منتدى الفرح المسيحى  


العودة  

الملاحظات

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  رقم المشاركة : ( 1 )  
قديم 02 - 06 - 2022, 07:04 PM
الصورة الرمزية Mary Naeem
 
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو
  Mary Naeem غير متواجد حالياً  
الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,276,271

خطاب الوداع: السَّلامَ أَستَودِعُكُم وسَلامي أُعْطيكم

خطاب الوداع: السَّلامَ أَستَودِعُكُم وسَلامي أُعْطيكم
الأحد السادس للفصح: خطاب الوداع: السَّلامَ أَستَودِعُكُم وسَلامي أُعْطيكم (يوحنا 14: 23-29)


النص الإنجيلي (يوحنا 14: 23-29)
((إذا أَحَبَّني أَحَد حَفِظَ كلامي فأحَبَّه أَبي ونأتي إِلَيه فنَجعَلُ لَنا عِندَه مُقاماً. 24 ومَن لا يُحِبُّني لا يَحفَظُ كَلامي. والكَلِمَةُ الَّتي تَسمَعونَها لَيسَت كَلِمَتي بل كَلِمَةُ الآبِ الَّذي أَرسَلَني. 25 قُلتُ لَكُم هذه الأَشياءَ وأَنا مُقيمٌ عِندكم 26 ولكِنَّ المُؤَيِّد، الرُّوحَ القُدُس الَّذي يُرسِلُه الآبُ بِاسمي هو يُعَلِّمُكم جَميعَ الأشياء ويُذَكِّرُكُم جَميعَ ما قُلتُه لَكم. 27 السَّلامَ أَستَودِعُكُم وسَلامي أُعْطيكم. لا أُعْطي أَنا كما يُعْطي العالَم. فلا تَضْطَرِبْ قُلوبُكم ولا تَفْزَعْ. 28 سمِعتمُوني أَقولُ لَكم: أَنا ذاهِبٌ، ثُمَّ أَرجعُ إِلَيكمُ. لو كُنتُم تُحِبُّوني لَفَرِحتُم بِأَنِّي ذاهِبٌ إِلى الآب لأَنَّ الآبَ أَعظَمُ مِنِّي. 29 لقَد أَنبَأتُكم مُنذُ الآنَ بِالأَمرِ قَبلَ حُدوثِه حَتَّى إِذا حَدَثَ تُؤمِنون. 30 لن أُطيلَ الكَلامَ عَلَيكُم بَعدَ ذلك لأَنَّ سيِّدَ هذا العالَمِ آتٍ ولَيسَ لَه يَدٌ علَيَّ.
مقدمة
يصف إنجيل يوحنا (يوحنا 14: 23-29) في الأحد السادس للفصح خطاب يسوع في لحظة وداعه لتلاميذه في العشاء الأخير مُبيِّنا طبيعة ملكوته ومُحدِّداً شروطه القائمة على حفظ الوصايا لنيل السلام رغم الاضطراب الذي يعانون منه بسبب إعلان رحيله القريب عنهم. ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص الإنجيلي وتطبيقاته.
أولا: وقائع النص الإنجيلي (يوحنا 14: 23-31)
23 أَجابَه يسوع: إذا أَحَبَّني أَحَد حَفِظَ كلامي فأحَبَّه أَبي ونأتي إِلَيه فنَجعَلُ لَنا عِندَه مُقاماً
تشير عبارة " أَجابَه يسوع " إلى توجيه كلامه إلى يهوذا، إثر دهشته أن يسوع يُظهر ذاته لتلاميذه دون العالم. ويهوذا هو أخ يعقوب (لوقا 6: 16)، وأحد أقرباء يسوع المسيح حسب الجسد (متى 13: 55)، وهو كاتب رسالة يهوذا. ومن خلاله يوجّه يسوع خطابه لا إلى تلاميذه وحدهم، بل إلى كل المؤمنين الذين يُحبُّونه؛ "إذا أَحَبَّني أَحَد حَفِظَ كلامي". أمَّا عبارة "إذا " فتشير إلى الارتباط بجملة شرطية حيث انه لن تكون لنا إمكانية شركة الحياة مع الله إلا َّ إذا عشنا في المحبة وقبلنا حبّ الله لنا. أمَّا عبارة "إذا أَحَبَّني أَحَد حَفِظَ كلامي" فتشير إلى جملة شرطية تفيد إمكانية التحقق حيث أنَّ المحبة هي الشرط الذي تنبع منه الطاعة الكاملة لكلمة الله ووصاياه وحفظها، والشركة الروحية مع الله أيضًا. وترتبط الطاعة للوصايا بالمحبة (يوحنا 15: 21). وهكذا تكمن شهادة حبِّنا الحقيقي للسيد المسيح في الطاعة لوصيته. فالمؤمنون يقومون بالشرط ويرون يسوع، أمَّا العالم فلا يُحبّه، ويرفض كلامه فلا يراه. ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "لا يكفي أن نقتني الوصايا فقط، لكننا نحتاج إلى حفظها". حفظ كلام الرب لا يعني تخزين المعلومات وتذكٌّرها فقط، ولا يعني أيضا فقط استيعابها وفهمها وتحليلها والاقتناع بها، إنَّما يعني هنا العمل بها وتطبيقها وتحويل المعرفة إلى حياة. فالكلام يختلف عن الأفعال كما قال جبران خليل جبران في قصيدته "المواكب" "أعطني الناي وغني، وانسَ ما قلتُ وقلتَ، إنما النِطقُ هباءٌ فأفدني ما فعلتَ". أي أن الكلام قد يذهب أدراج الرياح لكن الأفعال تبقى. إذن نكون أحباءَ الرب عندما نعمل بوصاياه ونترجم كلمات الرب إلى أعمال؛ حيث أنَّ المحبَّة ليست مجرد شعور، بل إنها حياة الطاعة. لقد كان يسوع أول من اختبر هذه الطاعة للآب ساعيًا فقط لتتميم إرادته كما تؤكده صلاته في الجسمانية " يا أَبتِ، إِن أَمكَنَ الأَمْرُ، فَلتَبتَعِدْ عَنِّي هذهِ الكَأس، ولكن لا كما أَنا أَشاء، بَل كما أَنتَ تَشاء!" (متى 26: 39)؛ من يحب يبقى أمين لكلمة المسيح. أمَّا عبارة " فأحَبَّه أَبي " فتشير إلى محبة الآب للابن، وهو يُحب ّ ابنه الحبيب. أمَّا عبارة " كلامي" فتشير إلى تعاليم يسوع ووصاياه كما جاء في الموضع سابقا "إِذا كُنتُم تُحِبُّوني، حَفِظتُم وَصاياي" (يوحنا 14: 15). أمَّا عبارة " حَفِظَ كلامي" فلا تشير إلى استظهار كل كلمة منه بل العزم على العمل بوصاياه وحفظها في القلب وليس في الذاكرة فقط. أمَّا عبارة "نأتي