رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
البابا شنودة الثالث الفكر الفكر هو عمل عقلي، يمكن أن يكون خيرًا أو شرًا، حسب حالة الإنسان. فالتأمل -مثلًا- هو لون من التفكير الخير.. كذلك الأفكار الخاصة بمحبة الله، مثلما قال الكتاب "تحب الرب إلهك من كل قلبك.. ومن كل فكرك" (مت37:22). ومن الأفكار الصالحة أيضًا، ما قاله القديس بولس الرسول".. وأما نحن فلنا فكر المسيح" (1كو16:2). أما عن الخطأ في الفكر، فذلك مثل ما قال عنه الكتاب: "فكر الحماقة خطية" (أم9:24). وأيضًا "مكرهة الرب أفكار شريرة" (أم26:15). ونريد في هذا المقال، أن نبحث معًا موضوع الأفكار. الفكر والقلب الفكر يتعلق بالقلب، يأخذ منه ويعطى. خطية الفكر قد تكون في نفس الوقت خطية قلب، إن كانت نابعة منه، حسب قول السيد الرب "الإنسان الصالح، من كنز قلبه الصالح يخرج الصلاح. والإنسان الشرير، من كنز قلبه الشرير يخرج الشر" (لو45:6). وهكذا قيل في قصة الطوفان:"ورأى الرب أن شر الإنسان قد كثر في الأرض، وأن كل تصور أفكار قلبه إنما شرير كل يوم" (تك5:6). عبارة "أفكار قلبه" هنا، تعنى الأفكار النابعة من قلبه. فلا يمكن منطقيًا أن قلبًا طاهرًا تخرج منه أفكار شريرة. لأنه"من ثمارهم تعرفونهم.. كل شجرة جيدة تصنع ثمارًا جيدة. وأما الشجرة الردية فتصنع أثمارًا ردية" (مت16:7، 17). وهكذا قال الكتاب "تحب الرب إلهك من كل قلبك" قبل أن يقول "ومن كل فكرك" (مت37:22). فالقلب أولً. ولهذا قال الكتاب: "فوق كل تحفظ أحفظ قلبك، لأنه منه مخارج الحياة" (أم23:4). المطلوب منك أذن، أن تحفظ قلبك، وتحفظ فكرك، وتحفظ الخط الواصل بين القلب والفكر. فما معنى هذا الخط الواصل؟ من الجائز أن تأتيك الأفكار من الخارج، من مصادر أخرى سنشرحها، فإذا ما قبلت الفكر في أعماقك،يصل حينئذ إلى قلبك. وحينئذ يتحول الفكر إلى مشاعر في القلب وإلى انفعالات. فكر الزنا يتحول إلى شهوة زنا. وفكر الغضب يتحول إلى انفعال غضب، وفكر الحقد يتحول إلى مشاعر حقد.. فالفكر الخاطئ يوصل الخطأ إذن إلى القلب. كما أن مشاعر القلب تتحول إلى أفكار.. والاثنان يتبادلان المواقع. ويصير كل منهما سببًا أو نتيجة.. خرج الأفكار الخاطئة من العقل إلى القلب، إذا ما تساهلت مع الفكر. وتخرج الأفكار الخاطئة من القلب إلى العقل، إذا كان القلب غير نقى. هناك مصدر آخر للفكر هو الحواس. الحواس الحواس هي أبواب للفكر، يدخل منها إلى العقل، فما تراه بعينيك، تفكر فيه، وما تسمعه بأذنيك، تفكر فيه. كذلك ما تلمسه وما تشمه، وربما ما تذوقه أيضًا.. تفكر فيه.. أن أردت أن تضبط أفكارك، اضبط حواسك أيضًا. لا تتركها سائبة. إنما احترس. لأنه كما يحدث تبادل المواقع بين القلب والفكر، كذلك يحدث ما بين الفكر والحواس. فربما أفكارك الخاطئة تدعوك إلى النظر والسمع واللمس. وبنفس القياس حواسك الخاطئة تجلب لك الأفكار. مصدر آخر من مصادر الفكر، هو البيئة والصداقة. البيئة والصداقة إن الذين تعاشرهم من الناس، يجلبون لك أفكارًا جيدة أو رديئة.. سواء كانوا أصدقاء أو معارف أو جيران، أو زملاء في العمل، أو أقرباءك في بيتك. وعلى رأى ذلك الأديب الذي قال: قل لي من هم أصدقاءك، أقول لك من أنت؟ ما أكثر الأفكار التي تأتى من (الزن في الآذان). كلمة تقال لك اليوم بمحاولة إقناع، فلا تصدقها، فإن سمعتها باكر بإقناع، قد تشك، وإن ضغطت عليك الإقناعات، بعد باكر، قد تقبلها. وإن استمر الضغط، قد تؤمن بها وتنشرها، وتنفعل بها. وهذا جزء مما يسمونه "غسيل المخ". وغسيل المخ يأتي من وضع العقل تحت تأثير فكرى متتابع وضاغط، لمدة طويلة، مع إبعاده عن أي مجال فكرى مضاد للرد أو للحوار، إلى أن يتغير فكر الإنسان تمامًا.. يأتي الفكر أيضًا من البيئة: من الرأي العام، والصحافة، والإعلام، والمطبوعات.. بواسطة القراءات صار البعض شيوعيين في أفكارهم، قراءات أخرى تجلب أفكارًا شهوانية. قراءات ثالثة تجلب أفكارًا فلسفية. وقراءات من نوع آخر تجلب أفكارًا روحانية أو نسكية، أو تحمسك للخدمة.. أو تحمسك للعقيدة.. ومثل القراءات أيضًا: الراديو والتليفزيون والفيديو والكاسيتات.. هل أنت وحدك في العالم؟! إن كل ما حولك يؤثر عليك. هذه كلها تأتى للعقل بأفكار من الخارج، وليس من القلب..أما دور القلب هنا، فهو قبوله لاستخدام هذه الوسائط. مصدر آخر من الفكر، هو توالد الأفكار.. توالد الأفكار الفكر يلد فكرًا، ويلد شكوكًا ظنونًا، ويلد أيضًا أحلامًا.. لا يوجد فكر عقيم ولا فكر عاقر، وبخاصة مع العقل الخصيب. فقد يأتيك فكر من أي مصدر، فتأخذ مع الفكر وتعطى. فيلد لك أفكارًا أخرى كثيرة. وترسخ هذه في العقل الباطن. والعقل الباطن هو مصدر آخر للأفكار. العقل الباطن والعقل الباطن تخزن فيه الأفكار والصور الأحداث والرغبات والمشاعر، ويصبح مصدر لأفكار وأحلام وظنون. أضرب لك مثلًا بالريكوردر أو الكمبيوتر، حيث حيث تخزن فيه معلومات تسترجعها متى تشاء.. عقلك أصعب من هذا الكومبيوتر، لأن المعلومات التي فيه قد تخرج منه دون أن تشاء، كأفكار أو أحلام، وهنا أتذكر سؤالًا وجهه البعض إلى: هل الأحلام الخاطئة تعتبر خطية، بينما هي بغير إرادتي؟ وكانت الإجابة: قد تكون الأحلام الخاطئة بغير إرادتك وقت خروجها من العقل الباطن. ولكنها لم تكن بغير إرادتك، فستجد أنك تقاومها وترفضها في الحلم، وربما تستيقظ،كشيء مزعج لم تحتمله.. فابحث هل أحلامك من رواسب قديمة ترسب في عقلك نتيجة لشهوات أو صور أو أفكار؟ لهذا نقول عن هذه الأحلام أنها "شبه إرادية"، لأنها ليست نتيجة إرادة حاضرة، إنما نتيجة لإدارة سابقة. ومع ذلك لو كانت الإرادة الحاضرة ترفضها تمامًا، فستجد أنك تقاومها في الحلم. من مصادر الفكر أيضًا أسباب نفسية: أسباب نفسية من مصادر الفكر إنسان مثلًا في طبعه القلق أو الاضطراب، تجده -بدون أي سبب خارجي- خاضعًا لأفكار القلق والاضطراب النابعة من نوعية نفسيته. كذلك إن كان إنسان في نفسيته طبع الخوف، تجد أن أفكار الخوف تطارده.. وبالمثل إذا كان شخص شكاكًا بطبيعته، تجد أفكار الشك تراوده وتتعبه، بدون أي سبب واقعي.. لمعالجة كل هذه الأفكار، لابد من معالجة النفسية. فإذا صلحت النفس، صلحت الأفكار أيضًا. لذلك تجد الشخص البسيط، لا يراوده الشك. والإنسان الوديع الهادئ، لا تحاربه أفكار القلق ولا الخوف.. إنسان يسمع خبرًا، فيقول لك هذا الخبر خطير. وقد لا