غسل الأرجل
13: 1- 20
عرف يسوع أن ساعته جاءت لينتقل من هذا العالم إلى الآب.
في القسم الأولى من الإنجيل، توجّه يسوع إلى جميع البشر، فعرض عليهم أن يؤمنوا به كمرسل الآب. وفي هذا القسم الثاني تضيق الحلقة. هو لا يتحدّث بعد الآن إلاّ إلى مجموعة محصورة في أولئك الذين قبلوا أن يؤمنوا. لقد انتهت معركة الإيمان وترك يسوع ضجيج هذا العالم واضطرابه وظلماته وعدم إيمانه. واعتزل حاملُ الوحي مع أخصائه في جوّ من الهدوء الداخلي. ها قد جاءت الساعة التي أعلنها القسم الأول وهيّأها. ويختلف خبر الآلام عن خطبة الوداع فيتحدّث عن مسيرة الساعة، عن تمجيد الإبن، وهذان أمران لا يدركهما إلاّ المؤمنون الذين يتعرّفون إلى مجد الإبن عبر الظواهر المأساوية والمذلّة في نظر البشر.
وتعطي ف 13- 17 معنى الحدث. يتكلّم يسوع مطوّلاً مع تلاميذه وخطبته هي خطبة وداع، هي وصية "أب" لأبنائه قبل أن يذهب إلى الموت. وتبدأ هذه الفصول بغسل الأرجل.
1- مدخل إلى كتاب المجد (آ 1)
"الساعة التي هي موضوع كتاب الآلام والمجد ترينا موت يسوع. فإن يوحنا يرى أن يسوع يقترب من الموت فيقوم بفعل حبّ من أجل الذين آمنوا به. وهذا يوضح لنا أن موت يسوع كان انتصاراً لأنه عودة إلي الآب. ونقابل 13: 1 مع لو 9: 51: "وإذ كانت أيام ارتفاعه قد تمّت، صمّم أن ينطلق إلى أورشليم". هذا يدلّ في لوقا على نهاية الرسالة في الجليل وبداية الإنطلاق نحو الموت الذي سيرفعه إلى السماء. ويتبع هذا التحرّك خطب طويلة ليسوع مع تلاميذه في طريقه إلى أورشليم.
هاتان الفكرتان عن حبّ يسوع لتلاميذه الذين يتركهم، وعودته إلى الآب، سيخترقان كتاب الآلام والمجد. فقد شدّد يوحنا منذ الآية الأولى على وعي يسوع إلى ما سوف يحدث. نقرأ في آ 3: "وكان يسوع يعرف أن الآب جعل في يديه كل شيء، وأنه جاء من عند الله وإلى الله يعود". وفي 18: 4: "فتقدّم يسوع وهو يعرف ما سيحدث له". وفي 19: 28: "ورأى يسوع أن كل شيء تمّ". هذا يتوافق مع ما قاله يسوع في 10: 8: "ما من أحد ينتزع حياتي مني، بل أنا أضحّي بها راضياً. فلي القدرة أن أضحّي بها، ولي القدرة أن أستردّها".
2- مقدمة إلى غسل الأرجل (آ 2- 3)
إذا فسرّنا غسل الأرجل كفعلة نبوية ترمز إلى موت يسوع، فإن آ 1 هي مقدمة لغسل الأرجل. ولكننا نجد التهيئة المباشرة للغسل في آ 2- 3. فالخيانة تذكر في آ 2 بحيث يربط القارىء بين موت يسوع وغسل الأرجل. وقد قام يسوع بهذه الفعلة التي ترمز إلى موته بعد أن تحرّكت القوى التي تقوده إلى الصلب. هناك تكرار بين آ 2 وآ 27 في تصوير سيطرة الشيطان الكاملة على يهوذا. تقول آ 2 إن الشيطان جعل في قلب يهوذا العزم على خيانة يسوع. أما آ 27 فتقول إن الشيطان دخل في يهوذا. بهذين الإيرادين عن يهوذا، الأول في بداية العشاء والثاني في نهايته، كان يوحنا في خط التقاليد الإنجيلية. رج مر 14: 10- 11 (مضى يهوذا الاسخريوطي) بالنسبة إلى ما قبل العشاء، و14: 17- 21 بالنسبة إلى ما تمّ خلال العشاء (واحد منكم سيُسلمني). ونقرأ أيضاً في لو 22: 3: "ودخل الشيطان في يهوذا، الملقّب بالاسخريوطي".