إِلَيه" فتشير إلى يسوع وإلى الآب، وهذه إشارة لوحدانية يسوع مع الآب. فيسوع المسيح والآب واحد. وهذا ما نادى به أيضًا الرسول إلى أهل قورنتس "لْتَكُنْ نِعمةُ رَبِّنا يسوعَ المسيح ومَحبَّةُ اللهِ وشَرِكَةُ الرُّوحِ القُدُسِ معَكُم جَميعًا" (2 قورنتس 13: 13). ومعنى كلام الرب إن أردتني أن أظهر لك فأعمل ما يُحبُّه الآب. أمَّا عبارة "مُقام" فتشير إلى حضور وسكنى الآب والابن في المؤمنين (رؤيا 3: 20)، إذ يجعل الله الآب والابن والروح القدس من قلب المؤمن مسكنًا أو هيكلا؛ فأصبح كلُّ إنسانٍ مدعواً ليكون روحه سُكنى الله، ولذلك بعد اليوم لا يكون هيكل اورشليم موضع حضور الله، بل قلب المُحبّين الذين يحفظون وصايا يسوع المسيح. وهذا ما جاء في تعليم بولس الرسول "نَحنُ هَيكَلُ اللَّهِ الحَيّ، كما قالَ اللّه: سأَسكُنُ بَينَهُم وأَسيرُ بَينَهُم وأَكونُ إِلهَهُم وَيَكونونَ شَعْبي" (2 قورنتس 6: 16، ارميا 3: 33). ويؤكد ذلك بطرس الرسول: " أَنتم أَيضًا، شأنَ الحِجارَةِ الحَيَّة، تُبنَونَ بَيتاً رُوحِياً فَتكونونَ جَماعَةً كَهَنوتيَّة مُقدَّسة، كَيْما تُقَرِّبوا ذَبائِحَ رُوحِيَّةً يَقبَلُها اللهُ عن يَدِ يَسوعَ المسيح" (1 بطرس 5:2). ويُعلق القديس أوغسطينوس " هذه السكنى هي سكنى روحية تتحقق داخليًا في الذهن وتجلب بركة أبدية للذين يقبلونها". وفي هذه الآية يُجيب يسوع بصورة غير مباشرة أنَّه هو وأبوه يقيمان بوجه نهائي عند الذين يحفظون وصاياه بمحبة. وهكذا يتحقق طموح المؤمنين الذين عاشوا في العهد القديم "فإنه هل يَسكُنُ اللهُ حَقًّا على الأَرضَ؟" (1 ملوك 8: 27). ويجيب يسوع أيضا على سؤال تلاميذ يوحنا " أَينَ تُقيم؟ " (يوحنا 1: 38) فنجد الجواب النهائي على سؤال مكان إقامة الله. وهذا الأمر يؤكده بولس الرسول "فنَحنُ هَيكَلُ اللَّهِ الحَيّ، كما قالَ اللّه: أَسكُنُ بَينَهُم وأَسيرُ بَينَهُم وأَكونُ إِلهَهُم وَيَكونونَ شَعْبي" (2 قورنتس 6: 16). وهكذا أقام الله عهدا مع الإنسان، قوامه أمانة الله تجاه الإنسان بمحبته وعنايته، وأمانة الإنسان لله بسماع كلامه وحفظ وصاياه، لكي يعيش سعيداً ويُسعد عائلته ومجتمعه ووطنه. فمن يستضيف الله على الأرض يستضيفه الله في السماء. وفي هذه الآية نجد إجابة يسوع على سؤال يهوذا تداوس، هو أخو يعقوب كاتب الرسالة (يوحنا 14: 22) وهي أنَّ يسوع المسيح سيظهر لتلاميذه وسيرونه ولكن ليس بالجسد كما يفهم يهوذا، ولن يراه سوى من يُحبُّه ويحفظ وصاياه. لان يهوذا لم يفهم أن الظهور الذي كان يقصده الرب هو ظهور روحي، إنما كان يتوقع أن يملك المسيح على أورشليم ملكًا سياسيا ارضيا. فجواب يسوع يُبيّن الطبيعة الحقيقية لملكوته ويُحدِّد شروط ظهوره: الحبّ وحفظ الوصايا. فالإيمان الذي يطلبه يسوع يكون عندئذٍ ليس مبنيّاً على الخوف، أو على الدهشة، إنما على الحبّ، وحفظ الكلام هو التطبيق العملي للحبّ الإلهيّ. أمَّا عبارة "فنَجعَلُ لَنا عِندَه مُقاماً" فتشير إلى الحضور الإلهي في قلب المؤمن دائما لا وقتيًا، ولا يشعر به إلاَّ من يختبره في نفسه. سكن الله قديما بين شعبه إسرائيل في الخيمة والهيكل (خروج 25: 8 و29: 45). وفي العهد الجديد سكن نفس المؤمن جاعلا إياها هيكلا له (لوقا 17: 20) و1 قورنتس 3: 16)، وتصبح حياة المؤمن متحدة بالله؛ وهذا الوعد هو ثواب المحبة والطاعة. فالله سكن مع المؤمن على الأرض والمؤمن يسكن مع الله في السماء.
24 ومَن لا يُحِبُّني لا يَحفَظُ كَلامي. والكَلِمَةُ الَّتي تَسمَعونَها لَيسَت كَلِمَتي بل كَلِمَةُ الآبِ الَّذي أَرسَلَني
تشير عبارة "مَن لا يُحِبُّني" إلى الذي يرفضني يرفض بالطبع كلامي، وذلك لأنه ينجرف في تيار محبة العالم وملذاته ويتنكر لله وكلماته كما جاء في تعليم يعقوب الرسول: "أَلا تَعلَمونَ أَنَّ صداقَةَ العالَمِ عَداوةُ الله؟ فمَن أَرادَ أَن يَكونَ صَديقَ العالَم أَقامَ نَفْسَه عَدُوَّ الله" (يعقوب 4:4)؛ أمَّا عبارة "لا يَحفَظُ كَلامي" فتشير إلى عدم الطاعة. فلا طاعة حيث لا محبة، وهي إجابة على سؤال يهوذا" يا ربّ، ما الأَمرُ حتَّى إِنَّكَ تُظِهرُ نَفْسَكَ لَنا ولا تُظهِرُها لِلعالَم؟"، فالعالم لا يحب المسيح وبالتالي لا يظهر يسوع للعالم. أمَّا عبارة "الكَلِمَةُ الَّتي تَسمَعونَها لَيسَت كَلِمَتي بل كَلِمَةُ الآبِ الَّذي أَرسَلَني" فتشير إلى رفع مستوى الكلام الذي يتكلم به يسوع إلى مستوى الرسالة الإلهية. فمن لا يحفظ أقوال المسيح، وهي نفسها أقوال الآب، فهو لا يُحبُّ الله الآب. العالم ليس على استعداد لرؤية الآب والابن، لان الشرط الضروري لذلك هو المحبة التي تتطلب الطاعة. والعالم يرفض يسوع. أمَّا عبارة " لَيسَت كَلِمَتي " فتشير إلى كلامه وكلام الأب معًا فالذي يرفض كلام المسيح يرفض كلام الآب أيضا، لأنه كلامه أيضا. والذي يقبله يُكرم الأب.