يكون خطيرًا على الإطلاق. ولكن نفسيته صورته له هكذا. وحسب نفسيته ستكون أفكاره.. بينما شخص أخر يتلقى نفس الخبر بكل هدوء، ولا تنزعج أفكاره بسببه. إنسان حسب نوع نفسيته تأتيه أفكار يأس، فينسحب من مشروع معين. بينما زميل له في نفس المشروع، لا ييأس ولا ينسحب، بل يستمر وفى قلبه أمل ورجاء.. ثلاثة يرون شخصًا واقفًا في الظلام، فيقول أحدهم أنه لص أو قاتل، ويقول الثاني: لعله في موعد مع امرأة. بينما يفكر الثالث أنه واقف يصلى. حسب نفسية كل منهما تكون أفكاره. مصدر آخر للأفكار هو حروب الشياطين. حروب الشيطان كمصدر للأفكار ربما لا تكون الأفكار نابعة من قلب الإنسان أو من نوع نفسيته، ولا هي بسبب البيئة والتأثيرات الخارجية. إنما قد تكون أفكارًا من الشيطان يلقيها في العقل. متى تعتبر هذه قد وصلت إلى مرحلة الخطية، ومتى لا تكون خطية؟ وما موقف الإنسان منها؟ الفكر ومحارباته فى العقل طبقتان: طبقة سطحية، وطبقة عميقة. الأمور التي تأخذها بطريقة سطحية، إي لا تهتم بها اهتماما كبيرًا،هذه لا تتعمق في ذهنك، وسرعان ما تنساها. مثلها مثل كثير من الأخبار والأحاديث التافهة والعارضة في حياة الإنسان اليومية. هذه لا تثبت في الذاكرة، ولا في القلب والمشاعر. بل كبخار تظهر قليلًا ثم تضمحل.. أما الأمور التي تأخذها بعمق، سواء من الناحية الفكرية أو النفسية، وتظل تأخذ معها وتعطى في فكرك، ويستمر عقلك يفكر فيها فترة طويلة.. فهذه تدخل إلى أعماقك، وتترسب في عقلك الباطن. وتلد لك أفكارًا أخرى، أو تظهر ثمارها في أحلام وظنون ومشاعر. الأمر إذن يتوقف على طريقتك في التفكير. ليس فيما يحدث لك أو معك، إنما في تجاربك مع الفكر، أي في الـResponse. خذ مثلًا الصلاة والسرحان فيها، وعلاقة ذلك بالطبقتين السطحية والعميقة في عقلك. وهنا نسأل: لماذا يسرح الإنسان أحيانًا في صلاته؟ وفى أي شيء يسرح؟ ولماذا؟ ومتى؟ أنه يسرح حينما يأخذ بعض الأمور في عمق، وتظل معه في فكره أثناء الصلاة. أو أنه يتذكر أمورًا أخذها من قبل بعمق، وتصاحبه في صلاته. وحينئذ يكون في عقله فكران يتمشيان معًا: فكر الصلاة وفكر السرحان. وقد يتبادلان الموضع. فيكون أحدهما في المنطقة السطحية، والآخر في المنطقة العميقة، حسب درجة جهاده وتركيزه في ألفاظ ومعاني الصلاة، أو استسلامه لفكر السرحان. فإن كان يصلى بغير فهم أو بغير عمق، حينئذ يدخل إلى أعماقه فكر السرحان. ويصبح وكأنه لا يصلى!! أما الذي يصلى في عمق فكره ومن عمق قلبه: إن أتاه فكر سرحان، فإن هذا الفكر يمضى بسرعة إذ لا يجد له مكانًا فيه. لذلك تقول للذين تحاربهم أفكار السرحان في صلواتهم: لا تأخذوا كل الأمور العالمية بعمق، ولا تشغلوا أفكاركم بكل ما تجمعه الحواس مما تسمعونه وترونه.. ولا تجعلوا كل ذلك يرتبط بعقولكم ومشاعركم وأعصابكم. وإلا فإن العقل سوف يخزنه ثم يقدمه لكم أثناء الصلاة: أولًا في المنطقة السطحية. فإن وجد استجابة منكم، يدخله إلى المنطقة العميقة. وحبذا لو رتبتم فترة روحية تمهيدية تسبق الصلاة. ينتقل فيها الفكر من العالميات إلى الروحيات. لأنه صعب على العقل أن ينتقل فجأة من الانشغال المادي إلى الفكر الروحي الصافي.. وهكذا