غسل الأرجل
13: 1- 15
أحبّ أخصّاءه الذين في العالم، أحبّهم إلى الغاية.
إن المقدمة المبنيّة بشكل تضمين (إنتقل إلى الآب، آ 1، الى الله يعود، آ 3) تُبرز هدف مشهد غسل الأرجل، بل هدف آلام يسوع. إن يوحنا يشدّد على الطريقة التي بها يسيطر يسوع على الأحداث (كان يعرف). ويبيّن معناها (أحبّ خاصته، أحبّهم) وأهداف آلام يسوع الحقيقية (صراع بين الله والشيطان).
لقد تهيّأنا لكي نتجاوز بُعد الأحداث وما فيها من ابتعاد عن الجوهر، لكي ندرك مدلولها العميق: من جهة الآب ويسوع، تجلّي حب يمضي إلى الغاية، إلى منتهى الحب. من جهة يهوذا الذي هو ألعوبة في يد الشيطان (13: 27) كذب وخيانة. يشرف الحبّ على المشهد كله، ويتوجّه إلى التلاميذ الذي آمنوا. ولكن الإنجيلّي ليس بغبيّ: فهو منذ البداية قد أشار إلى الشيطان الذي "دخل إلى قلب يهوذا".
أحبّ "حتى الغاية". هذا يعني في الوقت ذاته "حتى الموت"، وحتى "منتهى الحب". فبعد ف 13، يحتفظ يسوع بحبّه لأخصّائه (13: 34- 35؛ 15: 12، 17). هذا لا يعني أنه يحصر حبّه في حدود، وهو لا محدود، بل يشير إلى أن حبّ المؤمنين بعضهم لبعض، يتجذّر في حبّ الإبن للآب.
لقد هيّأت المقدّمة الإحتفالية المؤمن لكي لا يقرأ خبر غسل الأرجل كأنه فعلة بسيطة من فعلات الضيافة. إنه بالأحرى فعلة نبوية ترمز إلى حبّ قاد يسوع إلى الموت.
لم تكن طقوس الفصح تُفرد وقتاً لغسل الأرجل. ثمّ إن مدراش (درس وتأمل) خر 21: 2، لم يكن يطلب من العبد أن يغسل قدمَي سيّده. ومع ذلك يصوَّر هذا الطقس بدقّة وتفصيل. ويتوقّف الإنجيلي عند كل فعلة (كما في تصوير بطيء) ليتيح للقارىء بأن يترك قوة عمل يسوع تتغلغل في أعماق قلبه ووجدانه.
يسوع "خلع" ثوبه ثم "إستعاده" (13: 12). الفعلان اليونانيان اللذان نقرأهما هنا يُستعملان لكي يدلاّ على موت قَبِلَه يسوع طوعاً وعلى قيامة عاشها (10: 11، 15، 17). والرباط مع موت يسوع تثبته مقاومة بطرس.
يشهد سمعان بطرس على موقف نموذجي لدى إنسان يستصعب الإيمان. ففي الأناجيل الإزائية (متى، مرقس، لوقا) نجد عند بطرس المقاومة عينها: هو لا يقبل بمسيح متألّم. أبعده يسوع عنه واعتبره "مجرّباً له" (مر 8: 33). وفي ساعة التجلّي، يريد بطرس أن يقيم في رؤية المجد ويُغفل العبور بالآلام (لو 9: 28- 36). وهكذا يتكلّم باسم نفسه، كما يتكلّم باسم مجموعة التلاميذ.
تكلّم بطرس فدلّ على أنه لم يفهم. رفض أن يغسل له يسوع رجليه. قال له يسوع: ستفهم فيما بعد. ولكنه يتصرّف بحسب "اللحم والدم". وحين يشدّد يسوع على أن غسل الأرجل ليس أمراً نأخذ به أو نرفضه، بل هو شرط للمشاركة في الملكوت، أفهم "الكنيسة" أن هذه الفعلة الرمزية تمتلك قيمة عظيمة بسبب ذاك الذي يقوم بها. فيسوع سيحقّق ما ترمز إليه هذه الفعلة، وعلى بطرس أن يقبل بها.
