13 - 12 - 2012, 01:59 PM | رقم المشاركة : ( 21 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: الأنبا أنطونيوس أول الرهبان وكوكب البرية
القديس أنطونيوس كأب لفكرة وطريق، وأب لمنهج روحي جديد القديس الأنبا أنطونيوس له فضائل وميزات عديدة، لعلكم سمعتموها من قبل لذلك أتحير في كل سنة، عن آي شيء أخاطبكم. ولكن لعل من الأشياء التي نذكرها في مقدمة ميزات هذا الإنسان البار، أنه أحد الأوائل. أقصد أنه واحد من الذين شقوا طريقا جديدا، طريقا صعبا وجميلا، لم يسبقه إليه أحد من قبل. رهبان كثيرون ملأوا الدنيا آلاف وملايين. لكنه كان أول راهب في العالم، له مكانته، لأنه أول من سار في الطريق، وأول من وضع نظمه وأسلوب حياته، وأول من شرحه للناس وعرفهم به. تماما كما نقول مثلا أن كثيرين كتبوا عن لاهوت السيد المسيح. لكننا نذكر القديس أثناسيوس الرسولي كأول لاهوتي كبير، ألف، ورد على الأريوسية في هذا المجال.. وكثيرون كرزوا باسم السيد المسيح في أرض مصر. لكننا نذكر أسم القديس مار مرقس، لأنه أول من كرز فيها، ولم يسبقه في ذلك أحد من قبل. إن الأوائل الذين بدأوا الطريق،لهم مكانتهم. كلنا، إن سرنا في طريق الرهبنة، إنما نتبع أقدام القديسين الأوائل، وكما ساروا نسير. أما القديس الأنبا أنطونيوس، فحينما شق طريقه في الرهبنة لم تكن هناك أقدام سبقته في هذا المجال من قبل. إنه أب لطريق،بل أب لأصعب طريق، طريق الموت عن العالم، طريق التجرد الكامل عن كل شيء. وقد سار في هذا الطريق وحده،لما بدأ.. عظمة الأنبا أنطونيوس، أنه لم يوجد أحد يقوده ويرشده في الرهبنة بل هو الذي قاد وأرشد الكل. كل من يترهب حاليًا، آباء ومرشدين، يشرحون له كيف يبدأ، وكيف يتدرج وينمو. ويحكون له أسرار الحياة الرهبانية وأعماقها وطقسها، ويظهرون له حروب وحيل الشياطين، وكيفية الانتصار عليها.. ويمسكون بيد هذا المبتدئ، ويقودونه خطوة خطوة، حتى يصل.. أما الأنبا أنطونيوس فلم يجد له مرشدا، وسار وحيدا. يقول الكتاب: "اثنان خير من واحد لأنه إن وقع أحدهما، يقيمه رفيقه. وويل لمن هو وحده إن وقع، إذ ليس ثان ليقيمه" (جا 4: 9،10). وكان الأنبا أنطونيوس وحده، ولكن لم يقع.. سار وحده في طريق الرهبنة، بلا أب، بلا مرشد، بلا زملاء في الطريق، بلا تعزية من أي إنسان. بل أيضا بدون الوسائط الروحية المتاحة للجميع، بلا كنيسة.. بلا شيء يسنده في الغربة والقفر والوحدة والحروب.. سوى إيمانه بأن الله معه. ومع ذلك لم يستصعب الطريق، بل سار وحده، ومعه الله. لهذا نحن نكرم الأنبا أنطونيوس.. وكل الذين يترهبون الآن، مهما ارتفعوا، لا يمكن أن يصلوا إلى درجة هذا القديس فعلى الأقل الدفعة أتتهم من الخارج. هناك من تابعوهم في حياتهم الروحية النسكية، حتى وصلوا.. لكن الأنبا أنطونيوس، أتته الدفعة الأولى من داخله. ولما دخل إلى الرهبنة في أيامه، دخل إلى المجهول.. سار في طريق لا يعرف معالمه، ولا يعرف حروبه. حاليا توجد كتب للرهبنة، يوجد بستان الرهبان، والعديد من الكتب النسكية، كتبها كبار الآباء عن الحياة الرهبانية، وتوجد أيضا سير الآباء المتوحدين والسواح. والذي لا يجد مرشدا، يمكنه أن يتعلم من الكتب.. أما في وقت رهبنة الأنبا أنطونيوس ترد على الذين يبررون في سقطاتهم، معتذرين بأنهم لم يجدوا أب اعتراف، ولا مرشدا روحيا، ولا قدوات صالحة أمامهم. لذلك سقطوا! هو ذا الأنبا أنطونيوس لم يجد شيئا من هذا كله، ومع ذلك سار في طريق الكمال بلا عثرة. وكان الرب يرشده.؟ إنه لم يكن أبا للرهبان فقط، إنما أبا للرهبنة ذاتها. هو ذا الذي وضع أسسها وروحها، وقدم للعالم صورته. وإن أردنا أن نفهم ما هي الرهبنة في أصولها، إنما نرجع في ذلك إلى الأنبا أنطونيوس.. لذلك كانت حياته ذات تأثير عجيب، أينما عرفت.. كانت سيرته مسكا لأنها كانت شيئا جديدا على العالم.. كانت حياته جديدة لم يعرفها العالم من قبل.. لقد أعطى العالم صورة جديدة عن طقس في الحياة لم يكن مألوفًا من قبل،وهذا الإنسان العجيب، الذي يسكن الجبال والمغاير والبرية القفرة، وتمر عليه ثلاثون سنة لا يرى فيها وجه إنسان، ومع ذلك فهو سعيد في وحدته وعزلته ونسكه.. كان أعجوبة في عصره. مجرد النظر اليه كان يفرح القلب.. كما قال أحد تلاميذه: [يكفيني مجرد النظر إلى وجهك يا أبى]. وكثيرون أحبوا الرهبنة لمجرد النظر إلى وجهه، واشتهوا أن يحيوا نفس حياته التي أعجبوا بها.. لقد كانت حياته،فى صمت، عظة جذبت إليه الكثيرين. كانت حياة جديدة. لم تكن هروبا من العالم.. الأنبا أنطونيوس، كان شابًا غنيًا، وكان العالم منفتحا أمامه. كان يملك ثلاثمائة فدان من أجود الأطيان في الصعيد، وكان أبوه ذا مركز وسلطان، ويستطيع أن يرث أباه في المركز والكرامة. إن الدنيا لم تضق في وجهه ليهرب منها. فلماذا إذن تركها؟ إنه لم يهرب من العالم، بل أرتفع فوق مستوى العالم وكان هذا هو سر عظمته، وسر إعجاب الناس به.. لقد أرتفع فوق مستوى الأطيان، فوق مستوى الغنى، وفوق مستوى السلطة، بل فوق مستوى العالم كله، بكل شهواته. وشعر أن العالم كله ليست له قيمة.. تفاصيل من لوحة محاربات القديس أنطونيوس، 1878، الفنان فيليسيان روب وأعطى للناس درسا عمليا في تفاهة العالم، كما أعطاهم درسا مقابلا في اهتمام الإنسان بأبديته، قبل كل شيء. وفيما كان الناس يتنافسون على ملاذ العالم وعظمته، وجدوا أنسانا يرتفع فوق هذا المستوى كله، وينظر إلى شهواتهم كتفاهات، ويحمل عصاه في يده، ويضرب بقدمه في البرية، خارجا من العالم بإرادته، واهبا كل أمواله للفقراء، لكي يحيا حياة الفقر الاختياري.. مع الله. وكان هذا شيئا جديدا عل الناس. وكان جديدا عليهم أيضا أن يسكن في مقبرة.. ومهما ضربته الشياطين فيها، وأخافته بكل طرق الرعب، يظل باقيا متحديا قوة الشياطين، قائلا لهم [.. وإن كان الله لم يعطكم سلطانا على، فلن يستطيع أحد منكم أن يؤذيني].. إنسان يظهر له الشياطين بهيئة أسود وفهود ونمور، وبأصوات مفزعة، يحاربونه لكيما يخاف ويرجع. ولكنه يصمد. إنه فوق مستواهم، وفوق مستوى مقدرتهم وسلطانهم... لقد أرتفع فوق مستوى الخوف،لا في المقبرة، ولا في الوحدة. لم يخف الشياطين، فخافت منه الشياطين.. وكان هذا شيئا جديدا على الناس، أذهلهم واستهواهم. من هذا الذي يعيش في أعماق الجبل وحده، حيث الوحوش والحيات ودبيب الأرض، وحيث العزلة المخيفة، والوحدة المملة، وحيث حروب الشياطين؟! ومع ذلك فهو لا يخاف، ولا يل، بل يحيا سعيدا، مفضلا هذه الحياة على كل ملاذ العالم..! رجل له قلب من حديد. دخل البرية ليس فقط بالنسك والزهد والصلاة، وإنما أيضا بشجاعة عجيبة. إنه نوعية جديدة من الناس، لم يرها البشر من قبل. أغلق على نفسه مغارة ثلاثين سنة، لا يستقبل أحد. وكان الناس يقرعون على بابه، ويتركون له بعض الحبوب والبذور، ويمضون لشأنهم.. وأخيرا لم يحتمل الناس البعد عنه. كان وراء هذا المجهول شيء يستهويهم. كان وراء بابه المغلق شيء يجذبهم.. فظلوا يقرعون بابه. ولما لم يفتح لهم، كسروا الباب ودخلوا، وقالوا له: نريد أن نعيش معك، ونحيا الحياة التي تحياها، بأية طريقة، نبقى معك تحت ظل صلواتك. استهوتهم هذه الحياة المرتفعة عن مستوى العالم واستهواهم هذا القلب، الذي يحيا وحده، مكتفيا بالله.. هذا القلب، الذي لا يحتاج إلى عزاء الناس، لأن عزاء الله يكفيه.. والذي لا يحتاج إلى أحاديث الناس،لأن الحديث مع الله يشبعه. استهواتهم حياته كلها، فبقوا معه.. هذه هي عظمة الأنبا أنطونيوس. لم يكن سرها ارتفاعه في فضائل معينة كأن يطوى بعض الأيام