ فأجابه الشيخُ قائلاً: «لا أريدُ أن أبصرَ المسيحَ ههنا». فلما سمع إبليسُ منه ذلك، غاب عنه. قال أنبا أور: إني أبصرتُ إنساناً في البريةِ خَيَّلت له الشياطينُ طغماتَ ملائكةٍ ومراكبَ حافلةً، وملكاً في وسطهم، فقال له: «أيها الإنسانُ، لقد أتقنتَ كلَّ شيءٍ، إذن خرَّ لي ساجداً وأنا أرفعك كما رفعتُ إيليا». فقال الراهبُ في فكرِه: «أنا في كلِّ يومٍ أسجدُ لملكي المسيح، فلو كان هذا هو المسيح حقاً، لما التمس مني السجودَ الآن». ولما جال هذا في فكرِه قال: «إن ملكي هو المسيح وأنا دائماً أسجدُ له، وأما أنت فلستَ ملكي». ولما قال هذا الكلامَ، تلاشى ذلك الخيالُ للوقتِ، هذا ما شرحه ذلك الأب كأنه عن غيرِه، وأما الآباء الذين كانوا معه فقالوا: «إنه هو الذي رأى ذلك». حكى راهبٌ تقي قائلاً: إني في حالِ سفري لأسجدَ في أورشليم جئتُ إلى موضعٍ حيث كان هناك جَرفٌ عالٍ وفيه مغارةٌ، ومن تحتهِ يوجد ديرٌ، فدخلتُ إليه، فقال لي سكانُه إن أحدَ الرهبانِ أراد أن يسكنَ تلك المغارةَ، وسأل الرئيسَ في ذلك، فقال له: «يا ولدي، إنك لا تقدر أن تسكنَ المغارةَ، لأنك لم تُخضِع أسقامَ نفسِك بعد، ولا آلامَ جسمِك للقوةِ الناطقةِ، كما أنك لا زلتَ تجهل حيلَ إبليسِ المتفننةِ، فالأجود لك أن تقيمَ بالديرِ، وتخدم آباءَك وتربح صلواتِهم ولا تبقى وحدَك مقاتِلاً شياطين خبثاء». ولكنه لم يقتنع، فأفسحَ له الرئيسُ في ذلك، وصعد إلى المغارةِ ورفع السُّلمَ. وكان أحدُ الإخوةِ يُحضر له طعاماً ويرفعه في زنبيلٍ. ثم أن إبليسَ، الذي لم يزل محارباً للسالكين طريقَ الفضيلةِ، دبَّر له وهقاً ليرميه في هوةِ الكبرياءِ ويأخذه أسيراً، فظهر له في شكلِ ملاكٍ نوراني وقال له: «اعلم أيها الأخ، إنه لطُهرِ نيَّتِك وشرفِ سيرتك، أرسلني الربُّ خادماً لقدسِكَ». فأجابه الراهبُ: «وما الذي فعلتُه حتى تخدمني ملائكةٌ»؟ قال له ذاك: «إن جميعَ أعمالِك جليلةٌ عظيمةٌ، ازدريتَ بزخارف العالمِ، وتنسَّكتَ، وتوافرتَ على الصومِ والصلاةِ والسهرِ، ثم انعزلتَ عن الرهبانِ، وسكنتَ وحدَك في هذا الموضعِ، فكيف لا تخدمك ملائكةٌ»؟ بهذه الأقوالِ وأمثالِها نفخ التنينُ في ذلك الراهبِ، وصار يأتيه في كلِّ يومٍ ويخاطبه بمثلِ هذا الكلامِ. ثم أنه حدث في بعضِ الأيامِ أن رجلاً وقع بين اللصوصِ وسلبوا مالَه، فهذا جاء إليه، فتقدَّم إبليسُ وجاء إليه في صورةِ ملاكٍ وقال له: «إن إنساناً مقبلاً إليك سرق اللصوصُ بيتَه ووضعوا ما أخذوه منه في مكانِ كيت وكيت». فأتى الرجلُ وسجد تحت المغارةِ فأجابه الراهبُ من فوق: «مرحباً بك يا أخي، قد عرفتُ حزنَك، إن لصوصاً أخذوا حاجاتك وهي كذا وكذا، وهي مخبأةٌ في المكانِ الفلاني، امضِ خذها وصلِّ عليَّ». فرجع الرجلُ إلى ذلك المكانِ ولما وجد أشياءَه ذُهِلَ، وأشاع الخبرَ بين الناسِ أن الراهبَ ساكنَ المغارةِ يعلمُ الغيبَ. فأقبل إليه جمعٌ غفيرٌ، رجالاً ونساءً وأحداثاً متسائلين، ودخل فيه الشيطانُ وصار يُخبر كلَّ واحدٍ بما ناله في زمانهِ، وبما يناله. فلما سمع رهبانُ ديرِه عجبوا كيف بلغ هذه المنزلةَ في زمنٍ يسيرٍ. وفي يومٍ الاثنين ثاني أسبوعِ القيامةِ، ظهر له إبليسُ وقال له: «اعلم أيها الأبُ، إنه لحسنِ سيرتِك فإن ملائكةً كثيرين مرسَلون خلفَك ليحملوك إلى السماءِ حتى تعاين المجالَ الذي هناك. وإن الإله المتحنن لم يشأ هلاكَه، فألهمه أن يُطْلِعَ الرئيسَ على هذا الأمرِ، فراسله بيد الأخِ الذي يأتيه بالطعامِ، فلما سمع الرئيسُ بذلك أسرعَ بالمضي إليه وقال له: «يا ولدي لماذا استدعيتني»؟ فأجابه قائلاً: «بماذا أكافئُك يا أبي عن جميعِ ما عملتَه مع حقارتي»؟ فأجابه الرئيسُ: «وماذا عملتُ معك من الخيرِ»؟ فقال له: «خَيْرُك عليَّ كثيرٌ: بك استحققتُ لبس هذا الزي، بك سكنتُ هذه المغارةَ، بك بلغتُ أن أنظرَ ملائكةً، بك أُلهمتُ بعلمِ الغيبِ». فلما سمع ذلك قال له: «أأنت يا شقي تنظر ملائكةً وتعلم الغيبَ؟ أما قلتُ لك لا تصعد إلى المغارةِ لئلا تُضلك الشياطين»؟ فقال الراهبُ: «لا تقل هكذا يا أبي المكرَّم، إني بصلواتِك أنظرُ ملائكةً، وفي يوم الصعودِ ها أنا عتيدٌ أن أرتفعَ معهم إلى السماءِ بجسدي هذا، وإذا وصلتُ إلى هناك فإني أسألُ ربي يسوعَ المسيحَ أن يأمرَ بأن ترفعَك الملائكةُ أنت أيضاً، لتكونَ معي تعاين المجدَ الذي هناك». فلما سمع الرئيسُ هذا لطم على وجهِه وحدَّثه قائلاً: «لقد جُننتَ يا شقي، وضاع رُشدُك، ولكن على كلِّ حالٍ ها أنا مقيمٌ معك حتى أعاينَ آخِرَ أمرك، فإذا رأيتَ ملائكتَك الأرجاس، أعلمني». ثم أنه أمر برفعِ السُّلم، وأقام معه مصلياً الإبصالتس وصائماً، فلما كان اليومُ المُعيَّن لارتفاعِه نظر الشياطينَ قادمةً إليه، فقال: «لقد جاءوا أيها الأب». حينئذ احتضنه الرئيسُ وصرخ بصوتٍ جهوري: «أيها الرب يسوع المسيح ابن الله، آزر الأخَ المخدوعَ». فأرادوا أخذَه من يدِ الرئيسِ، فزجرهم باسمِ الربِّ، فما كان منهم إلا أن أخذوا وزرةَ الأخِ وغابوا مقدارَ ساعةٍ، وإذا بالوزرةِ ساقطةٌ نحو الأرضِ. فقال له الرئيسُ: «أنظرتَ يا شقي ماذا فعل الشياطينُ بوزرتِك؟ هكذا أرادوا أن يعملوا بك». ثم أنه أحضر السُّلم وأنزل الأخَ معه إلى الديرِ ورسم له أن يخدمَ في المخبزِ والمطبخِ مدة سنة، وبذلك ذلَّل فكرَه. قال القديس قاسيانوس الرومي: «كان إنسانٌ شيخٌ اسمه إيرنيس، هذا منذ أيامٍ قلائل، كابدَ سقطةً يُرثى لها قدام أعيننا، إذ هزأت به الشياطين، فهبط من تلك الرفعةِ إلى قعرِ الجحيمِ بسببِ شظفِ الطريقِ الذي سلكه، إذ سكن البراري مدة خمسين سنةً مستعملاً تقشف السيرةِ والنسك، طالباً أبداً أطرافَ البريةِ والتفرّدَ أكثر من كلِّ أحدٍ، فهذا بعد الأتعابِ الكثيرةِ، تلاعب به إبليسُ وطرحه في سقطةٍ ثقيلةٍ، وسبَّب به للآباءِ القدماء الذين في البريةِ ولكلِّ الإخوةِ مناحةً عظيمةً، ولو أنه استعمل الإفرازَ لما لحقه ما قد لحقه. وذلك أنه تبع فكرَه في الأصوامِ والانفرادِ بعيداً عن الناسِ لدرجةِ أنه حتى ولا في يومِ الفصحِ المجيد كان يجيء مع باقي الآباءِ إلى الكنيسةِ كي لا يضطره الحالُ إلى أن يأكلَ مع الآباء شيئاً مما يوضع على المائدةِ، مثل قطاني أو غيره، لئلا يسقط عن الحدِّ الذي حدَّده لنفسِه من النسكِ، فهذا ظهر له الشيطانُ بشبهِ ملاكِ نورٍ، فسجد له وأقنعه أن يرمي نفسَه في بئرٍ عميقةٍ ليتحققَ عملياً عناية الله، وأنه لن يلحقه ضررٌ عظيمٌ لعِظم فضيلتهِ، ولما لم يميز بفكرِه من هو هذا المشير عليه بهذه المشورةِ لظلامِ عقلهِ، فطرح نفسَه في بئرٍ في منتصفِ الليلِ، وبعد زمانٍ عرف الإخوةُ أمرَه، وبالكدِّ والتعبِ الكثيرِ انتشلوه وهو بين الحياةِ والموتِ، ولم يعش بعد ذلك سوى يومين ومات في اليومِ الثالثِ، وخلَّف للإخوةِ حزناً ليس بقليلٍ. أما الأب بفنوتيوس، فلما بعثته محبتُه للبشرِ، أمر بأن يُقدَّم عنه قربانٌ مثل المتنيحين، ذاكراً أتعابَه الكثيرة وصبرَه على شقاءِ البريةِ». وراهبٌ آخر كان ينظر دائماً في قلايتهِ ضوءَ سراجٍ، فانقاد لعدم التمييز، وقَبِلَ في بعضِ الأوقاتِ شيطاناً على أنه ملاكٌ، فأمره ذلك الشيطانُ أن يُقدِّمَ للهِ ولداً له كان معه في الديرِ لينال بذلك كرامةَ أبي الآباءِ إبراهيم. فانقاد لهذه المشورةِ لدرجةِ أنه كاد يتمِّمها بالفعلِ، لولا أن الغلامَ نظره يسنُّ السكينَ بخلافِ العادةِ ويُجَهِّز ما يربطه به، فهرب منه ونجا. كذلك راهبٌ آخر اسمه نومينوس، هذا أظهر من ضبطِ الهوى مقداراً زائداً، ومكث سنين كثيرةً حابساً نفسَه في قلايةٍ، فهذا تلاهت به الشياطينُ فيما بعد وهزأت به بإعلاناتٍ ومناماتٍ أظهروها له، فتهوَّد واختتن بعد أتعابٍ وفضائل جزيلةٍ فاق بها جميعَ الإخوةِ، لأن الشيطانَ لما رام خديعته أراه مراراً مناماتٍ صادقةً ليحسِّن قبول نفاقِه، ويجعله حَسِنَ الانصياعِ لقبولِ الضلالةِ التي كان عتيداً أن يمليها عليه أخيراً، فأراه في بعضِ الليالي شعبَ المسيحيين مع الرسلِ والشهداءِ مظلمين مكمَّدين معبَّسين مغمومين من كلِّ خزي، ثم أراه شعبَ اليهودِ مع موسى والأنبياءِ متلألئ ضياءً، باشاً مستبشراً، وعرض عليه المُخادعُ قائلاً: «إن شئتَ نوال فرح وضياء هذا الشعب فتهوَّد واختتن». فيلوح من جميع ما قيل، أن السالف ذكرهم تلاهت بهم الشياطين لخلوِهم من نعمةِ الإفرازِ. من كتابِ الدَّرج: المصدِّق المنامات يشبه من يريدُ أن يلحقَ ظلَّه ليُمسكَه، فإنَّ شياطينَ العجرفةِ ينذروننا في الحلمِ بما يكون مكراً منهم، فإذا تمت المنامات نتخشع نحن كأننا قد تقرَّبنا من نعمةِ النبوةِ، فيتعجرف فكرُنا جملةً، طائعين الشيطان. إن الشيطانَ هو روحٌ علاّمٌ بما في طقسِ الهواء، فإذا عرف أنه قد مات فلانٌ يسرع ويخبر به ويخدع الخفيفي العقول، وقد يتشكَّل دفعاتٍ بشكلِ ملاكِ نورٍ أو شهيدٍ من الشهداءِ، ويرينا ذلك في الحلمِ وإذا انتبهنا يملأنا فرحاً وأبهةً. قال أحدُ الشيوخِ: حتى ولو ظهر لك ملاكٌ حقيقيٌ فلا تقبله بل حقَّر ذاتَك قائلاً: «أنا عايشٌ بالخطايا فلا أستحقُ أن أنظرَ ملاكاً». جلس أحدُ الرهبانِ ناسكاً في قلايتهِ، فأراد الشياطين أن يخدعوه بصورةِ ملائكةٍ، وإنهم أنهضوه للذهابِ إلى اجتماع الكنيسةِ وأروه أنواراً، فجاء إلى شيخٍ وقال له: «يا أبانا، إن الملائكةَ تأتيني بصورةٍ وتقيمُني لأذهبَ إلى اجتماعِ الكنيسةِ». قال له الشيخُ: «لا تقبل منهم ذلك يا ولدي، إنهم شياطين، فإذا أتوك قل لهم: أنا متى أردتُ قمتُ، ومنكم لا أسمع». وفي الليلةِ التالية جاء الشياطيُن فنبَّهوه كعادتهم، فأجابهم بما قاله له الشيخُ، فقالوا له: «هذا الشيخُ السوء الكذاب إنما يخدعك، فقد أتاه أخٌ يستعير منه شيئاً كان عنده، لكنه كذب وقال: ليس عندي، وصرفه دون أن يعطيه شيئاً». فجاء الأخُ في الغداةِ إلى الشيخِ وأخبره بما كان، فقال له الشيخُ: «أمّا ما طلبه الأخ مني وكان عندي ولم أعطه فذلك لأني عرفتُ أنه شيءٌ يسبب له خسارةَ نفسِه، فرأيتُ أن أتجاوزَ وصيةً واحدةً ولا أتجاوز عشر وصايا كي لا ينتهي أمرُنا إلى الحزنِ، فأما أنت فلا تسمع من الشياطين الذين يريدون أن يخدعوك». وبعد أن دعَّمه الشيخُ بالتعليم صرفه إلى قلايته. دخل راهبٌ إلى البريةِ وكان يصوم الستةَ أيامٍ، وفي اليوم السابع كان يأتي إلى الصلاةِ ويتناول الطعامَ، ولا يزيدُ عن الصلاةِ كلمةً، فهذا مضى إليه الشياطينُ وخدعوه في أشياءٍ كثيرةٍ وأنذروه بأمورٍ جرت في بلدانٍ مختلفةٍ، فصدَّق بما خُيِّل له وظن بالمخيلين له أنهم أرواحُ قواتٍ قديسةٍ، واتفق وقتئذ أن مضى ليفتقد أخاً مريضاً وتظاهر لقومٍ كانوا هناك كأنه يحكي عن غيرِه فقال: «هل يمكن لإنسانٍ أن يعلمَ ما يجري في العالمِ»؟ فلما سمعوه فهموا أنه هو المخدوع، فزجروه قائلين: «إن شَغلتَ فكرَك بمثل هذا الخداع فلا تَعُد إلينا». وللوقت انتبه وندم، فلما عادت الشياطين تخبره، دعاهم كذبةً، وللوقت تغيرت صورهم إلى حيواناتٍ مفزعةٍ وتهددوه وانصرفوا عنه. وراهب آخر اسمه ولاس، قورنثاني العقل متشامخ، هذا جاء إلى البريةِ وسكن مع الآباءِ لعدةِ سنين، وأتقن التقشفَ وشظفَ السيرةِ إلى أقصى غايةٍ، فخُدع من الأُبهةِ وتناهى في العجرفةِ كثيراً، وأقنعه إبليسُ بأنَّ الملائكةَ تخدمُه في كلِّ ما يحتاج إليه، وكما حكى عنه رفاقُه، إنه في وقتٍ من الأوقاتِ وهو يُخيِّط الزنابيلَ في ليلٍ معتمٍ داجٍ أن رمى بمسلةِ الخياطةِ على الأرضِ فظهرت له شمعةٌ بفعلِ إبليسِ، فتعجرف واستكبر من هذا الحادثِ المرِّ، فاتفق أنَّ قوماً غرباءَ أحضروا إلى الإخوةِ فاكهةً، فأرسل الأب مقاريوس الطوباوي لكلِّ واحدٍ نصيباً بمقدار حفنةٍ، وأنفذ له ضمناً، فلم يأخذ ما أُرسل إليه، بل شتم وضرب موصِّلَه وقال له: «امضِ وقل لمقاريوس، ما أنا دونك لتُنفذ لي بركةً». فعلم الأب أنه قد خُدعَ، وبعد يومٍ مضى إليه ليعزيه، وقال له: «يا أخي لقد تلاهت بك الشياطينُ، فكُفّ واطلب من الله أن يرحمَك». فلم يُصغِ إلى كلامِه، فمضى من عندِه حزيناً متحققاً انخداعه، فلما رأى إبليسُ أنه قد انخدع له وانقاد إليه، تشكَّل له بشكلِ المخلصِ وأتاه بالليلِ مع شياطينِه كملائكةِ الربِّ حاملين أنواراً، وظهر له في كرةٍ ناريةٍ تخيَّل له في وسطها المخلص، وإن واحداً من الشياطين قال له إن المسيح قد أحب سيرتَك وقد جاء لينظرَك، فاخرج من قلايتِك ولا تعمل شيئاً آخرَ سوى أنك تقوم من بعيدٍ، وإذا نظرته قائماً وسطَ الكلِّ، خر له ساجداً، ثم ارجع إلى قلايتِك. فلما خرج ولاس وراء المصاف وحاملي الأنوار، وقف على بعدٍ وسجد لضد المسيح، وهكذا انخدع عقلُه المفسود لدرجةِ أنه جاء إلى البيعةِ في اليوم الثاني وبمشهدٍ من جماعةِ الإخوةِ قال: «إني لستُ في حاجةٍ إلى قربانٍ لأني بالأمس شاهدتُ المسيحَ». حينئذ ربطه الآباءُ بالحديدِ مدة سنةً كاملةً حتى كسروا عجرفتَه وكبرياءَه بسيرةٍ لا عجب فيها، وشفوا الضدَّ بالضدِّ على ما يقال. فإن كان مع غروس الفردوس نَبَتَ عودُ معرفةِ الشر والخيرِ، فلا عجب إن نبتت مع المناقبِ الشريفةِ أثمارٌ رديئةٌ تولِّد الموتَ، فيليق بالمفرِز أن يكونَ كلَّ حين حذراً، لأنه مراراً كثيرةً تصير الفضائلُ الجليلةُ أسباباً لسقطاتٍ عظيمةٍ، متى لم يحكمها محكم بنيةٍ متضعةٍ ذات إفرازٍ، وعلى ما كُتب: «رأيتُ صدِّيقاً هالكاً ببرهِ»، مع أن البرََِّ لم يكن سببَ الهلاكِ بل العجرفة. وأيضاً شابٌ آخر إسكندري، كان رشيقاً ذكياً فطناً حسنَ السيرةِ، هذا بعد إحكامهِ سيرةً فاضلةً، وصل إلى ذروتها وبلغ غايتها بأتعابٍ كثيرةٍ وأعراقٍ جزيلةٍ، فتشامخ وتعجرف حتى أنه رفع عنقَه على جميعِ الآباءِ، بتيه وأُبهةٍ، وتجاسر على شتيمةِ الكلِّ وفي جملتهم شَتَمَ القديس أوغريس قائلاً: «إن كلَّ الراسخين لتعاليمِك مخدوعون، لأنه لا معلم غير المسيح وحده»، واستشهد حسب جهالته قائلاً إن المخلص نفسه قد جزم قائلاً لا تدعوا لكم معلماً على الأرضِ. وأظلمَ عقلُه لتعجرفِه، فانحطَّ انحطاطاً يُرثى له، حتى أنه غُلَّ بالحديد. ولقد كان كثيرون يتحدثون بشدةِ نسكِه، وقال قومٌ إنه كان يصوم ثلاثة أشهر لا يأكل فيها إلا ما كان يتناوله من القربانِ في يومِ الأحد مع ما يتفق له مِن الحشائش البرية. ولقد كانت لي أنا به خبرةٌ مع ألبيانوس الطوباوي، ففي وقتٍ من الأوقاتِ مضينا إلى الإسقيط وكان بيننا وبين الإسقيط أربعين مرحلةً، أكلنا فيها دفعتين وشربنا ماءً ثلاثة أيام وهو لم يذق فيها شيئاً، بل كان يتلو محفوظاته وما كنا نلحقه ماشياً. وهكذا ضبطه العدو أخيراً لما اقتنع برأيهِ وفي عروض ذلك أمسكته حمى محرقةٌ فما أمكنه الجلوس في القلايةِ، فمضى إلى الإسكندريةِ ولعل ذلك كان بسياسةٍ إلهيةٍ كما قال: دفع مسماراً بمسمارٍ. لأنه أسلم ذاتَه باختيارِه لعدم الإفراز، فوجد فيما بعد خلاصاً غيَر طوعي، فصار يحضر المشاهد وطرد الخيل، ومن كثرةِ أكلهِ وغرامهِ بشربِ النبيذ مال جداً لمحبةِ النساءِ، ولما شارف الوقوع في تلك البئرِ، حدث له، ولعله بسياسةٍ إلهية، أن مرض في عضوِ تناسلهِ مدة ستة أشهر حتى أن تلك الأعضاء تهرأت وسقطت منها وبها، وفيما بعد برئ وعاد عادماً تلك الأعضاء، فانتبه وذكر السيرة السمائية واعترف بجميعِ ما عرض له للآباءِ القديسين، ولم يفسح له الأجل فتنيح بعد أيامٍ قلائل. وآخر اسمه أبطلما، عاش عيشةً يعسُر وصفُها، هذا أولُ أمرهِ سكن فوق الإسقيط في الموضع المعروف بالمفارج، وهو مكانٌ لم يسكنه قط ساكنٌ من الآباءِ، وكان بينه وبين الماءِ ثماني عشرة مسافة، واتخذ لنفسِه جرةً ولقَّانين (وعاءين) وكان يجمع الندى بإسفنجٍ من على الصخورِ في شهريْ كانون الأول وكانون الثاني ويعصره في تلك الأوعيةِ ويرفعه للصيفِ، ومكث على تلك الحال خمسَ عشرةَ سنةً لا يكلم أحداً، وتغرََّب من ملاقاةِ رجالٍ أبرارٍ ومخاطبتهم، وعَدِمَ التعليمَ الروحاني والتناولَ من الأسرارِ الطاهرة، فجعل يبحث عن حقائقِ الأمورِ وغوامضها، فجُنَّ، وصار يقول: «إن الأشياءَ ليس له مدبرٌ وإنها موجودةٌ مدبَّرةٌ منها وبها، فلأيِّ شيءٍ أُشقي نفسي، وأيُّ ثوابٍ يكونُ لمن يبلغ إلى هذا التعبِ»؟ فلما أجال في فكرهِ هذه الأفكار تَوَسْوَسَ وضاع عقلُه، فنزل إلى مصرَ، وهكذا أخذ يدور من مكانٍ إلى مكانٍ ليلاً ونهاراً مطرِقاً إلى أسفل وهو لا يحادث أحداً، وكان منظرهُ يُرثى له، كما كان كلُّ واحدٍ من النصارى يراه يبكي عليه إذ صار ملهاةً ولعبةً لمن لا يعرفُ سيرتنا، وقد لحقت به هذه المصيبةُ الكبرى لتيهِهِ وصلفِه وظنهِ بنفسِه أنه قد فاق سائرَ الآباءِ ظاناً بنفسِه ما ليس هو فيه، ومن حيث أنه لم يصغِ إلى مشورةِ أحدٍ من الآباءِ فقد هبط هبوطاً فظيعاً ومات أشرَّ ميتةً. ويشبه حالُه حالَ شجرةٍ مورقةٍ وبالأثمارِ مخصبة، ضربتها ريحٌ شديدةٌ فسقطت بغتةً وتعرَّت من أوراقها وأثمارها وبقيت يابسةً، وهذا هو ما يلحقُ بمن يتدبر برأي نفسِه ولا يسمع مشورةَ الحكماءِ. |
|||
16 - 09 - 2013, 01:39 PM | رقم المشاركة : ( 3 ) | |||
..::| مشرفة |::..
|
رد: من تعاليم القديس برصنوفيوس
وجاء كذلك عن بكرٍ كانت بأورشليمَ حبيسةً في قلايةٍ ست سنين لابسةً مسوحاً، هذه تنسَّكت نسكاً زائداً ولم تأكل شيئاً لذيذاً البتة، فمنعها الآباءُ من ذلك لكنها لم تُصغِ إلى مشورةِ أحدٍ، فتعرت من معونةِ الله لعجرفتِها لمَّا أعجبتها نفسها، فتباعد عنها حافظُ عفتِها، وسقطت سقطةً يُستعاذ منها، فقد فتحت بابَ حبسِها وأدخلت إليها إنساناً كان يخدمها وكلفته بمفاسدتها وقد لحقتها هذه المصيبةُ لما جعلت قصدَ نسكِها للمراءاة، ولظنِها أنها صارت أفضلَ من كثيرين، فلما تملكتها الأبهةُ، وقعت في يدِ إبليسِ.
