رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
عودة إلى الينابيع الروحيّة.. الروحانية الهدوئيّة بقلم: نهاد فرح الهدوئية (Hesychasme) هي حركة روحية في الكنيسة الشرقية تعود تاريخياً إلى القرون الأولى للمسيحية حيث انتشرت بشكل خاص في الأديرة الرهبانيةالمنتشرة في صحراء مصر- فلسطين- وسوريا. بعد سقوط الإمبراطورية البيزنطية أصبحت تُمارس بشكل غير مُعلن في هذه البلاد إلى أن انتقلت إلى الأديرة السلافية. عرفت الهدوئية تجدداً رائعاً في القرن الرابع عشر خاصةً في جبل آتوس، ويعتبر القديس غريغوريوس بالاماس رئيس أساقفة سالونيك أعظم لاهوتيّي الحركة الهدوئية. انطلق عصر النهضة الهدوئية في اليونان في أواخر القرن الثامن عشر مع القديسين مكاريوس الكورنثي ونيقوديموس الآتوسي، فقد أحدثت نشر مجموعة من النصوص الهدوئية وهي "فيلوكاليا الآباء النسّاك" التي قام نيقوديموس الآتوسي بطباعتها بمدينة فنيس في إيطاليا عام 1782 إلى إنطلاقة جديدة لهذه الحركة الروحية التي ابتدأت تفيض في أيامنا هذه على كنائس الغرب. شهدت الحركة الهدوئية نهضة كبيرة في روسيا خلال القرن التاسع عشر مع القديس سيرافيم ساروف، وانتقلت في القرن العشرين إلى أوروبا الغربية مع الهجرات اليونانية وخاصةً الروسية والتي لعبت دوراً مميّزاً على الصعيد الروحي في العالم. تعني كلمة "Hesychia" اليونانية، الصمت والسكينة للوصول إلى الهدوء الروحي. الهدوء ليس مرادفاً للصمت ولا يتجلّى في المظهر الخارجي، فهو أعمق من ذلك بكثير، إنه هدوء وسكينة القلب الداخلية من الأفكار والأحاسيس وهو إطار بالغ الأهمية لشفاء النفس. في العهد القديم يتجلّى الله للنبي إيليا في النسيم لا في العاصفة، وتقول "الفيلوكاليا" إن الهدوء والصلاة سلاحان عظيمان يطهّران الذهن والنفس، إذ يتعذر بلوغ الهدوء بدون صلاة، فالصلاة هي طريق العودة إلى القلب. تُشير الهدوئية إذاً إلى شكل من أشكال الصلاة التي تقود المُصلي لإدراك وجود ملكوت الله في داخله والدخول في علاقة روحية عميقة مع الله، وذلك يتطلّب الإبتعاد عن الضجيج، وتجنّب أي فكر غافل عن ذكر الله أي "اليقظة". إن طالب الهدوئية في معركته ضد الأفكار لاقتناء السلام الداخلي "يبقى فكره في حالة يقظة، يتسلّح بالشجاعة ويتشدّد على باب قلبه للقضاء على الأفكار التي تراوده" كما يقول القديس يوحنا السلّمي (القرن السابع ميلادي). يمر الطريق إلى الهدوئية من خلال "صلاة يسوع"، ويُعتبر القديس ذياذوخوس فوتيق (القرن الخامس ميلادي) أول الكتاب المسيجيين الذين تناولوا في كتاباتهم الدعاء باسم يسوع. "صلاة يسوع" هي صلاة فردية مركبة من جملة قصيرة" أيها الرب يسوع المسيح إبن الله الحيّ، ارحمني"، وتختصر هذه الصلاة التي تُنسَب إلى الأبا فيلمون (القرن السادس) كل الروحانية الهدوئية. تتمحور هذه الصلاة حول المسيح، وفي العادة تُستعمل المسبحة ذات الحبات الصوفية لتلاوتها وتردادها، يتدرّب عليها المبتدئون لكي تكون رفيقة دربهم ولتُضفي على فكرهم ونظرتهم عطر المسيح وحلاوة حضوره. إن صلاة الرب يسوع هي الطريق الأقصر للبقاء في حضرة الصلاة، ولجمع الذهن في القلب، وهي صلاة شفوية كسائر الصلوات تُتلى بصوت مسموع أو بصمت، يصاحب تلاوتها تركيز على معنى الصلاة وكلماتها. في المرحلة الأولى عند المبتدئين يبدو الإصرار على ممارستها مرتبطاً بشيء من الصعوبة، وقد يكون الضغط الناتج عن التشتت وشرود الذهن عاملاً من عوامل صعوبتها، لكن