عِلّة صلبه
جرت العادة قديماً من أجل إيضاح العدالة، والتشهير بالمجرمين المحكوم عليهم بالإعدام صلباً، أن تُكتب علّة صلبهم على لافتة توضع فوق رؤوسهم، لإعطاء عامة الشعب فكرة عن نوع تهمتهم، فيعرفون سبب صلبهم فيحتقرونهم، ولهذا كتب بيلاطس لافتة عليها " يسوع ملك اليهود " وجعلها أعلى (مت37:27).
وعلى الرغم من أن هذه العبارة، قد قصدوا بها تعيير المسيح وتحقيره واتّهامه بأنَّه ادّعى المُلك، إلاَّ أنَّها دون أن يدروا تحّولت إلى كرامة ومجد له، لأنَّه لا يوجد أي نوع من الجريمة منسوب إليه فلم يُذكر أنه مخلص كاذب الاسم، أو ملك مغتصب وقد شهد لذلك بيلاطس البنطيّ، الذي كان يعلم جيداً أنَّ اليهود قد أسلموه حسداً، وأنَّه لم يعمل شيئاً يستحق عليه الموت إذ قال: " وَأَيَّ شَرٍّ عَمِلَ؟" (مت27: 18،23).
قديماً أرسل بالاق ملك موآب إلى بلعام بن بعور ليلعن بني إسرائيل، فبدلاً من أن يلعنهم باركهم ثلاث دفعات (عد10:24)، وهكذا فعل بيلاطس فبدلاً من اتّهام المسيح كمجرم أعلن دون أن يدري أنَّه ملك، وذلك ثلاث دفعات إذ كتب عبارة: " يسوع ملك اليهود " بأشهر ثلاث لغات فى العالم فى ذلك الوقت ألا وهى: اليونانيّة والرومانيّة والعبرانيّة (لو23: 38).
أمَّا اللغة اليونانيّة فهى: لغة الحكماء والفلاسفة، والرومانيّة: لغة الرومان أكثر الأمم قوة فى ذلك الوقت، والعبرانيّة: لغة شعب الله وهم اليهود، ولهذا قال القديس كيرلّس الأورشليميّ :
" كتبها بالعبرانيّة واليونانيّة والرومانيّة، ليحقق بالثالوث أنّه ملك على الجميع، الشهود ثلاثة والشعوب ثلاثة ".
لكنَّ الحقيقة التي لم يفهمها بيلاطس، كما أنَّ اليهود لم يدركوها هى: إنَّ المسيح لم يأتِ لكي يملك على أُناس مُلكاً أرضياً، بل على قلوب المؤمنين مُلكاً روحيًاً، وهذا قد تحقق بالفعل على الصليب، فالمسيح تولى المُلك بآلامه وموته، لأنَّه على الصليب اشترانا بدمه الثمين، وهكذا ملك على العالم وصارت له مملكة روحية يملك فيها على المؤمنين.
والعجيب أنَّ بيلاطس واليهود لم يفهموا معنى مُلك المسيح، في حين أنَّ المجوس الوثنين وهم طغمة كهنوتية وعلماء فى الفَلكْ والتنجيم قد فهموه، ولهذا جاءوا من بلاد المشرق وهم يحملون معهم أكياساً مليئة بالهدايا للمولود ملك اليهود، وقد كان من بين تلك الهدايا الذهب الذي يرمز إلى مُلكه (مت2: 11).
لاشك أنَّه منظر عجيب بل ومثير للدهشة، أن نرى ملك الملوك يموت كالخطاة المجرمين!! وهذا ربَّما يدفع بالكثيرين إلى الشك قائلين: كيف يُعلّق ملك الملوك على خشبة؟ أين المجد؟!! أين البهاء؟!! أين العظمة؟!! أين القوة؟!!