من الأفضل أن يسبق الصلاة وقت للترتيل أو القراءة الروحية، أو التأمل أو التعمق في فكرة روحية معينة أو بعض المطانيات metanoia مصحوبة بابتهالات سريعة.. ثم يقف الإنسان بعد ذلك ليصلى، وقد ابتعد فكره عن أمور العالم ومشغولياته. ويكون هذا التمهيد الروحي، مثل رفع البخور على المذبح قبل تقديم الذبيحة المقدسة عليه.. يذكرنا هذا بقصة القديس يوحنا القصير، الذي رآه تلميذه يلف حول قلايته ثلاث مرات قبل أن يدخلها. فسأله عن سبب ذلك، فأجابه القديس: كنت وسط مجموعة من الأخوة. وقد أخذوا يتناقشون، فتركتهم وجئت. ولكن صوت المناقشة كان لا يزال في أذني، فرأيت أن أدور حول قلايتي، لأطرد صوت المناقشة من أذني قبل أن أدخل القلاية.. إلى هذا الحد كان القديس محترسًا من جهة نقاوة فكره. يتعب الإنسان أيضًا، إذا أخذ كل الأمور بحساسية. أي أنه يتأثر بكل شيء، وفى عمق: هذه الحساسية تجعل كل ما يتأثر به، يترسب في داخله، ويجلب له أفكارًا تضغط عليه وتتعبه. وهنا يختلف طبع كل شخص عن الآخر، ويختلف فكره. فإن صادفتك مشكلة، حاول أن تحلها وتنتهي منها وإن وجدت أنها صعبة الحل، أتركها إلى حين، ولا تنشغل بها. أعطها مدى زمنيًا تحل فبه، تاركًا الأمر إلى الله حلال المشاكل. ولكن سيطرة الأفكار، تأتي لإنسان يفكر بعمق وبغير حل، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. أو أنه بفكر في متاعب المشكلة، دون أن يفكر في حل المشكلة. وهذا هو السبب الذي يجعل البعض -إن صادفته مشكلة- تسيطر على عقله ومشاعره وأحاسيسه وانفعالاته. فلا يفكر إلا فيها،ولا يتكلم إلا عنها. هي معه في صحوه وفى نومه، في تفكيره، وفى أحاديثه. أدخلها إلى أعماقه. ولم يعد قادرًا على الخروج من مجالها، عقله يسلم المشكلة إلى قلبه. وقلبه يسلمها إلى فكره. وفكره وقلبه يسلمانها إلى أعصابه. وأعصابه تسلمها إلى انفعالاته وإلى لسانه أيضًا، فيظل يتحدث بها مع كل من يتحدث يقابله.. وقد يستمر معه التفكير في المشكلة أيامًا أو أسابيعًا. ينشغل بها نهارًا، وقد يحلم بها ليلًا. وربما يجلب له هذا التفكير ألوانًا من الأمراض الجسدية: من ضغط دم، وسكر، وقرحة في المعدة، وتعب في الأعصاب. إلى جوار التعب النفسي.. كل ذلك، لأنه تعامل مع الفكر بحساسية زائدة، فسيطر الفكر عليه.. أما الإنسان الروحي فإنه يسيطر على الفكر. ولا يجعل الفكر يسيطر عليه. على أن هناك نوعان من الناس، لا يحب أن تسيطر عليه الأفكار. فيقول: الأفضل أن أصرف الفكر. ولكنه للأسف يصرفه بطريقة خاطئة!! فان أساء إليه إنسان وغضب، يقول لا أكبت الغضب في قلبي، وإنما لابد أن أصرفه. أنا سأرد على هذا الشخص، الكلمة بكلمتين. وأصفى حسابي معه. أقول له.. وإن قال أقول.. وهكذا يظل الفكر منشغلًا.. ولا يكون قد تخلص من الفكر، بل زادت سيطرة الفكر عليه.. حسن أن تصرف الفكر. ولكن بطريقة روحية وعملية، وبلا كبت.. وإن اشتعل الفكر داخلك،لا تلقى عليه كل حين وقودًا. وتصفية الأفكار تأتى أولًا من الداخل، من طريقة تعامل القلب معها. بالإضافة إلى التخلص من الأسباب التي تجلبها من الخارج، كما ينبغي عدم التساهل مع الفكر، وعدم إعطائه فرصة يأخذ فيها سلطانًا على العقل. محاربة الفكر هنا ويسأل البعض سؤالًا طالما يتكرر: هل كل فكر خاطئ يأتينا، يعتبر خطية؟ والجواب على ذلك هو: من الجائز أن يكون الفكر محاربة من الشيطان، أو هو قادم إليك من الخارج، من مصدر خارج عنك، أو من الناس الأشرار.. أما إن كان صادرًا من قلبك، من رغباتك الداخلية، ومن شهواتك، فهو حينئذ يكون خطية 100%. فإن كان الفكر الخاطئ صادرًا من الخارج، فإن الحكم عليه يتوقف عليك: هل تقبله أو لا تقبله. إنه لا يعتبر خطية، إن كنت لم تقبله، تضايقت منه وطردته، حتى لو ألح عليك وأنت رافض له بكل قلبك. بل قد تصلى أثناءه وتقول:"يا رب نجني من هذا الفكر".. حتى هذه المرحلة يعتبر الفكر محاربة خارجية.. إذن متى يعتبر الفكر الخاطئ خطية؟ إن الخطية تبدأ من بدء استسلامك للفكر. وتزيد أن انفعلت بها، وقبلتها، وخضعت الإرادة لها. حينئذ يكون العقل قد فتح لها بابه، بإرادته، واستمر معها، وبدأ يتعامل معها، ويأخذ ويعطى. بل ربما يكون قد تجاوب معها وخلطها بمشاعره، وأسكنها داخله.. لذلك حسنًا قيل في سفر النشيد".. أختي العروس جنة مغلقة، عين مقفلة، ينبوع مختوم" (نش11:4). أي مغلقة ومقفلة أمام كل أفكار الشيطان وحيله. وعن نفس الأمر قيل في المزمور "سبحي الرب يا أورشليم.. لأنه قوى مغاليق أبوابك" (مز147). واعلم يا أخي إن فكر المحاربة حينما يأتيك يكون في أوله ضعيفًا، وفى الطبقة السطحية من عقلك. ذلك لأنه من الخارج، ومن السهل عليك أن تطرده. فإن قبلته، يدخل إلى العمق شيئًا فشيئًا. فإن انفعلت به، يزداد تعمقه، ويرتبط بإرادتك، فإن وصل إلى القلب، يختلط بمشاعرك. وحينئذ تصبح المحاربة من الداخل وليس من الخارج. ومن هنا تبدأ سطوة الفكر وصعوبة طرده. حقًا،ما أسهل أن تدخل الأفكار، وما أصعب أن تخرجها. ما أسهل أن تقبل الفكر، وما أصعب أن تطرده. فكر الشك مثلًا، من الجائز أن يدخل إلى العقل بسهولة. ولكن من الصعب أن يخرج. وهكذا فكر الشهوة، وفكر الانتقام، وفكر العظمة والمجد الباطل. احترس إذن من دخول الأفكار إليك. ليس كل فكر يقرع على بابك، تقول له: مرحبًا بك. تفضل وادخل. بل الفكر الشرير تقول له "اذهب يا شيطان" (مت10:4). وترشم نفسك بعلامة الصليب، وتطرد الفكر. لأنك إن فتحت له أبواب فكرك، تكون خائنًا لله. وإن فتحت له أبواب قلبك، تكون أكثر خيانة. وتكون كمن يطرد الروح القدس الساكن فيك (1كو16:3). وأعلم أنه حينما يحاربك الفكر من الخارج، تكون إرادتك أقوى وتقدر أن تطرده. وكلما زحف الفكر إلى داخلك، تضعف إرادتك، ويقوى الشيطان في محاربته لك. ويقول هوذا قد فتح باب التفاوض معنا. نستطيع الآن أن نتفاهم معه،ونضمه إلينا بالتمام!! يكون كمن يعرض رشوة على شخص ما، فإن وجده لينا معه، يستمر في التفاوض، وتتم العملية. أما إن كان حازمًا ويصده من البدء، فإنه لا يجرؤ.. عليك إذن أن تصد الفكر من البدء. ولا تخدع نفسك وتقول: أريد أن أختبر الفكر ورأى إلى أين ينتهي!! فأنت تعلم تمامًا إلى أين ينتهي.. إذن اطرد الفكر بسرعة قبل أن يتوغل فيك. أطرده وهو في مرحلة طفولته، قبل أن ينضج ويكبر ويقوى عليك. وهنا نذكر قول المزمور "يا بنت بابل الشقية.. طوبى لمن يمسك أطفالك