صلاة الكاملين
(درجة اللا صلاة في بلد الأسرار)
بقلم يوحنا الدّلياتي
(الشيخ الروحاني)
يبقى الراهب الذي لم يَزَل يصلّي لله بواسطة الحركات تحت درجة الكمال.
إلاّ أنك تقول: "لا تُجدِّف يا أخي! إن آباءنا يُعظمون هذه الصلاة فوق الأعمال كلها".
وأنا أيضاً من مادحيها، وأسأل إلهي أن أكمل بها بقية حياتي. وأعترف بأنها عظيمة وجليلة أيضاً، وهي أعلى من جميع الأعمال الأخرى. ومع أنها شاقة ومتعبة إلا أنها تريح المُتعبين، وإذا ما استراحوا فإنهم لن يتعبوا بعد ذلك.
افهم يا أخي هذا الأمر جيدأً:
قال ربنا لسمعان، هامة الرسل: "وأعطيك مفاتيح ملكوت السموات" (مت 16)، لكي تغلق وتفتح لمن تُريد. ولم يَمنَح هذا السلطان له وحده فقط، بل أعطاه أيضاً لكل محبي الحقّ.
فالصلاة هي قرع باب المعطي، ولكن كيف يقرع الباب، ذاك الذي دَخَل الملكوت ومُنِحَ السلطان على خزائنه؟
بل ماذا؟ أنه يتنعَّم بالخيرات. يَندَهشُ ويَتَعَجَّبُ بجمال (الله) الصالح.
وإنه لَمِن المُضحك أن يقال إنه يصلّي صلاة، ذاك الذي سَكَرَ إلى هذا الحدّ بجمال العريس الفائق البهاء.
كما يقول أوغريس: "الصلاة هي طهارة العقل، تلك التي لا تنقطع حركاتها إلاّ بإشراق نور الثالوث القدوس على العقل". فهو يقول إذاً: "إنَّ الصلاة تنقطع بواسطة التعجب (الدَهَش) الذي يثيره النور". وهكذا فإن الكمال هو التعجُّب الذي يثيره الله - كما قلنا - وليس دوام حركات الصلاة. فالذي دخل إلى بَلَد الأسرار، يُقيمُ في العَجَب (الدَهَش) الذي يكمن فيها. وهذه هي الصلاة الحقيقية التي تَفتح باب خزائن الله، ليُعطى الملتمسون ملء حاجاتهم. "مجاناً أخذتهم، فمجانا أعطوا أنتم أيضاً" (مت 10) لكل من تُريدون.
فكيف يجرؤ إنسان أن يقول عن اولئك الذين أعطي لهم السلطان على الغنى لكي يعطوا منه - كما لو كان مالهم - لكل من يريدون، إنهم بالباب واقفون ويقرعون مثل شحاذين ويطلبون الصدقات لكفاف حاجاتهم؟
بالحقيقة، لا .
بل أنهم بالأحرى يُوزّعون الحياة، ويُقيمون الموتى، ويَنشرون الرجاء، ويَهبون النور للعُميان. فقد قال "أنتم نور العالم" (مت 5)، "لك أعطي المفاتيح" (مت 16). إذن، لن تكون مُلتَمساً بعد اليوم لأن في يدك السُلطان لتربُط وتَحلّ، كالمالك في هذا الدهر وإلى دهر الداهرين. فكيف يتذلل هذا مِن بَعدُ على الباب ليستعطي مثل مُتشرِّد، في وقت وُضعت في يَده مفاتيح بيت المال ليأخذ ويُعطي، ليحيا ويُحيي؟
لكنك تقول: لماذا صَعَدَ سمعان إلى السطح ليصلي، ولماذا قال بولس ذاك العظيم "صلوا بلا إنقطاع"؟ هؤلاء يا أخوتي استعملوا الكلمات التي تناسبنا وعلى قدر معرفتنا، وبواسطتها اعطونا مثالاً لتلك الأمور الفائقة. وهذه الكلمات هي لنا وليست لهم على الإطلاق. أو ما سمعت أن بطرس حين صعد إلى السطح ليصلي وقع عليه الذهول (الدَهَش)؟ فكيف لمن كان في حالة الدَهش والعَجَب، أن يصلي صلاة؟ "الروح نفسه هو الذي يصلي عنا" (رو 8) كما يقول بولس الرسول. وهذا حقاً فعل الروح نفسه، لا حركات الصلاة. كما قال "إن الله أشرق في قلوبنا" (2 كو 4)، وأن "روحه يفحص أعماقه، ويكشف لنا أسراره" (1 كو 2). وإن أردنا أن نقوم بهذه الصلاة، فروح يسوع لن يأذن لنا لأننا نملكُ فكر المسيح، لنرى أسرار بيت الآب.