لكنَّ الحقيقة إنَّ من يشك يعوزه الإيمان والفهم، وليس المسيح هو الذى ينقصه المجد والبهاء والعظمة والقوة.. وإن أردت أن تتحقق من هذا، فعليك أن تفتش الكتب المقدسة، لترى أن آلامه كانت السلم الذى ارتقى درجاته ليجلس على عرش ملكه.
إنَّ داود االنبيّ الذى تحدث عن آلامه أكثر من جميع الأنبياء، هو الذي قال: " الرَبُ قدْ مَلَكَ عَلى خَشَبة " (مز95).
وإشعياء النبيّ الذي تكلّم عن المسيح المجروح لأجل معاصينا (إش5:53)، هو الذى تنبأ عن ميلاده قائلاً: " لأَنَّهُ يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ وَنُعْطَى ابْناً وَتَكُونُ الرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ وَيُدْعَى اسْمُهُ عَجِيباً مُشِيراً إِلَهاً قَدِيراً أَباً أَبَدِيّاً رَئِيسَ السَّلاَمِ لِنُمُوِّ رِيَاسَتِهِ وَلِلسَّلاَمِ لاَ نِهَايَةَ عَلَى كُرْسِيِّ دَاوُدَ وَعَلَى مَمْلَكَتِهِ لِيُثَبِّتَهَا وَيَعْضُدَهَا بِالْحَقِّ وَالْبِرِّ مِنَ الآنَ إِلَى الأَبَد " (إش9: 6، 7).
فلا يعثرك الجو المظلم الذي أحاط بالصليب، ولا السحابة القاتمة التي أخفت مجد المصلوب، لأنَّ عين الإيمان تنفذ من خلال كل ذلك، لترى ابن الله وهو جالس على عرش مجده، وحوله رؤساء الملائكة يجثون على وجوهم، من أجل عظمة بهاءه غير المنظور ولا المنطوق به، ألسنا نرى من خلال ظلام الليل نجوم السماء؟!
إنَّ يسوع المرذول الذي بلغ فى موقفه أقصى درجات الاحتقار، ظهر مجده وعظمته وسلطانه كإله السماء والأرض وهو مصلوب، ولذلك فزعت الطبيعة من منظره وهو على الصليب حتى إن الشمس أخفت شعاعها والقمر لم يعطِ ضوءه..!
لقد كان يسوع عظيماً فى ميلاده وحياته وأيضاً فى صلبه، أمَّا سر عظمته فقد ظهر بوضوح مُعلناً أن العظمة الحقيقية، ليست فى المال، أو الجاه، أو السلطة، أو القوة الجسمانية، لكنَّها كائنة في الحياة الداخلية ذات المباديء الروحيّة السامية، ونقاوة القلب، وحياة التقوى، والنُصرة على النفس وكبح شهواتها، والمحبة الباذلة من أجل الآخرين.
أمَّا الذين يظنون أنَّ العظمة فى غير ذلك، فهؤلاء نفوسهم ضعيفة، وقلوبهم ملوثة، وضمائرهم سقيمة، وهم يحصلون على ظل العظمة لا حقيقتها، ولا يلبث لُباس عظمتهم الزائفة قليلاً حتى يتمزق، فيكشف عما تحمله حياتهم الخفية من غش ونفاق وفساد..
فلا عجب لو قلنا: إنَّ اليهود الذين ظنوا أنَّهم أقوياء عندما صلبوا المسيح، هم فى الحقيقة ضعفاء أمام حسدهم وغيرتهم، ضعفاء أمام شيطان القسوة ونكران الجميل، أمَّا المسيح فقد كان الأقوى فى محبته وبذله وتحطيمه لمملكة الشيطان وتتميم الفداء وفتح باب الفردوس مرَّة ثانية، بعد أن كان قد أُغلق بسبب خطية آدم، ولهذا يقول البابا أثناثيوس الرسوليّ: " يا من صنعت بالضعف ما هو أعظم من القوة " !