ويدفنهم عند الصخرة" (مز9:137). فالفكر -وهو طفل- تستطيع أن تدفنه عند الصخرة "والصخرة كانت المسيح" (1كو4:10). أما إن تركته إلى أن يكبر، فقد لا تقوى عليه. وحسنًا قال الآباء "أدبوا الأحداث قبل أن يؤدبوكم". فإن أدبت الطفل، لا يجرؤ عليك عندما يكبر. كذلك إن أدبت فكر الخطية وهو طفل، تستطيع أن تطرده قبل أن يكبر.. إن سيطرة الأفكار قد يكون سببها أيضًا شهوة خاطئة في القلب، وليس مجرد محاربة من الخارج. وفى هذه الحالة تصدر الأفكار من القلب، وتشعلها الشهوات، وتلح على الفكر إلحاحًا لا يستطيع منه فكاكًا، تريد أن تحول الفكر إلى فعل.. فالخطية قد ملكت القلب وكل مشاعره، وبالتالي ملكت الفكر. وأصبح, من كنز قلبه الشرير يخرج الشرور، (لو45:6). والأمر يحتاج بلا شك إلى توبة، تنقذ القلب من شهواته، فلا يعود مصدرًا لأفكار شريرة.. ويحتاج الأمر إلى تجديد الذهن، كما قال الرسول "تغيروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم" (رو2:12). وتجديد الذهن يحتاج إلى عمل إيجابي، فلا يقتصر الأمر على مجرد الجهاد السلبي في مقاومة الأفكار. محاربات الفكر محاربات الفكر كما قلنا إما تأتي من الداخل أو من الخارج. المحاربات التي من الخارج، هي مثل ما حدث لأمنا حواء: إنسانة بسيطة وهادئة وبريئة، وأتاها الفكر من الخارج، من الحية. أفكار شك مثل: "أحقًا قال لكما الله أن لا تأكلا..؟ "كلا، لن تموتا"، "يوم تأكلان من الشجرة، تصيران مثل الله، عارفين الخير والشر".. (تك3). هذا الفكر الذي أتى إلى حواء من الخارج، أتعبها، وذلك لأنها قبلته. وانتقل الفكر إلى الحواس، ثم إلى القلب. انتقل إلى الحواس فنظرت إلى الشجرة، بنظرة ليست كما كانت تراها من قبل. فوجدت أن الشجرة "جيدة للأكل، وأنها بهجة للعيون، وشهية للنظر" (تك1:2). القلب تغير من الداخل، وكذلك الحواس من الخارج. ولفكر فقد نقاوته، ودفع الإرادة بعيدًا عن الله. أما أنت: فإن أتاك فكر خاطئ، قاومه. وكل فكر خاطئ، يوجد أسلوب تقاومه به. فهناك فكر ترد عليه بآية أو بضع آيات، فيهرب منك. وفكر آخر ترد عليه بمشاعر معينة، فلا يثبت أمامك.. ولنأخذ فكر الكبرياء أو المجد الباطل، كمثال: هذا الفكر يمكن أن تقاومه بأن تتذكر خطاياك، فيخجل من تذكارها فكر الكبرياء. أو أن تتذكر الدرجات العليا التي وصل إليها القديسون، فتشعر أنك لا شيء إلى جوارها. أو أن تقول لنفسك: لو أنني سرت في هذا الفكر، لتخلت عنى النعمة وفارقتني، وحينئذ أسقط في خطايا كثيرة، كما قال الكتاب "قبل الكسر الكبرياء. وقبل السقوط تشامخ الروح (أم18:16) أو انك تقول لفكر الكبرياء: هذا الذي أفتخر به، لم أعمله أنا، إنما عمله الله بواسطتي، فإن نسيته إلى نفسي، فسوف لا يعمل الله معي، لئلا يقودني ذلك إلى الافتخار وبهذا أفشل في أداء أي عمل صالح!! وليس هذا من صالحي.. وهكذا تجد إن تذكرك لعمل النعمة فيك، يبعد عنك فكر الكبرياء. وبهذه الطرق وغيرها تتخلص منه.. هناك قديسون تخصصوا في التعامل مع الأفكار.. وكانوا مرشدين في أساليب محاربتها. ومن بين هؤلاء القديس مار أوغريس الذي له ميامر (مقالات) عن حرب الأفكار والرد عليها. ومن وسائل ذلك الرد على كل فكر بآية من الكتاب. فإن حاربتك أفكار الغضب مثلًا، تضع أمامها قول الكتاب".. لأن غضب الإنسان لا يصنع بر الله" (يع20:1). وإن حاربتك أفكار الزنا، تقول كما قال يوسف الصديق "كيف أصنع هذا الشر العظيم، وأخطئ إلى الله؟!" (تك9:39). أو تتذكر قول القديس بولس الرسول "لا تضلوا.