25 قُلتُ لَكُم هذه الأَشياءَ وأَنا مُقيمٌ عِندكم
تشير عبارة "قُلتُ لَكُم هذه الأَشياءَ" إلى تعاليم يسوع لهم. أمَّا عبارة "أَنا مُقيمٌ عِندكم" فتشير إلى وجود المسيح بالجسد، وهو يعلم ويتكلم بشخصه، ويودع كلامه أمانة عند تلاميذه إلى أن يأتي الروح القدس فيُعلمهم كل شيء ويُذكّرهم بكلامه وتعاليمه.
26 ولكِنَّ المُؤَيِّد، الرُّوحَ القُدُس الَّذي يُرسِلُه الآبُ بِاسمي هو يُعَلِّمُكم جَميعَ الأشياء ويُذَكِّرُكُم جَميعَ ما قُلتُه لَكم.
عبارة " المُؤَيِّد" في الأصل اليوناني الباراقليط παράκλητος (معناها الباراقليط أي المعزِّي والمُعين والشفيع، وفي الآرامية מנחמנא) تشير إلى الروح القدس، تردّدت هذه اللفظة أربع مرات في إنجيل يوحنا (يوحنا 14: 16، 26 و16: 15 و16: 7) وهي تدل على الروح القدس، ومرة واحدة في رسالة يوحنا تدل على المسيح (1يوحنا 3: 24). والمعنى الحرفي للفظة الباراقليط هو ذاك الشخص الذي يقف قرب المتهم ويدافع عنه في المحاكم أمام القضاء، لذلك دُعي المحامي، لأنه يتدخل أمام عدالة الآب لحساب الخطأة، ودُعي أيضا "الشفيع "(1 يوحنا 2: 1) إذ أن "الرُّوحَ نَفسَه يَشفَعُ لَنا بأَنَّاتٍ لا تُوصَف" (رومة 8: 26)؛ وهذا الروح نفسه يُدعى المعزِّي، لأنه إذ يعد رجاءً في الغفران للذين يحزنون على خطاياهم. وهو يقوّي، ليس فقط بالمؤاساة بل أيضا بإعلان طبيعة يسوع وعمله؛ أمَّا عبارة "الرُّوحَ القُدُس" فتشير إلى الأقنوم الثالث في الثالوث لينوب عن المسيح بعد صعوده إلى السماء في الإرشاد والعون. ووُصف الروح القدس بالقداسة لان وظيفته تقديس قلوب الناس (فيلبي 2: 12). إنَّ هذه الآية تثبت لأقنوم الروح القدس. وهذا ما يوكّده بولس الرسول "ولْتَكُنْ نِعمةُ رَبِّنا يسوعَ المسيح ومَحبَّةُ اللهِ وشَرِكَةُ الرُّوحِ القُدُسِ معَكُم جَميعًا" (2 قورنتس 13: 13). وإن وظيفة الروح هي أن يُبكت "يُخْزي العالَمَ على الخَطيئِة والبِرِّ والدَّينونَة"(يوحنا 16: 8) وان يشهد (يوحنا 15: 26) وانه يُعين الرسل في التبشير وهداية الناس إلى التوبة والإيمان. وان يُعلّمنا ماذا نقول في الصلاة (رومة 8: 26-27) ويُعلمنا كل شيء يخصُّ المسيح: مجده وعظمته ومحبته وطبيعته مكوِّنا لنا رؤية صحيحة عن المسيح فنُحبَّه (يوحنا 16: 14). فالروح يتابع عمل يسوع، ويعاون التلاميذ لدى اتهام العالم لهم. هذا الروح يبقى معنا، ولا يحلُّ محل يسوع الذي هو معنا حتى انقضاء الدهر (متى 28: 20) ويعمل عمل التقديس في الكنيسة، دون أن يكون لعمله حدود في الزمان والمكان. ويُعلق البابا فرنسيس "مع اقتراب لحظة الصليب، يُطمئن يسوع الرسل بأنهم لن يبقوا وحدهم: سيكون معهم دائما الروح القدس، الباراقليط، الذي سيعضدهم في رسالة حمل الإنجيل إلى العالم كله". أمَّا عبارة "يُرسِلُه الآبُ بِاسمي" فتشير إلى وعد يسوع بإرسال الروح القدس لتلاميذه " ومَتى جاءَ المُؤَيِّدُ الَّذي أُرسِلُه إِلَيكُم مِن لَدُنِ الآب رُوحُ الحَقِّ المُنبَثِقُ مِنَ الآب فهُو يَشهَدُ لي" (يوحنا 26:15)، مما يؤكد صلاحية وصدق العهد الجديد بأسفاره " فلَنا كَشَفَه اللهُ بِالرُّوح، لأَنَّ الرُّوحَ يَفحَصُ عن كُلِّ شَيء حتَّى عن أَعماقِ الله "(1 قورنتس 2: 14)؛ سيرسل الآب الروح القدس الذي سينقل إلينا حياة الله. وكل رسالة قائمة في المسيح يسوع لا يمكن سوى أن تُثمر ثمار السلام والتقديس، ثمار شفاء النفس والجسد، ثمار المصالحة والمحبّة، ثمار الاستنارة والحياة الحق. أمَّا عبارة "اسمي" فتشير إلى سلطان يسوع، لأنه أتى باسم الآب (يوحنا 5: 43) ووساطة الابن وحضوره وطبيعته وقوته وعمله ومشيئته؛ ولذلك فإن إرسال الروح القدس من قبل الآب هو تلبية لطلب يسوع وقوته وقدرة عمله الفدائي (يوحنا 14: 13-14). ويُعلق القديس أوغسطينوس "لا يسكن الروح في إنسانٍ دون الآب والابن، ولا الابن أيضًا دون الآب والروح القدس، ولا الآب دونهما. سكناهم غير منفصل"؛ كما أتى يسوع باسم الأب (يوحنا 5: 43) كذلك أتى الروح القدس باسم المسيح لأنه كان نائبا عنه (يوحنا 14: 13) ولأنه أتى إجابة لصلواته (يوحنا 14: 16)؛ أمَّا عبارة "هو يُعَلِّمُكم جَميعَ الأشياء" فتشير إلى وعد يسوع لتلاميذه أن الروح القدس يجعلهم يتفهّمون حقيقة شخصية يسوع تفهّما تدريجياً، ويُدركون معنى الأشياء في صلتها به إدراكا تدريجيا وجميع هذه الأشياء من أمور الخلاص. فليس المقصود انه يعلمهم كل أنواع العلوم كالفلسفة وغيرها. فالروح الذي يفحص كل شيء قادر أن يكشف لنا حتى أعماق الله (1 قورنتس 10:2). الروح القدس يكوّن فينا