ومع الوقت تتحوّل هذه التلاوة إلى فعل داخلي، بحيث أن الذهن يرددها دون الإحتكام إلى اللسان، وفي هذه المرحلة تصبح عملاً عضوياً، إذ تصبح في أعماقنا كجدول صغير ذي خرير ضعيف شبه مسموع. وأخيراً تنزل هذه الصلاة إلى القلب فتهيمن على الشخص برمّته، ويتحول إيقاع تلاوتها مع الوقت إلى إيقاع يرافق دقات القلب ما تلبث أن تتحوّل فيه إلى صلاة دائمة هي صلاة القلب. أدخل نيكيفوروس المتوحّد تقنية إضافية على هذه الصلاة، تقوم على إحناء الرأس إلى الصدر مع تنفس إيقاعي على نحو منهجي ومنتظم، بحيث تكون تلاوة هذه الصلاة على إيقاع التنفس وضربات القلب. لم يجاريه كثيرون في تقنيته هذه واعتبروها عاملاً مساعداُ خاصةً للمبتدئين لحمايتهم من التشتت وشرود الذهن، لكن التنفس الإيقاعي بات عنصراً من عناصر ممارستها. ويرى البعض من الكتّاب الروحيين بأن للجسم دور في الصلاة، فالصلاة نشاط حيّ وخلاّق يفيض على كل الكيان لا جزء منه. الصلاة ليست عملاً عقلياً بحتاً وإنما هو فن قائم بذاته يتطلّب الرغبة بالصراخ الدائم إلى الله، وتحتل الأنشطة النفسية والجسدية دوراً هاماً يسهم في جعلها تنبع من الإنسان كله وبمشاركة قواه كافةً، فبركات الصلاة ونعمها هي للإنسان بكلّيته. يتكلم بعض الباحثين في الصلاة القلبية، عن صلة بين تقنيتها وتلك التي لليوغا الشرقية. قد يكون هناك تشابه في المنهج، إلا أن الصلة بين الإثنتين ضعيفة جداً وبالأحرى شبه معدومة. المسيحية ترمي إلى ربط الحاضر بالأبدية، والوقتي بالدائم الوجود، إنها دين إله تجسّد، فلا يتعلق الموضوع نهائياً بتقنية تسمح بالإتحاد مع الألوهة عن طريق الجهد الشخصي للإنسان، وإنما بالعكس هي إنفتاح كامل لله، وبكل تواضع، ليسكن في أعماق المؤمن فيكون "هيكلاً للروح القدس"، فليس مشيئة الإنسان هي التي تعمل وإنما يد الله القوية هي التي تعمل في الإنسان الذي يسلم ذاته له في سكينة القلب. إن ذلك لا يشبه اليوغا لا شكلاً ولا مضموناً، السكونية اليوغية هي مجرّد آلية لترويض الجسد وتسكينه، أما تقنية النسك المسيحي وآليته فلا تطلب التسكين وإنما تهذيب كيان الإنسان وتنظيف بيت القلب لكي يستنير بنعمة الروح القدس التي نالها في المعمودية. لذلك تتطلّب الهدوئية التواضع والتوبة، وبالتالي ضرورة التتلمذ على يد أب روحي يمتلك في أعماقه نعمة التمييز، لأن البشارة لا تنتقل من دون تلمذة، وبدون التلمذة تكون المسيحية فردية ومنتَقصة. الإرشاد الروحي ليس عملاً علاجياً بالرغم من أنه يتطلع إلى الشفاء، بمعنى إعادة العلاقة مع الله، فلا شفاء بدون الله، وهو واجب الوجود في الإرشاد الروحي. إن وجود أبوة روحية يستلزم وجود بنوة روحية لا يكون الكلام فيها عن أفكار وإنما إرشاد ورعاية للتحرر من الأهواء ليستعيد الإنسان سلامه ووحدته، فالشفاء الروحي هو إعادة العافية للنفس المريضة في سبيل إقتناء نعمة الروح القدس. يعلّم القديس بطرس الدمشقي (القرن الثامن) بأن الحياة الروحية ليست حكراً على الراهب، بل هي حاجة لكل المسيحيين، كما يعلّم غريغوريوس السينائي (القرن الرابع عشر) ضرورة إيقاظ نعمة المعمودية في قلب الإنسان المسيحي، الأمر الذي يفتح طريقان: طريق النسك وهو طويل وشاق، وطريق الصلاة المستمرة بشفاعة إسم يسوع، وهذه الطريق السريعة لا يريدها أن تكون حكراً فقط على الرهبان، وحتى النساك، بل دفع تلاميذه لينشروها داخل أوساط العلمانيين. تضم صفحات "الفيلوكاليا" مختارات من نصوص نسكية وتعاليم روحية