التوبة التي لا تُبنى على المحبة التي أسسها خوف الله واحترامه وتقديره ومهابته كأب وسيد، فهي توبة مريضة، وهي تُنشأ تعاظم كاذب وكبرياء في القلب، لأنه حينما يقدر الإنسان بالاعتماد على قدراته وإرادته، ويبدأ بتدريب ذاته على أن يكف عن ارتكاب الخطية وينجح بعزيمة قدرة ذراعه، فأنه حتماً سيسير مثل الفريسي ويبدأ في إعداد فضائله أمام الله، ويُطالب الله أن يستجيب له على أساس أنه وفى مطالب الله والنتيجة الحتمية هو أن الرب يقاومه لأنه أصبح منتفخاً متكبراً: [ يقاوم الله المستكبرين وأما المتواضعون فيعطيهم نعمة ] (يعقوب 4: 6)
فكلام الوعظ الذي يُنادي على الخاطئ بقوله كف عن الخطية، هو كلام مقلوب لا علاقة له بحقيقة جوهر التوبة، لأن التوبة في عمقها هي: تغيير الإنسان على صورة الله في البرّ والقداسة في النور، ومن يقدر أن يُغير نفسه إلى صورة الله بقدرة إبطاله للخطية كفعل في حياته: [ هل يُغير الكوشي جلده أو النمر رقطه، فأنتم أيضاً تقدرون أن تصنعوا خيراً أيها المتعلمون الشرّ ] (أرميا 13: 23)
التوبة ليس مجرد الكف عن الخطية، كما يظن البعض وعلى الأخص من يتكلمون عن قوة الإرادة وقدرة الإنسان في العمل والفعل، والذين يجردون التوبة من عمل النعمة وتجديد القلب بالروح ويقصروها على عمل الإنسان وقدراته في الصوم وغيرها من الفضائل التي يعملها الإنسان من الخارج وبحسب قدرته، ناسيين أو متناسيين انه مكتوب: [ وإن كان البار بالجهد يخلص فالفاجر والخاطئ أين يظهران ] (1بط 4: 18)، فالتعليم عن التوبة بهذا الشكل لا مكانة فيها للخاطي والفاجر، والضعيف الإرادة، والمغلوبين من سلطان الشر الذي يعمل في داخل القلب الميت بالروح !!!
لأن الخروج من تحت سلطان الخطية المفروض أنه يكون ثمرة التوبة الذي تجعل الإنسان يدخل في سرّ الخلاص ويغتسل قلبه بدم المسيح، ففعل التوبة هو تغيير القلب بقوة الله، وذلك كفعل نعمة ممنوح لنا في ربنا يسوع لنتغير لصورته بالروح القدس، لأن ما فائدة أن نكف عن الخطية فقط ونقف عند هذا، أي أن نكف عن الخطية ويكون لنا مجرد أخلاق وشكل القديسين، لأن حياة التوبة ليست شكل إنما هي قوة تغيير في أعماق الإنسان من الداخل ليتغير عن شكله بتجديد ذهنه مختبراً إرادة الله الصالحة المرضية الكاملة، فالرب كخالق يخلقنا على صورته في البرّ وقداسة الحق في المسيح يسوع…
[ لا بأعمال في بر عملناها نحن بل بمقتضى رحمته خلصنا بغسل الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس ] (تي 3: 5)
[ لا تُشاكلوا هذا الدهر بل تغيروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم لتختبروا ما هي إرادة الله الصالحة المرضية الكاملة ] (رو 12: 2)
[ ونحن جميعاً ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف كما في مرآة، نتغير إلى تلك الصورة عينها من مجد إلى مجد كما من الرب الروح ] (2كو 3: 18)
والآن لنصغي لكلمات القديس يوحنا الرسول لنفهم هذه الآية الرائعة والتي يتعثر فيها الكثيرون: [ نعلم أن كل مَن وُلِدَ من الله لا يُخطئ ] (1يو 5: 18)
إذن أولاً ينبغي أن نتحقق من فعل ولادتنا من الله في حياتنا، وكلنا وُلدنا من الله بالمعمودية وإيمان حي فيه قبلنا خلاص نفوسنا في المسيح الرب وقبلناه رئيس حياتنا وإله حي فيه خلاصنا ونجاتنا، منه قوة الحياة، ومن هنا صارت لنا مخافة الله كأب لنا راسخة في أعماق قلوبنا، فأن كانت مخافة الله تسكن القلب ونقويها فينا بالتدقيق وفحص النفس على نور كلمة الله في الصلاة تتولد منها المحبة وتترسخ في النفس، والخطية في هذه الحالة تصبح مرفوضة طبيعياً، بحسب الإنسان الجديد الذي نعيش به في المسيح الرب…
فإن أخطأ الإنسان ووجد أن هناك خطية تسكن قلبه، ينبغي أن يرفضها ويرفض أن يكون على هذه الحال، فيتوقف عن الحركة ليأخذ موقف واضح جاد، وذلك لأنه لا يُمكن أن يقبل الخطية ولا يُمكن أن يتعايش معها، وذلك بسبب محبة الله التي تسكن قلبه بالمخافة أي بالتقوى!!!