حياة الأبناء أي حياة الطاعة. ويُعلق البابا فرنسيس "إن الرب يدعونا اليوم لكي نفتح قلوبنا على عطية الروح القدس كي يقودنا في دروب التاريخ. فهو يومًا بعد يوم يُعلّمنا منطق الإنجيل، منطق المحبة المِضيافة"؛ أمَّا عبارة "يُذَكِّرُكُم جَميعَ ما قُلتُه لَكم" فتشير إلى وعد يسوع التلاميذ بأن الروح القدس سيُعينهم على أن يتذكَّروا كل ما كان يُعلمهم إياه يسوع في حياته على الأرض (يوحنا 15: 17) وسيساعدهم الروح على إدراك معنى أعمال المسيح العميق (يوحنا 2: 22 و12: 16) كي يبقوا مطيعين للآب. ويعلق البابا فرنسيس "أن مهمة الروح القدس هي أن يذكّر، أي أن يُفهم تماما ويقود إلى تطبيق تعاليم يسوع بشكل ملموس"؛ وهذا الوعد يؤكد صلاحية وصدق العهد الجديد. إن عمل الروح القدس هو ليس أنَّ يأتي بإنجيل جديد، بل يذكِّر المؤمنين إنجيل المسيح. إن الرّوح القدس هو ضمانة استمرار الرّب في حياة الكنيسة، وهو ضمانة صحّة تعليمها اليوم. ويُعلق البابا غريغوريوس "يهبكم المعرفة بكونه يعرف ما هو خفي"؛ والروح القدس هو أكثر من التذكير بنفس كلمات ابن الله، انه صورة حيّة لكل ما نطق به أمام تلاميذه سابقا. فالروح ليس له من شيء خاص يعلمّنا إياه، ولا رسالة شخصية، أنه شرح للإنجيل. إنَّ التلاميذ الذين سبقوا فشاركوا يسوع حياته في الأرض (يوحنا 15: 17) يحفظون ذكرى ما عمله وقاله بفضل الروح القدس الذي يساعدهم على إدراك معنى أعماله العميق (يوحنا 2: 22 و12: 16). فبشارة يوحنا الإنجيلي كلها من تذكير الروح القدس لكاتبها، لأنه كتب حوادثها وتعاليمها بعد موت المسيح بنحو خمسين سنة. ويُعلق القديس أوغسطينوس على هذه الآية بقوله: "إنَّ الثالوث القدوس كله يتكلم ويعلم (يوحنا 6: 45) لكنهم غير منفصلين". وفي هذه الآية وعد بأمرين: عملية تعليم الروح القدس التي تمَّت خاصة في سفر أعمال الرسل، والوعد الثاني تمَّ خاصة في بشارة يوحنا الإنجيلي. وعد يسوع تلاميذه بتعليم الروح القدس هو برهان قاطع على كمال أسفار العهد الجديد التي هي تعليم الروح القدس بواسطة مؤلِّفيها.
27 السَّلامَ أَستَودِعُكُم وسَلامي أُعْطيكم. لا أُعْطي أَنا كما يُعْطي العالَم. فلا تَضْطَرِبْ قُلوبُكم ولا تَفْزَعْ
تشير عبارة "السَّلامَ" إلى ملء الحياة والهدوء والسكينة الإلهية وطمأنينة وراحة وسط ضيقات العالم (2 قورنتس 4: 8). وهذا السلام ‏اكتسبه السيد المسيح لنا بسفك دمه على الصليب. ‏ أمَّا عبارة "أَستَودِعُكُم" في الأصل اليوناني ἀφίημι (معناها اترك) فتشير إلى يسوع المنطلق للموت الذي يترك لتلاميذه السلام كميراث. أورثنا ذاته سلامًا لنا كما جاء في تعليم بولس الرسول" إِنَّه سَلامُنا"(أفسس 2: 14)؛ إذ لما فارق يسوع هذه العالم ترك نفسه للآب السماوي، وجسده ليوسف الرامي، وثيابه للجنود الرومان الذين صلبوه، وأمَّه ليوحنا الحبيب، وأمَّا تلاميذه فترك لهم سلامه. أمَّا عبارة "أُعْطيكم" فتشير إلى عطية سلام المسيح لهم ووعد لهم، ولا يستطيع العالم أن يعطيه أو ينزعه، وهي الهبة المسيحية المثالية (أشعيا 9: 5-6). إن نتيجة عمل الروح القدس في حياتنا وطاعتنا للاب السماوي هو السلام العميق الدائم. يعلق القدّيس أوغسطينوس " لقد ترك الرّب يسوع لنا السَّلام قبل ذهابه إلى الآب، لكي نحبّ بعضنا بعضًا على هذه الأرض كما نقرأ عند النّبي أشعيا: "السَّلامَ السَّلامَ لِلبَعيدِ وللقَريب" (أشعيا 57: 19)، وسوف يعطينا سلامه عند مجيئه في نهاية العالم "(عظات عن إنجيل القدّيس يوحنّا) أمَّا عبارة "سَلامي" فتشير إلى عهد بين المسيح وكنيسته، فسلام يسوع هو ثقة أكيدة في وسط أي ظروف. وبهذا النوع من السلام لا نخاف من الحاضر أو المستقبل (يوحنا 4: 6، 7)؛ سلامًا يتركه لنا في هذا العالم عندما نؤمن أنه هو، الذي سيهبنا سلامه في العالم الآتي عندما نراه كما هو (1 يوحنا 3: 2). ويتميز سلام المسيح انه لا يُعطي هذا السلام غير المسيح، انه سلام اشتراه المسيح بدمه، انه سلام الضمير، انه سلام يُحمي التلاميذ في وقت الاضطهاد، وانه سلام دائم لا يضعفه المرض (رومة 1: 7)، ولا يسلبه الفقر (رومة 8: 6)، ولا يفنيه الموت (رومة 14:7). أمَّا عبارة "كما يُعْطي العالَم" فتشير إلى سلام العالم الذي يُعرف عادة بانه عدم صراع أو ميثاق حسن الجوار (يشوع 9: 15)، أو هِدنة، أو مساومة، سلام البعض على حساب البعض الآخر، سلام تخدير أمام المآسي؛ لأنه يقوم على المال والمناصب والجاه والمباهج والملذات الزائفة والزائلة، التي تدوم إلى زمن مؤقت، وسريعًا ما تذهب أدراج الرياح، وكثيرا ما يصاحبه