لقد دخلوا إذاً إلى بلد العَجَب، واقتنوا السلطان في عالم الرؤى. وقد وحَّدهم الروح بجمال العَجَب، ولن يتعبوا من بَعدُ في الصلاة. لن يبكوا من بَعدُ على الباب، ولن يصرخوا أبداً من بعيد قائلين: "أرنا جمالك". ولن يَستَجدوا كالمُتسولين: "وَزِّع علينا ثروتك". بل يُعطون لأنهم قد أخذوا. يوزِّعون لأنهم قد اغتنوا. يُريحون الآخرين لأنهم قد وجدوا راحة في ميناء الحياة. إنهم يَفرحون ويُفرِّحون الآخرين، لأنهم سكروا بمحبة الله الفائق الجمال.
"أنهار ماء حيّة تجري حقاً من جوف من آمن بي" (يو 7).
لماذا تجري هذه الأنهار ياربي؟ علمّني.
إنها تُحيي الآخرين، وتُروي العطاش.
وكيف يُصلي صلاة ذاك الذي صار واحداً مع المسيح؟ كمثل من لم يقتني دالة مع ربَّ البيت؟ ولمن يصلي وقد أصبح ابن الله؟ حقاً، "إنّ أباكم الذي في السموات يعرف ما تحتاجونه قبل أن تسالوه" (مت 6).
ولماذا قال: "صلوا ولا تملوا" (1 تس 17:5)؟ لأنه مادام هو عبداً، فإنه يصلي صلاة. ومتى ولد من الروح في عالم الصلاة، يصير ابنَ الله ويُعطى السلطان على الثروة كوارثٍ لا كسائل يستجدي.
حقاً إن الصلاة هي أعظم من الأعمال كلها. فهي تفتح باب بلد العَجَب وتُريح من التَعَب وتهدئ جميع الحركات.
ولعلك تقول لي: "أنت تتكلم عن العَجَب، ولا أعرف أنا قوة العَجَب (الدَهَش)"
دعني أقدّم لك عنه شهادة أخ صادق في ما يقول: "عندما ترتضي بي نعمة ربي، وتجذب ذهني إلى التَعَجُّب من رؤيته، كنت أقيم يوماً كاملاً بلا حركة في بلد العَجَب". ولما كان يخرج من هنالك، كان يصلي ويتضرّع لكيما يشرق له نور "الكائن" الخفي بداخله، في العالم المملوء دهشاً. ومن هنا، لم يَعُد هناك مجالُ لكلمات ... هنا وضع الحدّ، وهو: السكوت. العقل فقط هو الذي يُسمح له أن يَعبُر وَيَرى مكان إستراحة كل الأسرار. فالعقل له قدرة أن يدخل ويندهش بالجمال العجيب الذي هو فوق الكل، والمخفي في داخل الكل.
إذاً فكلُّ صلاة لا تتحوّلُ من وقت إلى وقت إلى الدَهَش بالأسرار لا تكون قد وصلت بعد إلى الكمال. كما أن صلاة الحركات أيضاً لا تثبت دائماً، إن كانت لم تذق البتة من لذة الدَهَش التي تأتي من الفرح بالله.
الصلاة الدائمة هي الذهول (الدَهَش) بالله.
هذا مختصر كلامنا .
ربما تُجيب بعد ذلك: "لا تتفوه بهذه الأمور التي تجهلها، ولا تتكلم عما لم تجرّب". أنا أيضاً أحني رأسي من خجلي وأصمت، محتمياً بالرحمة الإلهية، فأعني أنت بصلواتك.