لايستطيع أحد أن يخدم سيدين {مت 6: 24 } بقلم قداسة: البابا شنودة الثالث
هكذا قال الرب في العظة علي الجبل:
لايقدر أحد أن يخدم سيدين,لأنه إما أن يحب الواحد ويبغض الآخر,أو يلازم الواحد ويحتقر الآخر,لاتقدرون أن تخدموا الله والمال..
وهنا أذكر قاعدة في التفسير تقول حذف المعلوم جائز فالمقصود هنا لايقدر أحد أن يخدم سيدين مختلفين في الاتجاه.
فإن خدمهما معا لاتكون خدمته لكل منهما بنفس المساواة وبنفس الأمانة أو تكون خدمته بالنسبة إلي أحدهما خدمة حقيقية من القلب وتكون خدمته للآخر بالادعاء أو بالرياء.
أما إن كان الاتجاه واحدا فمن الممكن للإنسان أن يخدم الجميع... يمكنه أن يخدم الله ويخدم الكنيسة ويخدم المجتمع والدولة ويخدم العلم..ولكن لايمكن أن يخدم الله وسيدا آخر ضده أو ينافسه في طاعته سواء كان هذا السيد شخصا أو شيئا.
ذلك أن خدمة الله ينبغي أن تكون كاملة وشاملة ومن كل القلب.
وعن هذا الأمر قال الكتابتحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل قوتكتث6:5 وتكررت نفس العبارة في العهد الجديدتحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك هذه هي الوصية الأولي والعظمي والثانية مثلها تحب قريبك كنفسك,بهاتين الوصيتين يتعلق الناموس كله والأنبياءمت22:40,37.
تحب الرب إلهك وتحب قريبك لأنهما في نفس الاتجاه.
أما إذا تعارضت محبة الله ومحبة القريب فإن الرب يقولمن أحب أبا أو أما أكثر مني فلا يستحقني ومن أحب ابنا أو ابنة أكثر مني فلا يستحقني.. مت10:37ذلك لأنه مادام القلب كله لله إذن تحب الكل داخل محبة الله ولاتكون حينئذ تخدم سيدين بل الله وحده... فلا تحب القريب محبة ضد محبة الله ولا محبة أكثر من محبة الله.
الله وقيصر:
ونفس الوضع بالنسبة إلي الله وقيصرأي الحاكم
يمكن أن تخدم الله وتخدم قيصر إذا كانت خدمتهما في نفس الاتجاه لاتعارض إحداهما الأخري... وفي ذلك قال السيد المسيح إعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله للهمت22:21
أما إذا تدخل قيصر في ما لله وأراد أن يبعد الناس عن الله فهنا لايقدر إنسان أن يخدم سيدين بل يقول كما قال الآباء الرسل ينبغي أن يطاع الله أكثر من الناسأع5:29وهكذا حدث اصطدام بين المسيحية وقيصر وبدأ عصر الاستشهاد وعصر من الاضطهاد ولكن لما عاد الاتجاه الواحد بين المسيحية والقياصرة القديسين أمكن للآباء أن يخدموا الله وقيصر معا في ظل الحق بدون تعارض.
الله والعالم:
يقول الكتاب محبة العالم عداوة للهيع4:4
ويشرح ذلك فيقوللاتحبوا العالم ولا الأشياء التي في العالم إن أحب أحد العالم فليست فيه محبة الآب لأن كل ما في العالم شهوة الجسد وشهوة العيون وتعظم المعيشة ...والعالم يمضي وشهوته معه1يو2:15-17ومن الأمثال البارزة علي عدم الجمع بين محبة الله ومحبة العالم ما حدث لديماس تلميذ بولس الرسول إذ قال الرسول عنه:
ديماس تركني لأنه أحب العالم الحاضر2تي4:10
ومثله سليمان الحكيم حينما استغرق في شهوات العالم المادية
وقال في ذلك عن نفسهعظمت عملي:بنيت لنفسي بيوتا غرست لنفسي كروما عملت لنفسي جنات وفراديس...عملت لنفسي برك مياه لتسقي بها المفارس المنبتة الشجر... قنيت عبيدا وجواري...وكان لي قنية بقر وغنم...جمعت لنفسي فضة وذهبا وخصوصيات الملوك والبلدان اتخذت لنفسي مغنين ومنغنيات وتنعمات بني البشر سيدة وسيدات...ومهما اشتهته عيناي لم أمسكه عنهما جا2:4-10.
الروح والجسد:
لايقدر إنسان أن يخدم الروح والجسد معا مادام الجسد يشتهي ضد الروح والروح ضد الجسد, وهذان يقاوم أحدهما الآخر..غل 5:17ويقول الرسول أيضا لأن من يزرع لجسده فمن الجسد يحصد فسادا, ومن يزرع للروح فمن الروح يحصد حياة أبديةغل6:8.