الخوف واليأس والكذب. ويعُلق القديس يوحنا الذهبي الفم" لأن ما يعطيه العالم يمسُّ الجسد ويُحدّ بالزمن والمكان، أما سلام المسيح فيحتضن كيان الإنسان كله، ولا يقدر زمن ما أو مكان ما أن يحدّه. إنه يسحب أعماق الإنسان لتختبر الأبدية". سلام العالم هو سلام ناقص لما يصحبه من الخوف واليأس، وبالتالي فهو سلام زائل. أمَّا عبارة "فلا تَضْطَرِبْ قُلوبُكم" فتشير إلى سبب عدم اضطراب قلوب التلاميذ، وهو أن يسوع وإن كان ذاهبًا عنهم إلاَّ أنه سيأتي إليهم. "أَنا ذاهِبٌ، ثُمَّ أَرجعُ إِلَيكمُ" (يوحنا 14: 28)؛ إنه ذاهب للاستلام الملكوت والسلطان والقوة لحسابهم، لذا فان من الأجدر بهم أن يفرحوا بما سيتمتعون به. ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "لأن سلام المسيح أبدي، ليس من قوة تقدر أن تنزعه عن الإنسان المُتمسك به. فهو عمل النعمة الغنيَّة التي تحفظ الإنسان في القداسة والبر". أمَّا عبارة "لا تَفْزَعْ" فتشير إلى الخوف من المجهول والضيق والاضطهاد والموت أو بسبب شدة الحزن. وهنا نجد التلاميذ فعلًا أنّهم في حالة اضطراب بسبب ما سمعوه من أن أحد التلاميذ ينكره وآخر يسلمه وأن يسوع سيُفارقهم، بل سمعوا أنه سيموت، فشعروا بخيبة أمل في مملكة توقعوا قيامها، لأن مصدر الخوف هو فقدان الصلة بالله، والصلة تأتي بالتمسك بالله من خلال الإيمان، والمسيح يُطمئنهم حتى لا يتزعزع إيمانهم (متى10: 16-22). فسلام المسيح يجعل قلوبنا لا تضطرب، لا بالهروب بل بالحضور، فسلامه يرفعهم فوق ذواتهم ويسكن في قلوبهم ويملك عليهم (قولسي 3: 15) فيخمد اضطرابهم. الاضطراب والخوف هو الداء، والإيمان بالله هو الدواء. ويُعلق البابا فرنسيس " إنَّ العيش بسلام مع يسوع هو عيش هذه الخبرة في الداخل، والتي تبقى خلال جميع المِحن والصعوبات والاضطهادات، ويُمكننا أن نفهم هذا الأمر فقط عندما يكون الروح القدس في داخلنا ويعطينا سلام يسوع ". أمَّا عبارة "قلوبكم" فتشير إلى مصدر الشعور والعواطف، وتشير استخدامها في اللغة العبرية לְבָבְ إلى الشخص كاملا روحا وفكرا وعاطفة وإرادة (تثنية الاشتراع 6: 5). يعطنا الرب السلام الذي يأتي من الروح القدس، ذلك السلام الذي يأتي منه ويساعدنا احتمال العديد من صعوبات الحياة. في هذه الآية تعزية خامسة للتلاميذ على فراقه المسيح لهم. الأولى اجتماعهم به في السماء (يوحنا 14: 2-3)، والتعزية الثانية صنعهم أعمالا أعظم من أعماله (يوحنا 14: 12) والثالثة إجابة صلواتهم (يوحنا 14: 13-14) والرابعة مجيء المعزي (يوحنا 16: 26).
28 سمِعتمُوني أَقولُ لَكم: أَنا ذاهِبٌ، ثُمَّ أَرجعُ إِلَيكمُ. لو كُنتُم تُحِبُّوني لَفَرِحتُم بِأَنِّي ذاهِبٌ إلى الآب لأَنَّ الآبَ أَعظَمُ مِنِّي
تشير عبارة " أَرجعُ إِلَيكمُ" إلى عودة يسوع إلى تلاميذه لإتمام عمل الخلاص الذي بدأ في الفصح غامرً إيَّاهم بعطايا السلام والفرح. لذلك لدى عودة المسيح لن تبقى حياتنا ملكًا لنا، بل ستصبح حياة متحدة بالله، وتستمر شركة المحبة بين الاقانيم الثلاثة. ويقصد يسوع رجوعه إليهم بالروح كل حين ليُعزِّيهم ويُعينهم ويُعلمهم ويَعدهم بالذهاب إليه (يوحنا 14: 3)، وقد رجع يسوع لمَّا قام من الموت رئيسا للحياة، ولمَّا أرسل الروح القدس، وهو مع الكنيسة كل حين ويرجع إلى كل مؤمن عند موته (فيلبي 1: 23) وسوف يرجع يوم مجيئه الثاني العظيم (1 تسالونيقي 4: 17). أمَّا عبارة "لو كُنتُم تُحِبُّوني لَفَرِحتُم بِأَنِّي ذاهِبٌ إلى الآب" فتشير إلى عدم محبتهم له؛ وليس المراد هنا لأنه عرف يسوع انهم يحبونه، إنَّما أراد أن يُظهر لهم أن محبتهم غير كاملة، لأنهم اظهروا بشدة حزنهم على فراقه. وفي الحقيقية، على قدر إخلاص التلاميذ ليسوع، يفرحون بذهابه، لأنَّ رجوعه إلى الآب سيضمن بركة سلامه الفعالة وفرح لهم؛ أمَّا عبارة " ذاهِبٌ إلى الآب" فتشير إلى رحيل يسوع بموته ثم وصعود إلى الآب، فان عودة يسوع إلى الآب تثبِّته في مجده كابن الله وشفاعته لتلاميذه وإرسال إليهم الروح القدس. أمَّا عبارة "الآبَ أَعظَمُ مِنِّي" فتشير إلى الآب في مجده ووظيفته الذي هو أعظم من حالة الابن في تجسُّده (يوحنا 1: 14) الذي أخلى ذاته وصار إنساناً وتنازل ليُحقِّق خلاصنا (فيلبي 2: 7)؛ فصار في تنازله كمن هو أقل من الآب في المجد حسب ناسوته؛ والآب أعظم من الابن أيضا من حيث الأبوة، وليس من حيث الطبيعة والجوهر والمقام لانهما متساويان. انه في البنوة في حالة مَنْ يطيع. وقد أطاع حتى الموت موت الصليب (فيلبي 8:2). ويسوع باعتباره الابن، يخضع طواعية للآب. وبهذا