لا زناة، ولا عبدة أوثان، ولا فاسقون ولا مأبونون، ولا مضاجعو ذكور، ولا سارقون.. يرثون ملكوت الله" (1كو9:6، 10). وأن حوربت بمحبة العالم، تذكر قول القديس يعقوب الرسول"..لأن محبة العالم عداوة لله" (يع4:4)، وكذلك قول القديس يوحنا الرسول: "لا تحبوا العالم ولا الأشياء التي في العالم.. إن أحب أحد العالم، فليست فيه محبة الأب" (1يو15:2). وهكذا تضع أمام كل فكر آية تطرده. لذلك عليك أن تحفظ آيات ترد بها على الأفكار التي تحاربك، فتصدها بها. آباؤنا القديسون كانت لهم خبرة في محاربة الأفكار. ليتنا نتذكر تلك الخبرة في قراءتنا لسيرهم، ونستفيد بذلك.. أما أنت فعلى الأقل: لا تقبل أي فكر رديَ، بل أطرده بسرعة. ولتكن أبوابك مغلقة دونه، حسب تعليم الكتاب.. كما يجب أن ترد عليه بحزم. وتذكر كيف إن أيوب الصديق، لما عرضت عليه زوجته فكرًا خاطئًا، رد عليها في حزم. وانتهرها قائلًا "تتكلمين كلامًا كإحدى الجاهلات" (أى10:2). فأسكتها بسلطان، ولم يدعها تتمادى في الكلام. وهكذا أنت أيضًا: إن راودتك نفسك بأي فكر خاطئ، أسكتها، ولا تجعلها تتمادى في الفكر. بل قل لها في حزم:"تتكلمين كلامًا كإحدى الجاهلات".. هناك طريقتان تتخلص بهما من حروب الأفكار، وهما: تنقية القلب والفكر. وأيضًا انشغال القلب والفكر. انشغال الفكر إنه أسلوب وقائي وإيجابي تتخلص به من الأفكار، من قبل أن تجئ. لأنه إن انشغل فكرنا بالله، نصل إلى محبة الله. وإن تعمقت محبة الله في قلوبنا، تصير طبيعتنا غير قابلة لأفكار العدو. مثل إنسان قوى في صحته. إذا حاربه ميكروب، لا يستطيع أن يقوى عليه. أو شخص محصن ضد مرض معين، فذلك المرض لا يجد له مجالًا عنده. أنه لا يترك نفسه حتى تصيبه الأمراض ثم يعالجها!! بل يتخذ الوسائل التي تمنع أصابته بالمرض. فالإنسان الروحي يحصن نفسه ضد الأفكار الشريرة، بأن يملأ قلبه وعقله بمحبة الله ومحبة الخير. لذلك نقول له: أشغل عقلك، قبل أن يأتي الشيطان ليشغله. أشغل عقلك بالفكر الصالح، بالتأملات والقراءات الروحية، قبل أن يأتي عدو الخير، ويقدم لك أفكارًا من عنده. لأنه إن كان لإنسان سكن. وتركه فارغًا، قد يأتي أناس أشرار ويحتلونه ويسكنونه. وإخراجهم منه ربما يحتاج إلى تعب وجهد. أما إن كان في هذا المسكن نور وأثاث وكراسي مثلًا في شرفاته، فإنه لا يجرؤ أحد أن يدخله عنوة، إذ يخاف من ساكنيه. ويرى أنه إن أقدم على ذلك سيتعرض للمخاطرة.. هكذا إن كنت منشغل الفكر، يعرف الشيطان أنك لست متفرغًا له، فيتركك ولو إلى حين.. فإن كنت منشغلًا باستمرار، يحتار كيف يدخل إليك.. ليس فقط بسبب الانشغال الروحي، بل حتى الانشغال العلمي أيضًا، والانشغال بالعمل، وبالأنشطة المتعددة، وحتى الانشغال بالرياضة أو الفن، أو العمل اليدوي. لذلك فإن الطلبة المجتهدين، الذين يشغلوا عقولهم دائمًا بدراستهم، يكونون غير متفرغين