وتقول آ 3 إنّ الآب جعل في يد يسوع كل شيء. هذا القولُ ذكر خلال حياة يسوع الرسولية (3: 5؛ 6: 39؛ 10: 29). لهذا لا نستطيع أن نتكلّم عن سلطة خاصة أعطيت ليسوع لأنه قد تمجّد "في الساعة". هناك من ينطلق من هذه الآية ليربط غسل الأرجل بسرّ العماد، وذلك على خطى ما قاله الآباء. ولكننا لسنا فقط أمام سلطة شاملة من أجل رسالة الخلاص. فغسل الأرجل كفعلة ترمز إلى موت المسيح هو موضوع احتفال لأنّ يسوع يعرف أن له القوة لكي يخلّص الآخرين والقوة بأن يقدّم حياته من أجل هذا الهدف.
وتعلن آ 3 أيضاً أن يسوع سار في هذا الطريق لأنه عرف أنه جاء من عند الله ويعود إلى الله. وهذه إشارة أخرى تدلّ على ارتباط غسل الأرجل بموت يسوع. "جاء من عند الله". هذا يعني انه "إبن الله" الذي يخضع للموت فيبرز عنصر الذلّ المنظور في غسل الأرجل وفي الموت الذي يرمز إليه.
3- غسل الأرجل (آ 4- 5)
كان الناس يلبسون "الساندال"، وكان الغبار على طرقات غير معبّدة. لهذا فرضت الضيافة على أهل البيت أن يقدّموا مياهاً لضيفهم حتى يغسل رجليه. ويقول مدراش مكيلتا حول خر 21: 2 بأن غسل أرجل السيد لم يكن مفروضاً على العبد اليهودي، وقد يكون الغسل علامة تقوى يقوم بها تلميذ تجاه معلّمه (رابي). ويبدو أن يسوع يلمّح إلى هذه العادة في آ 13- 14 (أنتم تدعونني معلماً وسيداً).
وهكذا تواضع يسوع وأخذ "صورة العبد". هذا ما نجده في كلمات لو 12: 37: "طوبى لأولئك العبيد الذين، إذا ما وافى سيدهم، وجدهم ساهرين. فالحق أقول لكم: إنه يشدّ وسطه ويتكئهم ويدور عليهم يخدمهم". غسل الأرجل هو عمل تقوى وتواضع وهو أيضاً عمل حب. هنا نجد في خبر يوسف واسنات (ف 20) (دوّن في الإسكندرية بين سنة 100 ق. م. و100 ب. م) أن اسنات أرادت أن تغسل قدمي يوسف الذي سيصير زوجها. عارض يوسف وقال إن هذا هو عمل الخادمة. فهتفت أسنات: "رِجلاك رِجلاي. ولا أحد غيري يغسل لك رجليك".
لا نجد شيئاً في طقوس عشاء الفصح ما يقابل مع غسل الأرجل. فهذا الغسل يتمّ حين يدخل الإنسان إلى البيت لا خلال الطعام. إن طقس الفصح يفرض غسل الأيدي بعد الكأس الثانية، ولكننا لا نستطيع أن نرى في عمل يسوع تطبيقاً لهذا العادة.
4- حوار حول معنى غسل الأرجل (آ 6- 11)
إن المفتاح الذي يدخلنا إلى رمزية غسل الأرجل يكمن في الحوار بين يسوع وبطرس. من الصعب أن نتأكّد أن بطرس حين قدّم اعتراضه، كان لسان حال سائر التلاميذ كما في 6: 68 (إلى مَن نذهب يا رب؟ إن عندك كلام الحياة الأبدية) أو فعل باسمه الخاص كما في 18: 10 (استلّ سيفه) أو 21: 7 (لما سمع سمعان أنه الرب، ألقى نفسه في الماء). مع أن للحوار رنّة رمزية، فبطرس قد اضطرب حين رأى ما يعمله معلمه. فمنذ آ 7، نرى أن يسوع أراد أن يعطي أكثر من أمثولة في التواضع يستطيع تلاميذه أن يفهموها. فقد أراد أكثر من ذلك، وهذا ما لا يُفهم إلا بعد أن تحلّ "الساعة" (رج 2: 22؛ 12: 16). قد يكون بطرس رأى عمق تواضع يسوع وحبه. ولكن آ 7 تشدّد على المعنى الأخير لغسل الأرجل: "ستفهم فيما بعد".