المعنى فإنَّ "الابن" هو أصغر من الآب وأقل درجة منه وهذه العظمة لم تكن دائمة بل وقتية كما جاء في تعليم بولس الرسول" لِذلِك رَفَعَه اللهُ إِلى العُلى ووَهَبَ لَه الاَسمَ الَّذي يَفوقُ جَميعَ الأَسماء. كَيما تَجثُوَ لاسمِ يسوع كُلُّ رُكبَةٍ في السَّمَواتِ وفي الأَرْضِ وتَحتَ الأَرض ويَشهَدَ كُلُّ لِسانٍ أَنَّ يسوعَ المسيحَ هو الرَّبّ تَمْجيدًا للهِ الآب"(فيلبي 2: 9 -11). فالمسيح كإنسانٍ هو أقل من الآب، والمسيح كإلهٍ مساوٍ لله لآب، (يوحنا 30:10)؛ فالآب والابن واحد في الطبيعة وفي الجوهر. فالعلاقة بين الآب والابن هي علاقة مُساواة في الأزلية وفي العمل، وهي علاقة انسجام كامل بين الآب والابن. وان الابن يشارك الآب في قدرته وطبيعته "أَنا والآبُ واحِد" (يوحنا 10: 30). وبالتالي فان مقارنة هنا بين الآب والابن تشير إلى الوظيفة والعمل، وليس للقيمة الشخصية والمقام، لأنهما واحد في الجوهر والطبيعة واللاهوت (يوحنا 17: 11) إذ "ففِيه يَحِلُّ جَميعُ كَمالِ الأُلوهِيَّةِ حُلولا جَسَدِيًّا" (قولسي 9: 9). وفي سياق الكلام هنا لا توجد إشارة إلى نقص الابن عن الآب، إنَّما إشارة إلى حالة الابن المتجدد المتواضعة التي ستتحوّل إلى تمجيد صادر عن الآب حيث أنَّ يسوع "هو الَّذي في صُورةِ الله لم يَعُدَّ مُساواتَه للهِ غَنيمَة بل تَجرَّدَ مِن ذاتِه مُتَّخِذًا صُورةَ العَبْد وصارَ على مِثالِ البَشَر وظَهَرَ في هَيئَةِ إِنْسان" (فيلبي 2: 6-7). وهذا التمجيد هو ينبوع خيرات روحيّ للتلاميذ وللكنيسة. ويعزِّي هنا المسيح تلاميذه عن فراقه لهم بالموت، ويشرح لهم أن الموت هو الطريق الوحيد للخلود وبذهابه سيرسل لهم الروح القدس الذي يكشف لهم حقيقة شخصية المسيح، فيفرحون بأن المسيح بجسده سيكون له نفس مجد الآب. وهذا سيعود بالبركة على تلاميذه (عبرانيين 12:9) وعلى الكنيسة (لوقا 24: 26).
29 لقَد أَنبَأتُكم مُنذُ الآنَ بِالأَمرِ قَبلَ حُدوثِه حَتَّى إِذا حَدَثَ تُؤمِنون
تشير عبارة "أنبَأتُكم" إلى أقوال المسيح عمَّا سيحدث للتلاميذ، فيستطيعون أن يدركوا أنَّ مخطط حياتهم هو في يد الرب. أمَّا عبارة "الآنَ" فتشير إلى يسوع الذي هو على وشك الرحيل. تؤكد الآية إلى أقوال المسيح عن الأحداث التي ستجرى كي يزيد من تفهم التلاميذ لهذه الأحداث ويثبِّت إيمانهم. أمَّا عبارة "قَبلَ حُدوثِه حَتَّى إِذا حَدَثَ تُؤمِنون" فتشير إلى المسيح الذي يُخبر تلاميذه بكل ما سيحدث من موت وقيامة وصعود وإرسال للروح القدس، حتى حينما يتمُّ ذلك يزداد إيمانهم به. أمَّا عبارة "بِالأَمرِ قَبلَ حُدوثِه" فتشير إلى قبل موت يسوع على الصليب ودفنه. أمَّا عبارة " تُؤمِنون" فتشير إلى ازدياد الإيمان بان المسيح حقا رسول الآب. لولا هذه النبوءة زادت شكوك التلاميذ كثيرا يوم رأوه محكوما عليه ومصلوبا.
30 لن أُطيلَ الكَلامَ عَلَيكُم بَعدَ ذلك لأَنَّ سيِّدَ هذا العالَمِ آتٍ ولَيسَ لَه يَدٌ علَيَّ
تشير عبارة "لن أُطيلَ الكَلامَ عَلَيكُم بَعدَ ذلك" إلى بقاء من حياة يسوع على الأرض بضع ساعات. أمَّا عبارة "سيِّدَ هذا العالَمِ" فتشير إلى إبليس (يوحنا 6: 7)، رئيس هذا العالم، كما جاء في رسائل بولس الرسول (أفسس 2: 2)، لأنه "يرأس الخطأة الذين قد أسلموا إليه ذواتهم" كما يُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم. ودُعي أيضا سيد هذا العالم "إله هذا العالم" (2 قورنتس 4: 4) ودُعي أيضا الشيطان (يوحنا 13: 27) وهي القوة المعادية للسيادة الإلهية (يوحنا 6: 70-71)؛ وذلك بسماح الله له بالعمل؛ إذ يأتي إبليس في وقت آلامه ليجرِّبه. أمَّا عبارة "لَيسَ لَه يَدٌ علَيَّ " فتشير إلى الشيطان الذي يحكم العالم لكن ليس له سلطان على يسوع، ولا سبيل له إلى الانتصار عليه، لأن يسوع بلا خطيئة كما جاء في تساؤل يسوع لليهود "مَن مِنكم يُثبِتُ عَليَّ خَطيئة؟ (يوحنا 8: 46)، ولانَّ يسوع بلا خطيئة فليس للشيطان سلطان عليه أو دعوى ضده. وهذه حجة قاطعة على كمال قداسة المسيح، إذ يتقبل المسيح الآلام بمجرد حريته، فإنه يُعبّر بطاعته التامة عن محبته للآب (يوحنا 4: 34). وبانتصار يسوع على إبليس بالصليب سيؤدي حتماً إلى هزيمة الشيطان وإبعاده عن العالم "اليَومَ يُطرَدُ سَيِّدُ هذا العالَمِ إلى الخارِج" (يوحنا 12: 31). وهكذا لا تكون آلام المسيح عمل الشيطان الذي دخل في يهوذا الإسخريوطي، بل نتيجة حرية الابن الذي أطاع محبة للآب كما أعلن يسوع "طَعامي أَن أَعمَلَ بِمَشيئَةِ الَّذي أَرسَلَني وأَن أُتِمَّ عَمَلَه" (يوحنا 4: 34).