العجيب أن سليمان الحكيم بعد أن نال الكثير جدا من تنعمات الجسد يقولبقيت أيضا حكمتي معيجا2:9وأنا أعاتبه في ذلك وأقول ربما بقيت حكمتك معك إلي حين ولكنها لم تستمر إذ يقول الكتاب:
وكان في زمان شيخوخة سليمان أن نساءه أملن قلبه وراء آلهة أخري ولم يكن قلبه كاملا مع الرب إلهه كقلب داود أبيه1مل11:4.
حقا إنها لكارثة!سليمان الحكيم الذي أخذ الحكمة من فوق من الله مباشرة1مل3:12,11الذي تراءي له الله مرتين1مل9:2سليمان هذا بسبب النساءذهب وراء عشتاروت إلهة الصيدونيين وملكوم رجس العمونيين وعمل سليمان الشر في عيني الرب..1مل11:6,5وحل عليه غضب الرب فعاقبه ومزق مملكته1مل11:13,11.
حقا لايقدر إنسان أن يخدم سيدين:الله وشهوة النساء.
ومن الأمثلة البارزة التي أتلفتها شهوة النساء:شمشون الجبار
الذي كان نذيراللرب من بطن أمهقض13:7وقد باركه الرب وابتدأ روح الرب يحركهقض13:25,24وحل عليه روح الرب أكثر من مرة قض14:19,26 قض15:4 وصنع الرب معه عجائب وصنع به خلاصا...شمشون هذا وقع في شهوة النساء ولمن يقدر أن يخدم الله وهذه الشهوة معا...
وقع في شهوة امرأة في تمنهقض14:2وألحت عليه فكشف لها سر الأحجية التي قالها للفتيانقض14:17,16وعاد فوقع في شهوة امرأة زانية في غزةقض 16:1ثم أحب امرأة في وادي سورق اسمها دليلةقض16:4 وكان ضياعه علي يديها إذ خانته وألحت عليه في كشف سر قوته لها... فضاقت نفسه إلي الموت وكشف لها كل قلبه قض16:17,16 وكانت النتيجة أنه فقد نذره وحلقوا شعره وقلعوا عينيه وأوثقوه بسلاسل وكان يطحن في بيت السجنقض16:21وانطبق عليه المثل القائل:
إن كان وراء كل رجل عظيم امرأة فإن وراء كل رجل فاشل أكثر من امرأة.
وهكذا تحقق قول الكتاب عن شهوة النساء إنهاطرحت كثيرين جرحي,وكل قتلاها أقوياءأم7:26.
إذا لايقدر أحد أن يخدم الروح والجسد المنحرف معا أما إذا اتحد الاثنان معا,وسارا في اتجاه واحد روحي حينئذ ينطبق عليهما قول الكتاب:مجدوا الله في أجسادكم وفي أرواحكم التي هي لله1كو6:20.
الله والشيطان:
طبيعي أنه لايقدر أحد أن يخدم الله والشيطان معا.
وهذا واضح في الخطية الأولي في سقطة أمنا حواء.
لم تقدر حواء أن تجمع بين وصية الله وما قالته لها الحية إذ كان هناك تناقض بينهما, ولما أطاعت الحية عصت الله وسقطت تك3.وجرت علي البشرية- من بعدها-قضية الموت.
وهكذا فإن إيليا النبي-فيما كان يحذر بني إسرائيل-يحذرنا نحن أيضا بقولهحتي متي تعرجون بين الفرقتين؟!إن كان الرب هو الله فاتبعوه... وكان البعلهو اللهفاتبعوه1مل18:1.
ذلك لأنه لايقدر أحد أن يخدم سيدين...
الله والذات:
أكبر عدو هو الذات الـEgo ولذلك أمرنا الله بإنكار الذات فقالمن يحب نفسه يهلكها... ومن يبغض نفسه في هذا العالم يحفظها إلي حياة أبديةيو12:25وقالإن كان أحد يأتي إلي ولايبغض أباه وأمه..حتي نفسه أيضا فلا يقدر أن يكون لي تلميذالو14:26وقال بنفس المعنيمن وجد حياته يضيعها ومن أضاع حياته من أجلي يجدهامت10:39...لذلك كثيرون أضاعوا أنفسهم لأنهم ركزوا كل اهتمام في الذات أو جعلوا ما يختص بذاتهم أهم مما يختص بالله!
سقطة الشيطان الكبري كانت بسبب الذات.
كان ملاكا عظيما من طغمة الكاروبيم وقال له اللهأنت خاتم الكمال ملآن حكمة وكامل الجمال...أنت الكاروب المنبسط المظللحز28:14,12وقال له أيضا أنت كامل في طرقك من يوم خلقت إلي أن وجد فيك إثمحز28:15.
وكيف وجد فيه إثم؟كان كذلك يوم فكر في إعلاء ذاته وهكذا وبخه الله قائلا:أنت قلت في قلبك:أصعد إلي السموات أرفع كرسي فوق كواكب الله..أصعد فوق مرتفعات السحاب أصير مثل العليأش14:14,13.