وتشير آ 8 إلى معنى أعمق: فغسل الأرجل هو من الأمية بحيث إن التلميذ الذي يرفضه يخسر الميراث مع يسوع. يتحدّث النصّ لا عن روح الغسل بل عن ضرورة الغسل في ذاته. فيسوع لا يقول لبطرس: "إن كنت لا تسمح بأن تُغسل" (هذا يعني مشاركة بطرس). بل يقول: "إن كنت لا أغسلك". هذا يتضمّن عملاً خلاصياً من قِبَل يسوع، لا مثلاً يُحتذى به. وهذا ما يعارض آ 17 التي تشدّد على العمل الذي يمكن أن يقوم به التلاميذ.
إن لكلمة "ميراث" في آ 8 معناها العميق. الكلمة في الأدب اليوناني تعني المشاركة، المقاسمة. ولكنها في السبعينية تترجم "حلق" العبرية، وهي الكلمة التي تدلّ على ميراث يعطيه الله في أرض إسرائيل. كل قبيلة نالت حصّتها في أرض الموعد فكان ذلك ميراثها من عند الله (عد 18: 20؛ تث 12: 12؛ 14: 27). وحين تحوّل رجاء إسرائيل إلى الحياة الأخرى صوّر "الميراث" لدى شعب الله بكلمات من السماء. وكان الإستعمال الاسكاتولوجي للميراث للحديث عن الجزاء الأبدي في رؤ 20: 6؛ 21: 8؛ 22: 9. ويتثبّت تفسير هذه الكلمة لأن يسوع يتحدّث عن الميراث "معي". فموضوع اتحاد التلاميذ مع يسوع في السماء يظهر في الخطبة الأخيرة (14: 3؛ 17: 24). هنا نتذكر خبر لوقا خلال العشاء الأخير. قال يسوع: "أنا أعدّ لكم الملكوت كما أعدّه لي أبي، لكي تأكلوا وتشربوا على مائدتي في ملكوتي" (لو 22: 30). ونتذكّر أيضاً كلمة يسوع للصّ: "اليوم تكون معي في الفردوس" (لو 23: 43).
وهكذا يكون واضحاً بأن غسل الأرجل هو ما يمكّن التلاميذ من الحياة الأبدية مع يسوع. ونحن نرى هذا التشديد معقولاً حين نفهم أن غسل الرجل يرمز إلى موت يسوع الخلاصي. فإن "تمرّد" بطرس عند غسل الأرجل يشبه ردّة فعله السلبية حين أنبأ يسوع للمرة الأولى بآلام ابن الإنسان (مر 8: 31- 33). هنا تبدو طريقة يوحنا في التشديد على ضرورة قبول عثار الصليب. وهناك إشارة إلى المعمودية حيث تظهر كلمة "ميراث" في إطار عمادي (1 بط 1: 3- 4؛ تي 3: 7).
ويتتابع الخبر في آ 9 مع عدم الفهم الذي يميّز إنجيل يوحنا. ولكن من المفيد أن نرى كيف أن الكاتب ضمّ تقنية أدبية مع عنصر من الحماس يميّز بطرس. لقد ذهب بطرس إلى النهاية: إذا كان غسل الأرجل يمنح الميراث مع يسوع، فليغسله يسوعُ كلَّه. وهكذا دلّ بطرس على أنه لم يفهم. فبيّن يسوع أننا لسنا أمام غسل طبيعي في حدّ ذاته، بل أمام رمز الغسل (آ 10 أ).
نزك الآن آ 10 أ، ونتوقّف عند معنى كلام يسوع: "من اغتسل لا يحتاج إلى غسل، هو طاهر كله". إذا كان "اغتسل" يعود إلى غسل الأرجل، فيسوع يقول لبطرس إنه أضاع المعنى حين ظنّ أن عدد المرات التي فيها يغتسل يزيد ميراثه مع يسوع. فغسل الأرجل مهمّ فقط لأنه يرمز إلى موت يسوع. ظنّ عدد من الشرّاح أن يسوع أراد أن يحذّر تلاميذه من تفسير عمله كأنه أمر لغسل طقسي من النوع الذي نجده في العالم اليهودي. وهكذا رأوا في كلامه "هجوماً" ضدّ غسل متكرّر يفرضه الفريسيون أو الإسيانيون أو تلاميذ يوحنا المعمدان.