31 وما ذلِكَ إِلاَّ لِيَعرِفَ العالَمُ أَنِّي أُحِبُّ الآب وأَنِّي أَعمَلُ كما أَوصاني الآب. قوموا نَذْهَبْ مِن ههنا
تشير عبارة "لِيَعرِفَ العالَمُ أَنِّي أُحِبُّ الآب" إلى يسوع الذي بتألمِّه وبصليبه يكشف للعالم محبته للآب باحتماله تجربة إبليس وبانتصاره عليه إذ " قَدِ امتُحِنَ في كُلِّ شَيءٍ مِثْلَنا ما عَدا الخَطِيئَة" (العبرانيين 4: 15)؛ أمَّا عبارة "وأَنِّي أَعمَلُ كما أَوصاني الآب" فتشير إلى عمل يسوع بمشيئة الآب من أول حياته إلى آخرها. وهذا يتضمن تجسُّده ووضع نفسه تحت الشريعة وتكميله كل برِّ واحتماله تجربة إبليس وعار الناس وبغضهم وموته كفارة عن العالم. أمَّا عبارة "قوموا نَذْهَبْ مِن ههنا" فتشير إلى نهاية الخطاب من حوار يسوع مع تلاميذه بعد العشاء الأخير (مرقس 14: 42)، لذلك سأل تلاميذه أن يقوموا ويغادروا العليَّة وينطلقوا بعد أن عرفوا أنه يذهب إلى الموت ليس كُرهًا بل طوعًا وحبَّا للآب. وخرج يسوع مع تلاميذه إلى عبر وادي قدرون (يوحنا 18: 1)
ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (يوحنا 14: 23-31)
انطلاقا من هذه الملاحظات الوجيزة حول وقائع النص الإنجيلي (يوحنا 14: 23-29)، يمكن أن نستنتج انه يتمحور حول خطاب سيدنا يسوع المسيح في وداعه في العشاء الأخير حيث يشدّد عزائم تلاميذه ويحثَّهم على محبته بحفظ وصاياه كي ينالوا السلام. ومن هنا نبحث في نقطتين: المحبة ليسوع، ونيل السلام.
1) محبتنا ليسوع (يوحنا 14: 23)
أهمية المحبة: -
حثَّ يسوع تلاميذه على المحبة التي وردت ثمانية مرات في هذا النص الإنجيلي. يسوع قريب من تلاميذه ويُريد منهم أن يُحبُّوه. ويتصف الحب الصادق بالخضوع لمن نُحبه، لانَّا عندما نُحب شخصا، نستطيع أن نتخلى بحرية عن وجهة نظرنا الشخصية لتتلاءم بين إرادته ورغباته، لتُصبح رغبته رغبتنا. فالمحبة تُحرّك قلوبنا وعقولنا وأفكارنا، وتقود كافة أعمالنا. إنّ محبّة الربّ هي الوسم الّذي يُميّز تلميذ المسيح على شَبَه معلمه الإلهي الذي جوهر كيانه محبة. تأتي المحبّة قبل الطاعة، وقبل التقيّد بالشريعة، لأنّ المحبّة هي مصدر كلّ طاعة وكلّ تقيّد بشريعة الربّ.
حاجة المحبة: -
هناك حاجة لأن يكون القلب ممتلئاً بالمحبّة، والّذي يمنح هذه المحبّة هو الربّ يسوع وحده. يُعطينا الربّ يسوع محبّته، ونحن نُحبّه بهذه المحبّة الإلهيّة، وفي محبّتنا له نتقيّد بالوصايا، ونعيش بموجب شريعته المقدّسة، ونحوّل أسلوب كياننا وعملنا، ورؤيتنا وسلوكنا، لأنّ المحبّة تدفعنا إلى كلّ طاعة.
العلامة المحبة: -
العلامة الحسيّة لهذه المحبّة هي في عيش الوصايا. لان محبّة الإنسان لله ليست محبّة نظريّة، بل محبّة عمليّة، هي في أن نحيا في حياتنا وصايا الرّب يسوع، والوصيّة التي أعطاها كخلاصة الوصايا والتعاليم هي وصيّة المحبّة. المحبة هنا ليس مجرد شعور بل حياة من الطاعة والعمل، لذلك السبيل إلى محبة يسوع هو حفظ وصاياه وطاعته. فالطاعة هي الطريق المؤدي إلى الحياة، وهي الطريق الوحيد للبقاء في الحب. هذا هو السبب الذي لأجله يقول يوحنا في رسالته: "مَن قالَ: إِني أَعرِفُه ولَم يَحفَظْ وَصاياه كان كاذِبًا ولَم يَكُنِ الحَقُّ فيه" (1 يوحنا 2: 4). فبرهان حُبِّنا الحقيقي ليسوع هو عندما نحفظ وصاياه. ويُعلق القديس أوغسطينوس " الذي عنده (وصاياي) في ذاكرته ويحفظها في حياته؛ الذي عنده في شفتيه ويحفظها سلوكيًا؛ الذي عنده في أذنيه ويحفظها في العمل؛ الذي عنده في الأعمال ويحفظها بالمثابرة، مثل هذا "يحبني". بالعمل يُعلن الحب، وبالتطبيق بغير ثمر يكون مجرد الاسم (للحب) ".
عمل المحبة: -
تنشئ المحبة رباطاً وثيقاً بين يسوع والتلميذ الأمين لوصاياه، ولكن يسوع لا ينفصل عن الآب، فوجود الواحد لا يُعقل دون وجود الآخر "أَنا والآبُ واحِد" (يوحنا 10: 30)، لذا يَعد يسوع بمجيء الآب والابن إلى التلميذ الذي يحفظ الوصايا "إذا أَحَبَّني أَحَد حَفِظَ كلامي فأحَبَّه أَبي ونأتي إِلَيه فنَجعَلُ لَنا عِندَه مُقاماً" (يوحنا 14: 23). اجل! يسكن يسوع في قلوب الذين يؤمنون به، ويفتحون أبواب قلوبهم على مصراعيها، عن حب ورضا وقناعة. لكنه لا يظهر نفسه إلاّ للذين يحبونه، لأنه يحترم حرة الفرد، فلا إكراه في الحب.
ويُحذِّر السيد المسيح من محبة العالم ومباهجه الباطلة التي تُحرمهم من حفظ كلامه الذي هو كلام الآب؛ وبهذا يُعلنون عن حُبِّهم للظلمة لا للنور، للشيطان لا للمسيح. فلن يكون للمسيح ولا للآب السماوي موضع فيهم. وفي هذا الصدد يقول القديس يوحنا الذهبي الفم "من لا يحفظ الوصايا لا يحب يسوع المسيح فقط، لكنه لا يحب أبيه أيضًا، وإن كانت دلالة الحب هي الاستماع للوصايا، فمن يسمعها لا يُحب الابن فقط، لكنه يُحب معه أباه أيضًا".
أدخل يسوع تلاميذه في عالم الإيمان؛ وأصبح الإيمان حبَّاً حيث أنَّ حضور الآب والابن والروح القدس هو تعبير عن وعد للتلميذ الذي يُحبُّ. "إذا أَحَبَّني أَحَد حَفِظَ كلامي" (يوحنا 14: 23)، ويطلب يسوع الطاعة والمحبة اللتين كان الله يوصي بهما في العهد القديم "أَحبِبِ الرَّبَّ إِلهَكَ بكُلِّ قَلبكَ كلِّ نَفسِكَ كلِّ قُوَّتك" (ثنية الاشتراع 6: 5). فحِفْظُ التلميذِ للكلمة وأمانتُه لها، يضمنان له حياة صداقة مع الله الذي كشف عن ذاته في عمق حياتِه في الأقانيم الثلاثة.
