قداسة البابا شودة الثالث
العيد والفقراء
أحب أولًا أن أهنئ أخوتي المسلمين بعيد الأضحى المبارك, الذي يتذكرون فيه كيف كان أبونا إبراهيم -أبو الآباء والأنبياء- مستعدًا أن يقدم ابنه ضحية للرب طاعةً لأمره, إذ كانت محبته لله أقوى عنده من محبته لابنه فلذة كبده. ومعطيًا لكل الأجيال أمثولة عجيبة وقدوة لا مثيل لها في التضحية وفي طاعة الله. إنه درس عميق لنا ليتنا نتمثل به في العطاء والتضحية والبذل...
وإن كنا لسنا في مجال الظروف التي نتمثل فيها بأبينا إبراهيم, فعلى الأقل علينا أن نفعل ما نستطيعه في مجال التضحية ونبذل أفضل ما لدينا في ذكرى ما فعله أبونا إبراهيم...
وكمثال لذلك نضحي بجزء من متعتنا ومن مالنا, لأجل أخوتنا الفقراء, الذين من حقهم أن يفرحوا هم أيضًا بالعيد كما يفرح به باقي الناس.. ولو بنسبة أقل...
نشركهم في بهجة العيد وفي متعته, وفي طعامه أيضًا, فيشعرون عمليًا أنهم في يوم عيد. ولا نتركهم يقارنون بين بؤسهم وثراء غيرهم, حتى لا يطغى عليهم إحساس بالإحباط وبالحزن في مناسبة سعيدة!
وإشفاقنا عليهم في يوم العيد, سيجعلنا نتابع هذا الإشفاق باستمرار, وبطريقة عملية تخفف من ضيقاتهم...
وحينما أذكر الفقراء, إنما اذكر معهم المحتاجين والمعوزين. وأكثر من الكل: المعَدمين.. وكل هذه الأسماء الأربعة تحتاج إلى رعاية وعناية, وإلى قلب عطوف ويدٍ سخية.
فالفقراء هم الذين يعيشون في مستوى مالي واجتماعي أقل من العادي, ومع ذلك هم يكفون أنفسهم بالقليل الذي عندهم, في فاقة ولكن في اكتفاء, ويدبرون أنفسهم في ضيق وفي ضغط على مصروفاتهم...
أما المحتاجون فهم فقراء ولا يجدون الكفاية مطلقًا, وهم في عوز إلى ضروريات الحياة. إما بصفة عامة في كل أيامهم, أو في ظروف خاصة.
فمهما اكتفى الواحد منهم بإيراده الضعيف, فإنه يصبح محتاجًا في حالة زواج ابنته, أو في حالة مرضه أو مرض أحد من أسرته, أو في دفع المصروفات الدراسية لواحد من أبنائه... وما أشبه من الحالات التي يصبح فيها محتاجًا أيًا كان راتبه الشهري. وهنا يضطر إلى الاستدانة. ولا يستطيع أن يسدد ما عليه. ويأتي الوقت الذي يرفض فيه أي إنسان أن يقرضه. وقد يضطر إلى كتابة شيكات عليه بدون أي رصيد, أو يكتب إيصالات أمانة. وما ينتظره في ذلك من مشكلات...
ما حال مثل هؤلاء في يوم العيد. وحاجيات العيد تزيدهم فقرًا على فقر, وعوز على عوز! فإما لا يحتفلون بالعيد, أو يستدينون في خزي. وإما أن يشفق عليهم الأغنياء بطريقة ما...!
أما المعدمون فهم الذين لا إيراد لهم على الإطلاق. وقد يدخل في نطاق هؤلاء: من شردتهم البطالة بلا عمل, وصاروا عالة على غيرهم وثقلًا على أسراتهم الفقيرة...
فماذا يفعل هؤلاء أيضًا في أيام العيد؟! أتصير أيام بؤس لهم أكثر من غيرها؟! هل ينتهي بهم الأمر إلى موائد الرحمن؟! ثم أليسوا هم في حاجة إلى هذه الموائد كل أيام حياتهم ؟!
