هناك سمّروه
وصل المُخلّص إلى الجلجثة ليبدأ فصل جديد من مأساة الصليب، وهو تسمير جسد يسوع على الصليب، فبكل قسوة ينزع المتوحشون الثياب من على جسده فيقف بينهم عارياً، لا يُغطيه سوى الدماء وهو الذي يتسربل بالنور كثوب ويترصّع طرف ردائه بنجوم السماء، أمَّا إكليل الشوك فظل كما هو يُظلل رأسه المقدسة.
وبعد أن عروه وضعوه على الخشبة فنزفت دماؤه عليها، ثم يشدان بعنف ذراعيه المقدستين على ذراعى الصليب، فظهر يسوع كطفل وديع يستقر على ذراعي أمه! والقدمان توضعان فوق بعضهما مثلما رُبط إسحق فوق الحطب على جبل المُرّيا، لكنَّ الصوت الذي نادى من السماء حينئذ قائلاً: " لاَ تَمُدَّ يَدَكَ إِلَى الْغُلاَمِ وَلاَ تَفْعَلْ بِهِ شَيْئاً " (تك12:22)، هذا الصوت صامت فى الجلجثة!
ويمسك الجلاّدون بالمطرقة والمسامير وكأنَّها مُحمَّاة فى أتون الجحيم، وبدون أي اعتناء يدقون المسامير فى أقدس وأطهر يدين ورجلين، وتنهال ضربات المطرقة الثقيلة التى تهز القلوب، لتشهد فى أُسلوب مرعب عن خطايا البشرية وغضب الله.
لقد غاصت المسامير.. فتدفّقت دماء القدوس من يديه ورجليه، شقت المسامير صخرة خلاصنا ففاضت بماء الحياة، وعندما نفذت فى جسد البار ثقبت الصك الذي كان ضدنا مسمّرة إياه بالصليب، ودخلت فى رأس الحيّة القديمة المدعوة إبليس، فأهلكتها وأبادت سلطانها، فيسوع كما قال مار يعقوب السروجى:
" بسط ذراعيه على الصليب كالأغصان، ونثر أثماره فى الأرض الميتة، بمسامير يديه ثقب مرارة الحيَّة التى تُسمى التنين، لئلا تملأ الأرض بغشها المرذول ".
كان يجب أن تُسمّر أرجلهم السريعة إلى سفك الدماء، وأيديهم التي تلطخت بدماء الأبرار، ولكن ها هم يُسمّرون اليدين اللتين باركتا الخمس خبزات والسمكتين، فأشبعت ألوف الرجال والنساء والأولاد، والقدمين اللتين جالتا فى شوارعهم تصنع الخير بين الناس غير متذكرين أن بلمسة يده انفتحت أعين عميان، وعلى قدميه سار ساعات لكي يُخلّص خطاة، وأمامنا السامرية شهادة صادقة.
لم يُدركوا أنَّ يسوع مد ذراعيه على الصليب ليمسك كل أقطار المسكونة، وعندما بسط يديه على الصليب بدت أصابعه المُغطاة بالدماء كأغصان الرياحين المحاطة بالياسمين، ففى صليبة نهض مر الأرض ليُلاقي لُبان السماء، وفى كلماته سمعنا أُنشودة السماء تُعزّي ساكني الأرض، قَبِـلَ أن يُسمر ليُسمّر العالم للبشر، وهل نُنكر أنَّ يسوع بسط ذراعيه لكي يجذب إليه الخطاة؟! ألم يمت لتموت معه الخطية وننهض نحن فى البر؟!
إننى كلَّما نظرت إلى يسوعي البار وهو مُعلّق على الصليب، أشعر أننى أرى طائراً سماوياً يبسط جناحيه استعداداً للطيران، وقبل أن يضمحل آخر بريق فى عينيه ارتسمت ابتسامة قدسيّة على شفتيه هى أشبه بالنسيم، الذى يأتى قبل نهاية الشتاء مبشراً بقدوم الربيع، فصار وجهه كليلة لا ظلمة فيها، وكنهار ساكن الذى لا يعرف ضجيج البشر، وإن كان يبدو كئيباً إلاَّ أنَّه كان ممتلئاً بفرح الخلاص الذي قدّمه للبشر!
وأخيراً انتهت مأساة التسمير، وها هم يستعدون لرفع الصليب من على الأرض، لينتصب مرتفعاً إلى السماء، وقد تم ذلك بتقريب الصليب من حفرة كانت قد حُفرت له، ويمسك رجال أقوياء بحبال رُبطت بقمة الصليب ويجذبونها بقوة، والصليب يرتفع إلى أعلا حاملاً الذبيحة عليه إلى أن ينتصب. وهكذا ترفض الأرض بقسوة رئيس الحياة وتلفظه مـن فوق سطحها!!
