الوصية والتحرر من روح الكذب
إن كانت الوصية تسند النفس الخائرة التي استسلمت للنعاس أو صارت تسيل كما بقطرات، فمن جانب آخر تحفظها من روح الكذب الذي هو روح إبليس، وتهبها روح الحق الذي هو روح المسيح، فلا تخزى.
"طريق الكذب ابعد عني،
وبشريعتك ارحمني" [29].
* كان في استطاعته أن يقول: "ابعدني عن طريق الكذب". لم يقل هذا بل قال: "طريق الكذب ابعد عني"، لأن هذا الطريق هو في داخلي، هو كائن فيّ.
حقًا كلما كنا أشرارًا يكون "طريق الكذب" في داخلنا. يلزمنا أن نبذل كل الجهد حتى نترك هذا الطريق خارج نفوسنا، طالبين على وجه الخصوص معونة الرب. عندئذ يمكننا القول: عندما تبعده عنا "بشريعتك ارحمني"، طالبين رحمة الله بالشريعة التي وهبنا إياها. وذلك كما نقول لطبيب: لتعمل حسبما يستلزم الفن الخاص بالطب الذي يقودني إلي الصحة ويهبني الشفاء، سواء باستخدام المشرط أو الكي أو أية وسيلة مؤلمة يتطلبها الطب وقوانينه (تشريعاته)...
مادام طريق الكذب لم يُبعد عنا بعد لن نحصل على رحمة الله حسب شريعته.
العلامة أوريجينوس
* من يبتعد عن طريق الكذب ويقترب من "شريعة" الله بإرادته، يكون كمن يريد أن تكون عوارضه سليمة تمامًا ومؤيدة بالرب. هذه هي الشريعة التي تقود إلي إتمام كل الخيرات.
من يبغض الجهل تصير فيه رغبة مضادة لذلك الطريق وهو العلم. من يعجز بنفسه أن يبتعد عن الجهل فليستند على الإيمان (الحق)، طالبًا من معلمه: أبعدني عن الجهل، وبعلمك وشريعتك ارحمني.
القديس ديديموس الضرير
لقد تكررت كلمة "الكذب" ثمان مرات، وهي سمة الحياة الخاطئة.
لا يكفي الجانب السلبي وهو انتزاع طريق الكذب أي إبليس ومملكته من القلب، إنما يلزم الجانب الإيجابي وهو التمتع بالسيد المسيح حيث مملكته: "طريق الحق" وفي بعض الترجمات: "طريق الإيمان".
"اخترت طريق الحق (الإيمان)
وأحكامك لم أنسَ" [30].
كلمة "حق emunah" جاءت مشتقة من aman، تعني "يثبت، لا يتغير، يستقر، يثق، يؤمن". فالناموس الإلهي مستقر وثابت وأكيد ومدبر كل الأمور وذلك بسلطان الله الذي لا يكذب ولا يخدع1.
* ينطق بهذا من يحتقر الأمور المنظورة أي الأمور الزمنية الزائلة، ويتطلع إلي غير المنظورات كأمورٍ أبدية (2كو18:4)؛ فلا يتكلم إلا عنها، وإليها يريد أن يذهب. فإن "طريق الحق" ليس بالطريق الذي يختاره من ينشغل هنا على الأرض بالغنى والمجد الأرضي.
من يختار أن يسلك في "طريق الحق" بالمعنى الذي فسرناه، لا ينسى أحكام الله ولا مكافأته.
العلامة أوريجينوس
اختياره طريق الحق وتذكره الدائم لأحكام الرب يثبته في شهادات الرب.
إن كانت الوصية تدفعنا إلي الصراحة مع أنفسنا، فنعترف بطرقنا ونتوب عن خطايانا، فإنها تكشف عن نعمة الله العجيبة التي تحول ضعفنا إلي قوة، وانشغالنا بالتراب إلي التأمل في الإلهيات. بهذا تنتشلنا الوصية من الخطية المحطمة للنفس بالغم وتحررنا من الحزن القاتل، وكأنها تقيمنا من حالة النوم والرخاوة إلي بهجة العمل في ملكوت الله.
"لصقت بشهاداتك يا رب،
فلا تخزني" [31].
إذ سبق فصرخ المرتل يشكو نفسه، قائلًا: "لصقت بالتراب نفسي" [25] طالبًا من الله أن يقيمه من تراب القبر، ويهبه الحياة المقامة. الآن يطلب الالتصاق بشهادات الرب لكي يثبت في هذه الحياة الجديدة التي في المسيح يسوع.
* من يتحد بالكلمات المُسلمة من أجل شهادة السماء والأرض (لله)، ولا يبتعد عنها قط تصير له ثقة أنه مهما ارتكب من تصرفات تستوجب الخزي (بسبب ضعفه البشري) يطلب من الله المغفرة، قائلًا: "يا رب لا تخزني". مثل هذا يستحق أن يسمع الله قائلًا له: "أنظر، قد محوت كغيمٍ ذنوبك، وكسحابةٍ خطاياك” إش22:44. إنه لن يمتلئ خزيًا، لأن الكلمة الإلهية (الفضيلة) الحالة في نفس الإنسان الذي أخطأ تمحو كل الخطايا السابقة تمامًا، وتمنحها الغفران من الخطايا. يحل العدل عوض الظلم، والزهد والعفة عوض النجاسة، والشجاعة عوض الجبن، والتعقل عوض الجنون، وبهذا يتحقق غفران الخطايا الذي من أجلها جاء ابن الله لكي يهبنا إياها.
العلامة أوريجينوس