صومًا كالقديس مقاريوس الإسكندري، كلا بل كان لعظمته سبب أخر: سر عظمته، أنه اكتشف طريقا، ما كان الناس يعرفونه قبلا. وأحب الناس هذا الطريق، وأحبوا الأنبا أنطونيوس معه. كانت للأنبا أنطونيوس فضائل كثيرة. فكان مشهورا باتضاعه، وبصلاته، ومعرفته وإفرازه وزهده. ولكن ما أكثر من اتصفوا بهذه الصفات. أما الذي ينفرد به هذا القديس عن الجميع، فهو قيادته لطريق الرهبنة الروحي. في فترة حديثة، كان البعض يتشاجرون ويصيحون قائلين: "لا بد من أن يكون البطريرك من الرهبان..!" أما في أيام الأنبا أنطونيوس، فلم يكن البطاركة من الرهبان. كانت الرهبنة طقسا روحيا، أعلى من عمل الرعاية، حقا لم تكن أعظم من الكهنوت ورئاسته، وإنما كانت حياة أجمل، هي الأقرب إلى حياة الملائكة.. من الآباء كان يقبل أن يترك جمال الرهبنة ويصير بطريركا؟! عاش الأنبا أنطونيوس 105 سنة، وعاصر بطاركة عديدين. ولم يصير من الآباء البطاركة، بل شماس من تلاميذه، هو الأنبا أثناسيوس صار بطريركًا. وبقى الأنبا أنطونيوس في حياته الروحية الحلوة. بكل عمقها، وكل ارتفاعها. ساعة واحدة يقضيها مع الله، يمكن أن تنفع الكنيسة أكثر من جهاد سنوات وشهور في عمل الرعاية.. لما انتشرت البدعة الأريوسية، وصارت خطرا على الكنيسة، وظل القديس أثناسيوس يقاومها بالآيات والتفسير، وبالجدال اللاهوتي والحوار المنطقي، أرسل الآباء الأساقفة إلى القديس الأنبا أنطونيوس، لكي ينزل إلى الإسكندرية. لا للجدل اللاهوتي، فما كان رجل جدال، وإنما من أجل تأثير روح الله الذي فيه. فنزل القديس، وكان عمره حوالي المائة عاما. وقضى في الإسكندرية ثلاثة أيام كان لها تأثير عجيب عميق في الناس. يكفى أن يسمعوا من فمه الطاهر أن الابن مساو للأب في الجوهر.. كلمة يقولها بلا جدال، تسندها حياته المملوءة قدسا المحبوبة من جميع الناس، تذكرنا بقول قائد المائة للرب: "قل كلمة فقط، فيبرأ غلامي" وكان الناس ينتظرون من الأنبا أنطونيوس أن يقول كلمة فقط. فقال وأحدثت الكلمة تأثيرها. القديس الذي كان مرعبا للشياطين، أما كان مرعبا للهراطقة؟! وبعد ذلك تقول سيرة القديس، أنه عاد إلى ديره، كغريب يلتمس وطنه. حقا كان العالم غريبا عليه.. غريبا على رجل الجبال والبراري والوحدة..وأبى الرهبنة الأصلية. وصدقوني أن كلمة (رهبنة) ترجمة غير سليمة لحياة الوحدة. إن كانت مأخوذة من عبارة: يرهب الله آي يخافه، فالقديس الأنبا أنطونيوس نفسه قال لأولاده: [أنا لا أخاف الله. ذاك لآني أحبه، والمحبة تطرح الخوف إلى خارج] (1يو 4: 18). فبماذا نسمى الرهبنة التي قادها الأنبا أنطونيوس؟ الرهبنة هي حياة الملائكة الأرضيين أو البشر السمائيين. الرهبان بشر يحيون حياة الملائكة، وهم على الأرض. وقد كان القديس الأنبا أنطونيوس هو أول الملائكة الأرضيين. لي يا أخوتي مقر في دير الأنبا بيشوى، أقضي فيه نصف أو ثلث كل أسبوع. وفى أعلى هذا المقر، لي كنيسة خاصة أسميتها: "كنيسة الملاك ميخائيل والأنبا أنطونيوس هو رئيس الملائكة الأرضيين. غير أن الأنبا أنطونيوس يتميز على الملاك ميخائيل بميزتين: *الأولى أن الملاك ميخائيل، خلقه الله هكذا، ملاكا.. أما الأنبا أنطونيوس. فقد ولدته أمه إنسانا. ولكنه تحول بسيرته الطاهرة إلى ملاك، وأصبح في مقدمة الملائكة الأرضيين. *والميزة الثانية أن الأنبا أنطونيوس ولد على الأرض، واستطاع أن يحول الأرض إلى سماء، والرهبان إلى كواكب، فسموه: "كوكب البرية" وسموا "تلاميذه كواكب البرية".. لقد أكتشف الأنبا أنطونيوس أن الدنيا لا تساوي شيئًا. وهذا الاكتشاف عرفه قبله اثنان، وبقيا يعملان في الدنيا. أولهما سليمان الحكيم، الذي قال أن الكل باطل وقبض الريح، ولا منفعة تحت الشمس (جا 2: 11). ومع ذلك بقى سليمان حياته كلها يعيش وسط هذا الباطل. والرجل الثاني هو القديس بولس الرسول، الذي قال: "خسرت كل الأشياء وأنا أحسبها نفاية، لكي أربح المسيح" (فى3: 8). ومع أنه عرف أنها نفاية، بقى في الدنيا من أجلنا، يخدم، لأنه ائتمن على وكالة. وهكذا عاش في الدنيا، ولم يعش في نفايتها. سليمان بقى في العالم كملك، وبولس بقى كرسول. أما الأنبا أنطونيوس، فلم يبق في العالم، ولو للخدمة. أرتفع فوق مستوى الخدمة الأرضية التي كانت لسليمان، وفوق مستوى الخدمة الرعوية التي كانت لبولس. وعاش في الخدمة الملائكية التي كانت لطقس السارافيم. وقدم لنا هذه الحياة نموذجا لطقس الملائكة الأرضيين. كل راهب في الدنيا يعتبر نفسه أبنا للقديس الأنبا أنطونيوس، ليس الأقباط فقط، وإنما الكاثوليك أيضًا، وكل الأرثوذكس شرقيين وغربيين، وكل محبي الوحدة في العالم.. الكل يشتركون معا في محبته، وفى إكرامه، وفى البنوة له. لقد قدم للعالم كله حياة التأمل والصلاة، حياة الوحدة والسكون، حياة الزهد والتفرغ الكامل لله.. قدم لنا حياة جديدة، لا تستمد عظمتها من الخارج. لا تستمد عظمتها من الألقاب، ولا من الجاه والسلطان، ولا من الوظائف، ولا من الكهنوت، ولا من الرعاية، ولا من العلم والجدل والمعرفة. إنما تستمد عمقها من الداخل، من الصلة الدائمة بالله، في حياة الروح. هذا هو المنهج الجديد الذي قدمه الأنبا أنطونيوس. ونحن نكرمه كأب لهذا المنهج، ونقول: مبارك هو الرب الذي منحنا الأنبا أنطونيوس. وفتح لنا به بابا للسمائيات، وقدس أقداس وسط الجبال.. وقدس لنا رمل البرية، وتلالها، ومغائرها. وصارت مغارة الأنبا أنطونيوس مزارًا يتبارك به الناس من كل أنحاء العالم، ليروا مكانا حل الله فيه، مرافقًا للأنبا أنطونيوس ومباركًا. ونشكر الله لأن الأنبا أنطونيوس فبل أن يقود الرهبنة. لم يصر أن يحيا وحده كالأنبا بولا، في عزلة كاملة عن العالم، يقضى حياته كلها لا يرى وجه إنسان.. مبارك هو اليوم الذي قبل فيه الأنبا أنطونيوس، أن يرشد آخرين، ويعلمهم هذا الطريق الملائكي الذي أختبره. |
||||
13 - 12 - 2012, 02:02 PM | رقم المشاركة : ( 22 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: الأنبا أنطونيوس أول الرهبان وكوكب البرية
الأنبا أنطونيوس كتلميذ يتعلم مصادر معرفته: ما مصادر المعرفة عند الأنبا أنطونيوس؟ وممن إستقى تعليمه؟ فلا يمكن لشخص أن يرتقى إلى رتبة التعليم، ما لم يتعلم أولا ويتتلمذ ويفهم. فأين تتلمذ القديس الأنبا أنطونيوس؟ وعلى يد من؟ كان الأنبا أنطونيوس يطلب المعرفة من كل مصدر: وكانت هذه هى الصفة الأولى في تلمذته.. يطلب العلم من كل مصادره. لا يتعلم فقط من الأساتذة الكبار، وإنما من كل شيء، ومن كل أحد، ومن كل حادث، ومن كل شخص حتى لو كان خاطئا.. *أول درس له، تعلمه من إنسان ميت: القديس أنطونيوس المصري الكبير أب الرهبان يزور القديس الأنبا بولا أول السواح في الصحراء (البرية) - لوحة في قطع مذبح أيزنهيم للفنان ماتياس جرونوالد (1510-1516)، وهي محفوظة في متحف أونترليندن بكولمار، ألساس - الآن في فرنسا وعجيب أن يتلقى أول درس له في الرهبنة، لا من إنسان حي، إنما من شخص ميت. وكان هذا الميت هو أبوه.. لما مات أبوه، نظر إلى جثمانه المسجى، وتعلم من هذا الموت شيئًا.. نظر إلى أبيه الميت، الذي كان يملك ثلاثمائة فدان من أجود أطيان قمن العروس ببني سو يف، وكان له غنى ونفوذ بين مواطنيه، وقال له: [أين هى قوتك وعظمتك وسلطانك؟ أنت خرجت من العالم بغير إرادتك. ولكنني سأخرج منه بإرادتي، قبل أن يخرجوني كارها]. وهكذا تلقى أول درس في الموت عن العالم. تأمل في ذلك الرجل الغنى العظيم، الذي كان يملأ الدنيا قوة وسلطة، وهو الآن بلا حراك، لا يملك حتى التصرف في جسده! * أما الدرس الثاني، فأخذه من الإنجيل.. والأنبا أنطونيوس كان يسمع كلام الله في عمق، وكان جادا في سماعه. وكل كلمة يسمعها، كان يعتبر أنها موجهة إليه شخصيا.. ففي إحدى المرات -وهو في الكنيسة- سمع قول الرب للشاب الغنى: "إن أردت أن تكون كاملا، أذهب بع كل مالك وأعطه للفقراء، وتعال اتبعني". وكان أول من سمع هذا الكلام الإلهي شابا غنيا مثله سمع ومضى حزينا مع أنه سمع هذه الآية من فم الرب يسوع المسيح نفسه، من صوت السيد المسيح المملوء تأثيرًا وعمقًا وروحانية. ولكنه لم يتأثر ولم ينفذ، لأن محبة المال كانت في قلبه. أما الأنبا أنطونيوس، فلما سمع هذه العبارة، وكان هو أيضا شابا غنيا، لم يمضى حزينا، وإنما مضى وباع ما له فعلا، وأعطاه للفقراء. أخذ الآمر الإلهي بطريقة جدية، لأنه كان يسير في حياته بهذا الأسلوب الجدي.. ولما بدأ يدبر الأمور، ويفكر كيف يصرف هذا المال، وكيف يدبر أيضا مستقبل أخته،، مضى إلى الكنيسة فسمع صوت الرب: "لا تهتموا بما للغد". فأعتبر هذا الكلام أيضا موجها إليه هو بالذات، وأسرع في الخروج من العالم. بينما في أيامه، لم تكن هناك رهبنة بالمفهوم الحالي، والنظام الحالي، لأنه هو أول الرهبان. كم من مرة نسمع نحن الآيات تقرأ علينا في الكنيسة، ولا نتأثر ونعمل مثلما تأثر بها الأنبا أنطونيوس وعمل..! ولكنه كان إنسانا يود أن يستفيد، ويعتبر أن كلام الله للعمل، وليس لمجرد السماع والمتعة الروحية به. كان جادا في سماعه، يحول كلام الله إلى حياة. كان يعمل بقول الرب: "الكلام الذي أقوله لكم، هو روح وحياة". فكان يفهم الروح الذي في الكلام، ويحوله إلى حياة.. لقد تعلم درسه الأول في الرهبنة من موت أبيه. وتعلم درسه الثاني من آيات الإنجيل التي سمعها. فمن تعلم درسه الثالث إذن؟ تعلم درسه الثالث من القدوة الحسنة.. كان هناك بعض النساك يعيشون على حافة القرى. ففي أول خروج الأنبا أنطونيوس تعلم من هؤلاء النساك. ولم يشأ أن يكون مقلدًا لشخص معين منهم، وإنما أخذ من كل واحد شيئا: كان يتعلم من هذا الهدوء، ومن ذاك الوداعة والاتضاع، ومن ثالث الصمت، ومن رابع المداومة على الصلاة، ومن خامس النسك، ومن سادس السهر.. كان يبحث عن الشيء الفاضل في آي إنسان يقابله، ويتعلمه منه، دون أن يكون صورة طبق الأصل لشخص واحد بالذات. *أما الدرس الرابع، الكبير، فتعلمه من امرأة مستهترة.. كان متوحدا إلى جوار النهر، وإذا بامرأة لا حياء لها، قد جاءت إلى حيث كان ساكنا يتعبد. وبدأت تخلع ملابسها لتنزل إلى البحر لتستحم أمامه، وهى لا تخجل! أما هو فقد خجل، وأنبها قائلا: [يا امرأة أما تستحين أن تتعرى أمامي وأنا رجل راهب؟!] فأجابته: [لو كنت راهبا، لدخلت إلى الجبل في البرية الجوانية، لأن هذا المكان لا يصلح لسكنى الراهبان]! قالت ذلك، وهى تضحك منه باستهزاء..! أما الأنبا أنطونيوس، فأخذ كلمة الاستهزاء هذه، بجدية، وقال: [حقا هذا صوت الله لي على فم هذه المرأة]. وقام فعلا، وترك ذلك المكان، شاعرا أنه لا يناسبه فعلا كراهب، ودخل أعماق الجبل، وكان دخوله بركة العالم.. حتى كلمة الاستهزاء والتهكم التي سمعها، أخذها بعمق وروحانية وتنفيذ. ولم يغضب بسببها، إنما أنتفع روحيا.. ويبدوا أن نساء شريرات كثيرات، كن على غير قصد منهن، سبب بركة وتعليم لكثير من القديسين: وكما يقول الكتاب أن الله يخرج من الجافي حلاوة (قض14: 14). + وقد رأينا كيف أن الأنبا أنطونيوس أنتفع روحيا من كلمة قالتها امرأة لا تستحي من أن تتعرى أمامه. + والقديس مقاريوس الكبير، كان سبب دخوله إلى البرية أيضًا، امرأة أخطأت مع شاب، وحملت منه، ولما أنكشف أمرها اتهمت هذا القديس المتوحد ظلما. فأتى أهلها وأهانوه أشد إهانة وكلفوه بالعانيه بها، ولما حان موعد ولادتها لأبنها، تعسرت ولادتها جدًا. وكادت تموت، فاعترفت بخطيئتها وظلمها لهذا القديس، فأتى الناس ليعتذروا إليه، فهرب من المجد الباطل، وترك تعبده على حافة القرية، ودخل إلى البرية. + امرأة خاطئة أخرى، قابلت القديس مار أفرام السرياني، والظاهر أنه كان جميل الصورة جدًا، فأخذت تتأمل جمال وجهه، وثبتت عينيها على وجهه، فخجل ولامها على ذلك، فقالت له. [أنا امرأة، في الأصل مأخوذة من رجل، فمن الطبيعي أن أنظر إليك. أما أنت فرجل مأخوذ في الأصل من تراب، كان ينبغي أن تنظر إلى التراب الذي أخذت منه].. فأنتفع القديس مار أفرايم، وجعل وجهه في الأرض، وتركها ومضى، واستفاد من عدم حيائها.. وطبعا لا يجوز أن تفعل النساء هكذا، معتمدات على منطق هذه المرأة! فإنها امرأة خاطئة، وليست مثالا. عموما، آن الشخص الذي يريد أن يستفيد روحيا يمكنه أن يتخذ كل مصدر لفائدته، حتى المرأة الخاطئة. وكما يقول الكتاب: "كل شيء طاهر للطاهرين" (تى 1: 15). إن ربنا يسوع المسيح علمنا أن نستفيد دروسًا روحية، من تأملنا لزنابق الحقل التي تلبس أعظم من سليمان في كل مجده، ومن طيور السماء التي لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن، وأبونا السماوي يقوتها. ولقد أعطانا دروسا، من الزارع والبذار، ومن الحنطة والزوان، ومن الشباك والصيد، ومن الخميرة، ومن الابن الضال. لأن من أراد أن ينتفع، يمكنه أن ينتفع. ومن له أذنان للسمع، سيسمع ما يقوله الروح للكنائس. وعلى رأى أحد الآباء الروحيين، الذي قال: [تعلمت الصمت من الببغاء]. آي أنني لما رأيت تفاهة الثرثرة، تعلمت الصمت. لقد تعلم القديس الأنبا أنطونيوس دروسه الأربعة: من جسد إنسان ميت، ومن آيات الإنجيل، ومن القدوة الصالحة، ومن صوت الله على فم امرأة خاطئة.. فماذا كان المصدر الثابت لتعليمه، ليس في الدرس الخامس فقط إنما في دروس عديدة؟ * لقد تعلم أيضا من التأمل في الكتاب: عيبنا في هذا الزمان أننا نقرأ كثيرا، ولكن تأملنا قليل، لذلك لا ندخل إلى أعماق المكتوب.. أما الأنبا أنطونيوس، فلم تكن لديه كتب كثيرة مثلنا. كان راهبًا بسيطًا، من غير المعقول أن ينتقل في البرية من مكان إلى أخر وهو مثقل بأحمال من المخطوطات! كان يقرأ قليلا في كتاب الله، ولا يقف عند المعنى الخارجي للكلمة، أو المفهوم السطحي، إنما يدخل في عمق إلى روحانية الكلام، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. وحسبما قال القديس بولس الرسول: "خمس كلمات بفهم، أفضل من عشرة آلاف كلمة بدون فهم" (1كو 14: 19). بهذا كان القديس أنطونيوس يفهم معاني الكتاب أكثر من غيره. وبهذا شهد له الكثيرون. *وكان القديس أنطونيوس يتعلم أحيانا من أولاده.. من أولاده الذين هو معلمهم. كما قال، أنه كان يأخذ أحيانًا من تلميذه الأنبا بولس البسيط، وكان هذا يسكن في مغارة تحت مغارة معلمه في الجبل. وكانت في حياته بساطة ونقاوة، يصلح سلوكه أن يكون نافعا ومفيدا لمن يرغب في المنفعة. وهناك أمور تعلمها القديس أنطونيوس من الله مباشرة، عن طريق الكشف، آو عن طريق الملائكة: فلما حورب بالضجر في الوحدة، أرسل له الله ملاكا يريه كيف يصلى ويعمل بيديه، ويقاتل الضجر بعمل اليدين. وأراه الملاك الزي الرهباني، القلنسوة المملوءة صلبانا.. ولما حورب بالمجد الباطل، أرشده الله إلى حيث يوجد القديس الأنبا بولا السائح، ليأخذ درسًا من حياته ويتضع. وقد تعلم القديس أنطونيوس أيضا من الخبرة ومن حروب الشياطين: كان يتعلم من الحيل التي يستخدمها الشياطين معه، ومن أفكارهم وحروبهم ومحاولاتهم لإسقاطه. وهكذا بالخبرة والممارسة تدرب على أشياء كثيرة، واتسعت معارفه. ولهذا بعد أن قضى تلميذه الأنبا بولس البسيط فترة معه، يتتلمذ عليه، ويعيش تحت ظل صلواته، وكان يود أن يستمر هكذا، أمره الأنبا أنطونيوس أن يسكن في مغارة وحده، (لكى يجرب حروب الشياطين).. ويختبر، ويتعلم، ويتقوى.. وفى الواقع كانت اختباراته كثيرة وعلى مدى طويل: لقد عاش في حياة الوحدة والنسك والصلاة أكثر من ثمانين عامًا، وقد حفلت -وبخاصة في بدايتها- بالعديد من الحروب، أثارها الشياطين عليه لكي يبعدوه عن هذه الحياة الملائكية: حاربوه بالأفكار والشكوك وشككوه في هذا الطريق، وفى مصير أخته، وفى إمكانية استخدام المال للخير بدلا من توزيعه على الفقراء. وحاربوه بالحواس، والمناظر المخيفة، وحاربوه في عفته بمناظر العبث والنساء. وظهروا له بهيئة فهود ونمور وأسود وحيوانات متوحشة ليرعبوه فانتصر عليهم ولم يخف. وقال لهم: [لماذا هذا التجمهر؟ لو كنتم أقوياء، لكان واحد منكم فقط يكفى لمحاربتي، بينما أنا أضعف من مقاتلة أصغركم].. نقطة ذكاء.. حاربوه أيضا بالضرب والإيذاء.. وبالأخص حينما كان يسكن في المقبرة، في بدء رهبنته. وربما يكون قليل من القديسين قد ضربوا من الشياطين ضربًا عنيفًا، كما حدث للأنبا أنطونيوس. لقد ضربوه بعنف شيطاني لا رحمة فيه، حتى تركوه في المقبرة ما بين حي وميت. وهو نفسه قال عن هذا الحادث: [إن الضربات التي كانت تقع على. كانت من القوة والعنف، بحيث أنني لا أظن أن قوة بشرية تستطيع أن تضرب بمثل ذلك الإيلام وبمثل تلك القسوة]... ولما جاء العلماني الذي يخدمه ووجده هكذا، حمله إلى كنيسة القرية وهو في غيبوبة، فبكى عليه الناس. وعند منتصف الليل تقريبا، وكان الناس قد انصرفوا، فتح الأنبا أنطونيوس عينيه، وسأل الأخ العلماني: [أين أنا؟] فلما أخبره أنه في كنيسة القرية، قال له: [احملني إلى المقبرة]. ولما أدخله فيها، قال له: [اغلق وأمضى]. ثم أعتدل الأنبا أنطونيوس وقال للشياطين. [إن كان الله قد أعطاكم سلطانا على، فمن أنا حتى أقاوم الله؟! وإن كان الله لم يعطكم سلطانا، فلن يستطيع أحد منكم أن يؤذيني!]. وبدأ يرتل مزاميره: الرب نوري وخلاصي ممن أخاف؟! الرب عاضد حياتي ممن أرتعب؟ عند اقتراب الأشرار منى ليأكلوا لحمى، مضايقي وأعدائي جزعوا وسقطوا. إن يحاربني جيش، فلن يخاف قلبي. وإن قام على قتال، ففي هذا أنا مطمئن". وكانت الشياطين تنحل أمامه كالدخان وتمضى صارخة.. ولما أنتصر هكذا على الشياطين، بدأت الشياطين تخافه عالمة أنه أقوى منها. وتعلم هو من هذا دروسا.. تعلم أن لا يخاف من الشياطين، وتعلم قوة الصلاة والمزامير وعجز الشياطين أمامها. وتعلم الشجاعة أيضًا، والصلابة في الجهاد. وأخذ خبرة في العمل الروحي وفى حروبه. ومن ذلك الحين، بدأت الشياطين تخافه، لأنه هزمها في أكثر من ميدان. وألقى فيما بعد عظته عن ضعف الشياطين. وأخذ قوة من ذلك كله، على إخراج الشياطين وطردهم: وعاش هذا الجبار وحده في الجبل، يملأ البرية صلاة وتأملات وتسبيحا وترتيلا وقدسية وطهرا، وترتعب منه الشياطين، وتحيطه الملائكة. وعرف متى يقول لهم في أتضاع: أيها الأقوياء، ماذا تريدون منى أنا الضعيف؟ أنا أضعف من أن أقاتل أصغركم. ألا تعلمون أنى مجرد تراب ورماد؟ وتواضعه هذا كان يحرقهم ويطردهم بعيدًا.. وعرف أيضا متى يكون حازما وشديدا معهم. ويقول لهم في ثقة. [لو كنتم أقوياء، لكان واحد منكم يكفى لمحاربتي]. [إن كان الله لم يعطكم سلطانا على، فلن يستطيع أحد منكم أن يؤذني].. وأستطاع أيضا أن يميز أفكارهم وخداعهم وأحلامهم: فى إحدى المرات أتاه الشيطان مرة ليوقظه ليصلى!! فلم يسمع منه. وقال له: متى أردت أن أقوم للصلاة، سأقوم وأصلى. ولكن منك أنت لا أسمع. وفى إحدى المرات تعجب البعض من سر كشفه لهم، فسألوه عن ذلك قال: [أتى الشياطين في حلم وأخبروني]... لقد أكتسب إفرازا وعلما من حروب الشياطين: إن الأنبا أنطونيوس في تعليمه لغيره، إنما كان يعلم من حصيلة خبرة طويلة، لم يكن يعلم من معرفة الكتب. لم يحدث أنه قرأ كتابا وفهمه، وأخذ أفكاره وشرحها للناس. إنما كان يحيا الحياة، ويجرب ويختبر. ثم يعلم: لقد عرف الشياطين وحروبهم، وعرف الأفكار وحروبها، وعرف الجسد وحروبه، وجرب الرؤى والأحلام.. ومن ناحية أخرى ذاق حلاوة العشرة مع الله، في الوحدة والصلاة، والتعزيات الإلهية، والكشف الإلهي، والتأمل ومن واقع هذه الخبرة الطويلة مدى عشرات السنوات، كان يتكلم كلاما عمليا عن خبرة وتجربة، وليس كلامًا من الكتب. لذلك كان لكلامه تأثير.. إن خبرة 90 سنة في الروحيات ليست أمرا هينا إنها رحلة طويلة مشاها مع الله في الجبل المقدس.. مشوار طويل مشاه في البرية، في الصحراء، يده في يد الله، وحياته في قلب الله.. يختبر ويذوق ما أطيب الرب. * والقديس الأنبا أنطونيوس، كانت له عينان مفتوحتان، تكشفان الأسرار وتستطيعان أن تمزقا الحجب، وتريان ما لا يرى. في مرة من المرات كان واقفا مع تلاميذه، ثم رأوه قد سها قليلا ونظر إلى فوق فترة، ثم تنهد. فسألوه.. فقال: [لقد أنتقل اليوم عمود كبير من أعمدة الرهبنة.. لقد رأيت روح الأنبا آمون وهى صاعدة إلى السماء تزفها الملائكة].. صدقوني يا أخوتي، لقد وقفت مذهولا فترة أمام هذه العبارة..! ما الذي رآه الأنبا أنطونيوس؟ وكيف رأى؟ إن أرواح البشر لا تراها العين المحسوسة المادية، وكذلك أرواح الملائكة! فهل رأى الأنبا أنطونيوس هذه الرؤيا بالروح أم بالجسد! إن كان بالروح فكيف وهو في الجسد؟! وإن كان في الجسد فكيف؟ هل ظهرت الملائكة في هيئة منظورة، كما يظهرون أحيانا للبشر، وهل كذلك ظهرت روح الأنبا آمون؟ أم كان الأنبا أنطونيوس في ذلك الوقت: "في الروح "كما كان يوحنا الحبيب (رؤ 1:10)، "في الجسد أم خارج الجسد؟ لست أعلم. الله يعلم" (2 كو 12: 2). كان الأنبا أنطونيوس رجلًا مفتوح العينين، يكشف له الله أمورًا وأسرارًا. وقد تعلم كثيرا من الكشف الإلهي، وتعلم من الرؤى ومن الملائكة.. كما سبق له وتعلم من الموت ومن الحياة، من الأبرار ومن الخطاة، ومن التأمل في كلام الله.. ولما امتلأ علما فاض من علمه على الآخرين.. وكان الفلاسفة يأتون إليه، ليتعلموا من هذا الأمي في نظر فلسفة اليونان والرومان..! هذا هو الأنبا أنطونيوس العجيب.. الكنيسة مملوءة من العلماء والفلاسفة والمفكرين، ومملوءة من الأساقفة والمطارنة والبطاركة وكل رتب الكهنوت. ولكن ليس فيها كثيرون من أمثال الرجل العظيم الأنبا أنطونيوس! من هذه الطاقة الروحية الجبارة، التي احتقرت الدنيا وما فيها..وزهدت كل شئ: المال والشهرة والأسرة، ومتع الأرض كلها، والجسد.. فأصبح الله له هو الكل في الكل. نادرا ما نجد إنسانا ناسكا زاهدا عابدا، مثل الأنبا أنطونيوس! فكم بالأكثر إنسانًا قائدًا معلمًا مثالًا في هذا الطريق كالأنبا أنطونيوس! نبغ في الروحيات، اختبرها، وعلمها لغيره، بالتعليم والقدوة الصالحة.. نطلب بركة هذا القديس العظيم، وبركة هذه الكنيسة المقدسة.. ولإلهنا المجد الدائم إلى الأبد أمين، |
||||
13 - 12 - 2012, 02:04 PM | رقم المشاركة : ( 23 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: الأنبا أنطونيوس أول الرهبان وكوكب البرية
