لأننا بالإيمان نسلك لا بالعيان
بقلم: شكري حبيبي
تتضمن هذه الآية ”أَنَّنَا بِالإِيمَانِ نَسْلُكُ لاَ بِالْعِيَانِ“ (2كورنثوس7:5) معانيَ عديدة، سنحاول التطرق إلى بعض منها في هذه المقالة.
أولاً: علينا أن نلاحظ في البداية أن الله كان يتعامل مع الشعب القديم عن طريق العيان، بالرغم من أن الإيمان كان مطلوباً منهم وضرورياً لخلاصهم. فلقد ظهر الله لإبراهيم ودعاه ووعده بأرض معينة. ثم ظهر لابنه إسحق ثم من بعده ليعقوب وأحفاده وتعامل معهم بشكل محسوس. وتكرر الأمر مع يوسف وموسى الذي لقّب بكليم الله. وقاد الله الشعب القديم بيد قوية وأخرجهم من أرض العبودية (مصر). وعبر بهم البحر الأحمر، وكان معهم في البريّة، وأجرى معهم عجائب. ثم أدخلهم أرض كنعان. وطلب منهم أن يقيموا أولاً خيمة الاجتماع، ثم أن يبنوا الهيكل على نمطها. وأن يقدموا الذبائح والعبادات فيه. لا بل كان محضر الله في الهيكل. وخصص سبط لاوي لكي يخدموا في الهيكل، وسبط هارون ليكونوا كهنة له. وحارب عنهم، وأجرى معهم عجائب لا تحصى ولا تعد. ثم أعاد سبط يهوذا من السبي البابلي بحسب وعده. كل هذا كان بشكل مرئي وملموس، أي في العيان.
ثانياً: عندما أتى الرب يسوع المسيح تتميماً لنبوءات العهد القديم، أكّد على صحة رسالته، وحقيقة كونه ابن الله الوحيد، بإجراء العجائب الباهرة. ثم مات على الصليب متمماً عمل الفداء والتكفير عن خطية الجنس البشري. وقام من بين الأموات معلناً انتصاره الكامل على أعداء الإنسان الثلاثة: الخطيّة والموت وإبليس. وعندما ظهر المسيح لتلاميذه في يوم الأحد الثاني من قيامته، بعد ثمانية أيام من ظهوره الأول، قال لتوما الذي شكّ بقيامته: ”هَاتِ إِصْبِعَكَ إِلَى هُنَا وَأَبْصِرْ يَدَيَّ، وَهَاتِ يَدَكَ وَضَعْهَا فِي جَنْبِي، وَلاَ تَكُنْ غَيْرَ مُؤْمِنٍ بَلْ مُؤْمِنًا“. أَجَابَ تُومَا وَقَالَ لَهُ: ”رَبِّي وإِلهِي!“. قَالَ لَهُ يَسُوعُ: ”لأَنَّكَ رَأَيْتَنِي يَا تُومَا آمَنْتَ! طُوبَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَرَوْا“ (يوحنا 27:20-29). أي أكد الرب يسوع المسيح على حقيقة الإيمان دون العيان. ”طُوبَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَرَوْا“. وهكذا أعطى الطوبى للذي يؤمن فقط، مبتدئاً بذلك مرحلة جديدة في تعامل الله مع الإنسان من خلال الإيمان فقط وبدون أي دور للعيان. أي بدون أية رؤية أو أي شيء ظاهر للعيان أو ملموس.