إن فعل "غسل" يجعلنا نعطي تفسيراً عمادياً لغسل الأرجل. هذا الفعل هو المستعمل في الحديث عن العماد في العهد الجديد. نقرأ في أع 22: 16 ما قاله حنانيا لشاول (أي بولس): "قم فاعتمد واغتسل (وتطهّر) من خطاياك داعياً باسم الرب". ويعلن تي 3: 4: "خلّصنا... بغسل الميلاد الثاني والتجديد في الروح القدس" (رج 1 كور 6: 11؛ أف 5: 26؛ عب 10: 22؛ رؤ 1: 5). لا شكّ في أن يوحنا يحدّثنا عن دم المسيح الذي يطهّرنا (1 يو 1: 7؛ رؤ 7: 14) والتطهير بالمعمودية وبدم المسيح لا ينفي الواحد الآخر (ق عب 9: 22 مع 10: 22؛ تي 2: 14 مع 3: 5). وإن كان يوحنا لم يشر بوضوح إلى وجهة التطهير في العماد، فهذا لا يعني أن هذه الوجهة كانت مجهولة لدى الجماعة اليوحناوية. فالتطهير من الخطايا كان جزءاً من انتظار اليهود للتطهير الإسكاتولوجي، فكيف يكون غائباً عن تفكير مسيحي في المعمودية.
ويبقى تفسير غسل الأرجل أن يسوع أتمّ عمل العبد هذا لينبىء في الرمز عن ذلّه في الموت. وسؤال بطرس الذي حرّكه هذا العمل أتاح ليسوع أن يفسرّ الضرورة الخلاصية لهذا الموت: سيحمل إلى البشر ميراثاً ويطهّرهم من خطاياهم.
وأخيراً نفهم من آ 10 ب- 11 أن يهوذا لم يتبدّل في غسل الأرجل. عارض بطرس يسوع، ولكنه قبلَ سريعاً أن يغتسل حين حدّثه يسوع عن الهدف الخلاصي. إنما ظلّ قلب يهوذا (آ 2) مليئاً بالنوايا الشرّيرة، فلم ينفتح على الحب الذي حمله يسوع له.
5- خطبة حول معنى غسل الأرجل (آ 12- 20)
والتفسير الثاني لغسل الأرجل هو أن عمل يسوع كان مثالاً على التلاميذ أن يستعدّوا ليحتذوا به. قدّم المعلّم للتلاميذ عمل خدمة كان على التلاميذ أن يقوموا به تجاه معلّمهم. ويطلب منهم الآن أن يقوموا به الواحد تجاه الآخر. يشهد على هذه الممارسة ما نقرأ في 1 تم 5: 10 حول النساء اللواتي هنّ أرامل حقاً. "أحسنت تربية أولادها. أضافت الغرباء، غسلت أقدام القديسين".
وقابل بعض الشرّاح بين هذا المشهد وما في مر 10: 32- 45. بعد أن أنبأ يسوع بموته، طلب يعقوب ويوحنا أن يشاركاه في مجده. فشدّد يسوع على أن عليهما أولاً أن يشاركا، في مصيره ويعتمدا بعماده. وقال إن على البر أن يكون كالخادم، وإن الخدمة الحقيقية تعني أن نبذل حياتنا. أما لو 22: 24- 26 الذي يقابل مر 10: 42- 45 فهو جزء من مشهد العشاء الأخير. لا ننسَ أن لو 22: 27 يشبه موضوع غسل الأرجل ولو 22: 28- 29 يقابل موضوع الميراث في يو 13: 8. أما شكل هذا المقطع في لوقا فهو لا يوجّهنا إلى موت يسوع، بل إلى خيانة يهوذا ليسوع. وهكذا يمثل لو 22: 24- 29 مزجاً بين التقليد الإزائي وصدى لما نجده في إنجيل يوحنا.
وإن أعطانا غسل الأرجل مثالاً في التواضع، إلاّ أنه يرتبط دوماً بموت يسوع (رج فل 2: 8). هذا ما يدلّ عليه سياق النصّ. لهذا فإن 15: 12- 13 الذي يطلب منا الحبّ حتى بذل الذات من أجل الآخرين هو تفسير ثمين لما عناه يسوع في 13: 15: "أعطيتكم قدوة لتصنعوا، أنتم أيضاً، كما صنعت أنا بكم".