كما أن إنساناً اسمه إبراهيم، كان راهباً قبطياً، هذا عاش في البريةِ عيشةً يعسُر تحريرُها، فلما تَسفَّه أصاب عقلَه مرضُ الكبرياءِ، فجاء إلى البيعةِ مخاصماً القسوس قائلاً: «لقد سامني المسيحُ قسيساً في هذه الليلةِ، فاقبلوني أكهن». فأخرجه الآباءُ من الكنيسةِ وساقوه إلى سيرةٍ أغلظَ من غيرها، فشفوه من ألمِ الكبرياءِ وعرَّفوه ضعفَه، وحققوا له أنَّ شيطانَ العجرفةِ قد تلاهى به. ولقد رأينا أيضاً متوحداً ساكناً مغارة، لعبت به المنامات فعاين هوائيات وطارد خيالات، فضاع عقلُه وفسد قلبُه وسقط من السيرةِ الفاضلةِ، ومات مجنوناً. وأخٌ آخر جلس في بريةٍ ملآنةً من الشياطين مدةً من الزمانِ، وكان يظن أنهم ملائكةٌ، وكان والده يزوره من حينٍ إلى حينٍ، وفي بعضِ الأيامِ أخذ منه فأساً ليحتطبَ به ويعيده إليه، وحدث في عودته إليه أن سبقَ أحدُ الشياطين وقال له: «إن شيطاناً يشبه أباك آتٍ ومعه فأسٌ في زمبيلِهِ يريد أن يضربَك به»، فلما جاء أبوه حسبَ عادتهِ، أخذ الابنُ الفأسَ وضربه فقتله، وللوقت صرعه الروحُ النجسُ وخنقه. وفي بعضِ الأوقاتِ جاء إخوةٌ إلى الأب أنطونيوس يخبرونه عن أحلامٍ يرونها ليعلموا هل هي حقيقيةٌ أم من الشياطين، وكان معهم أتانٌ قد مات في الطريقِ. فلما سلَّموا عليه ابتدرهم قائلاً: «كيف كان طريقُكم؟ وكيف مات الأتانُ الصغير»؟ فأجابوه: «مِن أين علمتَ يا أبانا»؟ فقال لهم: «إن الشياطينَ أروني ذلك في الحلمِ». فقالوا له: «ونحن لهذا الأمرِ بعينِهِ جئنا نسألك، لئلا نضلَّ، لأننا نرى أحلاماً ونصدقها مراراً كثيرةً»، فأكد لهم الشيخُ من حالِ الزمان الذي أخبرهم به، أن هذه التخيلات من الشياطين. وقال أيضاً: «وإنْ تظاهرَ الشياطين بسابقِ المعرفةِ، فلا تَمِل إليهم، لأنهم يخبرون بأشياءٍ كثيرةٍ قبل كونِها بأيامٍ، ليقنعوا الذين يصغون إليهم بصدقِهم، فإذا صدَّقوهم أضلوهم بعد ذلك وأهلكوهم بمداغلتهم واغتيالهم، أما هم – أعني الشياطين – فليس لهم سابق معرفة، لأن عِلمَ الغيبِ لله وحده، وإنما هم سعاةٌ خفيفون مسرعون في الهواء، والذي يرونه يسبقون وينذرون به، فاطلبوا من الله ليؤازركم على دحضهم، ومتى طرقوكم ليلاً على أنهم ملائكةٌ، لا تصدقوهم لأنهم كذبةٌ». وقال أيضاً – أعني القديس أنطونيوس: «إذا ما بدأ الإنسانُ في المجيء من بلدةٍ بعيدةٍ، فعندما يراه الشياطين هكذا، يسبقون وينذرون بمجيئهِ قبل أن يجيء، وقد يتفق مراراً كثيرةً أن ذلك الإنسانَ يُعاق أو يرجع لعارضٍ ما، فيظهر كذبُ الشياطين، وهكذا يَهْذُون عن ماءِ النيل، لأنهم متى عاينوا الأمطارَ الكثيرةَ في بلاد الحبشةِ، يعرفون أن ماءَ النهرِ يكون كثيراً، فيسبقون ويخبرون بذلك. وكما كان ديدبان داود الملك يقف في أعلى موضعٍ فينظرَ ما لم ينظره من كان تحته فيخبر به، هكذا هؤلاء الأرجاس أيضاً يفعلون ذلك ليُضلّوا». كان إنسانٌ اسمُه دكياس يسكن جبلاً من أعمالِ أورشليمَ، هذا لم يصلِّ مع أحدٍ جملةً، وبغتةً تجاسر على أن يخدمَ القداس وهو علماني. وآخر سكن طور سيناء، وكان يظن أنه يسلك سلوكاً حسناً، هذا عجرفته الشياطين في المنامات، وتخيل أنه قَبِل شرطونية الأسقفية، فجلس وأخذ يعمل عملَ الأساقفةِ. من رسالةٍ للقديس سمعان: جميعُ المناظرِ التي يمكن للناس إبانتها في الأجسامِ، إنما هي من تخايل أفكارِ النفسِ وليست من أفعال النعمةِ، لأن من شأنِ هذا الأمرِ أن يتبعَ الرهبانَ الشديدي البحث والفرنسة، محبي العجرفة، الجانحين إلى الكبرياء والأبهة، المتمسكين بالرفيعات، المرائين. قال شيخٌ: «من شأنِ شيطانِ السبح الباطل أن يعارض الرهبان بعجرفتين: إحداهما يُقال لها عجرفةٌ علمانيةٌ، لأنها ليست من مناكب السيرةِ، وليس إحكامُها عائداً إلى نَصَبِ الإنسانِ وتعبه، مثال ذلك: التيه بجاهِ الرئاسةِ، التباهي بشرفِ الجنسِ، الاغتباط بكثرةِ الغنى، بتزين اللباس، بقوةِ الجسم، بفصاحةِ المنطق، وكل ما شاكل هذه. أما الأخرى فيقال لها عجرفةٌ رهبانية، مثال ذلك: شدة الصوم والنسك ومداومة السهر، ملازمة الصلاة، البعد عن الناس، التجرد من المقتنيات ومن كلِّ شيء، وما شابه ذلك، وهذه الفضائل وإن كانت مرتفعةً في ذاتِها، إلا أن النيَّةَ السقيمةَ تحطُّ من شرفِها، والنتيجةُ المتولدةُ من ذلك: إضاعةُ الأجرِ، لأنه مكتوبٌ: لقد أخذوا أجرَهم». وأيضاً إنسانٌ اسمُه ماليطون كان يرى آراءً غريبةً، ويتجاسر على العظائمِ، هذا تنسك محتملاً الأتعاب والمعاطب الكثيرة، متشبثاً بإمساك الهوى لأبعدِ غايةٍ، وعلى ما قيل إنه تتلمذ لأوليانوس الطوباوي مدةً من الزمانِ، وصَحِبَه إلى طور سيناء، وإلى بلد القبطِ، وشاهد أنطونيوس الكبير وصَحِبَه، وصاحَبَ غيرَه من القديسين الكبار، وسمع منهم أقوالاً كثيرةً تتعلق بالطهارةِ وخلاصِ النفوسِ، وأشياءً كثيرةً من التذكاراتِ التي تهوِّن من احتمال المصاعب، وما يتعلق بمناظرِ الروح، وسمع أيضاً أنه يمكن للنفسِ إذا ما نُظِّفتْ كما يجب وبلغت إلى عدمِ الانفعال، أي أنها إذا ألقت عنها – بحفظ الوصايا – لِباس الآلام العتيق، وثبتت ثباتاً قوياً بالله على صحتِها الطبيعية التي كانت لها أولاً، فإنها حينئذ تبلغ إلى المناظرِ الإلهية، فهذه الأمور وما شاكلها لمَّا سمعها ماليطون، التهب بالعجرفةِ كالملتهبِ بالنارِ، ثم أنه انفرد في موضعٍ وانفصل من الاجتماعِ بالباقين، وعكف على نَصَبٍ وتعبٍ طويل، وتبتَّل للصلواتِ الكثيرةِ والطلباتِ ليحظى فقط بما كان يأمل فيه من المناظر الرفيعة التي سمع بها، وكان شغوفاً بنوالِها، مع أنه لم يكن قد احترف صناعتها، أي تواضع اللبِّ وتمسكن القلبِ، وجعل اعتمادَه على مواصلة الأتعابِ والتوفر على الأصوامِ دون أن يذلِّلَ ذاتَه أو يُخضع عقلَه جملةً، ودون أن يفهم حيلَ وكمائنَ إبليسِ المحارب، ولم يُصغِ إلى القول القائل: «إذا أكملتم كلَّ شيءٍ فقولوا إننا عبيدٌ بطالون». بل تعجرف عقلُه بالكبرياءِ والأبهةِ، فلما نظر الشيطانُ أنه لا همَّ له إلا في عدمِ تمسكن العقلِ، ولا غرضَ له سوى تأميلِ نوالِ المناظر العالية، فأظهر له ذاتَه محاطاً بمجدٍ عظيمٍ ونورٍ كثير، وقال له: «أنا هو الباراقليط، أُرسلتُ الآن من الآبِ إليك لأهبَكَ شيئاً من المناظرِ الرفيعة جزاءً لأتعابك الكثيرة هذه المدة الطويلة، لأنك أكملتَ زمانَ العملِ، وقد حان أوان الراحةِ». وطلب منه السجود له، ففرح جداً بما سمع ولم يشعر بالعطبِ، وللوقت خرَّ ساجداً له، فلما نال العدوُ السجودَ الذي أراده، استولى عليه بالكليةِ، وأعطاه تخيلات شيطانية عوض المناظر الإلهية، التي كان يشتاق لرؤياها، وفرغ من الأتعابِ والأعراقِ كأنه قد بلغ إلى عدمِ الانفعال، وقال له: «إن كنتَ أنت قد بلغتَ إلى هذا الحدِّ من عدم الآلام، فليست هناك حاجةٌ بعد إلى تعبٍ وعرقٍ جسدي». ومن ههنا جعله إبليس مقدماً وإماماً لمقالة (أي بدعة) الساجدين المصلين، فلما انكشف أمرُه للأسقف، أبعده ورذله ونفاه بعيداً. قال الأب أوغريس: «لا تصوِّر بعقلِك اللاهوتيةَ أشكالاً وأنت تصلي، ولا تسمح لعقلِك بالجملةِ أن يتصوَّر الإله بشكلٍ ما، لكن تعالى إلى غير الهيولي، بغير (تصوُّر) هيولي، فإنك تجد فهماً يليق بغير الهيولي أعني الإله. احفظ ذاتَك من مصايد المحاربين لأنهم إذا رأوْك تصلي بنقاوةٍ يجعلون أشكالاً غريبةً تظهر قدامك بغتةً ليجذبوك إلى كبرياءِ القلبِ، وذلك بأن يصوِّروا لك اللاهوتية، ويجعلونك تظن في نفسِك أن الذي ظهر لك هو الإله، والله ليس له شبه ولا قياس ولا صفة». من قولِ مار إسحق: «كلُّ الذين يزعمون أن المسيحَ بعد ارتفاعهِ إلى السماءِ يظهر خارج الإنسانِ بشبهٍ تراه عينُ الجسدِ، هم رفاق أولئك القائلين: إنَّ نِعَمَ الملكوتِ أكلٌ وشربٌ». قال شيخٌ روحاني: «في أي وقتٍ تبصر فيه الثاؤريا شبهَ نارٍ مُرَكَّبة، فاعلم أن هذا هو فخُ الدَّغَل (أي الفساد) الذي يريد أن يصطادك به للهلاك. وإن كان بشبه قرصٍ يُرى قدامك، أو شبه كوكبٍ أو قوسِ قُزَح الذي يُرى بالسحابِ، أو شبه كراسي أو مركبةٍ أو خيلِ نارٍ، فهذه كلها من طغيان الشياطين، وباختصارٍ أقول: إنَّ كلَّ شيءٍ تراه خارج منك بهذه الأشباه، فهو من طغيان الشياطين، إنَّ منظرَ الثاؤريا بسيطٌ وليس بشيءٍ مركَّب». كان إنسانٌ من بلد الرها اسمه أسبيانوس، هذا وضع فصولاً ولحسنها تُقرأ إلى الآن، وقد حدث أن استولت عليه الكبرياءُ فأسلَمَ ذاتَه، فعرَّضها لأتعابٍ كثيرةٍ وأعراقٍ جزيلةٍ وصعوباتٍ شديدةٍ بلا إفرازٍ ولا تمييز، ليحظى بالمديح من الناسِ، فخدعه إبليسُ وأخرجه من قلايته، وأوقفه على الجبلِ المسمى ابسوتريون، وأركبه مركبةً وأراه خيلاً غيرها ومركباتٍ أخرى، وقال له: «إن الله يستدعيك على الصفةِ التي استدعى بها إيليا»، فلما صدَّق قولَه، ارتفعت به المركبةُ، وللوقت تلاشت الخيالات، وسقط هو على الأرضِ من علوٍ شاهقٍ فتحطَّم وحظي بميتةٍ يُبكى منها، بدلاً من الرفعةِ الرفيعةِ التي أمَّلها. فشرحُنا هذا ليس جزافاً، كي لا تخفى عليك عراقيل الخبيث العطشان إلى هلاك الناس، فاحذر أن تشتاق أيها السامع إلى تلك الأمور التي تعلو قدرتك، قبل أن تحظى بذلك من النعمةِ، ولا تطلب الصعودَ في سُلَّمِ المناظرِ المنصوبةِ للسقوطِ والقيام، لئلا تطلبها قبل الأوان، فتُحسب مع الساقطين، وتُصبح أضحوكةً للشياطين. من سيرة القديس إبيفانيوس: ظَهَرَ في أيامِ إبيفانيوس بقبرص شابٌ دُعي الفيلسوف، فجادله علماءٌ كثيرون، فكان يُفحمهم مقنعاً إياهم بأقوالهِ، وكان يأتيه كهنةٌ كثيرون وأساقفةٌ فيقنعهم بإقناعاتٍ، فتكاسل الأكثرون عن مجادلتهِ، وتراجعوا عن مفاوضتهِ، وذاع صيتُه حتى وصل خبرُه إلى بافوس، حيث تحدثوا بحكمتِه وقوة منطقِه ومقدرتهِ على الجدال حتى ضلَّ بسببهِ الكثيرون. فلما رأي إبيفانيوس ذلك حزن متفكراً في نفسِه ثم قال: «ومن يكون هذا الشاب المفتخر بعلومٍ كاذبةٍ أمام إيمان السيد المسيح»، وإنه تسلَّح بالإيمان، وأمر بأن يحضروه إليه، فمضوا وقالوا له: «الأسقف إبيفانيوس يستدعيك». فقام وجاء إليه، فلما حضر عنده لم يتكلم معه، بل انتصب للصلاةِ أولاً، فلما بدأ الأسقف بصلاتِهِ أخذت الشابُ رعدةٌ، وصرَّ بأسنانهِ، فتعجب الكلُّ لذلك كثيراً، فلما شعر الأبُ بقوةِ الصلاةِ، بدأ يطلب إلى الله قائلاً: «يا ربُّ، اشفِ هذا الشقي العليل من هذا المرض، حِلّ أَسرَه وأظهر الشيطانَ المستتر فيه، واعتق جُبلتَك منه». عند ذلك صرَّ بأسنانِهِ وأزبد، واحمرت عيناه وصرخ بصوتٍ عظيمٍ قائلاً: «أأنت يا إبيفانيوس تخرجني من مسكني»؟ فقال له: «الربُّ يسوعُ المسيح يخرجك من جبلتهِ». قال له الشيطان: «إنك لم تعرفني من أنا». فقال له الأسقف: «ومن أنت»؟ قال: «أنا هو الذي تكلمتُ في ذاك المدعو أوريجانوس». قال له الأسقف: «إن كنتَ أنت الذي تتكلم، فقل لنا بَدءَ الكتابِ الذي صنَّفه ذلك الشقي». فبدأ إبليس يشرح بَدءَ المصحفِ، فقال له القديس: «بالحقِ أنت هو المصنِّف لهذه الشرور العظيمة». ولم يحتمل الأب أن يسمعَ أكثرَ، فقال له: «اصمت يا ابن جهنم، أنا آمرك باسم الربِّ يسوعَ المسيحِ أن تخرجَ منه ولا تؤذِهِ». فصرعه على الأرضِ وخرج منه، فلما أفاق ورجع إلى نفسِه، سألوه: «من أين كانت لك القدرةُ على ذلك المنطق العظيم والنحو والفلسفةِ»؟ فقال: «لستُ أعلمُ ما تقولونه، ولا كيف كنتُ أتكلم، ولا كيف أتيتُ إلى هنا». فعجب الحاضرون وخافوا من ضرباتِ العدو. في أيام باسيليوس الملك، ظهر من بلدة مقودنية راهبٌ مُضل في شكل إنسانٍ وديعٍ، مجترح آياتٍ، عالم بالغيبِ، هذا توسط له البطريرك فوتيوس مع الملك وجمع بينهم، فمال الملكُ إليه وأكرمه كرامةً زائدةً، وكان للملك ولدٌ اسمه قسطنطين توفي، فلما رأي الراهب إفراط الملك في الحزنِ على فقدِ ولدهِ، وعده بأنه سوف يريه إياه حياً، وفعل ذلك بالخديعةِ إذ بينما كان الملكُ عابراً ببعضِ المواضع، فرأى شيخاً راكباً على فرسٍ لابساً حلةً منسوجة بالذهبِ في صورةِ ابنه، فعانقه ظاناً أنه ابنه حقيقةً، ثم غاب عنه، وعمَّر في ذلك الموضعِ ديراً على اسم القديس قسطنطين ابن الملك. قال الشيخ أوغريس: «لا تشتَق أن تنظرَ ملائكةً أو قواتٍ، أو المسيحَ حسياً، لئلا يضيع عقلُك بالكليةِ، وتقبل ذئباً بدلاً من خروفٍ، وتسجد لأعدائك الشياطين، لأن بدء ضلالةِ العقلِ التيهُ والكبرياءُ، إذا ما بدأ العقلُ يتحرك في العجرفةِ، فإنه يروم أن يُحضرَ الإلهَ في صوَّرٍ وأشكالٍ، لذلك يجب ألا تجهل هذا الغشَ، وهو أنه في وقتٍ ما، يقسِّم الشياطين ذواتَهم، فبعضٌ منهم يبدءون بمحاربتك، ويحققون عندك أنهم شياطين، فإذا طلبتَ المعونةَ، تجد البقيةَ يدخلون إليك في شكلِ ملائكةٍ قديسين – وهم شياطين – ويطردون أولئك الأولين ليخدعوكَ، فتظن أنهم ملائكةٌ قديسون، وهم شياطين، كذلك تُوَسوِسُ لك الشياطينُ في وقتٍ ما بأفكارٍ، ثم يحركونك للصلاةِ عليهم ومقاومتهم، فينصرفون باختيارهم، كي ما إذا انخدعتَ ظننتَ بنفسِك شيئاً، فتتكبر كأنك قد بدأتَ أن تقهرَ أفكارَك وتُفزِع الشياطين». من كلام أنسطاسيوس السينائي: ليس كلُّ من يعملُ آياتٍ فهو قديسٌ، بل نجد كثيرين يعملون آياتٍ وتتلاعب بهم الشياطين، لأننا قد فهمنا من حالِ أسقفٍ هيراطيقي اسمه مقدونيوس، محارب الروح القدس، أنه قد نقل شجرةَ زيتونٍ من موضعِها وغرسها في موضعٍ آخر بشكلِ الصلاةِ، وحدث كذلك أن كان رجلٌ ظالمٌ قد أزعج امرأةً أرملةً لأجلِ دَينٍ كان له على زوجهِا، وزاد قيمةَ الدينِ عن الحقيقةِ، ولم يكن الميت قد دُفن بعد، فما كان من ذلك الأسقف المذكور إلا أن جعل الميتَ يتكلم ويخبر بمقدارِ الدَينِ. كذلك لما مات ذلك الأسقف الهيراطيقي، ظهرت عند قبرهِ خيالاتٌ كثيرةٌ وعُملت آيات، من أجل ذلك لا يجب أن تقبلَ كلَّ من يصنع آياتٍ قائلاً إنه قديسٌ، بل يجب أن يُمتحنوا ويُختبروا على رأي القائل: «لا تصدقوا كلَّ روحٍ، بل جربوا إن كان ذلك الروحُ من الله، لأن أنبياءَ كثيرين كذابين قد خرجوا إلى العالمِ». والرسول يقول: إن هؤلاء رسلٌ كذابون وفعلةٌ غاشون، متشبهون برسلِ المسيح، وإن كان الشيطان يظهر بشكلِ ملاكِ النور، فلا عجب إن كان خدامُه يصنعون آياتٍ وأشفيةً جسديةً ليخدعوا من كان سهلَ الانقيادِ لخداعِهم، وقد يُظهرون أحياناً ميتاً قائماً بواسطةِ صلاةٍ بطالةٍ من إنسانٍ مضل، وذلك بأن يدخلَ إبليسُ في جسدِ الميتِ ويحركه ويخاطب الأحياءَ من وجهِ الميتِ، ويُجيب الإنسانَ المخدوعَ عما يسأله، ويخبر عن أشياءٍ خَفيّةٍ وعما عمله قومٌ سراً، حتى إذا وثقوا به أنه صادقٌ، سهل عليه إدخال الضلالةَ التي تخصه. كذلك يتجاسر الشياطين على أن يُحدِّثوا عن خصبِ الأرضِ وجدبها، واختلافات الأهوية وكثرة الأمطار وقلتها وما شاكل ذلك، كما يمكنهم فهم آراء الناسِ من إشارات وإمارات يرونها في الإنسانِ أو يتصيدون ذلك من وجوهٍ أخرى، وليس ذلك فقط، يل ويسبقون فينذرون بموتِ قومٍ من الناسِ، لأن العنايةَ الإلهيةَ قد وضعت علاماتٍ في جسمِ البشرِ كما يعرف ذلك أولئك الذين حذقوا صناعة الطب حذقاً بليغاً، إذ يستدلون على موتِ الناس من علاماتٍ تظهر فيهم من زيادة الكيموسات ونقصان الدم، وتغير المزاجات وغير ذلك، لا سيما أن الشياطين أرواحٌ لطيفةٌ، وأيضاً لطولِ زمانهِم وكثرةِ تجاربهم. فالنساء العرّافات والمنجمون يُحدِّثون بما يحكم به الشياطين، ليس عن سابقِ علمٍ، بل لزيادة التجربةِ. وليس ذلك مقبولاً، فقد عرفنا قوماً سحرةً مشعوذين، قد صنعوا آياتٍ متنوعةً من فعلِ الشياطين، مثل هاروت وماروت اللذين كانا على عهد موسى، فإنهما جعلا عصيهما حياتٍ، وقلبا المياهَ دماً، وأصعدا من المياهِ كثرةً من الضفادع. كذلك سيمون الساحر في عهد الرسل، فكم من الآياتِ الفنطسية (أي الخيالية) صنع، فلقد حرَّك أصناماً وجعلها تمشي، وطُرح في النار ولم يحترق، وطار في الهواءِ، وحوَّل حجارةً إلى خبزٍ، وصار حيةً، وتشكل بهيئةِ حيواناتٍ، وفتح أبواباً مرتجة، وفك قيوداً، وحل حديداً، وعلى الموائدِ أظهر أشكالاً، وجعل ظلاً يتقدمه زاعماً أنه من أرواح الذين ماتوا، وإذ رام كثيرون من السحرةِ أن يفضحوه، غيَّر شكلَه، ثم بحجةٍ ما، دعاهم إلى وليمةٍ حيث ذبح ثوراً وأطعمهم، فنزلت بهم أسقامٌ كثيرةٌ، وصرعتهم شياطين مَرَدةٌ، وأخيراً لما طلبه الملك، فزع منهم، وهرب وطرح شكلَه على غيرهِ. من كلام البابا أثناسيوس: سؤال: «كيف يصنع الهراطقةُ آياتٍ كثيرةً»؟ الجواب: «سبيلُنا ألا نستغرب ذلك، لأننا قد سمعنا الربَّ قائلاً: إنَّ كثيرين يقولون لي في ذلك اليوم يا ربُّ يا ربُّ، أليس باسمك تنبأنا، وأخرجنا شياطين، وصنعنا قواتٍ كثيرةً؟ فأقول لهم، إني لا أعرفكم قط، انصرفوا عن يا فاعلي الإثم. فعلى أكثرِ الحالاتِ يتسبب الشفاءُ بإيمان المتقدم وليس بسيرة المجترح، لأنه مكتوبٌ: إن إيمانَك خلَّصك. لأن ليس في الأرثوذكسية فقط اجتراح آياتٍ، بل وقومٌ أردياء الاعتقاد، مراراً كثيرةً تقشفوا وقدموا لله أتعاباً، فأخذوا أجرَهم في هذا العالمِ منحةً من الله، كشفاءِ الأمراض لكي ما يسمعوا ذلك في العالمِ العتيدِ: إنك قد استوفيتَ خيراتك في حياتِك». من سيرة الأب باخوميوس: لما سمع بسيرةِ الأب باخوميوس قومٌ من رهبانٍ هراطقةٍ، أرسلوا إليه جماعةً لابسين شعراً وقالوا للإخوةِ: «إنَّ كبيرَنا مقدونيوس قد أرسلنا إلى أبيكم قائلاً: إن كنتَ رجلَ اللهِ حقاً وما سمعناه عنك صحيحاً، فتعالَ لنعبرَ أنا وأنت النهرَ ماشييْن بأرجلنا على سطحِ الماء، فيعرفَ كلُّ واحدٍ عملياً من منا له دالةٌ ووجاهةٌ عند الله». فعرَّف الإخوةُ الأبَ بذلك، فأنكر عليهم ذلك قائلاً: «لماذا أجزتم سماعَ هذا الكلامِ بالجملةِ؟ أما علمتم أن هذه المسائل بعيدةٌ عن الله، ولا تقبلها سيرتُنا؟ لأنه أيُّ ناموسٍ يأمر بهذا ويبعثنا على القيام به»؟ فقال الإخوةُ: «أيتجاسر هيراطيقي بعيدٌ عن الله أن يستدعيك لمثلِ هذا»؟ فأجابهم: «قد يمكن للهيراطيقي أن يعبرَ على ظهر النهرِ كعبورِه على أرضٍ يابسةٍ بمظافرة الشيطان إياه، وبسماحٍ من الله، حتى لا ينفك كفرُه. فامضوا وقولوا لهم: هكذا قال عبدُُُ الله باخوميوس: إن حرصي أنا، هو هذا: ليس لكي أعبرَ هذا النهرَ ماشياً، بل كيف أعبرُ دينونةَ اللهِ الرهيبةَ وأن أعبرَ كذلك ذلك النهرَ الناري الجاري قدام مجيء السيد المسيح، وأن أعبرَ أيضاً هذه الأعمال الشيطانية بقوةِ الربِ». ولما قال هذا الكلام أقنع الإخوةَ بأن لا يفتخروا بأعمالهِم، ولا يشتهوا اجتراح الآياتِ، ولا يجربوا الله البتة على رأي القائل: «لا تجرب الربَّ إلهَك». للقديس مقاريوس الكبير: سؤال: «ماذا يعمل الإنسانُ المخدوع بأسبابٍ واجبةٍ وبإعلاناتٍ شيطانية تشبه الحقيقة»؟ الجواب: «يحتاج الإنسانُ لذلك الأمرِ إلى إفرازٍ كثيرٍ ليميزَ بين الخيرِ والشرِ، ولا يُسلِّم نفسَه بسرعةٍ، فإن أعمالَ النعمةِ ظاهرةٌ، التي وإن تشكَّلت بها الخطيةُ فلا تقدر على ذلك، لأن الشيطانَ يعرفُ كيف يتشكَّل بشكلِ ملاكِ نورٍ ليخدعَ، ولكن حتى ولو تشكَّل بأشكالٍ بهيةٍ، فإنه لا يمكنه أن يفعلَ أفعالاً جيدةً، ولا أن يأتي بعملٍ صالحٍ، اللهم إلا أن يسببَ بذلك الكبرياءَ، أما فعلُ النعمةِ فإنما هو فرحٌ وسلامٌ ووداعةٌ، وغرامٌ بالخيراتِ السمائية، ونياحٌ روحاني لوجهِ الله، وأما فعلُ المضادِ فبخلاف ذلك كلِّه، فهو لا يُسبب تذللاً ولا مسرةً ولا ثباتاً، ولا بغضاً للعالمِ، لا يُسكِّن الملاذ، ولا يهدئ الآلام، فإذن من الفعلِ تَعلَم النورَ اللامعَ في نفسِك، هل هو من اللهِ أو من الشيطانِ، والنفس بها إفرازٌ من إحساسِ العقلِ، به تعرف الفرقَ بين الصدقِ والكذب،كما يميز الحنكُ الخمرَ من الخلِ، وإن كانا متشابهيْن في اللونِ، كذلك النفسُ من الإحساسِ العقلي تميز المنحَ الروحانية من التخيلاتِ الشيطانية». قيل عن القديس بفنوتيوس: إنه حظي بمعرفة الكتبِ الإلهية حديثةً وعتيقةً، يتلوها جميعاً عن ظهرِ قلبٍ، رغم أنه لم يتخذ كتاباً، وكان وديعاً إلى أبعدِ غايةٍ، هذا مكث سبعين سنةً لم يملك فيها ثوبين. ولما وجدتُه أنا وأوغريس الطوباوي وألبيانوس طالبناه بمعرفةِ أسباب الإخوةِ الساقطين والمنحرفين عن السيرةِ اللائقة. واتفق في تلك الأيامِ أن توفي ساربمون الناسك وهو جالسٌ في مقبرةٍ ممسكاً بالضفيرةِ، كما اتفق لأخٍ آخر أن هوى عليه الجبُ بينما كان يحفرُه فَطَمَره، كذلك حدث لأخٍ آخر كان حاضراً من الإسقيط أن مات مخطوفاً فجأةً، وتجارب حال اسطفان وأفرونيوس الساقطين في زنىً قبيح، وإيرن الإسكندري وأولس الفلسطيني وفطمس الإسقيطي، وفحصنا الأسبابَ التي تؤدي بقومٍ ذوي فضيلةٍ ساكنين البرية، إلى أن تفسد عقولُ بعضِهم، وتستولي الحنجرةُ على آخرين، ويكابد الفسقَ آخرون، فأجاب: «السببُ في ذلك هو أن جميعَ ما يصير في الناسِ ينقسم إلى قسمين: قسمٌ بمشيئةِ الله وقسمٌ بسماحٍ منه، وبين المشيئة والسماح فرقٌ ليس بقليل، فكلُّ ما كان من الصلاحِ والخير فهو بمشيئة الله، وكلُّ ما كان من الأمور المهلكةِ فإنه يحدث بسماح منه، والسماح يقع من شرِّ المخدوعين، وعدم الشكر للمعطىَ على نعمتهِ، فلما يستولي على البعضِ الجهلُ والأبهةُ والعجرفةُ، فإنهم ينسبون صلاحَهم إلى أنفسِهم أي كأنهم بكثرةِ حرصِهم وتعبهم أحكموا ما أحكموه، فيترفعون على غيرِهم من إخوتهم الأصفياء، فيسمح الله الصالحُ بسقوطهم أي يعريهم من معونته فيحصلون في السقطةِ التي سبَّبها الشيطانُ لهم، وأيضاً يتفق لقومٍ يشتهون تحصيل المناظر والإعلانات بدون استحقاقهم ذلك من النعمةِ، فتحزنهم الشياطين بمناظر كاذبةٍ». كان إنسانٌ اسمُه اصطفان، سالكاً طريقَ النساكِ ساكني البريةِ، هذا أقام في مصارعةِ التقشف سنين عديدة، وكانت قلايته في منحدرِ الجبلِ الذي سكنه إيليا، وفي أواخر أيامهِ صعد إلى ذروةِ الجبلِ في مواضع حرجةٍ مغشوشةٍ ليس فيها عزاء، فأقام هناك مصلياً نادباً متجملاً بجميع الفضائلِ، فمرض مرضاً قضى فيه نحبه، وقبل موته بيومٍ واحدٍ، شَخَصَ بعقلِه وعيناه مفتوحتان والتفتَ يُمنى ويُسرى، وكأن محاسِباً يحاسبه والجماعةُ تسمع، فكان مرةً يقول: «نعم، هذا صحيح». ومرةً يقول: «لا، هذا كذب». ومرةً أخرى: «نعم، إلا أنني صُمتُ عوض هذا كذا وكذا وبكيتُ وتعبتُ». وفي أشياءٍ أخرى كان يقول: «نعم، وليس لي ما أقول في هذا، ولكن رحمةَ اللهِ كثيرةٌ». وفي أشياءٍ أخرى يقول: «لا، هذا كذب، لم أفعله». وكان المنظرُ مبهراً مفزعاً، وعلى هذه الصفةِ فارق الدنيا محاسَباً، وأما ما انتهى إليه أمرُه، ومصيرُ القضيةِ بالنسبةِ إليه فما أبانها. القديس أثناسيوس الرسولي: سؤال: «لماذا نرى قوماً من الصديقين ينازعون (عند الموتِ) أياماً ويُحاسبون، وقوماً خطاةً نراهم يقضون أجلَهم بسكونٍ وهدوء»؟ الجواب: «إن عرفنا جميعَ أحكامِ اللهِ فنحن إذن آلهةً، فجيدٌ هو لنا ألا نفتش تفتيشاً زائداً عن مثل هذه الأحكامِ لأنه يتفق أن رجالاً أبراراً يُعاقبون في وقتِ نزعهم الأخير، لنرى نحن ذلك ونفزع ونعف، كما أنه ربما كان لأولئك القديسين – بما أنهم بشرٌ – زلةٌ صغيرةٌ، فيُنظَفون بذلك العقابِ في وقتِ نزعهم تنظيفاً تاماً بليغاً، ويمضون بلا عيبٍ أنقياء». قال القديس غريغوريوس: «إن هذا النزع يُنظِّف النفوسَ الخارجةَ من العالمِ من الخطايا الدَنيَّة الخفيفة، وذلك بحسب ما سمعتُه من رجلٍ قديسٍ، حكى لي عن قديسٍ آخر فقال: إنه لما حضرته الوفاةُ فزع فزعاً عظيماً، وبعد موتِه ظهر لتلاميذِه بحلةٍ بيضاء، دالاً بذلك على البهاءِ الذي حصل عليه». قال القديس مكسيموس: «لا نحتمل الأفكارَ التي تُصَغِّر لنا الخطايا إذ أن الربَّ أمرنا أن نتحفظ منها قائلاً: تحفَّظوا من الأنبياءِ الكذبةِ الذين يأتونكم بثيابِ الخرافِ ومن داخلهم ذئابٌ خاطفةٌ. لأنه مادام فكرُنا منزعجاً من الخطيةِ، فلا نكون قد حظينا بالصفحِ عنها والغفران، لأننا ما عملنا أثمارَ التوبةِ، لأن ثمرَ التوبةِ هو عدمُ انفعالِ النفسِ وعدمُ انفعالِ النفسِ هو تمحيصُ الذنوبِ، فإذا كنا نوجد وقتاً ما قلقين من الآلام فلنتُب إذن توبةً نقيةً، كي ما إذا عُتقنا من الآلامِ نحظى بالصفحِ عن الذنوبِ». سؤال: «كيف تتحقق النفسُ أن اللهَ قد سامحها من خطاياها»؟ الجواب: إذا ما نظرتْ ذاتَها في طبقةِ ذاك القائل: «لقد أبغضتُ الظلمَ ورذلتُه وناموسَك أحببتُه». والقائل أيضاً: «أنا أسبحك برحمةٍ وحكمٍ». فلنعمل عملَ التوبةِ، لنُظهرَ حكمَ اللهِ العادلِ، ويُتِمُ فينا رحمتَه إذ يغفر لنا خطايانا. سأل أخٌ الأنبا مادانا: «قل لي كلمةً». فقال له الشيخُ: «امضِ واسأل الله أن يهبَ لك في قلبك نوحاً واتضاعاً، واجعل بالَك من خطاياك كلَّ حينٍ، ولا تدن أحداً، بل اجعل نفسَك تحتَ كلِّ الناسِ، ولا تجعل لك مرافقةً مع صبي، ولا معرفةً بامرأةٍ، ولا صداقةً مع هيراطيقي، واقطع عنك الدالةَ، واحفظ لسانَك، وامسك بطنَك عن الخمرِ قليلاً، ولا تكن محباً للقنيةِ ولا تلاجج أحداً ولا تحارنه، وهذا هو الاتضاع». قال أنبا يوسف: «أنا أعرفُ إنساناً له السيرة الجسدية، فكان يصوم إما يومين يومين، وإما أربعةً أربعة، واتفق مرةً وهو صائمٌ أربعة أيامٍ أن وقع في قلةِ القوةِ، فجاءه صوتٌ يقول له: لا تحتقر أحداً من الإخوةِ، ولا تدن أحداً من خليقةِ اللهِ، وما استطعتَ أن تعملَه اعمله، لكن ضع ذاتَك فقط، وتحفَّظ على قدرِ قوتِك وأنت تخلص». وأنبا يوسف هذا، هو الذي قاتله الشيطان بالزنى وهو صبي، فأرسله أبوه ليقيمَ أربعين يوماً، فأبصر الشيطانَ بشكلِ امرأةٍ سوداء. قيل من أجل الأب اللينوس إنه كان مرةً يخدم والإخوةُ جالسين عنده يمدحونه، وهو لا يجيبهم البتة، فقال له إنسانٌ منهم: «لماذا لا تجيب الآباءَ وهم يسألونك»؟ فقال: «لو أجبتُهم لصرتُ مثلَ مَن يقبل المدحَ». سأل أخٌ شيخاً قائلاً: «كيف نتعب نحن في النسكِ ولا ننال المواهب مثل الأولين»؟ قال له الشيخُ: «كان في ذلك الزمانِ الحُبُّ الكثير حيث كان كلُّ واحدٍ يجرُّ رفيقَه إلى فوق، أما في هذا الزمانِ فقد قلَّ الحبُّ، وصار كلُّ واحدٍ يجرُّ رفيقَه إلى أسفل، ومن أجلِ ذلك لا ننال المواهبَ». قال شيخٌ: «كما أننا نحمل معنا ظلَّنا أينما ذهبنا، كذلك يجب أن يكونَ البكاءُ معنا في كلِّ موضعٍ، كالقولِ: أعوِّم كلَّ ليلةٍ سريري وبدموعي أبلُّ فراشي». سأل أخٌ شيخاً قائلاً: «كيف يأتي خوفُ اللهِ إلى النفسِ»؟ قال له الشيخُ: «إذا وُجد في الإنسانِ الاتضاعُ والكفرُ بكلِّ الأشياءِ وبنفسهِ أيضاً، وكان لا يدين أحداً، فخوفُ اللهِ يأتيه». قال شيخٌ: «ما تكرهه لنفسِك، لا تَقُلْهُ لآخر، فأنت تغضب على من ينمُّ عليك، فلا تنمَّ أنت على أحدٍ، أنت تبغض من يشتمك، فلا تشتم أنت أحداً، فمن له أذنان تحفظان هذه الأمور فإنها تكفيه». وقال شيخٌ: «جيد هو أن يوجد اسمُك مكتوباً في بيوت المساكين والأرامل والضعفاءِ، ذلك أفضل من أن يوجد مكتوباً في بيوت باعة الخمر، وجيد هو أيضاً أن يوجد فمك منتناً من الصومِ، فذلك أفضل من أن يوجد فيه رائحة خمر». قال شيخٌ: «إن أنبا كاما قال لي، إن كلَّ خطيةٍ نفعلها يغفرها لنا لله إذا دعوناه، فإذا تاب إليَّ أخي ولم أغفر له فلن يغفرَ لي الله البتة». كما قال شيخٌ: إني سألت أنبا شيشاي: «هل الهروب نافعٌ للراهبِ»؟ فجعل إصبعَه على فمهِ وقال: «إن حفظتَ نفسَك من هذا يا ابني، فهذا هو الهروبُ». قال شيخٌ: إن أنبا بفنوتيوس قال لي: «إن جميعَ آبائنا – الذين كانوا قبلَنا – حفظوا قلوبَهم، إذن فإن كان أحدٌ من جيلنا الآن يحفظُ لسانَه من النميمةِ وجسدَه من الزنى، ويديه من السرقةِ، وبطنَه من الشره، فهو طوباوي، لأن الشره هو الذي يولِّد الزنى والسرقةَ وأشياءَ أخرى كثيرةً جداً». وهو قال: «إن أنت اتّبعتَ المسكنةَ والضيقةَ والإمساك فإنك تحيا». قال أنبا أبرآم: «إذا أمسك الإنسانُ بالضيقةِ فهو ينمو وينظر جميعَ قواتِ اللهِ وجميعَ حسناتِه». قال أنبا بلا: «إن حفظنا الإيمانَ الصحيحَ، وحفظنا الجسدَ من الزنى واللسانَ من النميمةِ، فنحن بنعمةِ اللهِ مُفلحون حسب هذا الزمان». للقديس برصنوفيوس: سؤال: «من أين تعرض لنا حركةُ الجسدِ»؟ الجواب: «حركةُ الجسدِ تكون من التهاونِ، لأن التهاونَ يخطفك وأنت لا تدري، لأنك تدين أخاك وتحكم عليه، فمن ههنا تُسلَّم». سؤال: «أخبرني يا أبي إن كان ينبغي أن نخبرَ المشايخَ بكلِّ الأفكارِ النابعةِ من القلبِ، وهل ينبغي للمصلي أن يعلنَ صوتَه أم يصلي بعقلهِ»؟ الجواب: لا ينبغي للإنسانِ أن يسألَ الآباءَ عن الأفكارِ التي تنبعُ من القلبِ، لأنها كثيرةٌ جداً، لأن الإنسانَ إذا سمع كثيرين يفترون عليه فإنه لا يعتني بافترائهم ولا يهتمُ به، فأما إن انتصب له واحدٌ فقط، وافترى عليه وقاتله، فحينئذ يجدُ السبيلَ كي يستعدَ له أمامَ السلطانِ، كذلك الحال في الأفكارِ. أما من جهةِ قراءةِ المزامير والصلاةِ، فلا يجبُ أن تُقال بالعقلِ فقط، بل بالشفتين أيضاً، لأن النبيَ هكذا قال: «يا ربُّ افتح شفتيَّ ليخبرَ فمي بتسبحتِك»، كما يقول الرسولُ أيضاً: «ثمرةُ شفاهِ شاكرةٌ لاسمِه». ولا يجب أن يكونَ في الصلاةِ شيءٌ من الأفكارِ الأرضيةِ، كما ينبغي أن تكونَ مقرونةً بالدموعِ والاتضاع، لأن الآباءَ لم يقوِّموا شيئاً إلا بالتعبِ والاتضاعِ. سؤال: «أخبرني يا أبتاه كيف يرصد الإنسانُ قلبَه، وكيف يقاتل تجاه الشيطان، وإن كان ينبغي له أن يَسُدَّ مدخلَ الكلامِ قدام فِكرِ الزنى، وإن هو دخل على العقلِ فماذا يعمل، وهل ينبغي أن يكونَ طعامي بوزنٍ»؟ الجواب: »يا ولدي، إذا حفظ الإنسانُ قلبَه فإنه يكون منتبهاً طاهراً، وإنما يعرض له القتالُ إذا تهاون هو أولاً، فإذا أبصرَ العدوُ تهاونَه عمل على قِتالِه، لأننا لسنا نقعُ إلا من تهاونِنا وكوننا لا نقاومهم، لأنهم يريدون منك المحادثةَ كي ما يشغلوكَ ولا يكفُّون، فتقدم إلى اللهِ من أجلهِم، وألقِ ضعفَك أمامَه وهو يصرفهم عنك ويُبطل قوَّتَهم. وأما من جهةِ شيطان الزنى فجيدٌ هو أن تَسُدَّ عليه ولا تدعه يدخلَ، لأنه إذا دخل نجَّسك وسجَّسك، لأنه يتخذ له مادةً منها وبها يتطاول عليك، فإن هو خطفك بغتةً ودخل فيك، لا تتوانَ حتى ولا وقتاً قصيراً، بل قم وجاهد وألقِ ذاتَك أمام اللهِ وقِرَّ بضعفِك واسأله أن يلقيه خارجاً عنك، أما من أجلِ الطعامِ ووزنه، فليكن ذلك بالتخفيف والتحفظ». سؤال: «قل لي يا أبي رأيَك فيما لو كنا نُقِرُّ لأحدِ الإخوةِ ببعضِ القتالات ونلتمسَ منه صلاةً بخصوصِها»؟ الجواب: «جيدٌ أن نُقِرَّ لمن له قوةٌ لأن يسمعَ، ولا نُقِرّ لمن هو بعد شابٌ، وأما ابتغاء الصلاةِ، فجيدٌ أن نطلبَ من كلِّ واحدٍ». سؤال: «إذا سَكَتَ الإنسانُ، فما هي الحالُ التي ينبغي أن يكونَ عليها في القلايةِ»؟ الجواب: «الجلوسُ في القلايةِ هو أن يتذكَّرَ الإنسانُ خطاياه، ويبكي وينوح من أجلِها، ويتحرز ألا يُسبى عقلُه، وإن سُبيَ فليجاهد أن يردَّه إليه». سؤال: «علِّمني كيف أقطعُ هوايَ وأنا في القلايةِ، وكذلك إذا كنتُ بين الناسِ، وما هي مشيئةُ الجسدِ وما هي مشيئةُ الشيطانِ، وما هي مشيئةُ اللهِ»؟ الجواب: «أما قطعُ الهوى الذي يكون في القلايةِ، فذلك برفضِ كلِّ النياحِ الجسدي، أما مشيئةُ الجسدِ فهي أن تعملَ نياحَه دائماً في كلِّ الأمورِ، فإذا لم تعمل نياحَه، فاعلم أنك قطعتَ هواك وأنت جالسُ في القلايةِ. وأما قطعُ الهوى الذي بين الناسِ فذلك بأن تكونَ كالميتِ بينهم أو كالغريبِ عنهم. وأما مشيئةُ الله، فهي ألا يهلكَ أحدٌ من الناسِ، كما قال السيد، وأن لا يموتَ الخاطئ، كما قال النبي. وأما مشيئةُ الشيطانِ فهي أن يُزكِّيَ الصدِّيقُ نفسَه ويطمئنَ إليها، وعند ذلك يقعُ في الفخِ، كما أن مشيئةَ الشيطان كذلك في ألا يتوب الخاطئُ عن خطيئتهِ». واستطرد قائلاً: «إن أردنا أن ننجحَ بالكمالِ فلنقطع مشيئاتنا قليلاً قليلاً، لنبلغَ إلى عدمِ الأوجاعِ، وذلك بأن لا نتكلمَ فيما لا تدعو إليه الضرورةُ، وأن نرضى بجميعِ ما يحدثُ لنا كأنه حسب مشيئتهِ، وألا يكون لنا مَيلٌ إلى شيءٍ، فمن عدم الميلِ بالكليةِ يكون عدمُ الآلامِ بنعمةِ اللهِ». سؤال: «إذا طلب مني إنسانٌ أن أصليَ عليه، أينبغي لي أن أصليَ عليه أم لا»؟ الجواب: «جيدٌ أن تصلي على كلِّ من يسألك، لأن الرسولَ يعقوب يقول: صلُّوا على بعضِكم بعضاً كي ما تُعافوا. وقد صلَّى أناسٌ على الرسلِ، على أن تفعلَ ذلك كمن هو غيرُ مستحقٍ ولا دالة له». سؤال: «أخبرني يا أبي كيف يكون الفكرُ مأكلاً للسباعِ»؟ الجواب: «يصير الفكرُ مأكلاً للسباعِ إذا لم يسبق الإنسانُ إلى لومِ نفسِه، فإن هو تغافل، جَرَحَته بأنيابها وأظفارها، فحسنٌ أن يحتاجَ إلى الالتصاق بالتوبةِ، ويجب عليك ألا تزكي نفسَك، وألا تقول إنك شيءٌ، فتبرأ أوجاعُك، ولا تدن آخرين». وقد حدث مرةً لأخٍ أن آذاه اللصوصُ، فجَبُنَ جداً، وبمعونةِ اللهِ خلص منهم، فأخبر الشيخَ عن انزعاجِه وسأله أن يصليَ عليه، فقال الشيخُ: «يا ولدي، إن اللهَ لا يتركنا إن لم نتباعد عنه نحن، لأنه يقول: لا أتركك، لا أهملك. ولكن قلةَ إيماننِا هي التي تجعلنا نَجْبُن ونخاف من اللصوصِ الذين حضروا إليك، حتى ولو كانوا أكثرَ من مركباتِ فرعون وجنودِه، وقد علمتَ أنهم بكلمةِ اللهِ وعزتهِ قد غرقوا في البحرِ، ألا تذكر المكتوبَ عن الذين جاءوا لأخذ أليشع كيف أصابهم العمى، والكتاب القائل: الربُّ يحفظك من كلِّ سوءٍ، الربُّ يحفظُ نفسَك، الربُّ يحفظُ دخولَك وخروجَك. وكيف ننسى القائل: إن عصفوراً لا يسقطُ على الأرضِ بدون إذنِ أبيكم السماوي، وإنكم أفضل من عصافير كثيرةٍ. والجُبن هو وليد قلة الإيمان، وهو منتهى قلة الرجاءِ، وهو يرخي القلبَ ويجتذب الناسَ من اللهِ إلى بلدةِ الهلاكِ. فلنفر منه يا ولدي، ولنُنَبِّه يسوعَ ربَّنا النائمَ فينا قائلين: يا عظيمُنا خلِّصنا، وهو ينتهر الريحَ ويُسكِّن الأمواجَ. لنترك الآن القصبةَ المرضوضةَ ونلتمس عصا الصليبِ التي شقَّت البحرَ وأغرقت فرعون الفعلي، ونتكل ملقين أنفسَنا على الذي صُلب من أجلِنا، لأنه يعرفُ كيف يرعانا نحن غنمَه ويطرد عنا الذئابَ الرديئةَ. يا ولدي، إني لمتعجبٌ منك كيف تفزع من العبيدِ الوقوفِ خارجاً، ولا تفكر في السادةِ الذين هم من داخل، لأن اللصوصَ المحسوسين هم عبيدُ الشياطين اللصوصِ الفعليين، فينبغي لك أن تعرفَ بالنعمةِ أن اللصوصَ أتوْك ولكن المسيحَ لم يتركك، فأسرع أنت في طلبهِ، واسأله أن يعينك لأنه مكتوبٌ: الربُّ قريبٌ من الذين يدعونه، والذين يرغبون إليه بالاستقامةِ، وهو يصنعُ مشيئةَ خائفيه ويسمع طلباتهم ويخلصهم. فاقترن بسيدِك ملتصقاً به وهو يطردُ عنك كلَّ الأردياء، ويُبطِلُ قوَّتَهم». وحدث أيضاً أن هذا الأخَ حَزِنَ، فسأل الشيخَ بأن يصلي عليه، فأجابه قائلاً: «يا ولدي، إن الربَّ قد صبر إلى الصلبِ والموتِ، أما تفرح أنت بالأحزانِ؟ لأنه بضيقاتٍ كثيرةٍ ينبغي لنا أن ندخلَ ملكوتَ السموات، فلا تطلب يا ولدي النياح، إن لم يعطِك إياه الربُّ، لأن كلَّ نياحٍ جسدي هو مكروه عندَ اللهِ، والربُّ قال: في العالمِ يكون لكم ضيقٌ، ولكن تقووا، أنا قد غلبتُ العالمَ، والربُّ يعينُك وإياي آمين». سؤال: «أخبرني يا أبي كيف أفتقدُ الأخَ»؟ الجواب: «افتقادُ الأخِ جيدٌ، والكلامُ البطَّالُ رديءٌ، وهذا الأمرُ يأتي بك إلى التجربةِ، فافتقد إذن أخاك، وتحفَّظ من الكلامِ البطَّالِ، وليكن حديثُكما في أخبارِ الآباءِ السالفين، وفيما كانوا يعملونه. وتقول له: كيف أنت؟ وكيف حالك يا أخي ويا أبي؟ ولا تلتمس منه سوى كلامِ الحياةِ فقط. وقل له: صلِّ عليَّ، فإن لي خطايا كثيرةً، وما شاكل ذلك، واعمل للحين مطانيةً وانصرف من عندهِ بسلامٍ». سؤال: «أسألك يا أبي أن تبينَ لي ما هي المشيئةُ الجيدةُ، وما هي المشيئةُ الرديئةُ»؟ الجواب: «قلتُ لك إن كلَّ نياحٍ جسدي مرذولٌ عند إلهنِا، لأنه قال إن الطريقَ المؤديةَ إلى الحياةِ حزينةٌ وضيقةٌ، فمن يختارها لنفسِه فهي المشيئةُ الجيدةُ، ومن أرادها فإنه يُلقي بنفسِه في كلِّ أمرٍ حزينٍ بهواه، وبقدر استطاعته. اسمع ما قاله الرسولُ: إني أُضْمِرُ (أي أقمعُ) جسدي واستعبده. فافهم أن الجسدَ لا يريد ذلك، بل بمشيئتِه كان يَقْسِرُه، فالذي يريد الخلاصَ يجب أن تكونَ مشيئتُه هكذا، ومن كان كذلك، فكلُّ أمورِه يختلط فيها الحزنُ. لا تستعمل فراشاً ليناً، وتذكَّر أن كثيرين ينامون على الأرضِ وبين الشوكِ، وإن صادفتَ طعاماً لذيذاً فاتركه، وكُلْ من الدون، كي ما يحرك على جسمِك حزناً، واذكر الذين لا يذوقون خبزاً البتة، واذكر كذلك الألمَ الذي قَبله سيدُك من أجلِك، وأعطِ لنفسِك الويلَ. هذه هي المشيئةُ الجيدةُ، أما المشيئةُ الرديئةُ فهي نياحُ الجسدِ في كلِّ ما يطلبه منك، ولا سيما إذا اتفق لك طعامٌ غيرُ جيدٍ، وقلتَ: لا آكل، فهذه هي المشيئةُ الرديئة، فاقطعها عنك وأنت تخلص». سؤال: «أخبرني يا أبتاه ماذا أعملُ، لأن الأفكارَ قد اضطربت فيَّ جداً»؟ الجواب: «يا ولدي، إن كان الإنسانُ بطَّالاً، فإنه يتفرغ لقبولِ الأفكار التي تأتيه، وإذا كان له عملٌ يعمله، فلا يتفرغ لقبولها، قم وقت السحرِ وأمسك الطاحونَ واطحن قمحَكَ، فتعمل منه خبزاً لغذائِك، وذلك قبل أن يسبقَك العدو ويجعل عليها رملاً، وأسرع فاكتب لوحَك، واحفظ الوجه الآخر، لأن ربنا يقول للرسلِ، أنتم ملحُ الأرض. فالأرضُ يا ابني هي جسدُك، فكن أنت ملحاً تملِّحه، وجفف (نماسيه) ودودَه، أعني أفكارَك الرديئةَ». من قولِ القديس سمعان العمودي: «مثلُ إنسانٍ يتكلمُ عن غنىً ليس له، ويحسبُ مالَ قومٍ آخرين، وهو نفسه ليس له شيءٌ، بل تجده عرياناً معوزاً فقيراً، كذلك الذي لم يقتنِ لنفسِه شيئاً من غنى المسيح، وهو مرافقٌ لأناسٍ قديسين، فتجده عرياناً مِن مشاركةِ الروح، لا يربح شيئاً من غنى القديسين، لأنه مشاركٌ لهم بالسكنى، وليس بمشاركٍ لهم في الفضيلةِ». للقديس يوحنا ذهبي الفم عن الكلمةِ المكتوبةِ: أصلِّي بروحي وأصلِّي بضميري، وأرتِّل بروحي وأرتِّل بضميري: «يريد الرسولُ ألا يكونَ الإنسانُ مصلِّياً بلسانِه فقط تاركاً عقلَه يتوه في شتى الأمورِ، فيصيرَ بلا ثمرٍ، بل ليكن جهادٌ واحدُ لاثنيهما، اللسانُ ينطقُ بكلامِ الصلاةِ، والعقلُ يميزُ المعنى الخفي غير المنظور، والفكرُ يتبعُ يسوعَ إلى فوق، مثل النَفَسِ الصاعدِ مع الكلامِ، فيكون مثلَ إنسانٍ يشتكي إلى الملكِ ووجههُ ناظرٌ إليه ولسانُه يتكلم بغير انشغالٍ». قال شيخٌ: «إن الله يطيل روحَه على خطيةِ العالمِ، ولا يطيل روحَه على خطية البريةِ». قال الأب نستاريون: «يجب على الراهبِ أن يحاسبَ ذاتَه كلَّ مساءٍ وكلَّ صباحٍ، ماذا صنعنا مما يشاءُ الله، وماذا عملنا مما لا يشاءُ الله، لأنه هكذا عاش الأب أرسانيوس وهكذا نفتقدُ ذواتَنا كلَّ أيامِ حياتِنا. احرص كلَّ يومٍ على أن تقفَ قدامَ اللهِ بلا خطيةٍ، وهكذا صلِّ لله كأنك مشاهدٌ له، لأنه بالحقيقةِ حاضرٌ. لا تحسِّن لذاتِك أن تدينَ أحداً، لأن الدينونةَ، الكذبَ، اللعنَ، الشرَ، الشتمَ، الضحكَ، كلَّ هذه غريبةٌ عن الراهبِ، وأما الذي يُكرَّم أكثر مما يستحق فإنه يخسرُ كثيراً». وسأله أخٌ قائلاً: «إن وجدتُ وقتاً ما، وأكلت ثلاثَ خبزاتٍ، فهل هذا كثيرٌ»؟ فقال له: «هل أنت في البيدر يا أخي»؟ قال له أيضاً: «وإن أنا شربتُ ثلاثةَ أقداحِ خمرٍ، فهل هذا كثيرٌ»؟ أجابه وقال: «إن لم يكن هناك شيطانٌ فإنها ليست كثيرةً، أما إن كان، فهي كثيرةٌ، لأن الخمرَ مضرٌ جداً للرهبانِ لا سيما الشباب فيهم». وقال أيضاً: «إن اللصَّ كان على الصليبِ وبكلمةٍ واحدةٍ تزكَّى، ويوداس كان من جملةِ الرسلِ، وفي ليلةٍ واحدةٍ ضيَّع كلَّ شيءٍ، من أجل ذلك، لا يفتخر أحدٌ من صانعي الحسناتِ، لأن كلَّ الذين وثقوا بذواتِهم سقطوا». قال القديس اكليميكوس: «من يستطيع أن يُميت نفسَه من كلِّ شيءٍ، فذاك يستطيع أن يتفرَّغ لنفسِه بذكرِ الموت، ومن يحب مخالطةَ الناسِ فلن يستطيعَ أن يتفرَّغ لنفسِه، وهو عاهةٌ لنفسِه». وقال أيضاً: «لا يستطيع إنسانٌ أن يجتازَ يوماً كما ينبغي، إن لم يحسبه آخِرَ يومٍ من حياتِه في الدنيا». سأل أخٌ الأب روفس: «ما هو السكوت»؟ فأجابه الشيخُ قائلاً: «هو الجلوسُ في القلايةِ بمعرفةٍ ومخافةِ اللهِ، والامتناعُ من ذِكرِ كلِّ شرٍّ. والمداومةُ على حفظِ ذلك يلدُ التواضعَ، ويحفظُ الرهبانَ من العدوِ». وعند نياحته اجتمع إليه تلاميذُه قائلين: «كيف يجب أن نتدبَّرَ من بعدِك»؟ فأجابهم الشيخُ: «لستُ أعلمُ أني قلتُ لأحدٍ منكم قط أن يصنعَ شيئاً، قبل أن أُصلِحَ الفكرَ أولاً، ولم أسخط إذا هو لم يصنع بحسبِ ما قلتُه له، وهكذا قضينا كلَّ زماننا بهدوءٍ». رجلٌ موسرٌ، تصدَّق بمالٍ، وأمسك بعضَه لقلةِ إيمانِه، وأتى إلى الأب أنطونيوس وسجد له قائلاً: «علِّمني كيف أخلص». قال له الشيخُ: «إن أردتَ أن تخلصَ فاصنع ما أقوله لك أولاً. امضِ إلى القريةِ واشترِ لحماً وانزع ثيابَك وعلقه في رقبتِك وتعالَ». فأطاع الشيخُ، واشترى اللحمَ، وخلع ثيابَه، وحمله على رقبتهِ، فلم يبقَ طيرٌ ولا كلبٌ في تلك القريةِ إلا واجتمعوا عليه، فنهشه الطيرُ وجرح جسمَه. فلما بلغ القديسَ على هذه الحال، قال له: «مرحباً يا ابن الطاعةِ، اعلم يا ابني إني قلتُ لك أن تصنعَ هذا،كي أعطيك مثالاً، فإن كثيرين من الناسِ، إذا سمعوا الوصايا لا يحفظونها، وآخرون ينسونها لقلة الحسِّ، ولذلك أمرتُك بهذا ليكون كلامي فيك ذا أثرٍ، لأجل ألم الوجع، فإن أصحابَ قلةِ الحسِّ لا تنفع فيهم الموهبة شيئاً، فلهذا المعنى يا ابني أسَّستُ فيكَ آثاراً لوصيتي، فإذ قد تنقَّى حقلُك من شوكِ الغفلةِ، فلنبذر فيك الزرعَ المقدس، أرأيتَ يا ابني كيف نهشت الطيورُ والكلابُ جسمَكَ وجرحته، كذلك تنهش الشياطيُن أصحابَ القنيَةِ، فافهم الآن هذا الكلام في عقلِك وتفكَّر به كلَّ أيامِ حياتِك، وإياك يا ابني أن تجعلَ لك اتكالاً على المالِ، بل اتكل على المسيح، فاذهب الآن وفرِّق جميعَ ما أبقيتَ لك من المالِ، حتى تكون، يا حبيبي، رهبانيتُك صافيةً من الغشِ، لأنه ضارٌ بالراهبِ أن يُبقي في قلايته ديناراً وشيطاناً»، وبعد أن دعَّمه بالكلامِ أخذ قليلاً من الزيتِ وصلى عليه ودهنه، وللوقت شُفيَ كأنه لم تُصبّه جراحٌ ولا ألمٌ قط، وذهب وهو مسرورٌ يسبح اللهَ». حدث مرةً أن أتى القديسُ بولس البسيط تلميذ الأب أنطونيوس إلى الإسقيط، لافتقادِ الإخوةِ كعادتِه، ولما دخلوا الكنيسةَ ليكملوا القداسَ، كان يتأمل كلَّ واحدٍ من الداخلين، ويعرف الحالَ التي عليها نفسُه، وكان يرى مناظِرَهم بهجةً، وملائكتهم يتبعونهم مسرورين، وعاين أحدَهم أَسودَ كلَّه، وشياطينٌ سمجةٌ تحيط به يجرُّونه، وملاكُه يتبعه من بعيدٍ عابساً، فلما رأى ذلك بكى وقرع صدرَه مراتٍ، وخرج من الكنيسةِ باكياً، فخرج الإخوةُ إليه قائلين: «لماذا تبكي يا أبانا»؟ وطلبوا إليه أن يدخلَ معهم للقداسِ، فامتنع وجلس على بابِ الكنيسةِ منتحباً جداً. ولما كَملت الصلاةُ وخرجوا، كان يتأمل إليهم أيضاً، مؤثراً أن يعرفَ خروجَهم، فرأى ذلك الأخَ الذي كان قد دخل على تلك الحالِ السمجةِ، قد خرج بهيَّ الوجهِ، أبيضَ الجسمِ، وملاكُه ملاصقٌ به مسروراً، والشياطين يتبعونه وهم مكمَّدين. وإن القديسَ بولس صفَّق بيديه مسروراً ووثب بفرحٍ عظيمٍ مباركاً الله أبا الصلاحِ، بصوتٍ عالٍ قائلاً: «هلموا أبصروا أعمالَ اللهِ المرهوبةَ المستحقةَ كلَّ ذهولٍ وعجبٍ، هلموا أبصروا أعمالَ إلهِنا الصالح، الذي يشاء خلاصَ كلّ الناسِ، ومحبته للبشر التي لا يُلفظ بها، هلموا نسجد ونخرُّ قائلين: أنت وحدُك يا إلهنا قادرٌ أن تنزعَ كلَّ خطيةٍ». فحضر الكلُّ لسماعِ أقواله، فأخبرهم بما ظهر له، وسأل ذلك الأخَ أن يُعرِّفه السببَ الذي من أجلهِ وهب الله له تبديلَ تلك الحالِ نقيةً. فقال بمحضرٍ من الكلِّ: «إني منذ زمانٍ طويلٍ عائشٌ في النجاسةِ إلى أبعدِ غايةٍ، فلما رأيتُ الأب باكياً جداً، ابتدأ قلبي فيَّ أن يتخذَ إحساساً، فأنصتُّ إلى القراءات، فسمعتُ إشعياءَ يقول: اغتسلوا، صيروا أنقياءَ، أزيلوا شرورَكم من أمامَ عيني، تعلَّموا أن تصنعوا حسناً، وتعالوا نتناظر يقول الربُّ، إن كانت خطاياكم كالبرفير تبيضّ كالثلجِ وإن احمرت كالبقم (كالدودي)، أجعلها كالصوفِ النقي. فلما سمعتُ أنا الخاطئ هذا الكلام، ضعف قلبي وقلتُ أمام الله: أنت الإله المتحنن الذي أتيتَ لخلاصِ الخطاةِ، يا من قلتَ إنه يكون فرحٌ في السماءِ قدام ملائكةِ الله بخاطئ واحدٍ يتوب، والآن يا ربي، ما وعدتَ به بفمِ نبيك تممه فيَّ أنا الخاطئ، واقبلني إليك تائباً، وها أنا منذ الآن لا أصنعُ شيئاً مما كنتُ أصنعه من الآثامِ، وسوف أخدمك بكلِّ طهارةٍ إلى آخرِ نسمةٍ من حياتي. وعلى هذا خرجتُ من الكنيسةِ». فلما سمع الآباءُ ذلك صرخوا بصوتٍ واحدٍ قائلين: «لقد عَظُمت أعمالك يا ربُّ، كلَّها بحكمةٍ صنعتَ». ومن ذلك الوقتِ عاش ذلك الأخُ بكل نقاوةٍ وأرضى الله بسيرةٍ فاضلةٍ، فعلينا ألا نقطعَ رجاءَنا من مراحمِ إلهِنا، لأننا إذا أتينا إليه، لا يطالبنا بسالفِ أعمالِنا، لأنه كوعدِه الصادقِ يغسل الراجعين إليه بكلِّ قلوبهم ويبيِّضهم كالثلجِ. له المجد دائماً. كان قسيسُ القلالي قد أُعطيَّ نعمةً من اللهِ أن ينظرَ الأرواحَ النجسةَ عياناً، وذات يومٍ، بينما كان ذاهباً إلى الكنيسةِ ليكمل الصلاةَ الجامعة، وإذا به ينظرُ جماعةً من الشياطين خارج قلايةِ أخٍ، ووجد بعضَهم في شكلِ نساءٍ وهم يغنون ويقولون ما لا يجب سماعه، ووجد البعضَ منهم في شكلِ صغارٍ يرقصون، والبعضَ الآخرَ مقبلين على أعمالٍ رديئةٍ، فتنهد الشيخُ قائلاً: «بلا شكٍ إنه يوجد في داخلِ القلايةِ راهبٌ يعيش في التواني، من أجل هذا تحيطُ الأرواحُ النجسةُ بقلايته هكذا بعدم أدب»، فلما أكمل القسُ الصلاةَ الجامعة، عاد ودخل قلاية ذلك الأخِ، وقال له: «يا أخي، أنا في ضيقةٍ، ولي فيك إيمانٌ أنك إذا صليتَ عليَّ تَخفُّ الشدةُ المحيطة بي». فضرب الأخ مطانية قائلاً: «إني غير مستحق أن أصلي عليك يا أبي»، وكان الشيخُ يداوم الطلبةَ إليه قائلاً: «لستُ أمضي حتى تعاهدني أنك تصلِّي عني صلاةً في كلِّ ليلةٍ»، فأطاع الأخُ أمرَ الشيخ، وإنما فعل الشيخُ هذا حتى يعطيه سبباً ليصلي في الليل. فلما قام الأخُ في الليل ليصلي على الشيخ، صار في تحسُّرٍ وقال في نفسه: «يا شقي، إن كنتَ تصلي على شيخٍ قديس كهذا، فلِمَ لا تصلِّي على نفسِك وحدك». وإنه صنع صلاةً على الشيخِ، وصلاةً أخرى على نفسهِ، وهكذا أكمل الأسبوعَ كلَّ ليلةٍ يعمل صلاتين، واحدةً عن الشيخ، والأخرى عن نفسهِ. وفي يوم السبتِ التالي، انطلق القسُ إلى الكنيسةِ، فأبصر الشياطيَن قياماً على بابِ قلاية الأخِ وهم سكوتٌ، فعلم الشيخُ أنه من أجلِ أن الأخَ صلَّى سكتوا، ففرح، ولما أكمل الصلاةَ، عاد ودخل قلاية الأخ، وقال له: «اصنع معي رحمةً يا أخي من أجلِ محبة السيد المسيح، وزدني صلاةً أخرى في كلِّ ليلةٍ، فإنني قد وجدتُ راحةً قليلةً». فلما صلَّى عن الشيخِ صلاتين، صار أيضاً في ندمٍ قائلاً: «يا شقي، زد أيضاً صلاةً أخرى على ذاتك». فصنع هكذا الأسبوع جميعه، يكمل كلَّ ليلة أربع صلوات. ولما جاء القسيس يوم السبت إلى الكنيسةِ، نظر الشياطين سكوتاً معبَّسين، فشكر اللهَ، ثم أنه دخل إلى الأخِ، وسأله أن يزيده صلاةً أخرى، فزاد له ولنفسهِ أيضاً. وهكذا صار الشيخُ يجيء إليه ويجعله أن يزيد قليلاً قليلاً حتى رجع إلى طقسِهِ الأول. فحنق الشياطينُ على الشيخِ لأجلِ الخلاص الذي صار للأخِ وانصرفوا عنه وهم حزانى، وصار الأخُ يصلي بغير فتورٍ واقتنى الغَلَبةَ بنعمة ربنا يسوع المسيح، الذي له المجد إلى الأبد آمين. سأل أخٌ أنبا تادرس: «بأيِّ طريقٍ يمكن للإنسانِ أن يُخرجَ الشياطينَ من ذاتِه»؟ فقال له القديسُ: «إذا قبل إنسانٌ ضيفاً وأكرمه، فإن كان لا يقدر أن يطردَه اليومَ، ففي الغدِ لا يقدرُ أن يطردَه، ذلك إذا كان متاعُه داخلَ البيتِ، أما إذا أعطاه متاعَه وجميعَ ما كان داخل بيتِهِ، فحينئذ لو أراد أن يطردَه، أغلقَ البابَ في وجههِ. وهكذا الحالُ مع الشيطانِ، إذا لم تطرح متاعَه خارجاً عنك، الذي هو الزنى والنجاسةُ والكذبُ وجميعُ آلاتهِ، فلا تقدر أن تطردَه». سأل أخٌ أنبا أمونا مرةً قائلاً: «يا أبي ثلاثةُ أفكارٍ تضايقني. الأول، أن أسكنَ في البراري بغيرِ همٍّ، والثاني، أن أمضي إلى الغربةِ حيث لا يعرفني أحدٌ، والثالث، أن أحبسَ نفسي في القلايةِ، ولا أجتمع بأحدٍ، وأصوم يومين يومين». قال له الشيخُ: «ولا واحد من هذه الأفكار تستطيع أن تمارسَه كما ينبغي، بل الأفضل أن تجلسَ في قلايتك، وكُلْ في كلِّ يومٍ قليلاً، واجعل كلمةَ العشارِ في فمِك دائماً قائلاً: يا الله اغفر لي فإني خاطئ، وأنت تتنيح». الأب سيصوي الذي من جبل أنطونيوس: أغلقَ على نفسِهِ دفعةً في قلايتهِ، ومنع خادمَه من القدومِ إليه عشرةَ شهورٍ، لم يبصر فيها إنساناً، وفيما هو يمشي في الجبلِ ذات يومٍ، إذا به يجدُ إنساناً إعرابياً يتصيَّد وحوشاً بريةً، فقال له الشيخُ: «من أين جئتَ، وكم لك من الزمان ههنا»؟ فقال له الرجلُ: «صدقني يا راهب، إن لي في هذا الجبلِ أحدَ عشرَ شهراً لم أرَ أحداً غيرَك». فلما سمع الشيخُ ذلك، دخل قلايتهِ وصار يضربُ صدرَه ويقول: «يا سيصوي، لا تظن أنك صنعتَ شيئاً، لأنك لم تصنع بعد مثلَ ما صنعه هذا الإعرابي». وسأله أخٌ: «أتُرى، هل كان الشيطانُ يضطهدُ القدماءَ هكذا»؟ أجابه الشيخُ: «بل اليومَ يضطهدُ أكثرَ لأنَّ زمانَه قد قرب، فهو لذلك قلقٌ». ومرةً زاره أنبا أدلفيوس أسقف نيلوبوليس في جبلِ أنطونيوس، ولما عزم على الانصراف جعله يتغذى باكراً قبل انصرافِه وكان صومٌ، فلما وُضعت المائدةُ، إذا قومٌ يقرعون البابَ، فقال لتلميذِه: «قدِّم لهم قليلاً من الطبيخِ». فقال الأسقفُ: «دعهم الآن لئلا يقولوا إن أنبا سيصوي يأكل باكراً». فتأمله الشيخُ وقال للأخ: «امضِ أعطِهم». فلما أبصروا الطبيخَ، قالوا للأخِ: «يا تُرى هل عندكم ضيوفٌ والشيخُ يأكل معهم»؟ قال: «نعم». فحزنوا قائلين: «لماذا تركتم الشيخَ يأكل في مثلِ هذا الوقتِ؟ أما تعملون أن الشيخَ يُعذِّب ذاتَه أياماً كثيرةً، بسببِ هذه الأكلةِ»؟ فلما سمع الأسقفُ هذا الكلامَ، صنع مطانيةً قائلاً: «اغفر لي يا أبي لأني تفكرتُ فكراً بشرياً، أما أنت فقد صنعتَ أوامرَ اللهِ». فقال الشيخُ: «إن لم يمجد اللهُ الإنسانَ، فمجدُ الناسِ ليس شيئاً». وحدث مرةً أيضاً أن زاره أنبا قاسيانوس، والقديس جرمانوس، شيخان من فلسطين، فاحتفل بضيافتِهم. فسألوه لأيِّ سببٍ لا تحفظوا رسومَ صومِكم في وقتِ ضيافتِكم الإخوةِ الغرباءِ على ما قد عرفناه في بلدنا فلسطين؟ فأجابهم قائلاً: «إن الصومَ معي دائماً، وأما أنت فلستَ معي دائماً، والصومُ شيءٌ نافعٌ لازمٌ، وهو من نيتنا ومن إرادتنا، وأما إكمالُ المحبةِ فيطالبنا به ناموسُ اللهِ بلازم الاضطرار، فَبِكُم أَقبلُ المسيحَ، ويوجب عليَّ ديناً لازماً بأن أخدمَه بكلِّ حرصٍ، فإذا شيعتُكم أمكنني استعادة صومي، وذلك أن أبناءَ العُرسِ لا يستطيعون أن يصوموا ما دام العريسُ معهم، فمتى رُفع الختن فحينئذ يصومون بسلطانٍ». وحدث مرةً أن سألَ أنبا يوسف الأب سيصوي قائلاً: «كم من الزمانِ يحتاجُ الإنسانُ لقطعِ الآلام»؟ أجابه الشيخُ: «في أيِّة ساعةٍ تتحرك الآلام، ففي الحالِ اقطعها». وأيضاً سأله أخٌ عن تدبيرٍ ما، فأجابه الشيخُ قائلاً: «إن دانيال النبي قال: خبزَ شهوةٍ ما أكلتُ». وسأله أخٌ آخر قائلاً: «إذا مشينا في طريقٍ، وضلَّ مهدينا فهل ينبغي أن ننبهَه»؟ فقال له الشيخُ: «لا». قال الأخ: «هل نتركه إذن يُضلُّنا»؟ فأجابه الشيخُ: «وماذا نعمل إذن، أنأخذ عصاً ونضربه؟ إني أعرفُ إخوةً كانوا سائرين بالليلِ، فضلَّ مرشدُهم وكانوا اثني عشر أخاً، وعلموا كلُّهم أنهم قد ضلوا، فجاهد كلُّ واحدٍ منهم ألا يتكلم، فلما أضاء النهارُ، علم مرشدُهم بأنه قد ضلَّ الطريقَ، فقال: اغفروا لي قد ضللتُ الطريقَ. فقالوا له كلُّهم: لقد علمنا، ولكننا سكتنا. فلما سمع ذلك تعجَّب، وقال: إن إخوتنا تمسَّكوا حتى الموتِ على ألا يتكلموا، وسبَّح اللهَ. وقد كانت مسافةُ الطريقِ التي مشوها اثني عشرَ ميلاً». أنبا سيصويص الصعيدي: قيل عنه إنه كان ساكناً في غَيْضَةٍ، وشيخٌ آخر كان مريضاً في السيق، فلما سمع حزن، لأنه كان يصوم يومين يومين، وكان ذلك اليوم من الأيامِ التي لا يأكل فيها. فقال: «ماذا أصنعُ؟ إن مضيْتُ ربما ألزمني الإخوةُ بأن آكلَ، وإن صبرتُ إلى الغدِ، فربما يتنيح الشيخُ، لكني هكذا أصنعُ، أمضي ولا آكل». وفعلاً مضى وأتمَّ وصيةَ اللهِ، ولم يحل قانونَه. وقد أَخبر عنه أيضاً بعضُ الآباءِ، إنه أراد وقتاً ما أن يغلبَ النومَ، فعلَّق ذاتَه في صخرةٍ، فجاء ملاكُ اللهِ وأوصاه ألا يصنعَ مثل هذا، ولا يجعل ذلك عادةً لآخرين. وكذلك سأله أخٌ قائلاً: «إذا كنتُ جالساً في البريةِ وأَقدَمَ بربريٌ وأراد قتلي، وقويتُ عليه، أفأقتله»؟ فأجابه الشيخُ: «لا، لكن سلِّم الأمرَ للهِ، لأن أيَّ محنةٍ تأتي على الإنسانِ، فليس له إلا أن يقولَ إنها من أجلِ خطاياي». وسأله أخٌ آخر قائلاً: «قل لي كلمةً». فقال: «أيُّ شيءٍ لي لأقولُه لك؟ إني أقرأُ في العتيقةِ ثم أرجع إلى الحديثةِ». وقال أيضاً: «صِرّ مهاناً واطرح مشيئتك وراءك، وصِرّ بلا همٍّ تجدُ نياحاً». كذلك سأله آخر قائلاً: «قل لي كلمةً». فأجابه: «لماذا تطلب كلاماً؟ اصنع مثلما ترى». اعتلَََّّّ أنبا سيصويص وكان الآباءُ جلوساً حوله، فسمعوه يخاطب قوماً، فقالوا له: «ماذا تعاين أيها الأب»؟ فقال: «ها أنذا أعاينُ قوماً قد جاءوا لأخذِ نفسي، وأنا أتضرعُ إليهم أن يُمهلوني قليلاً حتى أتوبَ». فقال له أحدُ الشيوخِ: «وإن هم أمهلوك، هل تقدر الآن أن تنجحَ في التوبةِ وأنت في هذا السنِّ»؟ فقال: «وإن كنتُ لا أقدرُ أن أعملَ عملاً فإني أتنهدُ وأبكي». فقال له الشيوخُ: «إن توبتَك قد كملت أيها الأب». فقال لهم: «صدقوني إني لستُ أعرفُ من ذاتي إذا كنتُ بدأتُ إلى الآن»؟ ولما قال هذا، أشرق وجهُه كالشمسِ، ففزع الذين كانوا حولَه. فقال: «انظروا، إن الربَّ قال: ائتوني بتائبِ البريةِ». ولوقته أسلم الروحَ وامتلأ المنزلُ من رائحةٍ ذكيةٍ. الأبَ سلوانس: حدث مرةً أن أضافه إخوةٌ بديرٍ ومعه تلميذه زكريا، وجعلوهما يتغذيان قبل انصرافهما. وفي ذهابهما عطش التلميذُ، فلما وجد في الطريقِ ماءً ليشربَ، منعه الشيخُ قائلاً: «لم يأتِ وقتُ الإفطارِ بعد». فقال له التلميذُ: «ألم نأكل قبل انصرافنا يا أبي»؟ فقال له الشيخُ: «إنه لأجلِ المحبةِ أكلنا، والآن لا نحلُّ قانونَنا». وكان هذا الأبُ جالساً مرةً مع إخوةٍ، وفجأةً أُخذ مبهوتاً وسقط على وجههِ، ومن بعد حينٍ قام باكياً، فقال له الإخوةُ: «ما الذي أبكاك يا أبانا»؟ فسكت باكياً، فلما أكرهوه على الكلامِ قال: «إني اختُطفتُ إلى موضعِ الدينونةِ، ورأيتُ كثيرين من جنسنا يُساقون إلى العذابِ، وكثيرين من العلمانيين منطلقين إلى الملكوتِ». وناح الشيخُ ولم يشأ أن يخرجَ من القلايةِ، وإذا أُكره على الخروجِ، فإنه كان يستر وجههَ ببُرنس قائلاً: «لماذا أرى هذا الضوءَ»؟ ولما كان الأب سلوانس بطور سينا، أرسل تلميذَه في خدمةٍ وقال الشيخُ في نفسِه: «أقومُ الآن وأسقي البستان». فخرج وكان وجهُه مُغطى، وما كان ينظر سوى أثرِ قدميه فقط، وفي ذلك الوقتِ أتى إليه أخٌ، زائراً له، وكان يتأمل ماذا يصنع، في حين أن الشيخَ لم يكن يبصره. فلما جاء إليه الأخُ، قال له: «لماذا غطيتَ وجهَك يا أبي، وأنت تسقي البستانَ»؟ فقال له: «قلتُ لئلا تبصرَ عيني الشجرَ، فينشغل عقلي عن شغلِه». كذلك سأله الإخوةُ عند موتِه قائلين: «أيَّة سيرةٍ صنعتَها أيها الأب، حتى اقتنيتَ هذا الحكمَ»؟ فأجاب: «لم أترك قط في قلبي ذِكراً يُسخط الله». الأب سيمون: في بعضِ الأوقاتِ، سَمع عنه أرخنٌ، فقَدُم ليبصرَه، فلما سمع به الشيخُ، تناول سلبةً ومضى إلى نخلةٍ ليسقيها. فلما جاءوا صاحوا بالشيخِ: «أين المتوحد»؟ فأجابهم: «المتوحد انصرف من ههنا». فلما سمعوا انصرفوا. وحدث مرةً أن أتى إليه إنسانٌ رئيسٌ لينظرَه، فسبق إليه قومٌ من أصحابِ الكنيسةِ وأخبروه قائلين: «استعد فإن فلان الأرخن قد سمع بك، وها هو حاضرٌ لينظرَك ويتبارك منك». فأجابهم الشيخُ قائلاً: «نعم، إني سأهيئ نفسي جيداً». فقام ولبس المرقَّعةَ التي له، وأخذ خبزاً وجبناً، وركب الحائطَ مفروق الرجلين كما يُركب الحصانُ، وجعل يأكل ويهز رجليه. فلما قَدُمَ الأرخن مع حشمهِ، وأبصره هكذا، شتمه قائلاً: «أهذا هو المتوحد الذي سمعنا عنه؟ ليس ههنا متوحد». وهذا هو نفس الكلام الذي توقع أن يسمعه الشيخُ. |
|||
16 - 09 - 2013, 01:40 PM | رقم المشاركة : ( 4 ) | |||
..::| مشرفة |::..
|
رد: من تعاليم القديس برصنوفيوس
كما أخبروا أيضاً عن الشيخِ أنه كان جالساً وحدَه، وكان إنسانٌ علماني يخدمه دهره كله، وحدث أن مَرِضَ ابنُ ذلك العلماني، فطلب إلى الشيخِ قائلاً: «ادخل وصلِّ على ابني». فلما أكثر عليه الطلبَ، خرج الشيخُ وذهب معه، فتقدمه الرجلُ ودخل قبله القريةَ وقال لأهلِ القريةِ: «اخرجوا للقاء القديسِ فقد جاء». فلما رآهم الشيخُ من بعيدٍ مقبلين نحوه بالشموعِ والقراءةِ، نزع لوقتهِ ثيابَه وألقاها في النهرِ ووقف عرياناً يغسلها برجليه. فلما رآه ذلك الإنسانُ الذي كان يخدمه هكذا، حزن ورجع يطلبُ إلى أهلِ القريةِ قائلاً لهم: «يا إخوةُ، ارجعوا إلى بيوتِكم، لأن الشيخَ قد تاه ولا يدري ما هو فيه». فلما رجع الناسُ إلى بلدتهم، تقدم الرجلُ إليه وقال له: «يا أبي، ما هذا الذي فعلتَه؟ لأن الناسَ قالوا إن ذلك الشيخَ مجنونٌ لا يدري ما هو فيه». فقال له الشيخ: «هذا ما أردتُ أن أسمعه».
الأم سارة: قيل عن الأم سارة إنها مكثت ثلاث عشرة سنة وهي مقاتَلة قتالاً شديداً من شيطانِ الزنى، وكان يصنع لها مغريات العالم، ولم تكن تحيد قط عن مخافةِ الله والنسكِ. فصعدت مرةً إلى السطحِ لتصلي، فرأت روحَ الزنى متجسِّماً وقال: «لقد غلبتِني يا سارة». فأجابته: «إني لم أغلبك، ولكن سيدي يسوع المسيح». فانصرف عنها القتالُ من ذلك الوقتِ. وقيل أيضاً عن هذه القديسةِ، إنها كانت ساكنةً فوق النهرِ ستين سنةً لم تطلع البتة لتنظرَه. وقد قالت أيضاً: «إنني أضعُ رجلي على السُّلَّمِ لأصعدَ فأتصوَّر الموتَ قدامي قبل أن أنقلَ الرِجل الثانيةَ». زار مرةً رهبانٌ من الإسقيط الأم سارة، فقدمت لهم طعاماً، فتركوا الجيدَ وأكلوا من الدونِ. فقالت: «بالحقيقةِ إنكم إسقيطيون». وقالت: «جيدٌ هو أن يصنعَ الإنسانُ رحمةً ولو من أجلِ الناسِ، فيأتي فيما بعد إلى أن يرضي الله». القديسةُ سينكليتيكي: قالت: «إن كثيرين يسكنون الجبالَ، ويعملونَ عملَ أشرارِ الناسِ ويُهلكون أنفسَهم». وقالت أيضاً: «قد يمكن أن يكونَ الإنسانُ مع كثيرين وهو منفردٌ بالضميرِ والهمةِ والنيةِ، وقد يكون الإنسانُ وحدَه وهو متصرِّفٌ بالذهنِ مع الكثيرين». كما قالت: «جهادٌ عظيمٌ وتعبٌ يَلقاه المتقدمون إلى اللهِ في البدايةِ، وبعد ذلك فرحٌ لا يُلفظُ به، كمثلِ الذين يلتمسون أن يوقدوا ناراً، ففي أولها تُدخِّن فتدمع عيونُهم، وفيما بعد ينالون المطلوبَ، ولأنه قد قيل إن إلهَنا نارٌ آكلةٌ، فلنسكب دهنَ العبراتِ لتشتعل النارُ الإلهية داخلنا». وقالت كذلك: «كما أنَّ الوحوشَ النافثةَ للسُّمِ يطردها حادُّ الأدويةِ، هكذا الأفكارُ الخبيثةُ يطردها الصومُ مع الصلاةِ». وقالت أيضاً: «لا يخدعنَّك تَنعُّم العلمانيين الأغنياء، كأن فيه شيئاً نافعاً من أجلِ اللّذةِ، لأن أولئك يُكرِّمون صناعة الطباخين لا غير، فجُز أنت بالصومِ فوق التلذذ بالأطعمةِ، لأنه قد قيل: إن نفساً مترفهةً، إذا انتُهرت من أربابها ألاَّ تشبع خبزاً، فلن تطلب خمراً». وسُئلت هذه المغبوطة مرةً إن كان عدم القنية صلاحاً كاملاً، فأجابت بأن ذلك هو حدُّ الصلاحِ لمن أمكنهم ذلك، لأن الذين يصبرون على عدم القنية يكون لهم حزنٌ بالجسمِ، ونياحٌ بالروحِ، وهدوءٌ في أنفسِهم، كمثلِ الثيابِ الجلدِ التي تُداس بشدةٍ وتُقلَّب وتُغسل فتنظَّف، هكذا أيضاً النفسُ الشديدةُ بالفقر، فإنها تتشدد وتنظف. وقالت أيضاً: «إذا كنتَ في ديرٍ فلا تستبدله بآخر غيرهِ، ولا آخر بآخر لئلا تستكمل زمانَك بدونِ ثمرةٍ، مثل الطائر الذي يقوم عن البيضِ فيفسد ويصير عديمَ التوليد. كذلك الراهب الكثير التنقل، تبرد حرارةُ الرهبنةِ وتموت من قلبهِ». وقالت كذلك: إنَّ حيلَ المحتالِ كثيرةٌ، فإذا لم يذلِّل النفسَ بالفقرِ، فإنه يقدم لها الخديعةَ بالغنى، وإذا لم يقدر على إضرارها بالشتائمِ والتعييرات، فإنه يقدم لها المديحَ والسُبحَ الباطلَ، وإن لم يغلب بالصحةِ، فإنه يجلب على الجسمِ أمراضاً، وإن لم يقدر أن يَخدعَ بالَّلذاتِ، فإنه يجرب أن يُحزن بالأوجاعِ، فإن كنتَ خاطئاً وحلَّ بك هذا، فتذكَّر العذابَ العتيدَ، والنارَ الدائمةَ، فلا تملّ من الحاضرات، بل افرح بالحري إذا افتقدك الله، وليكن على لسانِك أبداً الفصلَ القائلَ: «أدباً أدبني الربُّ، وإلى الموتِ لم يسلِّمني». وإن كنتَ باراً، فاشكر الله واذكر المكتوبَ: «إننا بتألمنا معه نتمجد أيضاً معه». وقالت: «إذا صمتَ فلا تحتج بمرضٍ، لأن الذين يصومون قد يسقطون في مثلِ هذه الأمراضِ، وإذا بدأت بالخيرِ فلا تتعوَّق بقطعِ الشيطانِ إياك، فإنه سيَبْطل بصبرِك». وقالت أيضاً: «إذا أخطأنا إلى ملوكِ العالمِ، ألسنا بغير إرادتنا نُلقى في السجونِ ونُعاقَب؟ فسبيلُنا من أجلِ خطايانا أن نحبسَ أنفسَنا، ونعاقبها بالأتعابِ، لكي نطردَ الذِكرَ الطوعي بالعذابِ العتيدِ». كما قالت: «كما أن الكنزَ إذا ظهر سُلب، كذلك الفضيلةَ إذا اشتهرت وعُرفت تضمحل، وكما ينحلُّ الشمعُ قدامَ النارِ كذلك نفسُ الإنسانِ قدام المديح تنحلُّ قوتُها». وقالت: «كما أنه من غير الممكنِ أن يُصلَح مركبٌ بغير مسامير، كذلك لا يمكن أن يوجد خلاصٌ بغير تواضعٍ». وقالت أيضاً: «إذا كنا في الكنوبيون فإننا نختارُ الطاعةَ على النسكِ، لأن ذلك يُعلِّم التعاظمَ، وتلك تُعلِّم التواضع، فيجب علينا ألا نطلبَ ما هو لنا ولا نتعبد لمشيئتنا الخاصةِ، بل علينا أن نطيعَ ما يأمرنا به الأب الذي بالأمانةِ نستودعه سِرَّنا فيما يأمرنا». وقالت أيضاً: «إن الذين يجمعون غنى العالم من العناءِ في البحارِ والأسفارِ الشديدةِ، فكلما ربحوا وجمعوا، ازدادوا في ذلك اشتغالاً، وما في أيديهم فلا يلتفتون إليه، وما ليس في أيديهم من الغنى، فإنهم يشتهونه، ويطلبونه، ويحرصون على جَمعهِ، وأما نحن فقد صرنا في سيرتنا الرهبانيةِ بخلافِ ذلك، لأن الأمرَ الذي خرجنا لنطلُبَه وليس في أيدينا شيءٌ منه، لا نريد أن نقتنيه من أجلِ خوفِ الله». وقالت كذلك: «إن الحزنَ على وجهين: فالوجهُ الأول منه نافعٌ جداً، وأما الآخر فهو مُهلكٌ، فعلامات الحزنِ الروحي هي أن يذكرَ الإنسانُ خطاياه فيحزن عليها، وأن يحزنَ أيضاً لخسارةِ أخيه، وأن يحزن كذلك إذا فاته ممارسة ما قد نوى فعله من عمل الخيرِ. أما خصال أحزان العدو التي تُهلك، فهي أن يأتي على الإنسانِ منه حزنٌ بهيمي، وهو ذاك الذي يسميه بعضُ الناسِ ضجراً، إذ يأتي منه قطعُ الرجاءِ واليأس. من أجلِ ذلك ينبغي لنا أن نطردَ هذا الحزنَ عنا بالصلاةِ والترتيل وبحسنِ الرجاءِ باللهِ». الأب تيثوي: قيل عنه إنه كان يبسطُ يديه بسرعةٍ عند الصلاةِ، فكان عقلُه يُخطف إلى فوق، فإذا اتفق أن صلَّى معه أخوه، فإنه كان يحرص على ألا يرفعَ يديه لئلا يُخطف عقلُه. وحدث مرةً أن سأله أخٌ قائلاً: «كيف أحفظُ قلبي»؟ فقال له: «إنه لا يمكنك أن تحفظَ قلبَك، ما دام فمُك وبطنُك مفتوحين». الأب إيراسيس قال: «كما أن الأسدَ مرهوبٌ لدى الحميرِ الوحشيةِ، هكذا الراهبُ المهذَّبُ مرهوبٌ لدى أفكارِ الشهوةِ». كما قال: «من لا يقدر أن يضبطَ لسانَه وقتَ الغضبِ، فلن يقدرَ أن يغلبَ حتى ولا صغيرةً من صغارِ الآلامِ». وقال أيضاً: «إنه جيدٌ أن يأكلَ الإنسانُ لحماً ويشربَ خمراً، ولا يأكلَ لحومَ الإخوةِ ويشربَ دماءَهم بالوقيعةِ فيهم». وقال كذلك: «كما أنَّ الحيةَ لما ساررت حواءَ أخرجتها من الجنةِ، كذلك بها يتشبَّه ذاك الذي يقعُ بقريبهِ، في أنه يُهلكَ نفسَ سامعيه، ونفسُه كذلك لن تفلتَ، كما لم تفلت الحيةُ من اللعنةِ». كذلك قال: «إن الطاعةَ فخرُ الراهبِ، فمن اقتناها يسمعُ اللهُ صوتَه، ويقفُ أمامَ المصلوبِ ربِّ المجدِ بدالةٍ، لأن إلهَنا من أجلِ طاعتهِ لأبيه صُلب عنا». الأب فيليكا: زاره إخوةٌ ومعهم علمانيون، وطلبوا إليه أن يقولَ لهم كلمةً، أما الشيخُ فبقي صامتاً. فلما طلبوا إليه كثيراً قال لهم: «هل تبتغون أن تسمعوا للكلمةِ»؟ فأجابوه: «نعم أيها الأب». فقال لهم: «لما كان الإخوةُ يسألون المشايخَ ويصنعون ما يقال لهم، فإن اللهَ كان يُلهم الآباءَ بما يقولونه، وأما الآن فإنهم يسألون ولا يفعلون بما يقال لهم، لذلك رفع اللهُ موهبةَ الكلامِ عن الشيوخِ، إذ لا يجدون ما ينطقون به، لأنه لا يوجد من يعمل، لأن المزمورَ يقول: إن الربَّ اطَّلعَ من السماءِ على بني البشر فلم يجد من يفهم». فلما سمع الإخوةُ هذا الكلامَ تنهدوا قائلين: «صلِّ علينا أيها الأب». مضى شيخٌ من المشايخِ إلى مدينةِ الحكماءِ التي يُقال لها أثناس (أي أثينا)، حيث مكث ثلاثةَ أيامٍ لم يناوله أحدٌ فيها طعاماً، ولم يكن له شيءٌ سوى السبانية التي هو ملتفٌ بها، وفي اليومِ الرابع اشتدَّ عليه الجوعُ، فقام وجاء بقربِ الموضعِ الذي يجتمعُ فيه الحكماءُ، وهناك أخذ يصيحُ ويصفقُ بيديه ويقول: «ويلي، يا رجال أثناس أغيثوني». فاجتمع إليه الحكماءُ وعليهم أزرٌ مُذهبةٌ، فقالوا له:«ما شأنُك، ومن أين أنت»؟ فقال لهم: «أنا إنسانٌ راهبٌ، ومنذ خرجتُ من وطني وقعتُ في أيدي ثلاثةِ غرماء، اثنان منهم قد وفَّيتُهما حقَّهما فانصرفا، أما الثالث فإنه لا يفارقني مطالِباً بحقِه، وليس لي ما أوفيه». قالوا له: «ومن هم أولئك الغرماءُ لنعرفَهم، وأين الذي يؤذيك»؟ فقال لهم: «آذاني حبُّ المالِ والزنى والحنجرةُ، فاسترحتُ من اثنين وهما حبُّ المالِ والزنى، لأني لا أمتلكُ من الدنيا شيئاً، ولا أتعلق بحبِّ إنسانٍ ما، وأما الحنجرةُ فلا أستطيعُ أن أستريحَ منها، ولي اليومَ أربعةُ أيامٍ لم أذق فيها طعاماً، وها بطني مثلُ غريمِ سوءٍ يطالبني مريداً أن يأخذَ مالَه، وإن لم أعطِه، فإنه لا يدعني أعيش». فظن بعضُ الحكماءِ أنه يمزح، فأعطوه ديناراً، فلما أخذه ذهب إلى بائعِ الخبزِ وأعطاه له، وأخذ خبزةً واحدةً وانصرفَ بسرعةٍ إلى خارجِ المدينةِ، فعلم الحكماءُ إنه بالحقِ ذو حسناتٍ، فأعطوا الرجلَ ثمن خبزتِه، واستردوا الدينارَ. الأب خوما: لما دنت وفاتُه، قال لتلاميذِه: «لا تكن لكم خلطةٌ مع هيراطيقي، ولا معرفةٌ برئيسٍ، ولا تكن أياديكم مبسوطةً للأخذِ، بل بالحري للعطاءِ». قال شيخٌ: «إن أعرفُ إنساناً من أهل القلالي، هذا قد صام جمعةَ الفصحِ كلَّها، فلما كان وقتُ الاجتماعِ في عشيةِ السبتِ، لم يحضر مع الإخوةِ، لئلا يأكلَ شيئاً مما يوضع على المائدةِ، بل عمل في قلايتهِ يسيراً من السلقِ، وأكله بغيرِ زيتٍ». قيل عن أنبا أور وأنبا تادرس إنهما كانا يطليان قلايةً بالطينِ، فقال أحدُهما للآخرِ: «لو افتقدَنا الربُّ في هذه الساعةِ فماذا نصنعُ»؟ فبكيا وتركا الطينَ، وانصرف كلُّ واحدٍ منهما إلى قلايتهِ. قيل عن أنبا أور إنه لم يكذب قط، ولم يحلف، ولم يلعن، ولا كان يتكلم إلا للضرورةِ، وكان يوصي تلميذَه قائلاً: «انظر يا ابني، لا تُدخل هذه القلايةَ كلمةً غريبةً». حدث مرةً أن مضى تلميذ أنبا أور ليبتاعَ خوصاً، فقال له البستانيُ: «إن أنساناً أعطانا عربوناً من ثمن الخوصِ، ولم يرجع إلى الآن، فادفع الثمنَ وخذه». فأخذه وجاء وأخبر الشيخَ بما قاله البستانيُ، فلما سمع الشيخُ بذلك، حط بيديه على الأرضِ وقال: «إن أور لن يعملَ في هذا العامِ عملاً». وفعلا لم يدع الخوص يدخل قلايتَه، فأخذه التلميذُ وردَّه إلى صاحبهِ. قال الأنبا أور: «إن وقع بينك وبين أخٍ حزنٌ، وجحد ما قاله فيك، فلا تلاججه، وإلا فمصيره أن يتوقَّح ويقول: نعم، أنا قلت». قال أحدُ الشيوخِ: «إنَّ لي أربعينَ سنةً أحسُّ بقتالِ الخطيةِ في قلبي، وما خضعتُ لها قط لا بشهوةٍ ولا بغضبٍ». قيل عن أنبا قيسان: إنه ذهب إلى شيخٍ له أربعون سنةً في البريةِ، وسأله بدالةٍ: «ماذا قوَّمتَ أيها الأبُ في هذه الخلوةِ التي لا تكاد تلتقي فيها بإنسانٍ»؟ فأجابه قائلاً: «إني منذ أن ترهبتُ، لم تبصرني الشمسُ آكلاً». فقال له سائلُه: «ولا أبصرتني الشمسُ غاضباً قط». قال القديس لنجينوس: «الصومُ يوضعُ الجسمَ، والسهرُ يُطهِّر العقلَ، والسكوتُ يجلبُ البكاءَ، والبكاءُ يُعَمِّّد الإنسانَ ويجعله بغيرِ خطيةٍ». وقيل إنه كان لهذا الأبِ تخشعٌ كبيرٌ في صلاتِه وقراءتِه، فقال له تلميذُه مرةً: «هل هذا هو القانون الإلهي يا أبي، أن يبكيَ الإنسانُ في خدمتِه لله»؟ فأجابه: «نعم يا ولدي، هذا هو القانون، ليس لأن اللهَ قد صنعَ الإنسانَ للبكاءِ، بل للفرحِ والسرورِ، وليخدمَه بطهارةِ قلبٍ، وعدمِ خطيةٍ كالملائكةِ، فلما سقط الإنسانُ في الخطيةِ، احتاج إلى النوحِ والبكاءِ، وحيث لا توجد خطيةٌ، فليست هناك حاجةٌ إلى البكاءِ». سأل أخٌ أنبا تادرس قائلاً: «إني أريدُ أن أُتَمِّمَ الوصايا». فقال له الشيخُ: «حَدث أن كان البابا ثاؤفيلس البطريرك في البريةِ، فقال: إني أريدُ أن أُكمِّلَ فكري مع اللهِ. فأخذ دقيقاً وصنعه خبزاً، فأتاه مساكين يطلبون شيئاً، فأعطاهم الخبزَ، ثم طلب منه آخرون فأعطاهم الزنابيل، وطلب منه غيرهم، فأعطاهم الثوبَ الذين كان يلبسه، ودخل القلايةَ ملفوفاً في وزرةٍ، ومع كلِّ ذلك فإنه كان يلومُ ذاتَه قائلاً: إني ما أتممتُ وصيةَ اللهِ». ومرةً توجَّه البابا ثاؤفيلس إلى الإسقيط، فاجتمع الإخوةُ وقالوا لأنبا بفنوتيوس: «قل للبابا كلمةً واحدةً لكي ينتفعَ». فقال لهم الشيخُ: «إن لم ينتفع بسكوتي، فحتى ولا بكلمتي ينتفعُ». فسمع البطريركُ ذلك وانتفع جداً. قال أنبا بيمين عن أنبا يوحنا القصير: «إنه طلب إلى اللهِ فرفع عنه الآلامَ وصار بلا همٍّ. فلما توجَّه إلى الشيخِ قال له: ها أنا تراني يا أبي مستريحاً، وليست لي أشياءٌ تقاتلني بالجملةِ. فقال له الشيخُ: امضِ اسأل اللهَ أن يُرجِع إليك القتالَ، لأنه بالقتالِ تنجحُ النفسُ وتفوزُ. فلما جاءه القتالُ، لم يصلِّ كي يرتفعَ عنه، بل كان يقول: أعطني يا ربُّ صبراً على الاحتمالِ». سأل أخٌ شيخاً قائلاً: «يا أبي، كيف يأتي الإنسانُ إلى الاتضاعِ»؟ فأجابه الشيخُ: «ذلك بأن تكون فيه مخافةُ اللهِ». فقال الأخُ: «وبأيِّ شيءٍ تأتي مخافةُ اللهِ»؟ قال الشيخُ: «بأن يجمعَ الإنسانُ ذاتَه من كلِّ الناسِ، ويبذلَ جسمَه للتعبِ الجسدي بكلِّ قوتِه، ويذكرَ خروجَه من الجسدِ ودينونةَ اللهِ له». قيل: التقى الشيطانُ مرةً بالأب مقاريوس، وهو حاملٌ خوصاً، وقال: «ويلاه منك يا مقاريوس، هو ذا ما تصنعَه أنت أصنعه أنا كذلك، أنت تصومُ وأنا لا آكلُ، أنت تسهرُ وأنا لا أنامُ، ولكن بشيءٍ واحدٍ تغلبني». فقال له الشيخُ: «وما هو»؟ فأجابه الشيطانُ: «إنك بالاتضاعِ وحده تقهرني». سأل أنبا إشعياء الأنبا مقاريوس قائلاً: «قل لي كلمةً». فأجابه الشيخُ: «اهرب من الناسِ». فقال أنبا إشعياء: «وما هو الهروبُ من الناس»؟ فأجابه الشيخُ: «هو جلوسك في قلايتك وبكاؤك على خطاياك». ومرةً طلب منه أخٌ أن يقولَ له كلمةً، فقال له: «لا تصنع بأحدٍ شراً، ولا تدن أحداً، احفظ هذين وأنت تخلص». قيل عن القديس مقاريوس إنه صار كملاكٍ أرضي، فكما أنَّ اللهَ يستُرُ زلاتِ العالمِ، كذلك كان مقاريوس يسترُ النقائصَ التي يراها. قال الأب مقاريوس: «إن نحن ذَكرنا السيئاتِ التي تحلُّ بنا من الناسِ، فإننا نقطع قوةَ ذِكرِ اللهِ من قلوبنا، وإن نحن ذكرنا شرورَ الشياطين نبقى غيرَ مجروحين». قالت الأمُ سارة: «إن أنا طلبتُ أن أصنعَ إرادةَ كلِّ الناسِ، فإني سوف أوجد تائهةً على بابِ كلِّ أحدٍ، فينبغي لي أن أحفظَ قلبي نقياً مع كلِّ أحدٍ، وأنا مبتعدةٌ عن كلِّ أحدٍ». أخبروا عن شيخٍ أنه كان جالساً في قلايته، فأتاه أحدُ الإخوةِ في الليلِ، وأراد الدخولَ إليه، فلما بلغ البابَ سمع صوتَه من داخلٍ وهو يقول: «يكفي، يكفي، حتى متى؟ اذهبوا الآن من قدامي». ثم سمعه يقول: «تعالَ تعالَ يا صديقي». فلما دخل إليه قال: «لمن كنتَ تتكلم يا أبي»؟ قال له: «لحسياتي الرديئة كنتُ أطردُ، وللصالحاتِ كنتُ أدعو». حدَّث شيخٌ قائلاً: إني خرجتُ دفعةً من قلايتي وجُزتُ بقلايةِ شيخٍ قديسٍ، فسمعتُه وأنا خارجها يخاصمُ خصومةً شديدةً، ويقول: «حتى متى؟ كيف من أجلِ كلمةٍ واحدةٍ ذهب كلُّ هذا»؟ فلما سمعتُ صوتَ الخصومةِ، ظننتُ أن عندَه إنساناً يشاحنه، فقرعتُ البابَ لأصلحَ بينهم، ولما دخلتُ لم أجد أحداً سوى الشيخِ وحده، فسألتُه بانبساطٍ وقلتُ له: «يا أبي، مع من كنتَ تتخاصم»؟ فقال لي: «كنتُ أخاصمُ فكري، لأني قد استظهرتُ أربعةَ عشرَ مصحفاً (أي حفظتُها عن ظهرِ قلبٍ)، وسمعتُ خارجاً كلمةً واحدةً قبيحةً، فلما بدأتُ أصلي، جاءت تلك الكلمةُ، ووقفتْ قدامي، وأبطلتْ تلك المصاحفَ كلَّها، فمن أجلِ ذلك كنتُ أخاصمُ فكري». قال شيخٌ: «إذا أنتَ غطَّيتَ عيني الدابةِ، دارت الرحى، وإذا لم تغطِ، لا تدور، كذلك الشيطانُ، إذا تُرِكَ ليغطي عيني الإنسانِ، فهو يَضَعُهُ في كلِّ خطيةٍ، وما دامت عينا عقلِ الإنسانِ مكشوفتين، فإنه يهربُ من كلِّ عثراتِ الشياطين». قال شيخٌ: «إذا قمتَ باكرَ كلَّ يومٍ، أمسك لك أمراً يَجلِبُ الصلاحَ، واحفظ وصايا اللهِ بطولِ روحٍ، بمخافةِ اللهِ، بالصبرِ على الأحزانِ، وبالحبسِ وبالصلواتِ، بالتنهدِ، بضبطِ اللسانِ، بحفظِ العينينِ، بقلةِ الغضبِ، وألا تحسبَ نفسَك شيئاً، بل تجعل فكرَك تحتَ كلِّ الخليقةِ، بجهادِ الصليبِ، بالتوبةِ والبكاءِ، بسهرِ الليالي، بصبرٍ صالحٍ، بالجوعِ والعطشِ، وذلك لتستحقَ الدعوةَ السمائيةَ، بنعمةِ ربنا يسوعَ المسيحِ له المجد». قيل عن أنبا قاسيانوس: إنه أخذ مرةً تليساً، ومضى إلى الأندر مع الحصَّادين، وقال لصاحبِ الأندر: «أعطني قمحاً». فقال له: «لماذا لم تأتِ لتحصدَ، فكنتَ تستحقَ أن تأخذَ». فقال له الشيخُ: «هل إذا لم يحصد الإنسانُ لا يأخذ أجرةً»؟ قال: «لا يأخذ». فما كان من الشيخِ إلا أن انصرف، فقال له الإخوةُ الذين عاينوا ما حدث: «لماذا فعلتَ هكذا يا أبانا»؟ فقال لهم: «سُنَّةً صنعتُها لنفسي وهي: إن لم يعمل الإنسانُ ويتعب، فلن يأخذَ أجرَه من اللهِ». كان لراهبٍ ثوبٌ جيدٌ، فتصدَّقَ به على مسكينٍ، وبعد يومٍ مرَّ الراهبُ بالمدينةِ، فأبصرَ ثوبَه على زانيةٍ، فحزِنَ جداً، فتراءى له ملاكُ الربِّ وقال له: «لا تحزن لأجلِ أنَّ ثوبَك لَبستْهُ زانيةٌ، لأنك ساعةَ دَفعتَهُ لذلك المسكينِ لبسه المسيحُ، وإن كان ذاك قد أعطاه لزانيةٍ، فهو يحملُ إثمَه على نفسِه». قال أنبا قاسيانوس: إنَّ أنبا موسى أوصانا بألا نكتمَ أفكارَنا بل نكشفُها لمشايخ روحانيين لهم معرفةٌ وتمييزٌ، وليس لمن طالَ عمرُه، وشابَ شعرُه، لأن كثيرين قصدوا أهلَ كبرِ السنِ، وكشفوا لهم عن أفكارِهم، وحيث أنه لم يكن عندهم معرفةٌ، فعِوضَ العلاجِ طرحوهم في اليأسِ، وهذا ما حدث لأخٍ من البارزين في الجهادِ، إذ أنَّه لما تأذَّى بالزنى نتيجة كثرةِ القتالِ الواقع عليه، ذهب إلى أحدِ المشايخ، وكشف له عن أفكارِه، وكان الشيخُ عادمَ المعرفةِ، فتضجَّرَ منه وقال: «أيها الشقي، إذ قد توسختْ حواسُك بهذه الأفكارِ، على أيِّ شيءٍ تتَّكل»؟ فلما سمع الأخُ قولَه، حزن جداً ويئس من خلاصِه، وترك قلايته، ومضى قاصداً العالمَ، ولكن حدث بتدبيرٍ من اللهِ أن التقى به شيخٌ آخر، فلما رآه عابساً مضطرباً سأله عن حالهِ قائلاً: «ماذا بك يا ولدي»؟ فقال له الأخُ: «يا أبي إني تأذَّيتُ بأفكارِ الزنى، فمضيتُ إلى الشيخِ فلان، وكشفتُ له أمري، فبحسب جوابهِ لي، ليس لي رجاءٌ في الخلاصِ». فلما سمع الشيخُ قولَه، أخذ في تسكينِ روحِه، وابتدأ يتملَّقه قائلاً: «لا يغمك هذا الكلام ولا تيئس نفسُك من الخلاصِ، فها أنا بالرغمِ مما بلغتُه من هذا السنِّ وهذه الشيبةِ، فكثيراً ما أتأذى بهذه الأفكارِ، فلا تحزن من هذا الاشتغال الذي لا يبلغ جهادُنا فيه مقدارَ ما يأتينا من رحمةِ الله ومعونتِه، لكن هَبْ لي يومَك هذا وارجع إلى قلايتك». فأطاع الأخُ كلامَ الشيخِ ورجع معه إلى قلايتِه. أما الشيخُ الذي ردَّه إلى قلايتِه، فإنه أتى إلى قلايةِ ذلك الشيخِ الذي يأَّسه ووقف خارجها وسأل اللهَ بدموعٍ كثيرةٍ قائلاً: «أنا أطلبُ إليك يا ربي وإلهي أن تصرفَ هذا القتالَ عن هذا الأخِ، وتسلِّطه على هذا الشيخِ الذي يأَّسه، وذلك ليجربَ في شيخوختِه ويتعلمَ في كبرِ سنِّهِ ما لم يتعلمه في طولِ زمانهِ، ليشعر بأوجاعِ المجاهدين المقاتَلين فيتوجَّع لوجعِهم، وبذلك يحصلُ على منفعةِ نفسِه». فلما أتم الشيخُ صلاتَه، نظر رجلاً أَسودَ واقفاً بقرب قلايةِ الشيخِ وهو يصوِّب نحوه سهاماً ويجرحه، وإذا بالشيخ يقومُ لساعتهِ سكراناً، ويخرج من قلايته، فيسلك الطريقَ التي سلكها الشابُ الذي يأَّسه، مريداً أن يعودَ إلى العالمِ. فلما علم الشيخُ بما عزم عليه ذلك الشيخُ، استقبله وقال له: «إلى أين أنت ذاهبٌ أيها الأبُ، وما سبب هذا الاضطراب الذي اضطرَّك للخروجِ من قلايتِك»؟ أمَّا هو فتوهَّمَ أن الشيخَ قد عرفَ بحالِه، ومن الخجلِ لم يَرُدَّ عليه جواباً. فقال له ذاك: «ارجع إلى قلايتِك، ومن الآن كن عارفاً بضعفِك، واعلم بأنك إلى هذه الغايةِ لم تُجرَّب بعد، إما لأن الشيطانَ كان غافلاً عنك، أو لاستهانتهِ بك لم يتجرد لقتالِك، ولذلك نجوتَ، وها قد ظهر الآن أنك غيرُ أهلٍ أن تُعدَّ من المجاهدين، لأنك لم تقدر أن تصارع يوماً واحداً، فما أصابك اليوم كان نتيجةً لتصرفِك مع ذلك الشابِ الذي أتاك، وقد آذاه عدوُنا كلِّنا، فبدلاً من أن تعينَه وتشجعَه، ألقيتَه في اليأسِ، ولم تفكر فيما قاله الكتابُ: خلِّصوا المَسوقين إلى الموتِ، شجِّعوا صغيري الأنفس. ولم تذكر أنه مكتوبٌ عن سيدِك: قصبةً مرضوضةً لم يكسر، وسراجاً خاملاً لم يُطفئ. فمن اليومِ واظب على الصلاةِ والدعاءِ، ليصرفَ اللهُ عنك هذه الضربةَ التي أصابتك، لأنه قال: أنا أضربُ وأنا أشفي، وأنا أُميتُ وأنا أُحيي، وهو الذي يُحدر إلى الجحيمِ ويُصعد». ولما قال القديسُ هذا، صلى إلى اللهِ فانصرف عن ذلك الشيخِ ما كان قد نزل به من القتالِ، ووعظه قائلا: «يجب أن تسألَ اللهَ في كلِّ وقتٍ أن يعطيك لسانَ أدبٍ لتعرفَ ماذا ينبغي أن تقولَه في وقتِه». سُئل أنبا يوحنا رئيس الكنوبيون عند نياحته:« قل لنا كلمةً يا أبانا». فقال: «إني لم أُكمِّلَ هوايَ قط، ولم أُعلِّم أحداً شيئاً لم يسبق لي عمله». قال شيخٌ: «من يغلبُ الأسدَ ليس بشجاعٍ، كذلك من يقتل اللبؤةَ ليس بجبارٍ، أما من يخرج من هذا العالمِ وهو نقي من عيبِ النساءِ فهذا هو الغالب». أخٌ أغضَبَه أخوه، ولما دخل قلايتَه، استحى أن يصليَ للهِ بسببِ الوجعِ المتقد في قلبهِ، ولكنه لما تطارح قدامَ اللهِ قائلاً: «يا سيدي، لقد غفرتُ لأخي من كلِّ قلبي». فللوقتِ جاءه صوتٌ يقول له: «قد أخذتَ شبهي، إذن فصلِّ لي بدالةٍ». قال شيخٌ: «إن من لا يقبل الإخوةَ جميعَهم بمساواةٍ بل يفرز، فلن يستطيعَ هذا أن يكونَ كاملاً». قال شيخٌ: «الشيطانُ فتَّالُ حبالٍ، فأنت تدفعُ له الخيوطَ وهو يفتلُ. هذا ما قاله من أجلِ مساعدتنا للأفكارِ». سأل أخٌ شيخاً قائلاً: «إذا بَذَرَ فيَّ الشياطين فكراً نجساً، أو غوايةَ الليلِ بالجنابةِ، يمنعونني من أن أصليَ قائلين لي: إنك نجسٌ». أجاب الشيخُ قائلاً: «إذا وضعت الأمُ الصبيَ على الأرضِ متمرغاً في وسخِهِ، فإنه عندما يرى أمَّه يرفع يديه ووجهَه نحوها وعيناه ممتلئةً دموعاً، فتتحنن أمُّه عليه وتضمه إليها، وتُصعِدَه على صدرِها، وتُقَبِّله، ولا تنظر إلى شيءٍ من وسخِهِ. كذلك نحن يا أخي، إذا ما أغوتنا الشياطين فلنُسرع صارخين نحو اللهِ باكين بين يديه، فإنه يقبلنا من وسطِ نجاساتنا ويطهرنا له دفعةً أخرى». قيل: حدث مرةً أن اتفق ثلاثةُ شيوخٌ على أن يخرجوا معاً إلى البريةِ لعلهم يجدون رجلاً متعبداً للهِ، ولما ساروا ثلاثةَ أيامٍ، وجدوا مغارةً، فأتوْا إليها، فأبصروا نفساً خارجةً من جسدِها، وهي تُساقُ إلى جهةِ الغربِ، فبكوا لذلك قائلين: «يا ربُّ، كيف أنَّ متوحداً كهذا، وفي هذا المكانِ من القفرِ، تُساقُ نفسُه إلى الغربِ»؟ فجاءهم صوتٌ قائلاً: «إن لهذا الشيخِ في هذه المغارةِ أربعين سنةً، وقد فكَّر في قلبهِ قائلاً: إنه لا يوجَد راهبٌ آخر مثلي. فلهذا السببِ تُساقُ نفسُه إلى الغربِ». فقال الشيوخُ: «بالحقِّ إنَّ الكبرياءَ تُهلِكُ جميعَ ثمرِ الراهبِ». سأل بعضُ الإخوةِ شيخاً قائلين: «هل الاسمُ يُخلِّصُ أم العملُ»؟ فقال لهم الشيخُ: أحدُ الشيوخ القديسين اشتهى أن يُبصِرَ نفسَ بارٍ، ونفسَ خاطئٍ وقتَ خروجِهما. فابتهل مصلياً إلى اللهِ زماناً، وإذ لم يشأ الربُّ الصالحُ أن يُحزِنَه لأجلِ تعبهِ، فأصدر إليه صوتاً يقول له: «امضِ إلى المدينة وأنا أريكَ». فقام الشيخُ بسرعةٍ وتوجَّه إلى المدينةِ، وكان هناك ناسكٌ كبيرٌ له اسمٌ عظيمٌ، وكان في شدةِ الموت، ولعظم اسمهِ بَطُلَ سوقُ المدينةِ في ذلك اليوم، وبكى الناسُ قائلين: «إن اللهَ بصلاةِ هذا القديسِ يصنعُ الرحمةَ للعالمِ». وأعدُّوا أكفاناً فاخرةً ومصابيحَ كثيرةً وأطيابَ للجنازةِ. فلما قربت ساعتُه، نظر الشيخُ فأبصرَ خازنَ جهنم قد أقبل وبيده خطافٌ يشبه الحديد المغلي بالنار، فوقف على رأسهِ، وسمع صوتَ الربِّ يقول «لا ترحم هذه النفسَ لأن ذلك الإنسانَ لم ينيحني على الأرضِ ولا يوماً واحداً». وفيما الشيخُ يريدُ الرجوعَ إلى قلايته، عَبَرَ ببعضِ أزقةِ المدينةِ، فرأى راهباً صغيراً مطروحاً على الأرضِ في خرقٍ باليةٍ وهو في شدةِ الموتِ، وليس أحدٌ يهتمُ به. فجلس الشيخُ عنده، ولما أتت ساعتهُ، نظر الشيخُ وإذا بملاكين جليلين قد انحدرا لأخذِ نفسِهِ، فمكثا وقتاً طويلاً ينتظران، ولكن تلك النفسَ لم تشأ الخروجَ من جسدِها، فنظر الملاكان إلى السماءِ وقالا: «يا ربُّ، ماذا تأمر عبيدَك من أجلِ هذه النفسِ، لأنها لا تشاء مفارقةَ جسدها»؟ فأرسل إليها الربُّ داودَ وكلَّ منشدي السماءِ، فلما قالوا: «ارجعي يا نفسي إلى موضعِ راحتكِ فإن الربَّ قد أحسنَ إليكِ»، وأيضاً: «كريمٌ أمام الربِّ موتُ قديسيه». فمن الفرحِ خرجت نفسُ ذلك الأخِ متهللةً. قيل عن شيخٍ إنه أقام سنين كثيرةً ناسكاً، لا يأكل سوى خبزٍ وملحٍ فقط، مرةً في كلِّ أسبوعٍ، حتى لصق جلدُه بعظمِهِ، وفي بعضِ الأيامِ زاره شيخٌ آخر، فلما رآه متعباً جداً قال له: «يا أبي إنك قتلتَ نفسَك وحدك بكثرةِ التعبِ، فكلْ شيئاً قليلاً من الإدامِ لترجعَ إليك قوتُك. فلم يشأ، فكرَّر عليه قائلاً: كُلْ ولو قليلاً من الفاكهةِ». فأجابه الشيخُ: «لماذا تضطرُّني إلى الكلامِ، لأني حتى ولو أكلتُ الرمادَ مع الطعامِ لا أستطيعُ أن أُرضيَ اللهَ، لأني عالمٌ بما حصل لنفسي أنا شخصياً، إذ حدث مرةً وأنا راقدٌ، إذ أُخذتُ إلى موضعِ الحكمِ، وكان كثيرون قياماً من ههنا ومن ههنا، وكنتُ واقفاً بخوفٍ شديدٍ، فقلتُ: اذكر يا ربُّ تعبي. وبقولي هذه الكلمة عوقبتُ فوراً، إذ قال للقيامِ: أخرجوا هذا. فدنا مني واحدٌ وأدخل يدَه في فمي، وقطع لساني، وجعله في يدي، فاستيقظتُ وأنا مرتعدٌ، فوجدتُ يدي مطبوقةً ففتحتُها ظانّاً أنها ممسكةٌ بلساني». فلما سمع الشيخُ هذا الكلامَ أمسك عنه. قال شيخٌ: «لو كنا حكماءَ ونجعل أنفسَنا جهلاءَ، فإننا نستريحُ ونتنيح». فقال له أخٌ: «وكيف يجعلُ الإنسانُ نفسَه جاهلاً وهو حكيمٌ»؟ قال له الشيخُ: «إذا أنت قلتَ كلمةً في وسطِ الإخوةِ، وكانت تلك الكلمةُ حقاً وصواباً، ويتفقُ أن يقومَ آخر ويقول كلمةَ كذبٍ وغيرَ صائبةٍ، فإنك إن أبطلتَ كلمتَك الصائبةَ، وأقمتَ كلمةَ أخيك الكاذبةَ، فتكونَ حكيماً وقد جعلتَ نفسَك جاهلاً من أجلِ اللهِ». سأل أخٌ شيخاً قائلاً: «ماذا أفعلُ يا أبي، فإنَّ الخوفَ يتبعني إذا لحقتني أفكارٌ»؟ فقال له الشيخُ: «إنَّ جندي الملكِ إذا خرج للحربِ قبالة الأعداءِ، فكلما رموه وجرحوه ينهضُ مسرعاً لمقاتلتهم دفعاتٍ كثيرةً، فما لم يترك الحربَ ويهرب فإن الملكَ لن يغضبَ لأجلِ أنهم جرحوه، بل بالحري يفرح له بالأكثرِ، لكونِه قبل الجراحَ في سبيلِ مقاتلةِ أعداء سيدِهِ، هكذا أنت أيضاً، كلَّما هاجمتك الأفكارُ، انتصب بالأكثرِ لمقاتلتها». كان لرجلٍ شريفٍ غريمٌ، فلبثَ يطالبه عشرَ سنين ولم يجبه، وكان الدائن بطيبهِ يصبر، وكان له صديقٌ، فقال له: «إني متعجِبٌ منك كيف لم تحنق منه لأن لك زماناً وأنت تطالبه وهو لا يجيبك». فقال له: «إنك تعجب لأني أطلتُ روحي عليه عشر سنين، وهو ذا اللهُ أكثرَ من خمسين سنةً، يطلبُ إليَّ أن أحفظَ وصاياه، وحتى الآن لم أجبه، ولم أصنع هواه، وهو بطيبهِ يصبرُ عليَّ، فإن كنتُ وأنا الإنسانُ لم أُجِب اللهَ وهو لا يغضبُ عليَّ، فليس بعجيبٍ إن كان إنسانٌ مثلي لا يجيبُني، وأطيلُ روحي عليه». نَهَبَ إنسانٌ شريرٌ مالَ أحدِ الحكماءِ، فلم يغضب عليه، فقيل له: «لماذا لم تغضب على الذي نهب مالَك»؟ فقال: «إني شبَّهتُهُ بالموتِ، لأنَّ الموتَ ينتزعُ كلَّ إنسانٍ من مالِهِ ولا يغضبُ عليه أحدٌ». قال أنبا يوحنا: «تركْنا الخدمةَ الخفيفةَ التي هي أن نلومَ أنفسَنا، ولازمنا الخدمةَ الثقيلةَ التي هي أن نمجِّدَ أنفسَنا». سُئل شيخٌ: «ما رأيُكَ في أُناسٍ يقولون إنهم يُبصرون ملائكةً»؟ فأجاب الشيخُ: «طوبى لمن أَبصرَ خطاياه كلَّ حينٍ». سأل أخٌ شيخاً: »ما هي الغربةُ؟« فقال له الشيخُ: »إني أعرف أخاً، هذا خرج ليتغرَّب، فدخل كنيسةً، واتفق أن كانت هناك أغابي، حيث كان كثيرون مجتمعين، فلما تهيَّأت المائدةُ جلس يأكلُ مع الإخوةِ، فنظر إليه إنسانٌ وقال: من أدخلَ هذا الغريب معنا؟ ثم قال له: اخرج خارجاً. فقام وخرج كما أُمر بدون تزمرٍ. فلما أبصرَ آخرون حزنوا وخرجوا فأدخلوه، فدخل، فقال له أخٌ: ماذا كان في قلبك حين أخرجوك وحين أدخلوك؟ فقال: حسبتُ إني كلبٌ، إذا طُرد خرج، وإذا دُعي دخل«. قال أخٌ لأنبا تيموثاوس: »إني أرى نفسي بين يدي اللهِ دائماً« فقال له: »ليس هذا بعجيبٍ، ولكن الأعجب أن يبصرَ الإنسانُ نفسَه تحت كلِّ الخليقةِ«. قال شيخٌ: »في كلِّ التجاربِ التي تأتي عليك، لا تلُم إنساناً، ولكن لُم نفسَك قائلا: إنه من أجلِ خطاياي لحقني هذا«. قال أنبا يوحنا التبايسي: »ينبغي للراهبِ قبل كلِّ شيءٍ أن يقتني الاتضاعَ، لأن هذه هي وصية مخلصنا الأولى، إذ قال: طوبى للمساكينِ بالروحِ فإن لهم ملكوتَ السماواتِ، لأن آباءنا إذ كانوا يفرحون بشتائم كثيرةٍ، دخلوا ملكوتَ السماواتِ«. قال يوحنا ذهبي الفم: »إن السكوتَ هو نموٌ عظيمٌ للإنسانِ، ونياحٌ لنفسهِ. السكوتُ يعطي القلبَ عزلةً دائمةً، السكوتُ يجلِبُ الدِعةَ مع كلِّ إنسانٍ، السكوتُ يُبعدُ الغضبَ، السكوتُ قرينُ النسكِ، السكوتُ يولِّد المعرفةَ، السكوتُ يحرس المحبةَ، السكوتُ لا يُوجعُ قلبَ إنسانٍ، ولا يشكك أحداً، السكوتُ يعمل عملَه بلا تقمقمٍ، السكوتُ يحفظ شفتيه ولسانَه، فلا يبقى في قلبهِ شيءٌ من الشرِّ، السكوتُ هو كمالُ الفلسفةِ، فمن يعيشُ بالسكوتِ، فإنه يستطيع أن يتمسكَ بجميعِ الحسناتِ الأخرى، الملازم للسكوتِ بمعرفةٍ قد خُتِمَ بخاتمِ المسيحِ، والحافظُ إياه بلا شكٍ يرثُ ملكوتَ السماواتِ«. سأل أخٌ شيخاً عن الجسدِ، فقال له الشيخُ: »جميع الوحوشِ والحيوانات إذا أنت أكرمتها، فإنها لا تسيءُ إليك، إلا الجسد وحده، فإنك إن أحسنتَ إليه أساء إليكَ عوض الإحسانِ«. كما قال هذا الشيخُ أيضاً: »إني سألتُ شيخاً آخرَ، وكان ذلك الشيخُ في رباطات ضيقةٍ، فقلت له: يا أبي، لعلك إذا جئتَ إلى وسطِ الإخوةِ استرحتَ من هذا التعبِ، فقال: نعم، يا ابني، لكني أخاف من هذا الفرسِ الذي أنا راكبه، أعني جسدي، لأنه إذا أصبحَ في الراحةِ، وعدم الضيقِ، رماني إلى أعدائي، وجعلني شماتةً«. قيل عن راهبٍ: إن ألمَ الزنى أتى عليه بشدةٍ، فلما أزعجه جداً، قام وخرج من قلايتهِ ومضى إلى جحرِ ضبعةٍ ونزل إليه وهو يقول: »خيرٌ لي أن أموتَ بهذه الضبعةِ، من أن أموتَ بالخطيةِ«. فأقام هناك ستةَ أيامٍ وهو صائمٌ لا يذوقُ شيئاً، وفي اليومِ السابعِ أتته الضبعةُ بمأكولٍ، فاستمرَ مقيماً في ذلكِ الموضعِ أربعينَ يوماً، وفي كلِّ أسبوعٍ كانت الضبعةُ تأتيه بما يأكله، وبعد ذلك أتاه صوتٌ يقول له: »تقوَّ«، ومن ساعتهِ هرب عنه روحُ الزنى، فشكرَ اللهَ ورجع إلى قلايتهِ. سأل أخٌ شيخاً عن وجعِ الزنى، فقال له الشيخُ: »إني لم أُقاتَل به قط«، فعمل الأخُ مطانيةً قائلاً: »لماذا لم تقاتَل أنت به يا أبي؟« فأجابه الشيخُ: »إني منذ ترهبتُ لم أشبع خبزاً ولا ماءً ولا نوماً، فالتعبُ والهمُّ لا يدعان هذا القتالِ يؤذيني«، ثم قال له: »احذر يا ابني من كلامِ الباطلِ، ولا تفرح بكلامِ الهزءِ، ولا تدع فمَك يتكلمُ بكلِّ كلامٍ يأتي عليه، لئلا تقع في صغرِ النفسِ، لا تفرح بالضحكِ لئلا يتسلط عليك النسيانُ، وإذا كنتَ في أوجاعٍ فلا تكن بغيرِ هَمٍّ، بل أسرع لتتخلصَ منها، ولا تُدمن المشيَ في المدنِ، لئلا تقع في أوجاعٍ مختلفةٍ، أبغض الاجتماعَ بكثيرين، لئلا تكون في تعبٍ دائمٍ، اهرب من كثرةِ الكلامِ لئلا تنسى ذاتَك، وتغفلَ عن أوجاعِك، اهرب من كثرةِ المأكولات لئلا تزني بدون امرأةٍ تحضرك، لا تأكل كثيراً لئلا يظلم عقلُك، لا تغذي جسدَك للشبعِ لئلا تُهلك نفسَك وحدك، ليكن لك هدوءٌ بمعرفةٍ، وقليلُ عملٍ، وقليلُ صلاةٍ، وقليلُ قراءةٍ مع الصومِ إلى المساءِ كلَّ يومٍ، وخِدَم النهارِ والليلِ بخوفِ اللهِ. أظلم نفسَك في أخذك وعطائك، لتستريح في جلوسك. أبغض شهوةَ الأطعمةِ، فيخف ألم الزنى عنك، لا تقتنِ ثوباً حسناً لئلا تكره نفسُك المحقرة، أحب الغربةَ بمعرفةٍ ولا تَعُدَّ نفسك في شيء ما، اذكر ابن الله، إنه من أجلك عُلَِق على خشبةٍ، من أجلِك شُتم، ومن أجلك سُقيَ خلاً، ومن أجلِك سُمِّر بالمسامير وقَبل اللعنةَ من أجلِك، فعليك باحتمالِ كلِّ شيءٍ يلمُّ بك بطيبةِ نفسٍ، واحذر أن تَعُدَّ نفسك، حتى ولا أحد يَعُدَّك، واحرص بكلِّ قوَّتِك أن تُخرج من جسدِك أوجاعَ الهوانِ البهيمية، هذه التي تفصل الإنسانَ من الروحِ القدس، اهرب من خلاف الطبيعةِ الذي لسدوم كما يهرب الطائر من الفخِ، لأن من أجلهِ ينزلُ غضبُ اللهِ على بني العصيانِ، ولا سيما إذا أنت سقطتَّ فَتُب وابكِ بحرقةِ قلبٍ واسأل الله ألا تخطئ أيضاً، لأنك إن حفظتَ نفسَك قدامه، يغفر لك ويطهرك مثل طهارةِ القديسين، لأنه مكتوبٌ: إنه يتكلم بالسلامةِ على شعبه، وعلى قديسيه وعلى الذين يرجعون إليه بكل قلوبهم، فما أعظم هذه المراحم، كيف أنه يتكلم بمساواةٍ حتى أنه يجعل من يرجع إليه بكل قلبه، مساوياً للقديسين». «ليكن مشيُكَ بثباتٍ، وكلامُك بثباتٍ، وأكلُك بثباتٍ. وإذا كنتَ جالساً في قلايتكِ فاحفظ نفسَك من الغفلةِ والنسيانِ. ولا يكن لك همٌّ خارجاً. ولا تترك عقلكَ يطيشُ في العالمِ. ولا تُلزم نفسَك بعملٍ زائدٍ. بل قسِّم النهارَ: قليلَ عملِ يدٍ، قليلَ صلاةٍ، قليلَ درسٍ، وعقلُك يهذُّ، إياك ومحبة الطوافِ من موضعٍ إلى موضعٍ، لأن الشجرةَ المتنقلة دائماً، تكونُ بغيرِ ثمرةٍ وربما تموت، لتكن رحوماً على المحتاجين من تعبك، لكي ما يرحمك الله ويعينك، ومهما عملتَ فاعمله بإفرازٍ ومشورةِ العارفين، وأحبَّ فعلَ الخيرِ بقدرِ قوتِك. لا تتوانَ لئلا تقع وتُؤخذ في سقطتِك، لا ترقد في موضعٍ تلومك فيه نيتُّك، من دونِ شدةٍ شديدةٍ وضرورةٍ لازمةٍ. إذا حضرتَ لتأكلَ مع شيوخٍ، فكن مثلَ إنسانٍ يستحي أن يأكلَ، ليكن كلُّ الإخوةِ عندك جياداً، وعلِّم لسانَك أن يُكرِّم كلَّ الناسِ، وجاهد ما استطعتَ في أن تكونَ بانفرادٍ دائمٍ كي تركز همَّك جهةِ خطاياك، لتصيرَ بلا همٍّ من العالمِ، فتُؤهل للعزاءِ من قِبل اللهِ، لأنك إنما هربتَ من العالمِ وتركتَ أباك وإخوتك ومالَك، لمثابرةِ اللهِ، فماذا لك بعد مع همومِ الناسِ؟ فجاهد كي تتفرغ للهِ بكلِّ قوَّتِك، ولا تدع شيئاً من همومِ هذا المسكنِ الزائل، أن يفصِلَك من اللهِ«. قال أنبا ديادوخس: »من يشاءُ أن يُطهِّرَ قلبَه جداً فليتخذَ له كلَّ حينٍ الذِكرَ الصالحَ الذي هو اسمُ ربنا يسوعَ المسيحِ، الاسمُ القدوسُ، عملاً وهذيذاً وكلاماً وفكراً بغيرِ فتورٍ، وبمحبةٍ عظيمةٍ وشوقٍ كثيرٍ، وليُخرِجَ من عقلِهِ وَسَخَ الخطيةِ بعملِ الوصايا كلِّ حينٍ«. قال شيخٌ: »الرجلُ الذي يرى موتَه قريباً جداً منه في كلِّ وقتٍ، فإنه يستطيعُ أن يقاومَ الضجرَ«. سأل أخٌ شيخاً: »ما هو نموُّ الإنسانِ وتقويمُه؟« قال الشيخُ: »نموُّ الإنسانِ وتقويمُه هو الاتضاع، لأنه مادام الإنسانُ سائراً نحو فضيلةِ الاتضاعِ، فإنه سائرٌ إلى قدام وهو ينمو«. قيل عن شيخٍ إنه كان كثيرَ الرحمةِ، فحدث غلاءٌ عظيمٌ، ولكنه لم يتحول عن فعلِ الرحمةِ، حتى نفذَ كلُّ شيءٍ له، ولم يبقَ عنده سوى ثلاثِ خبزاتٍ، فحين أراد أن يأكلَ أحبَّ اللهُ امتحانه، وذلك بأن قرع سائلٌ بابَه، فقال لنفسِه: »جيدٌ لي أن أكونَ جائعاً، ولا أردَّ أخَ المسيحِ خائباً في هذا الغلاءِ العظيمِ«. فأخرجَ خبزتين له، وأبقى لنفسِه خبزةً واحدةً، وقام وصلى وجلس ليأكلَ، وإذا سائلٌ آخر قد قرع البابَ، فضايقته الأفكارُ من أجلِ الجوعِ الذي كان يكابده داخله، ولكنه قفز بشهامةٍ، وأخذ الخبزةَ وأعطاها للسائلِ قائلاً: »أنا أؤمن بالمسيحِ ربي، إني إذا أطعمتُ عبدَه في مثلِ هذا الوقتِ الصعبِ، فإنه يطعمني هو من خيراتِه التي لم ترها عينٌ، التي أعدَّها لصانعي إرادتِه«. ورقد جائعاً، وبقيَ هكذا ثلاثةَ أيامٍ لم يذق شيئاً، وهو يشكرُ اللهَ، وبينما كان يصنع خدمته بالليلِ، جاءه صوتٌ من السماءِ يقول له: «لأجل أنك أكملتَ وصيتي، وغفلت عن نفسِكَ، وأطعمتَ أخاك الجوعان، لا يكونُ في أيامِك غلاءٌ على الأرضِ كلِّها«، فلما أشرقَ النورُ، وجد على البابِ جِمالاً محمَّلةً خيراتٍ كثيرةً، فمجَّد الله، وشكر الربَّ يسوعَ المسيحِ، ومن ذلك اليومِ عمَّ الرخاءُ الأرضَ كلَّها. قال أنبا باخوميوس: »إذا أكمل الإنسانُ جميعَ الحسناتِ وفي قلبهِ وَجْدٌ على أخيه، فهو غريبٌ من اللهِ«. قال أنبا أثناسيوس: »من يعاتبك ويوبخك على زلاتِك، أحبه مثلَ نفسِك، واتخذه لك صديقاً«. وقال أيضاً: »من يشتم الذي يعلِّمه خلاصَه، فإنه يشتم رجاءَ اللهِ مخلصه«. قال أنبا تيموثاوس: »المحبة لا تعرف أن تدينَ رفيقها، ولا تكافئ بالسيئاتِ«. وقال أيضاً: »من يهتمُّ بجسدِه بشهوةِ أكلٍ وشربٍ، فهو يقيمُ عليه الحربَ، ويقاتل نفسَه بنفسِه«. كما قال أيضاً: »إن لم تتسلط على أمعاءِك، وتقهر جسدَك في كلِّ شيءٍ، فلن تستطيع أن تقتني الطهارةَ«. وقال كذلك: »إن شئتَ أن تصادقَ الله، فلا تُحزن أحداً من الناسِ، حتى ولو أكثرَ الإساءَة إليكَ، بل اترك الأمرَ للهِ». وقال أيضاً: «إذا أنت صادقتَ اللهَ، فسوف يقوم الكلُّ عليك، ويرفعون أعقابهم على رأسِك. وأخيراً، إكليلاً من ياقوتٍ يضعونه عليك، وتاجاً ملوكياً يضعونه على رأسِكَ«. قال الأنبا أنطونيوس: »لا تَحزن ولا تتألم ولو قليلاً على شيءٍ لهذه الدنيا، ولا تقلق إذا شتمك جميعُ الناسِ، فهم يُشبهون الغبارَ الذي تحمله الريحُ، بل احزن بالحري، إذا ما عَمِلتَ ما يستوجب الشتيمةَ«. وقال أيضاً: »ما منفعةُ كلام الكرامةِ، فإنه يطير في الهواءِ، وماذا يحدثُ من الخسارةِ العارضةِ من الشتيمةِ الصائرة مجاناً؟ فهوذا الناسُ يموتون، وتموت كرامتهم، وشتيمتهم أيضاً تذهبُ معهم«. قال الأب برصنوفيوس: »إذا ما حرَّكك فكرٌ من الشيطانِ على إنسانٍ، فقل في نفسِك بطولِ روحٍ: إني قد أخضعتُ ذاتي للهِ لكي ما أخدم آخرين، فيكُفَ عنك الفكرُ، وكن دائماً مستقصياً عن أفكارِك، ولتبكِّتها، لأن الذي يُبكِّت أفكارَه، ويقول إنه خاطئٌ، وهو في فعلِه ليس خاطئاً، فهذا هو غايةِ الاتضاعِ، ومن كان متضعاً، فإنه لا يغضب، ولا يخاصم، ولا يدين أحداً، ولكنه يرى الناسَ كلَّهم أخيرَ منه، ومن يعلم أنه خاطئٌ فلا يلوم قريبَه، ولا يعتل به». وقال أيضاً: »لا تحسب نفسَك شيئاً وأنت تتنيح، جاهد أن تموتَ من كلِّ الناسِ وأنت تخلص، قل لفكرِك إني قد مُتُّ ووضعتُ في القبرِ، فماذا لي مع الأحياءِ، وبذلك لن يقدرَ على أن يحزنَك. إن الطاعةَ مطفِئةٌ لجميعِ سهامِ العدوِ المحماة، وأما المحبةُ فهي الدرود العظيمة (أي الأربطة) والعصائب التي تشدد كلَّ استرخاءٍ وتشفي كلَّ الأمراضِ«. كما قال: »شابٌ لا ينفعُ شاباً، حتى ولو سقاه بكأسٍ جميعَ تعليمِ الكتبِ الإلهيةِ، فلن ينتفعَ منه«. كذلك قال: »الجلوسُ في القلايةِ، إنما هو الدخولُ إلى القلبِ وتفتيشه، وضبطُ الفكرِ من كلِّ شيءٍ رديءٍ، وقطعُ الهوى وتركُ تزكيةِ الذات، والابتعادُ من مرضاةِ الناس. الخلاصُ يحتاج إلى تعبٍ كثيرٍ واجتهادٍ، فلا تسترخِ للجسدِ لئلا يصرعك«. وقال أيضاً: »النسيانُ هو هلاكُ النفسِ، وينتجُ من التهاونِ، فالذي يُكلِّف نفسَه في كلِّ شيءٍ فإنه ينجحُ، والذي لا يقيمُ هواه ولا يلاجج بكلمةٍ فإنه يستريحُ، والذي يلومُ نفسَه في كلِّ شيءٍ فإنه يجدُ رحمةً أمامَ اللهِ إلهِنا«. وقال أيضاً: »اقتنِ الاتضاعَ فإنه يكسرُ جميعَ فخاخِ العدو«. وقال كذلك: »إن غَلَبَ الإنسانُ باللهِ التجربةَ الأولى، فلن يقوى عليه العدو فيما بعد، أما إن غُلِب في التجربةِ الأولى، فإن العدوَ متى أراد أتى به إلى عبادةِ الأصنامِ فأضلَّه عما سواها«. قال أنبا تيموثاوس: »إذا أكرمك الناسُ فخف جداً، واكره نفسَك وحدَك، ولا تستحِ أن تُقرَ بذنوبك، واهرب من كرامةِ الكثيرين، لئلا يُغرقوا مركِبَك«. وقال أيضاً: »إذا أنت سقطتَ فلا تتوانَ، ولا تكسل، بل قم بسرعةٍ. وإذا ضللتَ أسرع بالرجوعِ إلى خلف حتى تجدَ الطريقَ المستقيمةَ، لأن الطريقَ المستقيمةَ حسنةٌ جداً وليس فيها دوران، ولا تحتاج إلى طولِ الزمانِ، بل بسرعةٍ تصل إلى مدينةِ السلامِ«. كما قال: »لا توجد طريقٌ مستقيمةٌ، سوى طريقِ ربنا يسوع المسيح، لأنه هو الطريقُ والحقُ والحياة«. قال أنبا باخوميوس: »جميعُ المواهبِ بطولِ الروحِ وثباتِ القلبِ تُعطى، وجميعُ القديسين لما ثبَّتوا قلوبَهم نالت أيديهم المواعيد. فَخْرُ القديسين هو طولُ الروحِ في كلِّ شيءٍ، وبهذا حُسبوا قديسين«. وقال أيضاً: »هذه هي الأعمالُ الفاضلةُ: إن قاتلك فكرُ ضجرٍ من أخيك، فعليك باحتمالِه بطولِ روحٍ، حتى ينيِّحَك اللهُ فيه، صبرٌ على صومٍ دائمٍ، صلاةٌ بغيرِ فتورٍ في مخادعِ قلبك بينك وبين اللهِ، وصيةٌ صالحةٌ لأخيك، بتوليةٌ محفوظةٌ في أعضائِك، طهارةٌ وقدسٌ في قلبك، عنقٌ منحنٍ، وضربُ مطانيةٍ مع قولك: اغفر لي، دِعةٌ في أوان الغضبِ«. كما قال: »احفظ نفسَك من هذا الفكرِ الذي يجلِبُ عليك تزكيةَ ذاتِك، وازدراءَ أخيك، لأنه مبغوضٌ جداً قدام الله ذلك الإنسان الذي يُكرم نفسَه ويرذل أخاه«. كذلك قال: »لن تشاركَ القديسينَ في مواهبهم، ما لم تُتعب جسدَك أولا في مشاركةِ أعمالِهم، كذلك لن تدخلَ الحياةَ، إن لم تُضيِّق على نفسِك أولاً حتى الموت«. وقال أيضاً: »ليس لنا عذرٌ نقوله قدام الله إذا وقفنا بين يديه، هل نقول: لم نسمع أو لم نعرف أو إنهم لم يعلِّمونا؟ هو ذا الكتب موجود فيها معرفة كلِّ شيءٍ«. قال أنبا أثناسيوس: »اهتم بعملِ الخيرِ حسب قوتك من أجلِ اللهِ، لا سيما مع المسيئين إليك ومبغضيك، لكي تغلبَ الشرَّ الذي فيهم من نحوِك«. قال الأنبا تيموثاوس: »من احتمل عدوَّه عند شتمِهِ إياه، فهو قويٌ وحكيمٌ، أما من لا يحتمل الشتيمةَ، فلن يحتملَ الكرامةَ كذلك، لأن الشتيمةَ أقلُ ضرراً من الكرامةِ«. قال القديس مقاريوس: »احفظوا ألسنتكم، وذلك بأن لا تقولوا على إخوتكم شراً، لأن الذي يقول عن أخيهِ شراً، يُغضب الله الساكن فيه، ما يفعله كلُّ واحدٍ برفيقِهِ، فباللهِ يفعله». وقال أيضاً: »احفظوا ذواتَكم من كلامِ النميمةِ والوقيعةِ، لكي تكونَ قلوبُكم طاهرةً، لأن الأذنَ إذا سمعت الحديثَ النجسَ، فلا يمكن أن تحفظَ طهارةَ القلبِ بدونِ دنسٍ«. وقال أيضاً: »لا تطاوع مشورةَ الشياطين الأنجاس، إذا حدَّثوك بخداعٍ قائلين: إنَّ اللهَ لا يؤاخذك بخصوصِ هذا الأمرِ اليسير، أو هذه الوصيةِ الصغيرةِ، إن توانيتَ فيها. بل اذكر أنَّ كلَّ معصيةٍ كبيرةٌ كانت أم صغيرة، فإنها تُغضبُ الله«. قال أنبا بفنوتيوس: »كثيرون يجعلون نفوسَهم وحدَهم مؤمنين باللسانِ لا بالعملِ، وبالكلامِ يتظاهرون بأنهم قائمون، وليس لهم شيءٌ من الأعمالِ البتةِ، ويفتخرون باطلاً بما لم يصلوا إليه«. قال أنبا أفرآم: »لأيِّ شيءٍ رفضتَ العالمَ إن كنتَ تطلبُ نياحَ العالمِ، للضيقِ دعاكَ اللهُ الكلمةُ، فكيف تطلبُ نياحاً؟ للعُري دعاك، فكيف تتزين باللِباسِ؟ للعطشِ دعاك فكيف تشربُ خمراً«. قال شيخٌ: »شابٌ يتنزَّه دفعاتٍ كثيرةً، فقد صار سيفاً لنفسِه وحده«. وقال آخرُ: »إذا لم ينم الشابُّ وهو جالسٌ، مادامت له استطاعةٌ في جسدِه، فإنه عاجزٌ مقصرٌ. وكلُّ شابٍّ يرقدُ على ظهرِه بقِلةِ همٍّ، فإنه يوقظُ الأوجاعَ المهينةَ في جسدِه، وأيُّ شابٍّ يحبُ الراحةَ والنياحَ، فإنه لا يفلت من الخطيةِ، كذلك الشابُّ الكسلانُ لا يقتني شيئاً من الحسناتِ«. من كلامِ مار إسحق: »بأمرين يصنعُ الجسدُ نياحَه بحماقةٍ، مسبباً للنفسِ أتعاباً ومشقةً ورواميز (أي اضطرابات) عظيمةً للفكرِ. أما هذان الأمران، فأولهما: عدمُ ضبطِ البطنِ غير المخضعة لتجلدِ الصومِ، وثانيهما: عدمُ ترتيبِ الأعضاءِ التي تعطي دالةً للنظرِ والمجسةِ العديمة التعفف، الذي منه يحدثُ فسادُ هيكلِ اللهِ بتوسطِ الأفكارِ الطائشةِ في الأباطيلِ«. وقال أيضاً: »تَحَكَّم قبالة مسببات الآلام، فتهدأ عنك الآلامُ من ذاتِها«. كما قال: »العفةُ في وسطِ النياحاتِ لا تثبتُ بغيرِ فسادٍ، كما أن الجوهرةَ في وسطِ النارِ لا يُحفظُ شُعاعُها بغيرِ فسادٍ«. وقال كذلك: »خمسُ فضائل بدونِها جميعُ طبقاتِ الناسِ لا يمكنهم أن يكونوا بلا لومٍ، وإذا حفظها الإنسانُ، تَخَلَّص من كلِّ مضرةٍ، وصار محبوباً عند اللهِ والناسِ، وهي: جسدٌ عفيفٌ، لسانٌ محترسٌ، زهدٌ في الرغبةِ والشَرَه، كتمانُ السرِّ في سائرِ الأشياءِ بغرضٍ مستقيمٍ إلهي، وإكرامُ كلّ طبقاتِ ومراتبِ الناسِ، فوق ما يستحق ذلك الوجه، لأن الذي يُكرمُ الناسَ، يُكرَم هو أيضاً منهم، كما يأخذُ المجازاةَ من اللهِ، لأن الكرامةَ توجِبُ كرامةً، والازدراءَ يجلبُ ازدراءً، والذي يُكرمُ اللهَ يُكرَمُ هو أيضاً منه«. وقال أيضاً: »يسقطُ في الظنونِ الرديئةِ السمجةِ، كلُّ إنسانٍ مُستعبَد للأربعةِ الآلامِ الآتية: جسدٌ شغبُ (شهواني)، رغبةٌ في أشياءٍ جسديةٍ، لسانٌ قاسٍ، نقلُ الكلامِ من واحدٍ إلى آخرِ بنوعِ المثلبةِ. كما أن الذي يتخلى اللهُ عنه لأجلِ تعظمِه يسقطُ في واحدٍ من ثلاثةِ أنواعٍ من الخطيةِ هي: إما في فسقٍ سمجٍ، وإما في ضلالةٍ شيطانية، وإما في أذيةٍ عقلية«. كما قال: »كما أن الموادَ الدُهنيةَ تزيدُ النارَ اضطراماً، هكذا طراوةُ المآكلِ تنمي ألمَ الزواجِ. معرفةُ اللهِ لا تسكنُ في جسدٍ محبٍ للراحةِ، وأيُّ إنسانٍ يحبُ جسدَه، لا يُؤهَّلُ لمواهبِ اللهِ، كما يُشفقُ الأبُ على ابنِه، هكذا يشفقُ المسيحُ على الجسدِ العمَّالِ، وفي كلِّ وقتٍ قريبٌ من فمهِ«. وقال كذلك: »من يشتهي الروحانيات، حتماً يُهمِلُ الجَسَدَانيات، احذر من حياةِ الخُلطةِ، لأنها تعوقُ سائرَ أنواعِ التوبةِ، التخاطب مع كثيرين يعوقُ الحزنَ الذي من أجلِ اللهِ، ليس شيءٌ محبوبٌ لدي الله، وسريعٌ في استجابةِ طلباتهِ، مثل إنسانٍ يطلبُ من أجلِ زلاتهِ وغفرانِها. الذي يحبُ الكرامةَ لا يستطيعُ أن ينجوَ مِن عِلَلِ الهوانِ. كلُّ إنسانٍ تدبيرُهُ رديءٌ حياةُ هذا العالمِ شهيةٌ عنده، ويليه بعد ذلك من هو قليلُ المعرفةِ، وحقاً لقد قيل إنَّ مخافةَ الموتِ تُرعِبُ الرجلَ الناقصَ، أما الذي في نفسِه شهادةٌ صالحةٌ فإنه يشتهي الموتَ كالحياةِ«. شيخٌ مَدَحته أفكارُه لأجلِ أعمالٍ قد صنعها من قبل، قائلةً له بأنه قد أُهِلَ للرجاءِ وعدم الفسادِ مثلاً، فأجاب الشيخُ أفكارَه قائلاً: »إني لا زلتُ سائراً في الطريقِ، وباطلاً تمدحونني، لأني لم أصل بعدُ إلى نهايةِ الطريقِ«. وقال أيضاً: »متى داخلتك شهوةُ اهتمامٍ بغيرِك بنوعِ الفضيلةِ، حتى يتشتت ما في قلبك من السكونِ، فقل: إن طريقَ المحبةِ والرحمةِ لأجلِ اللهِ مقبولةٌ، ولكني من أجلِ الله كذلك لا أريدُها«. وقد حدثَ أن قال راهبٌ: »إن لم تقف لي من أجلِ اللهِ، أجري خلفك«. فقلتُ له: »وأنا من أجلِ اللهِ كذلك أهربُ منك«. سؤال: «متى يثقُ الإنسانُ بأنه استحق وأُهِّلَ لمغفرةِ الخطايا»؟ الجواب: »إذا ما أحسَّ في نفسهِ بأنه قد أبغضها بالكمالِ من كلِّ قلبه، وبدأ يصنع ما يضاد تصرفَه الأول بالظاهرِ والخفي، فمن هو هكذا، فله ثقةٌ بغفرانِ خطاياه من اللهِ، وذلك بشهادةِ الضميرِ التي قد اقتناها في نفسِه، حسب قول الرسول: لأن القلبَ الذي لا لومَ فيه، هو الشاهدُ على نفسهِ«. قال شيخٌ: «إذا أردتَ أن تُرضيَ اللهَ، فَنَقِّ قلبَك من جميعِ الناسِ، وضع ضميرَك تحتَ كلِّ الخليقةِ، ولا تدن أحداً، واجعل فكرَك في اللهِ، وإذا أبصرتَ أحداً يخطئ، صلِّ للهِ قائلاً: اغفر لي فإني أنا الذي فعلتُ هذه الخطيةَ. فتتم فيك الكلمةُ المكتوبةُ: ما من حبِّ أعظمُ من هذا أن يضعَ الإنسانُ نفسَه عن رفيقِه». قال أنبا يوسف: «نحن معشر إخوة هذا الزمان نأكل وننيح الجسدَ، من أجلِ هذا لا ننمو مثل آبائنا، لأن آباءنا كانوا يُبغضون جميعَ نياحِ الجسدِ، ويحبون كلَّ الضيقاتِ من أجلِ اللهِ، ولهذا اقتربوا إلى اللهِ الحي». قال شيخٌ: «كلُّ موضعٍ تمضي إليه، فاحرص ألا تجعلَ ذاتَك من أهلِ ذلك الموضعِ». قال أنبا بولا الساذج: «من هرب من الضيقةِ فقد هرب من اللهِ». قال شيخٌ: «إما أن تجعل نفسَك في وسطِ الناسِ بهيمةً، وإما أن تهربَ، ولا تدعهم يلحقون بك». قال أنبا بطرا: «الإمساك الذي هو أفضل من إمساك البطنِ، والذي يجب أن تغصبَ نفسَك إليه هو هذا: أن لا تأكلَ لحمَ إنسانٍ ولا تشربَ دمَه بالوقيعةِ». قال أنبا إبراهيم: «إذا حملتَ نيرَ المسيحِ، فانظر كيف تمشي فيه، لا ينبغي لك أن تخلطَ عملَ الدنيا بعملِ المسيحِ، لأنهما لا يجتمعان معاً، ولا يسكنان كلاهما في موضعٍ واحدٍ. لا تسلك في الطريقِ الواسعةِ، لأن كثيرين سلكوا فيها فضلُّوا وذهبت بهم إلى الظلمةِ، حيث النار المعدَّة، ولكن اسلك طريقَ الحقِ والصوابِ، فإنها وإن كانت ضيقةٌ حزينةٌ ضاغطةٌ، لكنها تُخرِجُ إلى السعةِ والحياة، والنعيمِ الدائمِ. لا تبنِ جسدَك بالنعيمِ واللِباسِ، مثل البيوت المزخرفة، التي تؤول إلى الهدمِ والهلاكِ، ولكن ابنِهِ بالتوبةِ والأعمالِ المُرضيةِ للهِ على الأساسِ الوثيقِ، الذي بنى عليه القديسون: بمشيٍ هينٍ، وصوتٍ لينٍ، ولِباسٍ حقيرٍ، وطعامٍ يسيرٍ، وحبٍّ تامٍ، وطاعةٍ واتضاع، وحسياتٍ نقيةٍ». التقى سائحٌ بسائحٍ آخر في بريةِ سيناء، فسأله: «بماذا يكون الخلاصُ»؟ قال له: «بالمعرفةِ بحقائقِ الأمورِ والعمل بحسبِ الحقِ». قال له: «إذن فمن لا يعرف لا يخلص»؟ قال: «لا». فقال: «وما هي المعرفةُ إذن»؟ قال: «أن يعرفَ العبدُ حقيقةَ خالقِهِ، ومِمَ خلقه، وما يؤول إليه أمرُه، فإذا عرف ذلك، فإنه لن يعصيه، بل سوف يصنع مرضاته طول حياته». فقال: «صدقتَ»، ثم انصرف. قال ديادوخس: «لا يقدر إنسانٌ أن يقتني خوفَ اللهِ إلا إذا أحبَّ خصالاً وأبغضَ خصالاً أخرى، وذلك إذا أراد أن يكونَ راهباً حقاً». قالوا له: «وما هي الخصالُ التي تُحَب»؟ قال: «هي الشجاعةُ في غلبةِ الأهواءِ المظلمةِ، المحبة، العفة، العلم، الاتضاع، المسكنة، الرحمة، حسن الحديثِ ولينه، الصبر، السهر، التعب، الطاعة، وما أشبه ذلك مما يُرضي الله، فمن كانت له هذه الخصال رَجَوتُ له الخلاصَ». فقالوا له: «وما هي الخصالُ التي تُبغَض»؟ قال: «الشَرَه، الفسق، الحقد، اللجاجة، الرياء، الكذب، النميمة، الحسد، الشر، العجز، الضجر، التواني، الغفلة، البذخ، التيه، العظمة، العُجب، الصلف، وما أشبه ذلك». قال شيخٌ: «الذي يُحقِّر نفسَه من أجلِ الربِّ، يَهَبه الحكمةَ والمعرفةَ، لسنا في احتياجٍ إلا إلى قلبٍ حريصٍ. طوبى لمن يصبرُ على هذه الثلاثة بشكرٍ وهي: أن لا يأكلَ حتى يجوع، ولا ينامَ حتى ينعس، ولا يتكلمَ حتى يُسأل». من أقوالِ أنبا يعقوب: «مثل المصباحِ الذي ينير البيتَ المظلمَ، كذلك خوفُ اللهِ إذا دخل في قلبِ الإنسانِ، فإنه يضيئه ويعلمه جميعَ الوصايا». تحدَّث الآباءُ عن شيخٍ أُخذت روحُهُ، وبعد ساعةٍ رجعت إليه، فسألوه: «ماذا أبصرتَ يا أبانا»؟ فقال وهو يبكي: «سمعتُ هناك قوماً يقولون وهم باكين: الويل لي، الويل لي». قال شيخٌ: «من مدح راهباً بحضرتِهِ، فقد أسلمه بأيدي أعدائه». قال أنبا بيمين: «إذا ذَكر الإنسانُ الكلمةَ المكتوبة: إنه من كلامِك تدان، ومن كلامِك تتزكى، فإنه يختار لنفسِه السكوتَ». وقال أيضاً: «مثل الدخانِ الذي يطرد النحلَ حتى يقطفوا العسلَ، كذلك نياحُ الجسدِ، يطرد خوفَ اللهِ، ويُتلِف كلَّ عملٍ صالحٍ». أبصرَ أنبا أنطونيوس فخاخَ الشياطين مبسوطةً على الأرضِ كلِّها، فتنهد وقال: «يا ربُّ، من يفلتُ من كلِّ هذه»؟ فأتاه صوتٌ من السماءِ قائلاً: «المتضعون يفلتون منها». كان شيخٌ جالساً في البريةِ، وكان بينه وبين الماءِ الذي يستقي منه اثنا عشر ميلاً، فذهب مرةً ليستقي، فضجر وقال لنفسِه: «لماذا أعاني هذا التعب؟ فلأذهب وأسكن بقربِ الماءِ». وفيما هو يفكر في هذا الأمرِ، التفتَ إلى خلفِه، فأبصر شيخاً يَعُدَّ خُطاه، فسأله: «من أنت»؟ فقال له: «إني ملاكُ الربِّ، أرسلني لأَعدَّ خُطاكَ، لكي يعطيك أجرَ تعبك». فلما سمع الشيخُ ذلك، طابت نفسُه، وزاد على المسافةِ خمسة أميال أخرى. قال شيخٌ: «إن قوَّمتَ الصمتَ، فلا تظن في نفسِك أنك قد قوَّمت شيئاً، ولكن اعتبر ذاتَك أنك لستَ أهلاً لأن تتكلم». قال أنبا أنطونيوس: إني أبصرتُ مصابيحَ من نارٍ محيطةً بالرهبانِ، وجماعةً من الملائكةِ بأيديهم سيوفٌ ملتهبةٌ يحرسونهم، وسمعتُ صوتَ اللهِ القدوس يقول: «لا تتركوهم ما داموا هم مستقيمي الطريقةِ». فلما أبصرتُ هذ، تنهدتُ وقلتُ: «ويلك يا أنطونيوس، إنَّ كلَّ هذا العونِ محيطٌ بالرهبانِ، والشياطين تقوى عليهم»! فجاءني صوتُ الربِّ قائلاً: «إن الشياطينَ لا تقوى على أحدٍ، لأني من حينِ تجسَّدتُ، سحقتُ قوَّتهم عن البشريين، ولكن كلّ إنسانٍ يميلُ إلى الشهواتِ، ويتوانى بخلاصِه، فشهوتُه هي التي تصرعه وتجعله يقع». فصحتُ وقلتُ: «الطوبى لجنسِ الناسِ وبخاصةٍ الرهبان، لأن لنا سيداً هكذا رحوماً ومحباً للبشرِ». قال الشيوخُ: «إن للشيطانِ ثلاثَ خصالٍ قويةٍ، وهي تتقدم كلَّ خطيةٍ، وهي، النسيان، التواني، الشهوة. ومن الشهوةِ يقعُ الإنسانُ. فإن انتبه العقلُ ولم ينسَ، فلن يجيءَ إلى التواني، وإن هو لم يتوانَ، فلن يأتي إلى الشهوةِ، وإن هو لم يشتهِ، فلن يقع بنعمةِ ربنا يسوعَ المسيحِ». سأل أخٌ الأنبا بيمين قائلاً: «كيف ينبغي أن يكونَ الراهبُ الساكنُ في الكنوبيون»؟ فأجابه الشيخُ قائلاً: «إن الذي يسكن في الكنوبيون، ينبغي أن يكونَ جميعُ الإخوةِ عندَه واحداً في المحبةِ، وأن يحفظَ لسانَه وعينَه، وحينئذ يكونُ في راحةٍ». سأل أخٌ شيخاً: «ماذا يصنعُ الإنسانُ في بليةٍ تأتي عليه»؟ فأجابه: «ينبغي له أن يبكيَ قدام الله، ويطلبَ منه أن يعينه كالمكتوب: إن الربَّ عوني فلا أخشى، ماذا يصنعُ بي الإنسانُ». قال مار باسيليوس: «ماذا ينفعُني إذا أتممتُ الفضيلةَ كلَّها، ثم أقول لأخي: يا أحمق، فأكون قد استوجبتُ جهنم، هو ذا السليح يعقوب يقول: إن تمَّم الإنسانُ الناموسَ كلَّه وأخطأ في أمرٍ واحدٍ، فهو في الكلِّ مُدانٌ. لن تستطيع إدراكَ شيءٍ من مُرضاةِ الله بغير الاتضاع، فلا تفرِّغ أفكارَك في استقصاءِ عيوبِ الناسِ وخطاياهم، ولكن تفرَّغ لتفتيش عيوبَك وخطاياك». قال شيخٌ: «إن كان الراهبُ حريصاً مجاهداً بالحقيقةِ، فإن اللهَ لا يشاءُ له أن يكونَ مرتبطاً البتةً بشيءٍ من متاعِ هذه الدنيا، حتى ولا بإبرةٍ صغيرةٍ، لئلا تفصلَ فكرَه من ذِكر ربنا يسوعَ المسيحِ، وتُشغلَه عن التوبةِ عن خطاياه. كلُّ إنسانٍ قد ذاق حلاوةَ المسكنةِ، فإنه يستثقلُ الثوبَ الذي يلبسه، والكوزَ الذي يشرب فيه الماءَ، لأن عقلَه قد اشتغل بأشياءٍ أخرى روحانية، الذي لم يُبغِض بعدُ متاعَ الدنيا، كيف يقدرُ أن يُبغِضَ نفسَه، كما قال السيدُ»؟ وقال أيضاً: «ويحٌ لنفسٍ قد اعتادت أن تسألَ عن كلامِ اللهِ، وتسمعه ولا تعمل شيئاً بما تسمع». وقال أيضاً: «ويحٌ لشابٍّ يملأ بطنَه ويصنعُ هواه، لأن رهبانيته وتلمذته وكلَّ تعبهِ يكونُ باطلاً». قال شيخٌ: «إن كان إنسانٌ يُجرِّبه إبليسُ بأوجاعِ الخطيةِ، ويبكي وينوح لذلك بين يدي الله، فإن اللهَ يشتاقُ إليه، لأن التنهدَ قادرٌ أن يحلَّ الخطيةَ، والبكاءَ يغسلُ الذنوبَ». قال أنبا زينون: «إن كنتَ تريدُ أن تقطعَ عروقَ شيطانِ الزنى، وتهلكه عنك، فكف فمَك عن دينونةِ الناسِ كلّهم، ولا تقع بواحدٍ من ورائه، وقِر بخطاياك دائماً، فهذا هو عونٌ لك وسلاحٌ قوي، أما إن أسلمتَ نفسَك لكثرةِ الكلامِ، فإن الملاكَ الذي معك يتنحى عنك، ويلتقي بك الشياطين أعداؤك، ويُمَرِّغونك في دنسِ الخطيةِ. ليس شيءٌ يُصَيِّرنا مثلَ الله، سوى عدم الحقدِ، وأن نكونَ بلا شرٍّ قبالة الذين يسيئون إلينا». من أقوال أنبا نيلس، قال: «احتفظ بأبوابِ السمعِ، وأفضل منها بأبوابِ العينين، فقد اعتادت سهامُ الشرِّ الدخولَ من هذه الأبوابِ. احتفظ بالإمساكِ، كي ما تضع حركاتَ الجسدِ، فإن مَرِضَ فعزِّه حتى يجيءَ إلى الصحةِ، دون أن تلازمَ اللَّذات. صلِّ ألا تأتيك البلايا، فإن أتتك، فتصبر لها. أنت تحب أن تعملَ الفضيلةَ بلا تعبٍٍ، ولكن اعلم أن التعبَ إنما لزمنٍ قصيرٍ، أما الأجرُ فيدومُ إلى الأبدِ. لا تحوِّل وجهَك عن دموعِ المسكينِ، لئلا تُحتقرَ دموعُك في زمنِ الشدةِ، إن أمسكتَ بطنَك، اضبط أيضاً لسانَك، لئلا يكونَ الواحدُ عبداً والآخرُ حراً بلا منفعةٍ. إن أحببتَ السمائيات، فما لك والأرضيات التي تمنعك عن أن تطيرَ نحو السمائيات. إنْ دِنَّا أنفسَنا، رضيَ الديانُ عنا، لأنه يفرحُ مثل صالحٍ، إذا هو أبصرَ الخاطئَ (يتوب) فيطرح عنه حزمَتَه (أي ثقل خطاياه). إن كنا قد فعلنا أمراً نجساً، فلنغسلَه بالتوبةِ. تنهد على قريبك إنْ هو أخطأ، كما تتنهد على نفسِك، لأننا كلَّنا تحتَ الزللِ. لتكن الصلاةُ بيقظةِ العقلِ، لئلا تطلبَ من اللهِ أموراً لا يهواها. إذا صليْتَ، اصعد بأفكارِك إلى اللهِ، وإن هي نزلت ودارت فارفعها أنت أيضاً. اصبر للأحزانِ، لأن بها يأخذُ المجاهدون الأكاليلَ. ما ألذُّ وأطيبُ خبزَ الصومِ، لأنه معتوقٌ من خميرِ الشهواتِ. إن عملتَ بيديك، فليكن اللسانُ مزمِّراً، والعقلُ مصلياً، لأن اللهَ يحبُ أن تذكرَه دائماً أبداً. ينبغي أن تتكلمَ بالحسناتِ لكي ما تبدأ بالأعمالِ، حيث تستحي من الكلامِ. طهِّر النفسَ بالدموعِ في الصلاةِ، ولكن بعدَ الصلاةِ، اذكر لماذا كانت الدموعُ. لا تختلط بالذي تراه يتباعد من الصالحين. أعطِ البطنَ ما يقوته، لا ما يهواه. لا تحب التنعمَ، لأنه يجلبُ حبَّ العالمِ. أُمُّ الشرِّ هي التواني بالخيرات. لا تبغض المسكنةَ لأنها تُصيِّر المقاتلَ بلا همٍّ. لا تفرح بالغنى لأن الاهتمامَ به يُبعدُ الإنسانَ عن اللهِ وهو كارهٌ. لا تغفل عن أن تصنعَ رحمةً، ولا تحب أن تستغني عن طريقِ ضيافةِ الغرباءِ. داوم أبداً على تلاوة المزامير، لأن ذِكرَها يطردُ الشياطين. اعتبر الصومَ حصناً، والصلاةَ سلاحاً، والدموعَ غسيلاً. إن شُتمتَ تَفَكَّر إذا كنتَ قد فعلتَ ما تستأهل بسببهِ الشتيمة، فإن كنتَ قد فعلتَ، فاحتسب الشتيمةَ بمنزلةِ المجازاة، وإن كنتَ لم تعمل، فلتكن عندك شبهَ الدخانِ. الطريقُ التي توصِّل إلى الفضيلةِ، هي الفرارُ من العالمِ. الذي لا يُبغضُ الخطيةَ، مع الخاطئين يُدان ولو لم يكن قد فعلها. إذا نظرنا في أمورِ أنفسنا، فلن ندين آخرين. أمورٌ كثيرةٌ هي فينا، ونحن نلومُ بها غيرَنا. إن كان لك غنى بدِّده، وإن لم يكن لك، فلا تجمع. اصنع الخيرَ بالمساكين، فإنهم يُرضون الديانَ عوضاً عنك. إن شربتَ الشرابَ فقلِّل منه، لأن قِلَّته تنفعُ شاربه. أظهر إسكيمَ الفضلِ، لا لكي تَخدعَ، ولكن لكي تنفعَ الناظرين. كن في الكنيسةِ مثلَ من هو في السماءِ. امشِ ولا تتكلم، ولا تحب الأرضيات. على من يخطئ احزن، لا على من يتمسكن، لأن هذا مُكَلَّلٌ، وذاك يُعذَّبُ. ويلٌ للظالمِ لأن غناه يفرُّ منه، وتلقاه نارٌ لا تُطفأ. ويلٌ للمتوانين، لأنهم يتمنون الزمانَ الذي غفلوا فيه فلا يجدونه. ويلٌ لمحب الزنى، فإنه يخرجُ من عرشِ الملك وهو مخزيٌ. ويلٌ للمحتالِ والسكرانِ، فإنهما يدانان مع القتلةِ والزناةِ. ويلٌ للذي يأخذُ بالوجوهِ، فإن الراعي يجحده والذئابُ تفترسه. طوبى للذي يسلكُ الطريقَ الضيقةَ الحزينةَ، فإنه يفرحُ ويدخلُ إلى السماءِ وهو مُكلَّلٌ. طوبى لمن اقتنى أمراً رفيعاً، وفكراً متضعاً، فإنه يتشبه بالمسيحِ، ومعه يجلسُ في الملكوتِ. طوبى لمن ألزمَ لسانَه للناموسِ، فإن اللهَ لا يفارقه في مسكنِه. طوبى لمن بدَّد السيئات التي جمعها، فإنه يقوم قدام الديان مُزكى». قال شيخٌ: «أنا قلتُ لنفسي يوم خروجي من العالم: إني اليومَ وُلدتُ، واليوم بدأتُ بعبوديةِ الربِّ. كذلك كن كلَّ يومٍ بمنزلةِ الغريب، الذي يترجّى الرجوع بالغداةِ». لقي أنبا جراسيموس امرأةً في البريةِ عريانةً، فلما أبصرته توارت عنه، لكنه أراد أن يكلِّمها، فتوارت خلفَ صخرةٍ وكلَّمته. فقال لها: «كم لكِ في هذه البريةِ»؟ قالت: «خمسون سنةً». قال لها: «ماذا كان غذاؤكِ»؟ قالت: «إن الخالقَ لا يُضيعُ ما خلق». قال لها: «فماذا أبصرتِ في هذه البريةِ»؟ قالت: «ما أبصرتُ غيرَ المسيحِ وأعماله وصنائعه». قال لها: «ففيما الخلاص»؟ قالت: «في تركِ ما أنت فيه». قال لها: «وما هو»؟ قالت: «شغلك بالبكاءِ على خطاياك، أولى من سؤالك امرأةٍ عما لا ينفعك». قال لها: «صدقتِ»، وعمل مطانية، وانصرف. |
|||
17 - 09 - 2013, 04:03 PM | رقم المشاركة : ( 5 ) | |||
| غالى على قلب الفرح المسيحى |
|
رد: من تعاليم القديس برصنوفيوس
ربنا يبارك فى خدمتك المميزة ويفرح قلبك |
|||
17 - 09 - 2013, 04:09 PM | رقم المشاركة : ( 6 ) | |||
..::| مشرفة |::..
|
رد: من تعاليم القديس برصنوفيوس
|
|||
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
تصميم | القديس برشنوفيوس الراهب |
القديس برشنوفيوس الراهب|تصميم |
القديس برشنوفيوس الراهب |تصميم |
استشهاد القديس برشنوفيوس الراهب |
القديس الأب برصنوفيوس |