تعود إلى جذور التقليد الهدوئي الآبائي، كُتبت ما بين القرن الرابع والخامس عشر ميلادي، وتحتوي على كل التقليد البيزنطي اللاهوتي الصوفي للكنيسة الأرثوذكسية، الذي لم ينتهي مع سقوط القسطنطينية عام 1453 وإنما استمر حتى القرن الثامن عشر ومنه إلى أيامنا هذه. وقد تم جمع نصوص "الفيلوكاليا" واختيارها من قبل القديسين مكاريوس الكورنثي ونيقوديموس الآتوسي، وتم إعدادها للنشر في أواخر القرن الثامن عشر. كان الهدف من ذلك أن تصل إلى عامة الناس فقد تمت صياغتها الأولية بحيث يمكن قراءتها ليس فقط من قبل الرهبان والمختصين وإنما من قبل كل المسيحيين. ويذكر نيقوديموس في مقدمة الكتاب أن وصية القديس بولس "صلوا بلا انقطاع" ليست حكراً على الرهبان والنساك ولكنها أيضاً للمسيحيين المتزوجين في العالم، للفلاحين والتجار والملوك، فالصلاح يخص الجميع ونصوص "الفيلوكاليا" هي "المعلم السري للصلاة القلبية". كلمة فيلوكاليا "Philokalia" اليونانية تعني "محبة الجمال أو محبة الصلاح"، والمقصود بها محبة الله الذي هو الصلاح المطلق ونبع كل جمال وصلاح. وتهتم نصوص "الفيلوكاليا" بالعمل الداخلي وحفظ القلب أي "إكتشاف ملكوت الله الذي في داخلنا"، و"الكنز المخفي في حقل القلب". وتشدد هذه النصوص على العمل والتغيير الداخلي في الإنسان، "فعندما يهتم المرء بتغيير نفسه أولاً، عندئذِ تصبح لديه القدرة على تغيير العالم بأسره". يتجلّى مفهوم "الملكوت الداخلي" في فضيلتين أساسيتين هما "اليقظة" (Nepsis) و"السكينة" (Hesychia) وهما تلخصان كل فحوى نصوص "الفيلوكاليا". للوصول إلى اليقظة يجب الإنتباه وحراسة القلب لتحرير النفس من الأهواء، أما السكينة فهي رفض الأفكار والإيحاءات للوصول إلى الصلاة النقية. شهدت رواية "سائح روسي"، التي تقص رحلات هذا السائح باحثاً عن الصلاة المستمرة إلى أن وجدها في "الفلوكاليا"، نجاحاً كبيراً وترجمت إلى عدة لغات في الغرب منذ عام 1943، في الوقت الذي كان قد عاد فيه زخم التقليد الروحي للهدوئية على يد القديس سيرافيم ساروف (القرن التاسع عشر) وسلوان الأتوسي (القرن العشرين). وتم نشر مقاطع من "الفيلوكاليا" باللغة الفرنسية عام 1953، تبعته ترجمات عديدة ومتكاملة، ودراسات حول الروحانية الهدوئية وذلك في إطار عودة الكنيسة الكاثوليكية إلى البحث في ينابيع التقليد الروحي الشرقي خلال الخمسون سنة الأخيرة من القرن العشرين. وفي الواقع، فإن التقليد الهدوئي كان قد انتقل إلى الغرب منذ القرن الخامس مع القديس جان كاسيان، الذي أمضى فترة طويلة في أديار مصر بين (380- 399) قبل أن يعود إلى مرسيليا. كتب تعاليمه في "المحاضرات" حول الجهاد الروحي والصلاة والتي كان لها تأثيراً كبيراً على روحانية العديد من الأديرة الرهبانية في الغرب. إن "قواعد" مؤسس الرهبنة البندكتية القديس بونوا دي نورسي (القرن السادس) تستلهم الكثير من بنودها من تعاليم كاسيان، خاصةً في ما يتعلق بالعزلة، الصمت، والتأمل في الكتاب المقدّس، وأيضاً حفظ الفكر، ترداد صلاة قصيرة، وضرورة الأب الروحي. إن تعبير "السلام الداخلي" والذي يوصف بشكل مشابه لعبارة "السكينة" الشرقية يجعل من الأديرة البندكتية، التي حافظت حتى يومنا هذا على إخلاصها لهذا الأرث الروحي الرهباني، تقليداً موازياً يستقي من الينابيع الروحية ذاتها والتي يستقي منها التقليد الهدوئي في الكنيسة الشرقية. وهناك أيضاً الكثير من القديسين الكبار في الغرب الذين أحبوا صلاة