إن آ 16 ترتبط بموضوع آ 12- 15. ونستطيع أن نقابلها مع ما في الأناجيل الإزائية. نقرأ: "ما من عبد أعظم من سيده، ولا رسول أعظم من مرسله". وفي مت 10: 24- 25: "ليس لتلميذ أفضل من المعلّم، ولا العبد أفضل من سيّده. حسب التلميذ أن يكون مثل معلّمه، والعبد أن يكون مثل سيّده". وفي لو 6: 40: "ليس تلميذ أفضل من معلّمه؛ كل تلميذ كامل يكون مثل معلّمه".
تعود آ 17 بشكل مباشر إلى غسل الأرجل فتقابل آ 12. وتتّفق الآيتان في التشديد على أن التلاميذ يستطيعون الآن أن يفهموا غسل الأرجل كمثال في التواضع (في آ 7: الآن لا تفهم). وتشبه التطويبة اليوحناوية (طوبى لكم) موضوع التطويبات كما نقرأه في لو 11: 28: "طوبى للذين يسمعون كلمة الله ويحفظونها" (رج يو 12: 47). وفي مت 24: 46: "طوبى لذلك العبد الذي، إذا جاء سيده، وجده يعمل هكذا" (رج مت 7: 24).
"إذا ما عرفتم هذا". تعود "هذا" إلى غسل الأرجل والى ما تبعها من درس. وإن كان من تأسيس للإفخارستيا في خبر العشاء الأخير (رج يو 6: 51- 58) فإن "هذا" و"عمل" قد تقابل مع ما في لو 22: 19: "إعملوا هذا لذكري".
إن تفسيرَيْ غسل الأرجل في آ 6- 10 وآ 7- 12 ينتهيان بإشارة إلى تلميذ (شذّ عن التلاميذ) فلم يلامسه ما صنع يسوع. إن 18- 19 هما خاتمة مشهد غل الأرجل وانتقالة إلى آ 21- 30 التي تتحدّث بطريقة مباشرة عن خيانة يهوذا. في آ 11 وفي آ 18، يوضح يوحنا أن يسوع وعى كل الوعي أن "عداوة" يهوذا له لا رجوع عنها. ولكن يُقال لنا في آ 18 أن يسوع قَبِل بهذه الخيانة لكي "يتمّ الكتاب". سيقدّم التفسير عينه في 12: 38 ي حول رفض اليهود ليسوع.
وإيراد مز 41: 10 يعود إلى التقليد المسيحي الأول. فهو يرد بشكل ضمني في مر 14: 18: "الحق أقول لكم: إن واحداً منكم سيسلّمني، واحداً يأكل معي". جاء نصّ مرقس قريباً من السبعينية، ونصّ يوحنا قريباً من العبرية. يستعمل يوحنا هنا فعلاً يونانياً سبق واستعمله في 6: 51- 58، وهكذا نكون مع 13: 12- 20 في إطار افخارستي. وهذا واضح من قول لوقا في تأسيس الافخارستيا "هذا هو جسدي" الذي يتبعه: "ها إن يد الذي يسلّمني معي على المائدة" (22: 19 أ، 21). ولا ننسَ الرباط التقليدي بين الخيانة والافخارستيا في 1 كور 11: 23 (الرب يسوع في الليلة التي أسلم فيها).
ويتابع نصّ المزمور: "وأنت يا ربّ تحنّن عليّ وأقمني" (مز 42: 11). والآية التالية في يوحنا تتحدّث عن الإيمان بيسوع الذي قالت "أنا هو" (تؤمنون أني أنا هو، آ 19)، ومثل هذا الإعتقاد ممكن فقط بعد الصلب والقيامة. "حين ترفعون إبن الإنسان تعرفون أني أنا هو" (8: 28). إن الانباء بخيانة يهوذا الذي "يدشّن" بعمله مسيرة الموت والقيامة، يحمل التلاميذ على الإيمان بيسوع الذي ارتفع إلى أبيه. وفي موضوع الانباء في آ 19، يبدو نصّ يوحنا قريباً من نداء الله في حز 24: 24: "حين يحصل هذا تعلمون أني أنا هو الرب". وفي أش 43: 10: "علمتم وآمنتم بي وفهمتم أني أنا هو".