غسل الأرجل هو فعلة فريدة قام بها يسوع مرّة واحدة وهو يقدّم لنا موته بشكل إيماء. وحين يُغسَل بطرس (وكل تلميذ) فهو يدلّ على أنه قَبِل هذا المسيح المتألّم، قَبِل أن يدخل في مسيرة يسوع المسيحانية حتى موته دون أن يخاف المجازفة. ولن يفهم التلاميذ كل الفهم هذا السرّ إلا فيما بعد، إلا بعد القيامة وعطية الروح (2: 22؛ 7: 37- 39). إن مرافقة يسوع في الموت هي جزء من الملكوت.
وموضوع خدمة الاخوة تشبهاً بالمسيح يتجذّر في العمل الفريد الذي قام به يسوع، فاستخلص منه تعليماً للمسيحيين المدعوين لأن يغسل بعضهم أرجل بعض. أي: أن يتصرّفوا بتواضع على مثاله هو الرب والمعلّم.
وهكذا نستطيع أن نستنتج من غسل الأرجل ثلاثة تفاسير مرتبطة بعضها ببعض.
الأول: رجوع إلى هذا العمل الفريد الذي هو موت يسوع. قدّمه لنا يسوع إيماءً عبر هذه الفعلة التي ترمز إلى عبوره في الموت.
الثاني: تطبيق ممكن على المعمودية، كتنقية ودخول في جماعة المؤمنين المدعوّين لكي يتبعوا يسوع.
الثالث: نداء الإقتداء بالمعلم: أحبّ الاخوة وخدمهم خدمة متواضعة.
إذا نظرنا إلى هذا العمل من الوجهة البشرية نجده مذلاً، مؤلماً، مميتاً. ولكنه في نظر يسوع ينبوع سعادة للتلميذ. "عرفتم هذه الحقيقة. فهنيئاً (طوبى) لكم إذا عملتم بها".
على خطى يسوع في شكره، صارت ليتورجيتنا الافخارستية "شكراً" للفصح والقيامة. فيسوع نفسه قال لرسله: "إصنعوا هذا لذكري". حينئذٍ نشكر الله على فصح المسيح، على عبوره بيننا. معه ننتقل من الموت إلى الحياة. معه نقبل بأن نموت عن ذواتنا فننتقل إلى حياة من الخدمة والمحبّة. معه ننتقل من العزلة إلى الصداقة مع الله والتضامن مع الأخوة. نشكره على انتقال أبناء الله إلى الحياة الجديدة، الحياة لا تزول. فهو قد قال لنا مؤكّداً: "أنا الخبز الحي النازل من السماء. من يأكل هذا الخبز يحيا إلى الأبد، لأنه جسدي المعطى لحياة العالم".
حين نحتفل بعشاء الرب، نحتفل بالرجاء المسيحي. ونشكر الله أيضاً على موهبة الكهنوت المسيحي. حين اختار يسوع الرسل، وجعلهم خدّام شعب الله الجديد، وأوكل إليهم تذكار موهبة جسده ودمه، حين اختارهم جعلهم خدّام رجاء شعبه. فكهنة اليوم، شأنهم شأن كهنة الأمس، يواصلون مهمّة الرسل. ويودّون أن يكون كلامهم صدى لكلمة المسيح، يحمل إلى البشر الخبر الطيب والمحيي.
إنهم دوماً خدّام الشكر في مقاسمة جسد الرب ودمه. وتضامنهم مع إخوتهم يجعل منهم رعاة وقواداً نحو سلام الملكوت وفرحه. لا شك في أنهم واعون لضعفهم وعدم كفايتهم أمام هذه الرسالة، ولكنهم يثقون كل الثقة بالمسيح مخلّصهم.
نشكر الله اليوم، من أجل الذين هم الآن في خدمتنا. ليبقوا في عالم الشكر كأصدقاء أمناء للمسيح، وكخدّام حارّين لكل الذين يلتقونهم في طريقهم. ليكونوا في عالمنا المحترق بالظُلامات والحروب والمنازعات، صانعي سلام ومصالحة، أنبياء يعلنون إنتصار المسيح ولا يتعبون، شهوداً يؤكّدون حبّه للبشر جميعاً.
ولنصلّ أيضاً ليفهم شبابنا المتشبّث بالإيمان عظمة هذه الخدمة الملحّة، خدمة الرجاء والمحبة. نصلّي لأجهلم لئلا يخافوا من الجواب بثقة تامة بالمسيح، ذاك الذي لاحظ أن الحصاد كثير والفعلة قليلون. ولنستعد كلّنا لكي نساعدهم ونفهمهم ونحبّهم ونشكر الله معهم من أجل نداء وصل إليهم وخدمة يقومون بها