ثالثاً: دعونا نعود الآن إلى الوراء قليلاً، فعندما قالت المرأة السامرية للرب يسوع: ”يَا سَيِّدُ، أَرَى أَنَّكَ نَبِيٌّ! آبَاؤُنَا سَجَدُوا فِي هذَا الْجَبَلِ، وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ إِنَّ فِي أُورُشَلِيمَ الْمَوْضِعَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُسْجَدَ فِيهِ“. قال لها الرب يسوع المسيح: ”يَا امْرَأَةُ، صَدِّقِينِي أَنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ، لاَ فِي هذَا الْجَبَلِ، وَلاَ فِي أُورُشَلِيمَ تَسْجُدُونَ لِلآبِ. أَنْتُمْ تَسْجُدُونَ لِمَا لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ، أَمَّا نَحْنُ فَنَسْجُدُ لِمَا نَعْلَمُ. لأَنَّ الْخَلاَصَ هُوَ مِنَ الْيَهُودِ. وَلكِنْ تَأْتِي سَاعَةٌ، وَهِيَ الآنَ، حِينَ السَّاجِدُونَ الْحَقِيقِيُّونَ يَسْجُدُونَ لِلآبِ بِالرُّوحِ وَالْحَقِّ، لأَنَّ الآبَ طَالِبٌ مِثْلَ هؤُلاَءِ السَّاجِدِينَ لَهُ. اَللهُ رُوحٌ. وَالَّذِينَ يَسْجُدُونَ لَهُ فَبِالرُّوحِ وَالْحَقِّ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدُوا“. قَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ: ”أَنَا أَعْلَمُ أَنَّ مَسِيَّا، الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْمَسِيحُ، يَأْتِي. فَمَتَى جَاءَ ذَاكَ يُخْبِرُنَا بِكُلِّ شَيْءٍ“. قَالَ لَهَا يَسُوعُ: ”أَنَا الَّذِي أُكَلِّمُكِ هُوَ“ (يوحنا 19:4-26).
أتى كلام الرب يسوع كوقع القنبلة على المرأة السامرية وعلى كل اليهود، وحتى على تلاميذ المسيح الذين سمعوا كلامه بعدها. لقد أكد الرب يسوع على انتهاء عهد قديم وبدء عهد جديد. على انتهاء العيان والملموس وكل ما يتعلق بهما، وبدء زمن جديد أسمى وأرقى: لا في هذا الجبل، ولم يقف المسيح هنا بل أضاف: ولا في أورشليم. أجل ولا في أورشليم. أورشليم التي كانت تعتبر ”مَدِينَةُ الْمَلِكِ الْعَظِيمِ“ (متى 35:5ب). أورشليم التي كان فيها هيكل الله، ومحضره القدوس، والذي تُقدّم فيه الذبائح. لا بل اكّد المسيح أن الساعة قد أتت الآن حين تنتهي أورشليم من كونها مركز العبادة لله، وحين ينتهي عمل الهيكل وكل ما يقدّم فيه من ذبائح. ولم يكتفِ المسيح بذلك بل أضاف قائلاً: إن الساعة قد أتت الآن ”حِينَ السَّاجِدُونَ الْحَقِيقِيُّونَ يَسْجُدُونَ لِلآبِ بِالرُّوحِ وَالْحَقِّ، لأَنَّ الآبَ طَالِبٌ مِثْلَ هؤُلاَءِ السَّاجِدِينَ لَهُ. اَللهُ رُوحٌ. وَالَّذِينَ يَسْجُدُونَ لَهُ فَبِالرُّوحِ وَالْحَقِّ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدُوا“. وهنا انتقل المسيح بنا من العيان وكل ما يتعلق به من مدينة أورشليم والهيكل وتقديم الذبائح، إلى الإيمان، أي إلى العبادة بالروح والحق. وهنا نستخلص نتيجة هامة وهي: أن السلوك بالإيمان يعني العبادة بالروح والحق. بينما يشير العيان إلى العبادة في الهيكل وتقديم الذبائح.
حقاً إنها لحقيقة روحية هامة، لقد انتهى زمن العيان هنا على الأرض وبشكل نهائي وكامل، وبدأ زمن الإيمان، زمن العبادة بالروح والحق، وفي أي مكان من العالم. إلى ان نلتقي مع فادينا ومخلصنا في السماء، عند مجيئه الثاني الباهر العظيم.