وما أن رُفع الصليب حتى تدفق من جروح المصلوب نبع أحمر هو دمه الطاهر، إذا مس القفار تزهر كالنرجس، وحيث يتساقط ما كان دنساً يصبح نقياً، وعندما يُرَشْ على قوائم أبواب قلوبنا، تصير فى أمان من سيف المهلك، وبدونه لا حياة ولا أمل فى حياة.
انتصب الصليب ليبقى يسوع وحده، مُعلّقاً بين السماء والأرض، كعمود من نور فاتحاً ذراعيه أمام اللانهاية لاحتواء ظلام الكون وظلام البشر، ناظراً من وراء حجاب الموت إلى أعماق الحياة ، وإن بدا كشبح مُكلّل بالأشواك تغطية ظلمة حالكة، إلاَّ أنَّه فى الحقيقة هو كوكب الصبح المُنير!
وهكذا تَفرّق الجمع وأسرعوا إلى مضاجعهم المُظلمة، لأنَّ أغانى الملائكة المتموّجة فوق شهيد الحب، لا تدخل آذانهم المسدودة بتراب الحقد، أسرعوا من هذا المكان المملؤ برائحة البخور، هكذا الخنازير ترفض استنشاق العطور الذكية، واللصوص الخاطفة تهاب سيد البيت وتخشى قدوم الصباح!
وهرب التلاميذ!! وكان لابد أن يهربوا، فما الذى بقى من مُعلّمهم فى نظر الناس والمجتمع: بقايا إنسان، وبقايا نبى، وبقايا معلم فشل فشلاً ذريعاً، وصُلبت دعوته، ونُزف دمه كما نزفت كلماته، ولم يبق منه إلاَّ هيكل بشري مُعلّق بمسامير حادة قوية مثل ذبائح الحملان، كأنَّ القوة الخارقة التى لازمته فى حياته فارقته إلى غير رجعة، والهالة المجهولة التى اختلطت به أثناء حياته وتعاليمه سقطت وذهبت كالأحلام والرؤى.
وإن كان لم يبقَ من التلاميذ إلاَّ يوحنا، فهذا لا يعنى أنَّه كان يملك شجاعة أعظم منهم، وإنَّما لأنَّه كان على صلة ودية مع أهل بلاط الوالي ورؤساء الكهنة، فلم يخشَ على ذاته أذية.
ذهب الجميع، وهرب التلاميذ، وعادت النسوة إلى بيوتهن، وقد أدّين ما عليهن من واجب البكاء والعويل.. وبدت الطبيعة فى الغروب هزيلة، كئيبة، لقد ظنوا أن المأساة قد انتهت، وسينزل ستار الليل وتُطفأ أنوار الحقيقة، ونسى البشر أن الحقيقة لا تُخفى والحق لا يموت! فالصليب قد انتصب متجهاً إلى السماء، وما هذا إلاَّ علامة الرفعة، والصالبون واقفون تحت أقدامه، وما هذا إلاَّ علامة عبوديتهم لمن صلبوه، وهل تعاند العين سهماً ولا تفقأ؟! أو تناضل اليد سيفاً ولا تقطع؟!
يقول مارإفرآم السريانى:
" لقد نصبوا صليبه عياناً على تلّة ثم نزلوا فجلسوا عند أقدامه، فبهذا الرمز صوروه جالساً على عرشه، بينما هم موطيء لقدميه " .
وهكذا صار الأشرار فى القاع كمستنقعات خبيثة تدُب الحشرات فى أعماقها، وتتلوى الأفاعى فى جنباتها! وإن كانوا قد ظنوا أنَّهم سمّروا المحبّة وفنوا العدل معه تحت صخرة الظلم، ولم يتلو فوق جثمانه صلاة الأموات كيلا تقوم له قيامة، فقد فاتهم أنَّ الحياة ستغلب الموت، ومعه سوف تنتصر القيم التى لا تمسها يد الفناء!
والآن أتُريدون أن تعرفوا من قتل يسوع؟ الرومانيون أم كهنة اليهود؟ فأعلموا أنَّه لا الرومانيون قتلوه ولا الكهنة صلبوه! ولكن العالم بأسره وقف تحت التلة ليُعطيه حقه، من الاحترام على ما أعطاه من دمه وحُبَّه، فما من رجل يربح الكل إلاَّ الذي أعطى الكل!