ولم يقدر الشيطان أن يجمع بين شهوة الذات وخدمة الله.
فانحدر إلي الهاوية إلي أسافل الجبأش14:15.
الذات أيضا أسقطت شاول الملك حين استقل عن الله وتصرف بذاته وكانت الذات هي التي أشعلت حقده علي داود ولسعيه لقتله ولم يقدر شاول أن يجمع بين خدمته لله وخدمة لذاته ولا أن يجمع بين خدمة ذاته ومحبته لداود فهلك...
الله والمال:
إن السيد الرب يقول في صراحةلاتقدرون أن تخدموا الله والمالمت6:24ويقول أيضاما أعسر دخول ذوي الأملاك إلي ملكوت الله...
مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلي ملكوت اللهمر10:25,23
وكانت هذه هي مشكلة الشاب الغني الذي كان يسعي إلي الملكوت وقال للسيد الربأي صلاح أعمل لتكون لي الحياة الأبدية؟مت19:16فلما قال له الرباذهب وبع كل مالك وأعطه للفقراء...مضي حزينا لأنه كان ذا أموال كثيرةمت19:22,21.
لم يقدر الشاب الغني أن يجمع بين سيدين:الله والمال.
ومع ذلك فهناك أغنياء كثيرون كانوا أبرارا ومن بني الملكوت.
إبراهيم أبو الآباءكان غنيا جدا في المواشي والفضة والذهب تك13:2وكان مباركا من الربتك12:2وأيوب الصديق كان في الغنيأعظم كل بني المشرقأي1:3 وشهد له الله إنه رجل كامل ومستقيمأي1:8ويوسف الرامي الذي كفن جسد المسيح ودفنه في مقبرتهكان غنيا...وكان هو أيضا تلميذا ليسوعمت27:57وإبراهيم الجوهري في العصر الحديث كان غنيا جدا وكان من الأبرار,محبا للكنيسة وللفقراء...والأمثلة عديدة
وهنا أحب أن أفرق بين عبارة يخدم المالويخدم بالمال
كل الأغنياء القديسين الذين ذكرناهم ما كانوا يخدمون المال بل كانوا يخدمون الله بالمال ومثلهم النسوة اللائي كن يتبعن الرب وكن يخدمنه من أموالهنلو8:3وكذلك فعل المؤمنون في العصر الرسولي فكل الذين كانوا أصحاب حقول أو بيوت كانوا يبيعونها ويأتون بأثمان المبيعات ويضعونها عند أرجل الرسول فكان يوزع علي كل واحد كما يكون له احتياجأع4:35,34وكذلك النسوة اللائي جعلن بيوتهن كنائسرو16:3-5
عكس ذلك حنانيا وسفيراأع5لم يقدرا أن يجمعا بين الله ,محبة المال ما كانا يملكان المال بل المال كان يملكهما.
دفعهما المال إلي الكذب ليس علي الرسول فقط بل علي روح الله الذي فيه كذلك فإن الذي يخدم المال يريد باستمرار أن يزيده وينميه لا أن ينقص منه وهكذا يصبح من الصعب عليه أن يصرف منه للفقراء... كذلك يصعب عليه أن يدفع العشور والبكور وباقي استحقاقات الله من ماله ويكثر عندهمال الظلملو16:9أي المال الذي ظلموه فيه الفقراء واستبقوه عندهم أو المال الذي سلبوه من الله نفسهملا3:8.
الذي يخدم االمال يقع أيضا في خطية الجمع والتكويم.
كما قال سليمان في سفر الجامعةأما الخاطيء فيعطيه شغل الجمع والتكويمجا2:26هذا الذي كتبت عنه قديما مقالا بعنوانشيطان الرصيدإذ يفرح كلما زاد الرصيد كما لو كان الرصيد هو الهدف وليس الهدف هو استخدام الرصيد في الخير بتوزيعه علي المحتاجين!
وفي الحالة لايقدر أن يدفع المال علي الحالات التي تتطلب معونات كبيرة مثل عمليات زرع الكبد أو زرع الكلي وما أشبه..
كذلك من أخطر نتائج خدمة المال:الاتكال عليه.
فيحدث أن صاحب المال يتكل عليه وليس علي الله.
ولذلك فإن السيد الرب عندما قالما أعسر دخول ذوي الأموال إلي ملكوت اللهوتحير التلاميذ من ذلك أجابهمما أعسر دخول المتكلين علي الأموال إلي ملكوت اللهمز10:24,23.
والمتكل علي المال إذا أعوزه المال يقلق ويحمل الهم.
لذلك قال الرب لهؤلاء:لاتهتموا بما تأكلون وتشربون وتلبسون...لأن أباكم السماوي يعلم أنكم تحتاجون إلي هذه كلهامت6:32,25.
هنا واستسمحكم أن أرجيء الحديث في هذه النقطة إلي العدد المقبل إن أحبت نعمة الرب وعشنا.