القديس أنطونيوس أعطى أم أخذ؟ لا شك أن القديس أنطونيوس قد أعطى الرب كل شئ: إنه حسب الوصية: "مضى وباع كل ما له وأعطاه للفقراء"..أعطى الرب ثلثمائة فدان من أجود أطيان بنى سو يف. وأعطى الرب أيضا ما كان ينتظر من مركز وجاه كوريث لوالده. وأيضا زهد فكرة الزواج وما كان يمكن أن ينجبه من أولاد. وكذلك زهد كل ما في الدنيا من علم ومعرفة ومتع وصلة بالناس.. ومع كل ذلك يلح علينا السؤال: هل هذا القديس قد أعطى أم أخذ؟ أم أعطى فأخذ؟.. وننتقل من هذا السؤال إلى سؤال آخر يتبعه: هل الرهبنة عطاء أم أخذ؟ أم هى عطاء يتحول إلى أخذ؟ أو عطاء يكافأ بأخذ؟ الأخذ فيها أكثر من العطاء؟ * هذا القديس أعطى الله قطعة أرض (300 فدان). ولكن الله أعطى الأرض كلها، والسماء أيضًا.. فأصبح له في كل بلد من البلاد أديرة، وكنائس، وأماكن مقدسة. وأصبحت له كل البرية أيضًا، وكل الأديرة التي على أسماء قديسين آخرين، لأنه أبو الرهبنة في العالم كله. فهل أعطى أم أخذ؟ أنني حينما أرى الأراضي والأملاك الموقوفة على دير الأنبا أنطونيوس في مصر وحدها. أرى أنها أكثر مما تركه القديس الأنبا أنطونيوس في قمن العروس..! بالإضافة إلى أرض الأحياء.. وانظروا إن كلمة ربنا يسوع المسيح لم تسقط أبدا، حينما قال: "من ترك أبا أو أما.. أو أخوة أو أخوات، أو زوجة، أو مقتنيات من أجلى، يأخذ مائة ضعف في هذا العالم، وملكوت السموات" (مر 10: 29). لعل البعض حينما أعطى القديس أنطونيوس أرضه للرب، قالوا عنه: مسكين، ضيع نفسه وأرضه وثروته ومستقبله..! بينما يرد الرب عليهم قائلا: من أضاع نفسه من أجلى يجدها" (مت 16: 25). ويقول الكتاب للأنبا أنطونيوس: "مناك ربح عشرة أمناء" (لو 19: 16). · ماذا ترك القديس أيضا غير الأرض؟ هل ترك أولادا؟! لنفرض أن الشاب أنطونيوس، بدلا من الرهبنة تزوج وأنجب، كم من أبناء كان سينجب؟ خمسة؟ عشرة؟ عشرين؟.. هودا له الآن آلاف من أبنائه الرهبان في كل جيل، يصل عددهم إلى ملايين منذ بدأ الحياة الرهبانية في أواخر القرن الثالث حتى الآن.. يضاف إلى ذلك ملايين من أبنائه الروحيين مثلكم، من غير الرهبان.. حقا أن السيد المسيح حينما قال أن يعوض: "مائة ضعفا" كان منكرا لذاته في كرمه، لأنه أعطى بآلاف الأضعاف.. لوحة اغراءات القديس أنطونيوس (أو محاربات وإخفاق القديس أنتونيوس (وهي اللوح اليمين من لوح ثلاثي عن نفس الموضوع)، عمل الفنان هيرونيموس بوش (1450-1516)، زيت على قماش بمقاس 131.5×53 سم، مرسومة حوالي سنة 1501 (ما بين 1495-1515) - المتحف القومى للفنون القديمة، ليسبون. بل قد جعل الله هذا القديس يتخطى حدود المكان والزمان: هذا الذي ترك بلده، وتوحد في الجبل لأجل الله، تاركا العالم لأجله، أصبح العالم كله يتحدث عنه. اسمه وصل إلى أقطار المسكونة كلها. لا توجد قارة من قارات العالم الست، لا تعرف الأنبا أنطونيوس! اسمه تخطى حدود قريته، بل حدود مصر، بل حدود أفريقيا، حتى في أيامه.. وأصبح له أولاد وأديرة وكنائس في كل موضع. وأصبحت له أماكن مقدسة لا تعد. حقا، هل أعطى أم أخذ؟! · وماذا أعطى القديس الأنبا أنطونيوس أيضا للرب؟ هل أعطاه عمرا؟ هو ذا الله جعل حياة الأنبا أنطونيوس تتخطى الزمان! كثيرون تنتهي حياتهم في الأرض بوفاتهم، وينساهم جيلهم بعد حين، وتناسهم الأجيال. هو ذا قد مر أكثر من 16 قرنا على نياحة الأنبا أنطونيوس، وما زال حيا بيننا حتى الآن، حيا في مبادئه، وفى تعاليمه، وفى أولاده، وفى النهج الذي أختطه، وفى ذاكراه... إنه من الأسماء الخالدة التي لا تنسى. إنه روح كبيرة، أكبر من الموت. لم يستطع الموت أن ينهى رسالتها. فلم تقتصر حياته على جيله، بل تختطه عبر الأجيال، ولا تزال بيننا. إنه صاحب حياة بدأت ولم تنته.. عند رهبنة كل راهب، يصلون عليه صلاة الأموات(أعنى المنتقلين). على اعتبار أنه مات عن العالم. ولكن قديسنا هذا بموته عن العالم، دخل في الحياة التي لا تنتهي، وما زال بها حيا بيننا. أتراه أعطى الله حياة كرسها له، أم أخذ حياة لا تنتهي؟! · هل لأجل الله أيضا ترك جاها وسلطانا وعظمة وشهرة؟ إذ كان أبوه بالجسد ذا جاه وعظمة يورثها لأبنه.. هناك وأتخيل لو بقى القديس أنطونيوس في مكان أبيه، آي مستقبل كان ينتظره؟ أتراه كان سيصير عمدة البلدة قمن العروس؟ أو أعظم رجل في المركز أو في محافظة بنى سو يف، مدى حياته، ثم ينساه الناس، كما نسوا أسم أبيه على الرغم مما كان له من عظمة وجاه وغنى..! هو ذا الأنبا أنطونيوس في جيله، يرسل إليه الأمبروطور قسطنطين يطلب بركته، ويأتيه الفلاسفة والنبلاء من كل مكان يطلبون حكمته. وينال شهرة لم ينلها أحد. وتسميه الكنيسة: "العظيم الأنبا أنطونيوس". أتراه حقا في هذه النقطة، أعطى أم أخذ؟! *ماذا ترك أيضا لأجل الله؟ أتراه ترك الكهنوت؟ فلم نسمع أنه نال من درجات الكهنوت أو رئاسة الكهنوت.. ولكن هو ذا أولاده صاروا بطاركة وأساقفة. بل أن البابا البطريرك في أيامه (القديس أثناسيوس الرسولى) كان أحد أولاده الروحيين. وجميع بطاركة العالم يسجدون في مواضعه المقدسة ويطلبون بركاته.. وكل رتب الكهنوت، مهما علت، تطلب في القداس الإلهي صلوات الأنبا أنطونيوس، وتتشفع به الكل يعتبرون أنفسهم أولاده.. صدقوني، لو أكتشف قطعة قماش صغيرة، ثبت أنها من ثوب للأنبا أنطونيوس لتنافس عليها كل بطاركة العالم وكهنته ورهبانه. ترك الأنبا أنطونيوس الكهنوت ورئاسته. فصار كل رجال الكهنوت من أولاده. أتراه في ذلك أعطى أم أخذ؟! حقا أن الله يعطى أكثر مما يأخذ، بما لا يقاس: يأخذ حبة قمح، ليعطيك سنابل مملوءة قمحا. يأخذ نواة بلح، ليعطيك نخلة، تحمل آلافا من ثمار البلح. وللأسف، البعض يحجمون عن العطاء. تطلب الكنيسة من أم أن تعطى أبنها للرهبنة أو الكهنوت، فتبكى وتمرض كأن كارثة ستحدث! تعجبني جدا في الأمهات، القديسة حنة أم صموئيل النبي. لم تنجب أبناء. ولما وهبها الرب صموئيل، أعطته للرب وكان وحيدها! فأعطاها الرب أولادا آخرين كثيرين، لعلكم لا تذكرون أسماءهم (1صم 1: 22)، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. أما الابن الذي أعطته للرب فهو الوحيد الذي خلد أسمه، وعرفت هى به أنها "أم صموئيل". أعط أذن للرب، وسيرد لك أضعافا، دون أن تطلب أو تنتظر. الأنبا أنطونيوس أعطى حياته للرب، وليس فقط أملاكه. فماذا حدث؟ أعطاه الرب بدلا من هذه الحياة الأرضية، حياة روحية خصبة. حياة أبدية مثمرة في ملكوته، أعطاه أيضًا حياة أبنائه.. بل أن الأنبا أنطونيوس ذاته، تحول إلى رمز.. أصبح ليس مجرد شخص، وإنما صار رمزا، رمزا لحياة الوحدة والصلاة والتأمل والزهد والنسك، رمزا لحياة الرهبنة بكل ما فيها من فضائل وروحانيات. وكما قيل في إحدى القصائد: أنت رمز لحياة طهرت أشتهي الخالق يوما أن تكون أصبح رمزا لحياة الهدوء والسكون، رمزا للحياة التي تتخلى من الكل لكي ترتبط بالواحد، الحياة السامية المقدسة التي لا تنشغل بتفاهات العالم وكل متعه، لأنها تفرغت لله وحده... أعطى راحته وهدوءه، وتعرض لحروب الشياطين وإيذائهم.. بالتخويف، بالضرب، بالتشكيك، في صورة وحوش، في صورة نساء، بأصوات مرعبة، في وحدة بلا أنيس...! ولكن الله أعطاه الاحتمال، والقوة، والانتصار، وعدم الخوف، وأعطاه سلاما داخليا عجيبا، وأعطاه مهابة روحية، بحيث صارت الشياطين هى التي تخافه وترتعب من قوته الروحية، صارت له موهبة إخراج الشياطين. أتراه في كل ذلك أعطى أم أخذ؟! · كذلك في تركه العمران وسكناه القفر، هل أعطى أم أخذ؟ يبدوا ظاهريا أنه ترك بهجة العمران، ودخل في وحشة القفر. من أجل الرب. ولكن الرب جعل القفر عامرا بهذا الملاك الأرضي. وحول البرية إلى سماء، كواكبها هم هؤلاء الملائكة الأرضيون. وصار هذا القفر مكانا مقدسا يأتيه الناس من أقاصي الأرضي ليتبركوا حتى بترابه، وصار جبل انطونيوس جبلا مقدسا وبرية انطونيوس صارت برية مقدسة. وكل شبرا داسته قدماه، باركه الرب ببركه خاصة. وفجر له في القفر عين ماء. هل حقا أعطى أم أخذ؟! إن الناس يشتهون بركة بريته أكثر من كل مباهج العمران.. الله يعطينا طبعا أكثر مما يأخذ منا. ولكن.. ولكن المهم أن نبدأ نحن بالعطاء. ولا نفكر حينما نعطى أننا نعطي. وأيضا لا نفكر أننا سنأخذ عوضًا.. إن من يجعل علاقته بالله علاقة طلب مستمر وأخذ، هو إنسان متمركز حول ذاته. أما الإنسان الروحي، فأنه يعبر عن حبه لله، بالبذل المستمر، ويقول للرب: "من يدك أعطيناك" (1 أي 29: 14). بل في تقديمه شيئاٌ لله، يشعر بتفاهة ما يقدمه، إذا ما قورن بما أخذه منه. هوذا مثل من خارج الرهبنة، هو موسى النبي: لا شك أنه ترك قصر فرعون، و"أبى أن يدعى أبن ابنة فرعون"، و"ترك كل خزائن مصر"، وصار راعي غنم في البرية.. تراه خسر أم كسب؟! لقد ترك الأمارة فإذا بالرب يقول له: "جعلتك إلها لفرعون" (خر 7: 1). وإذا بفرعون يتوسل أكثر من مرة إلى موسى، طالبا منه أن يصلى عنه، الضربات. وكان واضحا أن موسى، في موقف أقوى من فرعون.. ثم صار موسى قائدًا لشعب بأسره، وأصبح رجل معجزات، يشق البحر، ويفجر من الصخرة ماء. لا شك أن موسى قد أخذ أكثر مما أعطى، بما لا يقاس. إن علاقتنا بالله هي علاقة أخذ مستمر، بلا عطاء: هل تقول أنك تعطى الله وقتا للصلاة؟ كلا، إنك لا تعطى وقت الصلاة بل تأخذ بركة ونعمة، وتنال عملا من الروح القدس داخلك، وبركات لا تحصى. الله أعطاك أسبوع عمر، وأنت تقدم له يوما من هذا الأسبوع الذي وهبك إياه، فهل أنت تعطى؟! كلا بل أنت تأخذ بركة هذا اليوم. وكما يقول الكتاب أن: "السبت قد أعطى للإنسان" (مر 2: 27). القديس أنطونيوس، حينما أعطى حياته لله، لم يكن يفكر إطلاقا أنه سيأخذ كل ما أخذه، وما جال ذلك بفكره. وفى نفس عملية العطاء بالنسبة إليه، كانت عملية أخذ: أخذ فيها بركة الجلوس مع الله، وبركة حياة السكون والتأمل. وأخذ فيها بركة هذا الطقس الملائكي. وأخذ النعمة الكبرى التي عملت فيها حتى استطاع أن يصمد في الوحدة. إنه لم يقل إطلاقا: "سأعطي الله صلواتي". بل كان شعوره: أريد أن أتمتع بالله والوجود معه، وأن يعطيني الله هذا الشرف وهذه المتعة، متعة الوجود في حضرته. شعور الإنسان بأنه يعطى الرب، شعور خاطئ روحيًا: فنحن باستمرار نقترب إلى الله، لكي نأخذ.. ثم، من نحن حتى نعطى الرب؟! ومن هو الرب الذي نعطيه؟ الله مالك السموات والأرض، وخالق السموات والأرض، وصاحب كنوز النعم التي لا تحد ولا تفرغ.. هل من المعقول أننا نعطيه؟! الأرملة التي أعطت رجل الله إيليا حفنة دقيق وقليل زيت، هل أعطت أم أخذت؟ انظروا، هوذا: "كوز الدقيق لا يفرغ، وكوز الزيت لا ينقص "طول مدة المجاعة (1مل 17: 14). وهكذا الأنبا أنطونيوس، علمنا أن الحياة الروحية هي أخذ دائم من الله، أخذ بركة، ومتعة، في كل عمل روحي. ولو لم يكن القديس أنطونيوس، يأخذ متعة روحية، في كل أيام حياته في البرية، أتراه كان يستطيع الحياة في القفر؟! لو لم يكن يأخذ نعمة وقوة، أتراه كان يستطيع مقاومة كل حروب الشياطين، في كل عنفهم وكل حيلهم..؟! إنه كان يعيش جوار النعم كلها، يغترف منه بالليل والنهار، نعمة، وقوة، وبركة، ومتعة روحية.. كان ممكنا للشاب أنطونيوس، بالغنى الكثير الذي ورثه، أن يتعلم، ويأخذ من العالم معرفة وعلما وشهادات دراسية. ولكنه من الله أخذ معرفة عميقة، ما كان ممكنا للعالم أن يعطيها.. معرفة كانت تذهل كل فلاسفة وعلماء عصره.. وكان الناس يأتون من أقاصي الأرض، لكي يسمعوا من فمه كلمة منفعة، أو كلمة حياة، يخلصون بها.. إنها كلمات أخذها من الله، لها عمقها، ولها قوتها وفاعليتها وتأثيرها، وليست معرفتها من النوع الذي يعطيه العالم. لقد فضل أن يعيش في جهالة مع الله، تاركا علم العالم." فأعطاه الله فما وحكمة" (لو 21: 15). وأعطاه علما يفوق الكل فانذهل علماء الأرض من هذا (الأمي). فهل الأنبا أنطونيوس أعطى أم أخذ، وهوذا العالم كله يستفيد من تعاليمه.. ولأنه رفض من أجل الله معرفة العالم، أعطاه الله علما روحانيًا، علمًا إلهيًا.. أعطاه علم معرفته.. ليس في الأمور النسكية فقط، وإنما حتى في اللاهوتيات أيضا وقد أفحم الأريوسيين لما نزل إلى الإسكندرية، وكان لكلماته تأثير عميق. ويعتبره العلماء أستاذا للقديس أثناسيوس.. أن الله حينما يضع كلمة في فم إنسان، يزود هذه الكلمة بقوة وتأثير وفاعلية، لا يستطيع أحد أن يقاومها.. كان الأنبا أنطونيوس جهازًا جيد التوصيل لكلمة الله، ولنعمة الله، ولبركة الله، وللسلام الممنوح من الله.. كان إنسانا يأخذ من الله، ويعطى للناس، نفس القوة.. لقد فرحت السموات، لما وجدت على الأرض هذه الآنية المختارة، التي تستطيع أن تحمل نعمة الله للناس، وفى نفس الوقت تحتفظ ببساطتها وهدوئها، دون أن ترتفع، ودون أن تنتفخ.. ولم تكن كلمات هذا القديس فقط هي التي تفيض نعمة، وإنما كانت حياته أيضا كذلك، وكانت هكذا ملامحه. كان كل إنسان يرى الأنبا أنطونيوس، يحب أن لا يفارقه. كان وجهه يفيض بركة، وحديثة يفيض نعمة، وحياته تفيض روحا.. لذلك لا نعجب لتلمذه الذي قال له: [يكفيني مجرد النظر إلى وجهك يا أبي..]. بالنسبة إلى الله، كان القديس أنطونيوس يأخذ باستمرار.. وبالنسبة للناس، كان هذا القديس يعطي باستمرار، كسيده.. ولقد أعطاه الله الكثير، لما زهد كل شيء، لأجله.. أعطاه موهبة المعجزات والآيات والعجائب، فكان يشفى المرضى، وكان يخرج الشياطين.. وكان الناس يقصدونه لا من أجل المعرفة الروحية فقط، والبركة، وإنما أيضا لأجل معجزاته. هل هذا يقارن بما تركه من مال أو جاه أو أهل؟! إنه لما أغمض عينيه عن المال، فتحهما الله للرؤى السمائية: فكم من مرة رأى ملائكة، وكم من مرة تحدث معهم؟! لقد ظهر له ملاك يشرح له كيف يصلى ويعمل ويقاوم الملل. والملاك هو الذي سلمه قلنسوة الرهبنة.. وفى إحدى المرات رآه تلاميذه ناظرًا إلى السماء وساهما، فعرفوا أنه رأى شيئًا، فسألوه. فأخبرهم عن نياحة الأنبا آمون أب جبل نتريا، إذ رأى روحه يزفها الملائكة بالتهليل إلى السماء. طوباك أيها القديس الأنبا أنطونيوس، إن عينيك اللتين رفضتا أن تنظرا إلى المال، وهو ملقى على الرمال، صارتا تنظران الملائكة وأرواح القديسين، أيها البار المفتوح العينين.. وماذا أيضا؟ قال القديس الأنبا أنطونيوس: [أبصرت مرة فخاخ الشيطان مبسوطة على الأرض، فألقيت نفسي أمام الله وقلت: يا رب، من يفلت منها؟. فأتاني الصوت من السماء "المتواضعون يفلتون منها"].. طوبى لهاتين الأذنين اللتين أغلقتهما أمام أغاني العالم وطربه وأحاديثه، فاستحقتا أن تسمعا صوت الله في هذه المناسبة وغيرها، وأن تسمعا تهليل الملائكة وهم يحملون روح الأنبا آمون.. حقا، كلما نترك شيئا لأجل الله، نأخذ أضعافا، وبنوعية أفضل، "ليس بكيل يعطى الروح" (يو3: 24) إنه يعطى بلا حدود.. إن الذي ترفض من أجله خزائن العالم، يفتح أمامك خزائن السماء والمواهب الروحية، كما حدث للقديس الأنبا أنطونيوس، الذي ترينا حياته، مقدار عمل الله في النفس البشرية.. لقد ترك الزواج والنسل الجسدي، انظروا عدد وحلاوة أولاده: من أولاده القديس مقاريوس أبو الإسقيط، والقديس الأنبا آمون أب جبل نتريا، والقديس ببنوده رئيس أديرة الفيوم، والقديس إيلاريون مؤسس الرهبنة في سوريا وفلسطين. ومن أولاده الأنبا بولس البسيط، والأنبا بيساريون، والأنبا سرابيون، والأنبا شيشوي.. وكثيرون حقًا "ترنمي أيتها العاقر التي لم تلد" وسعى خيامك لأن أولادك يصيرون أكثر من ذات البعل.. (أش 54: 1). إنني لا أستطيع أن أدخل في جزيئات، وأقول أن الأنبا أنطونيوس ترك من أجل الله مالًا، أو أرضًا، أو وقتًا، أو زواجًا أو أولادًا.. أنما هو أعطى الله الحياة كلها، كذبيحة طاهرة قدامه. فأخذ الله هذه الحياة، وقدسها وباركها وزودها بالمواهب، وأعطاها للعالم. عندما يقول الله: "يا أبني، أعطني قلبك" (أم 23:26)، هل تظنون أنه يريد أن يأخذ هذا القلب؟ كلا، بل هو يريد أن يملأ هذا القلب حبًا وبركة وبرًا، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. ويريد أن يأخذ هذا القلب فيطهره من كل خطية، ويجعل روحه القدوس يسكن فيه.. كمن يقول لك: "أعطني جيبك الفارغ لأملأه خيرات". أهو يأخذ أم يعطى؟ عندما تعطى الله قلبك، إنما تعطى فراغك، والله يملأ.. تعطى ضعفك وتأخذ قوة الله. كمن يعطى العشور، لتفتح له كوى السماء، ويفيض اله عليه حتى يقول كفانا كفانا (ملا 3: 10). تقدم لله، أعطه إرادتك، ليعطيها قوة، ويرجعها إليك منتصرة.. أتكون إذن تعطى أم تأخذ؟! |