هناك نوعان آخران من عائلات المحتاجين: إحداهما الأُسر المستورة, التي تحيا في فقر, ولكنها تخجل من أن تعلن عن فقرها, ولا تحب أن يعرف شيئًا عن عوزها... مفضلة أن تحتمل العوز في صمت... هذه يمرّ عليها العيد دون أن تعلن حاجتها فيه, والله يعلم كيف تقضيه!
* والنوع الثاني من الأسرات المحتاجة, هي الأسر التي لا تستطيع الإنفاق على أبنائها الصغار, فتطلقهم مشردين في الطرقات, وهم الذين تُطلق عليهم عبارة (أولاد الشوارع). وقد اهتمت الصحافة بالنشر عنهم في هذه الأيام, وقالت أن عددهم قد يصل أحيانا إلى مليونين!
ما مصير هؤلاء أيضًا في يوم العيد, كما في باقي الأيام؟ هل يضطرون إلى التسول, أم إلى الجريمة؟ أم تستخدمهم بعض العصابات؟!
هناك طائفة أخرى من الفقراء هي (أبناء وبنات الملاجئ). وهؤلاء هم أسعد حالًا عن غيرهم, إذ توجد جمعيات خيرية تهتم بهم, كما تشرف على رعايتهم وزارة الخدمة الاجتماعية أيضًا...
ولكنهم في يوم العيد يحتاجون إلى عناية من نوع آخر. فهم يحتاجون إلى الحنان والحب, وإلى الجو العائلي, وشعورهم باحترامهم لأنفسهم واحترام الآخرين لهم. ويحتاجون إلى أن تتنوع ملابسهم. فلا يكون لهم جميعًا زى واحد يميزهم, حتى يقول البعض عنهم "هؤلاء هم أولاد الملجأ"! مما يؤثر على نفسيتهم وبخاصة الكبار منهم..
ويحتاجون أيضًا إلى هدايا في يوم العيد, حتى يتميز عندهم على باقي الأيام...
طائفة من نوع آخر تحتاج إلى عناية في الأعياد, وهى طائفة المعوقين وأصحاب العاهات, وبخاصة من هم من المعوقين عقليًا...
وتوجد حاليًا هيئات خيّرة تهتم بأمثال هؤلاء وأولئك. هذا من جهة حياتهم بصفة عامة. غير أنهم في الأعياد يحتاجون في إلى عناية ذات خاص, ممن تشاء أريحيتهم أن يتفرغوا لهؤلاء في يوم العيد, ولا ينسوهم باهتمامات عائلية...
يعوزهم في يوم العيد أنهم موضع اهتمام الغير, وأن ما يقاسونه من إعاقة, لم تتسبب في إعاقة المشرفين عليهم والمحبين لهم عن العناية بهم أيضًا. هم في حاجة إلى إشباع نفسي...
إن يوم العيد ينبغي أن يكون يوم فرح للجميع, لا يُغفل فيه عن أحد, فيستوي في الفرح: الفقير والمحتاج والمعوز والمُعدم. وأيضًا أبناء الملاجئ, وأطفال الشوارع, وكل المعاقين.
كذلك الاهتمام بالذين في السجون في زيارتهم وتقديم لهم بعض ما يحتاجون إليه. وبالأكثر الاهتمام أيضًا بأسراتهم.
ربما كان السجين -قبل سجنه- هو العائل الوحيد لأسرته. فلما دخل السجن أصبحت الأسرة بلا عائل, ويلزم لها من يتكفل بإعالتها وبرعايتها وحمايتها في الظروف القاسية التي صارت تعيشها بعد سجن عائلها...
ففي يوم العيد لا يليق أن كل إنسان يهتم بذاته فقط, كيف يتمتع بهذا اليوم, دون الالتفات إلى غيره ممن يحتاجون.
فإن كان لا يستطيع أن يعتني بأولئك مباشرة, فليهتم بهم بطريق غير مباشر بتوسط غيره في القيام بهذه المهمة...
وليجعله الله عيدًا سعيدًا على الكل. فإن الله ذاته يهتم بالجميع, ويأمرنا أن نقوم بهذا الواجب.
وكل عام وجميعكم بخير, ومصر جميعها بخير.
|