إذن الموضع عن جد خطير ومهم للغاية جداً، لأن حينما نجد أن الخطية تملك فينا وتحركنا ونقبل التعايش معها أو حتى أن نتعامل معها، نعلم فوراً أن المحبة في قلوبنا يا أما ضعيفة جداً وهزيلة، أو مريضة جداً لأنها لم تُبنى على مخافة الله ومهابته كأب لي وسيد، لأني له صرت ابناً في الابن الوحيد، والمولود من الله لا يُخطأ، وليس معنى ذلك أنه يستحيل أن يُخطأ قط أو يضعف لأننا كلنا في الجسد وتحت ضعف، بل المعنى هُنا أنه لا يتعامل مع الخطية أو يرتاح لوجودها ويتفق معها إطلاقاً: [ بل البسوا الرب يسوع المسيح ولا تصنعوا تدبيراً للجسد لأجل الشهوات ] (رو 13: 14)
حياتنا في المسيح له المجد ليست نظريات ندرسها أو أقوال نسمعها أو عظات ننفعل بها ونحفظها، أو مجرد خدمة نقدمها للناس ونفرح أننا نخدم الله، بل هي قوة وفعل في حياتي الشخصية، هي قوة حب مبني على مخافة أب لنا ونحن له بنين في الابن الوحيد، لنا روح التبني الذي به نصرخ يا أبانا، ولأننا أولاد له كيف نقبل أن نتعايش مع أي خطية تحت أي مُسمى ولا نصرخ إليه أن يغسل قلوبنا ويقدسنا لكي نكون هيكل مقدس له وحده فقط !!!
هلم نرجع لأصول الحياة مع الله بالنعمة، ومهما ما كنا ابتعدنا عن الله وانحرفنا عن طريق التقوى والبرّ ووقعنا في اشنع الخطايا وأشرها فتكاً بالنفس، فلنقوم الآن وفي هذه اللحظة، وننهض فوراً بروح الحب ومخافة الله، ونرفع القلب بإصرار أن نحقق بنوتنا لله في الابن الوحيد حسب العطية التي نلناها منه بتجسده، طالبين منه قوة النعمة المتدفقة ليُغيرنا إليه، ونصبر له حتى يُغيرنا عن شكلنا بتجديد أذهاننا، مستمرين في اعترافنا الدائم أمامه عن كل صغيرة وكبيرة في حياتنا، طالبين قوة التجديد كأولاد له بالصدق والحق، فمجداً لمن أحبنا وأعطانا ذاته لكي به نحيا ونتحرك ونوجد.
أقم نفوسنا يا رب بالتقوى، وثبتنا في محبتك خاضعين لوصياك بالحب
فنكرمك لا بالشفتين بل بالقلب، ونحفظ وصاياك المحررة لنفوسنا
المجد لك يا أبانا السماوي مع ابنك الوحيد والروح القدس آمين