||||
13 - 12 - 2012, 02:05 PM | رقم المشاركة : ( 24 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: الأنبا أنطونيوس أول الرهبان وكوكب البرية
القديس أنطونيوس ومحبة الوحدة والسكون أننا لا نستطيع أن نتأمل حياة الأنبا أنطونيوس في يوم عيده، دون أن نتذكر حياة الوحدة والسكون التي عاشها، وثمار هذه الحياة في حياته وفى تعاليمه.. لقد ذكر عنه القديس أثناسيوس الرسولى أنه قضى ثلاثين سنة، وقد أغلق على نفسه في وحدة كاملة، لا يرى فيها وجه إنسان. وفى هذه الوحدة اختبر ثمار السكون، في خلوة كاملة مع الله. وأمكنه أن يفرغ ذهنه من تذكارات العالم وأخباره وتفاهاته، لكي يملأ هذا الذهن بالله وحده، فلا يفكر إلا فيه. وفى مذاقته لحلاوة السكون نصح أولاده فيما بعد، خوفا عليهم من أن يتبدد سكونهم خارج البرية، فقال: [الراهب في الدير كالسمكة في البحر، لا تحيا خارج مياهه].. وحتى حينما عاش معه القديس الأنبا بولس البسيط بضع سنوات، يتتلمذ عليه، ويحيا تحت ظل صلواته، طلب إليه أن يدخل إلى البرية ويحيا وحده [ليجرب حروب الشياطين]. إنه الدرس الأول الذي أخذه الأنبا أنطونيوس [أن كنت راهبًا، فأدخل إلى البرية الجوانية].. وكان هذا هو الدرس الذي يقال لكل راهب، في أن يتعلم الهدوء: [اجلس في قلايتك، والقلاية ستعلمك كل شئ].. إن القديس الأنبا أنطونيوس هو الذي وضع أساس الرهبنة الأصيل. والنظام الذي وضعه هو الذي بقى أكثر من غيره.. أكثر من حياة الشركة التي كانت تعتمد على رئيس حازم قوى كالقديس باخوميوس مثلًا، يديرها بدقة وجدية، ويعاقب من يكسر قوانينها.. فإذا لم توجد هذه الرئاسة انتهى قيام الرهبنة تبعًا لذلك.. وهكذا انتهت كثير من أديرة القديس باخوميوس. أما القديس أنطونيوس فكان يبنى الراهب من الداخل، بمحبة الوحدة والسكون، أكثر مما يبنيه بقوانين صارمة تحفظ طاعته.. كان يبنى قلب الراهب، لا مجرد إرادته.. وتصرفه.. كان يميت العالم داخل قلبه، ولا يقتصر على إماتة التصرفات العالمية في سلوكه. وهذه الإماتة كانت تأتى أولا بالوحدة، بالبعد عن الكل، لحفظ العقل في السكون. القديس الأنبا أنطونيوس الكبير المصري أب كل الرهبان في العالم وتأتى ثانيا بانشغال الفكر والقلب بالله في حياة السكون. ما أجمل قول مار أسحق: [إن مجرد نظر القفر، يميت من القلب الحركات العالمية]. في البرية تربى موسى قبل عمله الرعوي أكثر مما "تهذب بكل حكمة المصريين". وإلى البرية نقل الله أبانا إبرآم، حيث تدرب على حياة الخيمة والمذبح، أي الغربة والشركة مع الله. وفى البرية تدرب إيليا، على جبل الكرمل. وفى البرية تدرب أيضا يوحنا المعمدان، أعظم من ولدته النساء. وربنا يسوع المسيح أيضا أحب البرية والجبال، وترك لنا في ذلك مثالا، حتى كما كان يختلي في جبل الزيتون (يو 8: 1) ويقضى الليل في الصلاة، نفعل نحن أيضًا.. وهكذا عاش الأنبا أنطونيوس، ليس أيامًا، وإنما الحياة كلها.. عاش بعيدا عن المدن، وما فيها من صخب وضجيج وضوضاء، وأيضا بعيدا عما فيها من دوامة المشغوليات، التي لا تعطى فرصة لجلوس الإنسان مع نفسه أو جلوسه مع الله.. حقا، لقد سألت نفسي مرة: لماذا خلق الله كل هذه الصحراوات؟ هذه الصحراوات الواسعة، وهذه الجبال والتلال، في كل قارة من القارات، تمثل الهدوء والوحدة، بعيدا عن صخب المدن.. أليس في كل هذا إيحاء، يشير إلى الناس بحياة الهدوء؟! وكان السيد المسيح يأخذ تلاميذه إلى موضع قفر، حتى تتركز حواسهم في كلامه، ولا تنشغل بالمناظر والأفكار. إن كل إنسان في الدنيا، مهما تعمق في الحياة الروحية.. هو محتاج إلى فترات هدوء، يجلس فيها إلى الله، وإلى نفسه.. يهدأ بعيدا عن المشغوليات، وبعيدًا عما تجلبه الحواس من أفكار.. وفى هدوء يأخذ من الله، وأيضا يفحص ذاته، ويأخذ من أعماق أعماقه، حيث يسكن الله أيضًا. هذا هو أول ما يجذبنا، في الحياة العميقة التي عاشها قديسنا. وحياة السكون هذه، لها دلالتها الروحية الكثيرة: فليس كل إنسان يستطيع أن يحيا حياة السكون في البرية. وإن استطاع ذلك بضعة أيام أو أسابيع، فلا يستطيع أن يحيا في البرية العمر كله، إلا إن كانت له دوافع روحية راسخة، كما كان للقديس أنطونيوس. فما هي هذه الدوافع؟ أول صفة تلتزمها حياة البرية، هي الزهد: أن الذي يحب العالم، تجذبه أمور العالم، فلا يستطيع أن يبقى في البرية إذ يشتاق إلى ما تركه في العالم من أمور محببة إلى نفسه. وكما قال الكتاب: "حيثما يكون كنزك، فهناك يكون قلبك" (مت 6: 21). إنما يحيا في البرية، الإنسان الذي مات قلبه عن العالم موتا حقيقيا. بمقدار ما يكون قلبه مائتا عن العالم، هكذا يكون ثباته في البرية أيضًا. إذن الموت عن العالم، يسبق بالضرورة الحياة في البرية: والقديس الأنبا أنطونيوس كان قلبه قد مات عن العالم وكل رغباته: ترك الأهل والبلد والمال والجاه والعلم وكل شيء. ولم يعد يشتهى شيئا عالميا، لذا استطاع أن يسكن في مقبرة، وأن يسكن في القفر وأن يحتمل الجوع والعطش والوحدة.. كذلك السكنى في البرية تحتاج إلى شجاعة قلب: يصلح لها قلب لا يخاف.. لا يخاف الوحدة، ولا الظلام، ولا الوحوش والدبيب، ولا الشياطين.. وهكذا كان الأنبا أنطونيوس، لقد تعرض لحروب مخيفة جدًا. وكان الشياطين يظهرون له في هيئة وحوش مفترسة، تصيح بأصوات مرعبة، وتهجم عليه، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. ومع ذلك لم يخف، بل وقف صامدا أمامهم.. كذلك هاجموه لما كان في المقبرة، وضربوه ضربا مبرحا جدًا، ولم يهتز إطلاقا. وفيما بعد أصبحت الشياطين هي التي تخاف الأنبا أنطونيوس، وأخذ قوة من الله على طرد الشياطين.. هذا هو الأنبا أنطونيوس رجل البرية، وأبن الجبال، صاحب القلب القوى الذي لا يخاف، الذي عاش في الجبال وحده عشرات السنوات، لا يؤنسه سوى الله. السكنى في البرية أيضا يلزمها إنسان يعرف كيف يقضى وقته حسنا، بحيث لا يمل من فراغ يحيط به.. فالوحدة ليست مجرد عمل سلبي، هو البعد عن العالم، أو الموت عن العالم، إنما هي عمل إيجابي في الحياة مع الله والالتصاق به، ومذاقه حلاوته والعشرة معه. وهذا هو الهدف الأساسي من الوحدة، التي تعتبر مجر وسيلة للالتصاق بالله. وأن كانت الوحدة هي الانحلال من الكل، فإن مار أسحق يقول: [الإنحلال من الكل، للارتباط بالواحد].. والأنبا أنطونيوس عاش حياة الصلاة وحياة التأمل، منشغلا بالله كل وقته، فكرًا وقلبًا، فلم يمل، ولم يعد محتاجًا إلى عزاء بشرى يسليه. وصارت الوحدة بالنسبة إليه متعة روحية، بسبب العشرة الإلهية التي شغلت حياته.. ولم يعش وحده في البرية، وانما كان الله معه. عرف أن "الحاجة إلى واحد"، ونجح في الارتباط بهذا الواحد. ولما عاش في حياة السكون، دخل السكون إلى قلبه أيضًا. وكما قال مار أسحق: [بسكون الجسد، نقتنى سكون