في هذه المتتالية المرتبطة بيهوذا، تبدو آ 20 في غير محلّها. هناك من اعتبر أن موضوع الخدمة المحِبّة يملأ النصّ وبالتالي الرسالة. ثم إن آ 20 تقابل مت 10: 40 الذي يقابل آ 16 الموازية لنصّ مت 10: 24- 25. تبدأ آ 16 وآ 20 بعبارة "الحق الحق أقول لكم". وكلتاهما تتطرّقان إلى موضوع الرسالة.
نقرأ آ 20: "من يقبل الذي أرسله يقبلني. ومن يقبلني يقبل الذي أرسلني". ومت 10: 40: "من قبلكم قبلني. ومن قبلني قبل الذي أرسلني". نجد ما يقابل هذا النصّ ديان بشكل مستقل في مر 9: 37 (= لو 9: 48): "من قبلني فلا يقبلني أنا، بل الذي أرسلني". وفي لو 10: 16: "من سمع منكم فقد سمع مني. ومن نبذكم فقد نبذني. ومن نبذني نبذ الذي أرسلني".
خاتمة
نتوقّف هنا عند الغسل (التطهير) والعماد. يتحدّث إنجيل يوحنا مراراً عند "تطهير اليهود". كانوا يغتسلون قبل أن يقوموا بأعمال تعتبر مقدّسة. فالإغتسال يذكّر الشعب أنه وُضع جانباً من أجل الله. فعليه أن يتطهّر بعد كل اتصال بالوثنيين (18: 28) وأصنامهم. وكان حز 36: 25 قد أعلن أن الله نفسه سينقّي شعبه في نهاية الأزمنة.
إن يوحنا يعتبر أن التطهيرات التي يمارسها اليهود قد تجاوزها الزمن. فهي لا تستطيع أن تدخل الإنسان في العهد الجديد كما يقدّمه يسوع.
ويجعل الإنجيل الرابع عماد يوحنا المعمدان ببن طقوس التطهير (3: 25). والمعمدان نفسه يقرّ بعمله المحدود (1: 26، 31). إنه يمارس عماداً من أجل غفران الخطايا (مر 1: 4). وهذا ما لم يفهمه اليهود فتساءلوا: إذن، لماذا الهيكل، لماذا الذبائح، لماذا عيد التكفير العظيم؟ لهذا السبب أرسل الكهنة واللاويون وفداً من الهيكل يسأل يوحنا المعمدان (1: 19).
لا يقول الإنجيل الرابع إن عماد يوحنا هو لغفران الخطايا. بل يعتبره جزءاً من العالم اليهودي. لقد كانت فعلة المعمدان مناسبة لإظهار يسوع لإسرائيل، لدعوة التلاميذ إلى اتباع يسوع. فيسوع هو وحده حمل الله الذي يرفع خطيئة الله. وهو وحده "يعمّد في الروح القدس".
لا يُلغى العماد، لا يُلغى اغتسال التطهير في إنجيل يوحنا، بل هو يتّخذ فاعليته من شخص يسوع وسلطانه. فالمخلّع ظلّ 38 سنة على حافة البركة (ف 5). ويسوع هو الذي شفاه (ترد الكلمة 7 مرات). والأعمى منذ مولده إغتسل في بركة سلوام بعد أن أرسله يسوع "مرسل الآب". فشهد 7 مرات أن يسوع هو الذي فتح له عينيه (ف 9). والتلاميذ (وبطرس بصورة خاصة) الذين تنقّوا بكلمة يسوع (13: 10؛ 15: 3) يحتاجون بعد إلى "غسل الأرجل" لكي يشاركوه في الميراث ويصيروا رسله. فالإغتسال في كلمة يسوع وفي الماء، هما وجهتان من وجهات المعمودية. والعماد المذكور في 3: 22 و4: 2 يشير إلى ما تمارسه الكنيسة على خطى يسوع: عماد في الماء والروح تمارسه الكنيسة بعد الفصح والقيامة. هذا هو العماد الذي يعلنه يسوع لنيقوديمس (3: 5). إنه يتيح لنا أن نولد من علُ، أن يلدنا الله (1: 13). فالإيمان بالإبن يترافق والولادة من الله. لهذا سيتركّز الحوار فيما بعد مع نيقوديمس حول موضوع الإيمان