الرب يسوع، أمثال القديس برنارد دي كليرفو، فرنسيس الأسيزي، يوحنا الصليب، القديس فرانسوا دي سال وغيرهم... جميعهم كانوا متيّمين بالإسم الإلهي الحبيب، دون أن يعرفوا هذه الصلاة في صيغتها البيزنطية. يقول الأب "بلاسيد دوسيل"، لم تعد الكنيسة الأرثوذكسية غير معروفة في الغرب الأوروبي، فبعد الثورة الروسية عام 1917، وهجرة يونان آسيا الصغرى عام 1922، تمركزت جماعات كثيرة من اليونان والروس في اوروبا الغربية، وابتدأوا يتشييد كنائسهم ذات النمط الشرقي الغير مألوف في الغرب مما أثار الفضول لدى الكثير من الناس للتعرف على هذا التقليد. في نهاية عام 1988 أقامت روسيا إحتفالات كبرى بمناسبة مرور ألف سنة على تعميد هذا البلد، وانفتحت روسيا نحو الغرب في العام التالي، مما سمح للكثير من مسيحيي الغرب بالتعرّف على الطقوس الليتورجية البيزنطية العابقة بالروعة، والبخور، والتراتيل الطقسية المقدسة، فقد تم بث العديد من الأفلام الوثائقية عن طريق التلفزيون ووسائل الإعلام، خاصة حول الجماعات الرهبانية التي بقيت تصلي في الخفاء خلال عشرات السنين. وقد أقبل الأوروبيون بكثرة للتعرف على هذا التراث الشرقي، خاصةً الأيقونات والتي تحمل بعداً عميقاً يبدو أن الغرب كان قد فقد معناه، مما أدى إلى الرغبة في اقتناء العديد من هذه الأيقونات خاصةً أيقونة "الثالوث" لروبليف و"عذراء فلاديمير" التي انتشرت في الكنائس والبيوت الكاثوليكية، بالإضافة إلى العديد من كتابات آباء الكنيسة التي تمت طباعتها خلال الخمسين سنة الأخيرة. لكن هذه المعرفة بقيت في مظهرها الخارجي عند البعض، وهناك آخرون أرادوا الذهاب إلى أعمق من ذلك، والعودة إلى البحث عن تلك الينابيع الروحية الآتية من الشرق. كثيرون عادوا في حج إلى تلك الأراضي الأرثوذكسية، خاصةً جبل آتوس، لزيارة العديد من الأديرة الكبرى التي تُعيد إحياء التقليد الرهباني والصلاة المستمرة التي كان قد أطلقها القديس باسيليوس الكبير. وقد يذهب هؤلاء الحجاج إلى أبعد، إلى أعلى، إلى الأديرة التي تطل على بحر إيجيه في مرتفعات تعلو نحو الألف متر، وقد يصادفون بعض الأكواخ المبعثرة هنا وهناك يعيش فيها رهبان متوحدين أو ضمن مجموعات صغيرة، مجموعات وأشخاص أصبحت حياتهم صلاة، تشع وجوههم بنور يأتي من بعيد، نور هو محبة بلا حدود. العقيدة الروحية التي تحرك حياة هؤلاء الرهبان هي "الهدوئية" والتي يتم عيشها على عدة مستويات، الصمت والعزلة التي تؤدي إلى جمع الذهن والقلب معاً، وعلى مستوى أعلى "اليقظة" و "السكينة" التي توصل إلى الهدوء الروحي، والعزوبة التي تشعر بها الروح تحت تأثير نعمة الروح القدس. في القرن العشرين، انتشرت صلاة يسوع في الكثير من الأوساط العلمانية، وأصبح هناك كثيرون يمكنهم السير في ضوضاء المدينة، وسط الصخب والضجيج، وذهنهم حر طليق وغير مشتت، لا تكبّله سوى هذه الصلاة القلبية، وعندما يصلي القلب تنفتح أذناه الداخليتان لسماع أنغام الكلمات الإلهية "لا تضطرب قلوبكم، سلامي أعطيكم" (يو 14، 1- 27). |
29 - 08 - 2012, 09:31 AM | رقم المشاركة : ( 2 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: عودة إلى الينابيع الروحيّة.. الروحانية الهدوئيّة
شكرا على المشاركة المثمرة
ربنا يفرح قلبك |
||||
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
اله كل الينابيع |
الينابيع الساخنة الأوليمبية |
الينابيع الساخنة |
الروحانية |
النبع | الينبوع | الينابيع |