النفس]. هدأت حواسه، وهدأت أفكاره، وهدأ قلبه من الداخل، وهدأت ملامحه أيضًا، وصار مصدرا للسلام لكل من يتصل به. وفيه أحب الناس هذه الحياة الهادئة الساكنة المملوءة بالسلام. بمرور الوقت زالت من فكره كل التذكارات القديمة التي عاشها في العالم، وأخذت نقاوة فكره تنمو شيئًا فشيئًا، حتى لم يعد في فكره سوى الله وحده. أو محيت من ذهنه كل العالميات، إذ لا استعمال، ولا جديد يضاف إليها، بل لا جديد سوى الأمور الإلهية التي رسخت في ذهنه، وملكته كله. وفيما بعد، حينما سمح أن يكون له تلاميذ، وزوار، لم يكن يكلمهم إلا عن الله وحياة الروح. فصارت حياته كلها مركزة في الله، فكرا، وشعورا وكلاما.. ومات العالم من حوله. استطاع أن يحول الأرض التي عاش فيها إلى سماء، وأن يحول أبناءه الرهبان إلى ملائكة أرضيين أو بشر سمائيين. أما أنتم يا أخوتي، فإن كنتم لا تستطيعون أن تسكنوا الجبال.. فعلى الأقل لا تحرموا أنفسكم من الخلوة والسكون على قدر طاقتكم. ولو بضعة أيام كل سنة، أو يوما كل أسبوع، أو ساعة كل يوم، أو بضعة دقائق كل ساعة.. انفضوا ضجيج العالم من آذانكم، وغوصوا داخل أنفسكم، واكتشفوا في أية الطرق أنتم سائرون، وماذا على كل منكم أن يفعل.. وأجلسوا مع الله، وخذوا منه معونة.. ولا تجعلوا الفترة تطول بكم وسط ضجيج العالم، حيثما استطعتم أن تنسحبوا من هذا الضجيج، انسحبوا بسرعة.. وإن لم تستطيعوا أن تنسحبوا منه موضعيا، فعلى الأقل انسحبوا منه موضوعيا.. فلا تشتركوا في أعماله وأحاديثه.. كونوا كغرباء في الموضع الذي لا يناسبكم حديثه. لا تشتركوا في الكلام، أن لم يمكنكم تغيير دفته. وفيما أنتم صامتون، اسرحوا بأفكاركم في الله وملكوته، دون أن يشعر أحد. وهكذا تحتفظوا بقلوبكم مع الله، سواء كنتم في خلوة أو مع الناس، كما قال عن ذلك (الشاعر): كنت في مجتمع أو خلوة أنا وحدي، يستوي الأمران عندي لي طريق مفرد أحببته عشت فيه طول هذا العمر وحدي المهم أن محبة السكون تكون في القلب، وكإحدى نتائجها تتكون الرغبة في الاختلاء بالله، حتى وسط مشغوليات المجتمع. ونصيحتي أنكم لا تأخذون أمور العالم بعمق.. لا تجعلوا أمور العالم تستقر في عمق اهتمامكم، بحيث تستولي على ذهنكم، ويطيش فيها فكركم وقت الصلاة..! وفى محبتكم للوحدة، لا تنفروا من الناس ومحبتهم، بل انفروا من الأخطاء.. لأن هناك فرقا بين الوحدة والانطواء.. والقديس الأنبا أنطونيوس كانت حياته حبا للوحدة، حبا في الله، ولم تكن انطواء ولا كراهية للناس أو عجزًا في معاملتهم فكلما سمحت الفرصة، كان يفيض حبًا على الناس، وكانت معاملاته تتميز بالطيبة والوداعة واللطف.. |
||||
13 - 12 - 2012, 02:05 PM | رقم المشاركة : ( 25 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: الأنبا أنطونيوس أول الرهبان وكوكب البرية
القديس أنطونيوس، ومحبة الله لما ملكت محبة الله على قلب القديس أنطونيوس، أنتزع الخوف تماما من قلبه.. حتى من الله نفسه، ما عاد يخاف.. واستطاع أن يقول لتلاميذه، تلك العبارة المشهورة عنه: [يا أولادي، أنا لا أخاف الله..]. فلما تعجبوا قائلين: [هذا الكلام صعب يا أبانا].. أجابهم: [ذلك لأنني أحبه. والمحبة تطرح الخوف إلى خارج] (1يو 4: 18). حقا. أن الحياة الروحية يمكن أن تبدأ بمخافة الله، كما قال الكتاب: "بدء الحكمة مخافة الله" (أم9: 10). وبالمخافة ينفذ الإنسان الوصايا. ولكنه إذ يمارس الحياة الروحية، يجد فيها لذة ومتعة، فتزول المخافة ويبقى الحب. وكلما نما الإنسان في محبته لله ولوصاياه، حينئذ: "المحبة الكاملة تطرح الخوف إلى الخارج". والقديس الأنبا أنطونيوس، عاش في هذه المحبة: بدأ بها، فدفعته إلى الوحدة ثم نما فيها، حتى وصل إلى قممها.. لولا محبته لله، ما استطاع أن يحيا في الوحدة فمحبة الله إحدى الصفات الجوهرية التي ينبغي أن يتميز بها من يطلب الوحدة. وكما نقول في صلاة القسمة عن آبائنا السواح والمتوحدين: "وسكنوا في الجبال والبراري وشقوق الأرض، من أجل عظم محبتهم للملك المسيح". هذه المحبة هي التي دفعتهم إلى سكنى الجبال، لكي يتفرغوا لعشرة الرب الذي أحبوه.. لوحة تصور اللقاء بين القديس الأنبا أنطونيوس المصري أب الرهبان، والقديس بولا المصري أول السواح، ونرى في الصورة الملائكة وهي تساعد أنبا بولا من أجل هذه المحبة، ترك القديس كل شيء، لأن الله عنده هو أثمن وأغلى من كل شيء، ومن كل أحد. ولأن محبة الله تشجع القلب، فلا يحتاج إلى محبة أخرى تسنده أو تعزيه. محبة الله هي الدافع إلى الوحدة، وهي الدافع إلى الصلاة: أحب القديس الله. ومن محبته له أنفرد به، وأصبح لا يستطيع أن يفارقه، ولا يستطيع أن ينشغل عنه بشخص أخر. وكما قال الشيخ الروحاني في ذلك: [محبة الله غربتني عن البشر وعن البشريات]. ومن محبته له، وجد متعه روحية في مخاطبته والتحدث إليه، كما يقول داود النبي: "محبوب هو أسمك يا رب، فهو طول النهار تلاوتي"، وكما نقول في التسبحة: "أسمك حلو ومبارك، في أفواه قديسيك". أن عمق الرهبنة هو في معناها الإيجابي: الالتصاق بالله. أما معناها السلبي: البعد عن العالم، فهو مجرد وسيلة.. ما أحلى قول داود النبي: "أما أنا فخير لي الالتصاق بالرب" (مز73). وكيف يلتصق الإنسان بالرب، أن كان بكل مشاعره وفكره منشغلا بالعالم وما فيه؟!.. ومحبة الله، كما قادت للوحدة والصلاة، قادت إلى الزهد: لأن الشخص الذي يذوق الله وحلاوة محبته، يبدو كل شيء آخر تافها أمامه. وأمام حلاوة الله، يفقد كل شيء آخر قيمته، ويصبح باطلا وقبض الريح. وكما قال بولس الرسول: "خسرت كل الأشياء وأنا أحسبها نفاية.. لأربح المسيح" (فى 3)، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى.وهنا نجد الزهد ليس مجرد عمل تغصب، يغصب فيه الإنسان نفسه على ترك مقتنيات العالم وملاذه من أجل الله، إنما هو اقتناع عميق بتفاهة كل شيء. وهذا الاقتناع نتيجة لمحبة القلب لله.. وهكذا يرى الإنسان أن كل متع العالم لا تشبعه، فيزهدها، لأن قلبه قد أنفتح على محبة أكبر، وأعمق، وأسمى، هي محبة الله، التي تضاءل أمامها كل شيء آخر. ومن الناحية المضادة، إن ملكت محبة العالم على قلب إنسان، نزعت منه محبة الله، ولذلك يقول الرسول أن: "محبة العالم عداوة الله".. ونحن نسأل أنفسنا: كيف استطاع القديس أنطونيوس، أن يسكن وحده في تلك المغارة البعيدة؟ وكيف أحتمل البعد عن كل عزاء بشري؟ وكيف وجد شعبة في الوحدة؟ الجواب هو أنه كان شبعانا بمحبة الله، فلم يعوزه شيء. الوحدة بالنسبة إليه، لم تكن وحدة مطلقا، وإنما كانت في حقيقتها عشرة مع الله، ومع ملائكته.. عشرة ألذ من عشرة البشر، ومن المجتمعات البشرية. وعشرته مع الله جعلت المحبة تنمو في قلبه، فحينما كان يلتقي بالناس، كان يلتقي بهم في حب. وكانت معاملاته لتلاميذه مشبعة بروح الاتضاع والود، من ثمار الحب الذي فيه. وهكذا لم تكن وحدته انطواء، وإنما حبًا.. ومع محبته للقديس بولس البسيط، طلب إليه أن يسكن وحده، لفائدته الروحية. لأنه كان يحبه حبا روحيا، يدفعه إلى أن ينمى محبة التلميذ لله، ولو فارقه.. إنها محبة لا تلصقه به شخصيا، وأنما تلصقه بالله، الذي يحب المعلم والتلميذ كليهما معا، أنطونيوس العظيم وبولس البسيط.. |
||||
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
أبي الرهبان وكوكب البرية |
القديس أنطونيوس الكبير أبي الرهبان وكوكب البرية 356 |
القديس الأنبا أنطونيوس كوكب البرية وأب الرهبان |
القديس الأنبا أنطونيوس كوكب البرية وأب الرهبان |
الأنبا أنطونيوس أب الرهبان |