رابعاً: لهذا لم يكن غريباً أن يتحدّث كاتب سفر العبرانيين عن هذه الحقائق الهامة. فأكد انتهاء مفعول الهيكل القديم، وانتهاء الكهنوت، وبطلان الذبائح، وأنها جميعاً شبه السماويّات. وتحدّث في المقابل عن الرب يسوع المسيح رئيس الكهنة الحقيقي، الذي دخل قدس الأقدس الحقيقي في السموات، مقدّما جسده ذبيحة كفارة عن الخطيّة. ثم تكلّم عن العبادة بالروح والحق، وكيف سيجعل الرب نواميسه في أذهان شعبه، أي المؤمنين به، ويكتبها على قلبه (راجع عبرانيين 8). وعاد ليؤكد على أهمية دور الإيمان، وتفوقه على العيان، حتى في زمن العهد القديم. وأن رجال الله المؤمنين في القديم كانوا ينتظرون وطناً سماوياً أفضل، بدل الوطن الأرضي الزائل (عبرانيين 12:11-16).
خامساً: إن هذه الآية تؤكد على انتهاء عصر الرموز والإشارات إلى الأبد، ومجيء عصر إتمام كل شيء. لقد كان العهد القديم هو عهد الإشارات والرموز، لكن عندما أتى المشار والمرموز إليه الذي هو الرب يسوع المسيح، لم يعد هناك من داع للعمل بالإشارات والرموز، أو حتى بالعودة إليها. قَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ: ”أَنَا أَعْلَمُ أَنَّ مَسِيَّا، الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْمَسِيحُ، يَأْتِي. فَمَتَى جَاءَ ذَاكَ يُخْبِرُنَا بِكُلِّ شَيْءٍ“. قَالَ لَهَا يَسُوعُ: ”أَنَا الَّذِي أُكَلِّمُكِ هُوَ“. فالمسيح - المسيّا المنتظر - قد أتى، وهو الذي لم يخبرنا بكل شيء فحسب، بل تمّم كل شيء (راجع أعمال 20:3-21). وكما ذكر سفر العبرانيين أن المسيح هو رئيس الكهنة الحقيقي الذي قدّم الذبيحة الحقيقة، ودخل إلى قدس الأقداس الحقيقي في السماء. وليس هذا فحسب، بل أصبح كل من يؤمن اليوم بالمسيح هو من نسل إبراهيم، ومن شعب الله الواحد، الذي يرث كل المواعيد التي وعدها الله قديماً لإبراهيم ونسله. ”فَإِنْ كُنْتُمْ لِلْمَسِيحِ، فَأَنْتُمْ إِذًا نَسْلُ إِبْرَاهِيمَ، وَحَسَبَ الْمَوْعِدِ وَرَثَةٌ“ (غلاطية 29:3).
أجل، إننا نسلك في برية هذا العالم بالإيمان لا بالعيان. ونعبد الله بالروح والحق في أي مكان نكون فيه، وليس في أورشليم وفي الهيكل. ولسنا بحاجة لكي نقدّم ذبائح حيوانية لأن المسيح هو ذبيحتنا الوحيدة التي كفّرت عن كل خطايانا. ونحن على يقين كما قال الرسول بولس:
”لأَنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّهُ إِنْ نُقِضَ بَيْتُ خَيْمَتِنَا الأَرْضِيُّ، فَلَنَا فِي السَّمَاوَاتِ بِنَاءٌ مِنَ اللهِ، بَيْتٌ غَيْرُ مَصْنُوعٍ بِيَدٍ، أَبَدِيٌّ... فَإِذًا نَحْنُ وَاثِقُونَ كُلَّ حِينٍ وَعَالِمُونَ أَنَّنَا وَنَحْنُ مُسْتَوْطِنُونَ فِي الْجَسَدِ، فَنَحْنُ مُتَغَرِّبُونَ عَنِ الرَّبِّ. لأَنَّنَا بِالإِيمَانِ نَسْلُكُ لاَ بِالْعِيَانِ. فَنَثِقُ وَنُسَرُّ بِالأَوْلَى أَنْ نَتَغَرَّبَ عَنِ الْجَسَدِ وَنَسْتَوْطِنَ عِنْدَ الرَّبِّ“ (2كورنثوس 1:5، 6-8). هذا هو رجاء كل مؤمن بالمسيح.