لأفكار الخطية. كما يقول المثل: عقل الكسلان معمل للشيطان. وبالتالي فإن الطلبة المهملين لدراستهم، يكونون أكثر تعرضًا لأفكار الخطية. لأن عقولهم غير منشغلة، فيأتي الشيطان ويعشش فيها.. اشغل عقلك أذن بشيء مفيد، سواء كان مفيدًا لروحياتك وأبديتك، أو مفيدًا لمعرفتك وثقافتك، أو مفيدًا لخدمتك. اشغل عقلك بقراءات وتأملات، بفكر نافع لك.. لكن أن كنت في فراغ، وعقلك في فراغ، ما أسهل أن يقول لك الشيطان: اسمح لي أن أجلس معك وأسليك.. أحكي لك حكاية، أقدم لك فكرة من عندي، مادمت لا تجد شيئًا تفكر فيه.. وهكذا يسرح بك من موضوع إلى موضوع، حتى يدخلك بالتمام إلى مجاله، ويسيطر على تفكيرك. أو على الأقل يضيع وقتك في ما لا يفيد.. إن آباءنا القديسين الذين كانوا يتدربون على الصلاة الدائمة، أو يرددون صلاة "يا رب يسوع" مئات أو آلاف المرات، كان عقلهم ينشغل بهذه الصلاة، بحيث يرددها تلقائيًا.. فإن سكت الواحد منهم، يظل عقله منشغلًا بهذه الصلاة، بدون جهد منه، وبدون أن يدفعه لتردادها. هكذا أيضًا من يشل عقله بآيات يرددها،أو بموضوع روحي يتأمله، أو بقصة من الكتاب المقدس أو من سير القديسين.. لذلك في خروجك من بيتك، لا تترك نفسك للطريق يرتب لك ما تفكر فيه. لا تترك عقلك سائبًا، دون فكر معين يربطه وينشغل به. لا تتركه للقاءات وللمناظر وللأحاديث، ترسم له مسار تفكيره، وتقدم له الفكر الذي يشغله والوقود الذي يشعله.. ما أسهل عندما تخرج من بيتك أن تأخذ معك آية أو مزمورًا، أو موضوعًا روحيًا، أو في الصباح اقرأ فصلًا من الكتاب، وتخيَّر لك معنى من معانيه يصحبك في الطريق أو مزمورًا تحفظه، وليكن ذلك موضوعًا لتفكيرك. وهكذا أن هاجمك فكر، يجدك مشغولًا، وأبوابك مغلقة أمامه. والعقل لا يستطيع أن يفكر في موضوعين في وقت واحد، وينشغل بهما بنفس العمق.. فإن أعطيت عمق فكرك لشيء مفيد. سيطفو أي فكر آخر على سطح عقلك، وينقشع بسرعة.لأنك غير مهتم به وغير متفرغ له.. فإن أردت أن تقي نفسك من حروب الأفكار، عليك بالآتي: قدم لعقلك طعامًا روحيًا، قبل أن يقدم له العالم طعامًا رديًا. كذلك ينفعك أن يكون لك مذكرة روحية، تسجل فيها بعض أفكار تركت في نفسك أثرًا طيبًا. تفتح هذه المذكرة بين الحين والآخر، لتقرأ ما قد خزنته فيها، وتجتره كما يجتر الجمل غذاء سبق له تخزينه من جوفه. وتسرح في تلك الأفكار الجميلة. وتضيف إليها أفكارًا أخرى نافعة. أما إن كانت في عقلك أفكار خاطئة مترسبة من زمن قديم، فحاول أن تطهر عقلك منها بعد الاستعمال، وبإحلال غيرها مكانها.. كذلك لا تشغل عقلك بأفكار تافهة، لا هي خير ولا شر. ولكنها قد تتطور ولا تستطيع ضبطها.. وحاول أن تنقى قلبك من الداخل، لأن القلب النقي لا تخرج منه أفكار خاطئة. وقد قال السيد الرب في ذلك "لا تقدر شجرة جيدة أن تصنع ثمارًا ردية، ولا شجرة ردية أن تصنع أثمارًا جيدة" (مت18:7). |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
من كتاب ثمر الروح - عفة القلب وعفة الفكر |
كتاب دراسة الفكر الاقتصادي |
الفكر الكتابي والمسيحي حول الإنسان |
الإنسان الذي يسعى وراء الفكر |
الفكر والأعصاب (من كتاب خبرات في الحياة) |