سكنى يسوع في نفس المُحب: -
ويعلم يسوع انه على وشك الرحيل، ويبدو للتلاميذ أن معلمهم سيتركهم للذهاب إلى الموت. فيُعلن يسوع عن حبِّه بحضوره بالذات في أقنوم الروح القدس. فيقول يسوع "أَنا ذاهِبٌ، ثُمَّ أَرجعُ إِلَيكمُ" (يوحنا 14: 28) يبيِّن أنَّ الفراق شرط لحضوره الحميم والكامل في ملء تجلي شخصه الإلهي؛ يحضر يسوع سريا في نفس المؤمن بالرغم من غيابه جسديا. فيكون التلميذ مضيافاً وهيكلاً لله الآب والابن والروح القدس. فليس مقام الله هيكلا من حجارة، بل مقامه في قلب الإنسان كما يؤكد ذلك بولس الرسول بقوله "أو ما تَعلَمونَ أَنَّ أَجسادَكُم هي هَيكَلُ الرُّوحِ القُدُس، وهو فيكُم قد نِلتُمُوه مِنَ الله" (1 قورنتس 6: 15).
والدعوة الإنجيلية إنَّما هي قبول كلام المسيح وحفظ وصاياه، فعندئذٍ يحبّنا الله الآب ويجعل له مسكنا فينا وبيننا كما جاء في تعليم يسوع "إذا أَحَبَّني أَحَد حَفِظَ كلامي فأحَبَّه أَبي ونأتي إِلَيه فنَجعَلُ لَنا عِندَه مُقاماً" (يوحنا 14: 23). وفي هذا الصدد يقول صاحب المزامير " هذا هو مَكانُ راحَتي لِلأبد ههُنا أَسكُنُ لأَنَّي اْشتَهَيتُه " (مزمور 132: 14). وحيث الله فهناك سلام المسيح. ويُعلق الراهب العلامة القديس برناردُس " أيّ مكان في داخلنا أهلٌ لهذا المجد؟ أيّ مكان يكفي لاستقبال جلاله؟ وإلاّ يمكنني ربّما، أن أقدّم في نفسي، " عُلِّيَّةً كبيرَةً مَفْروشَةً مُهَيَّأَةً، يأكل فيها مع تلاميذه" (مرقس 14: 15)، على الأقلّ " ما يَضَعُ علَيهِ رَأسَه " (متى 8: 20) (العظة 27).
2) سلام يسوع لنا (يوحنا 14: 28-31)
سلام المسيح لتلاميذه: -
يتكلم يسوع عن السلام في الوقت الذي كان التلاميذ يتعرضون فيه للقلق والاضطراب، لأنها ساعة يمضي فيها يسوع إلى الألم والموت. فيحاول يسوع بكلمات التعزية أنْ يرفع معنويات تلاميذه بإعطائهم سلامه "السَّلامَ أَستَودِعُكُم وسَلامي أُعْطيكم" (يوحنا 24: 27)، بهذا الكلام بعث يسوع في قلب تلاميذه الطمأنينة والأمان وابعد عنهم أسباب الاضطراب والقلق، ورسم فيهم صورته كما يعلق القدّيس كولومبانُس " كتبَ موسى في الشريعة: "قال الله: لِنَصنَعِ الإنسانَ على صورَتِنا كَمِثالِنا" (تكوين 1: 26) دعونا لا نرسمُ صورةً غريبةً. بل َلنسمحْ للرّب يسوع المسيح بأن يرسمَ فينا صورتَه. وقد رسمَها عندما قال: "السَّلامَ أَستَودِعُكُم وسَلامي أُعْطيكم"." (التعليم 11: 1-4). السلام في الإنجيل هو ليس فكرة مجردة وليس نتيجة مبادرات إنسانية أو ثمرة تصرف أخلاقي أو اجتماعي" لا أُعْطي أَنا كما يُعْطي العالَم" (يوحنا 14: 27)، إنما السلام هو خبرة العيش في حب المسيح كما يقول المسيح "اُثبُتوا في مَحَبَّتي. " (يوحنا 15: 9). ومن هذا المنطلق، إنَّ سلام المسيح أبدي، يحفظ الإنسان في القداسة والبر؛ وليس من قوة تقدر أن تنزعه عن الإنسان المتمسك به. ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "ما دام السلام يشملكم فما الذي يضركم من العالم؟" هو(المسيح) سلامنا، سواء عندما نؤمن بأنه هو، أو عندما نراه كما هو (1 يوحنا 3: 2)، لانَّ الله قد أعلن السلام بيسوع المسيح إذ جعله "ربا للعالمين" (رؤية 11: 15). ويعلق القديس الراهب الروسي سيرافيم الساروفيّ " ليس هناك أفضل من السلام في ربّنا يسوع المسيح. هذا السلام، هذا الكنز النفيس، قد تركَه ربّنا يسوع المسيح لتلاميذه قبل موته" (تعليم روحي (من كتابات ناسك روسي)
سلام المسيح يختلف عن سلام العالم: -
يختلف سلام يسوع كليا عن السلام الذي يمنحه العالم. سلام العالم هو سلام قائم على العنف، وعلى الحرب وعلى فرض السيطرة. لقد طلبنا السلام من صانعي القرار العالمي، فصدروا لنا الحروب والمآسي. طلبنا تدخل المجتمع الدولي لرفع الظلم عنا وإعطائنا الضمانات اللازمة للعيش بسلام. فزدنا اضطراباً وقلقاً. وفي الواقع، يبدو أنّ عدد اتفاقيات السّلام في العالم منذ سنة 2400 قبل المسيح وحتى يومنا هذا بلغ 134 اتفاقيّة. فأين هو هذا السَّلام؟ إذا كنّا نظن أن السلام يُمكن لأي بشرٍ أن يُعطيه سنصاب حتماً بالخيبة. لذلك إذا طلبنا السلام من العالم سنحصل على أعمال يمتلكها العالم وهي من ثمار الجسد " وهي الزِّنى والدَّعارةُ والفُجور وعِبادةُ الأَوثانِ والسِّحرُ والعَداوات والخِصامُ والحَسَدُ والسُّخطُ والمُنازَعاتُ والشِّقاقُ والتَّشيُّع والحَسَدُ والسُّكْرُ والقَصْفُ وما أَشبَه" (غلاطية 5: 19-21).
أمَّا سلام المسيح فهو ليس فكرة مجردة وليس نتيجة مبادرات إنسانية أو ثمرة تصرف أخلاقي أو اجتماعي بل ينشأ من خلال خبرة العيش في حب المسيح وحفظ وصاياه. السلام لا يُستورد من الخارج. لا يُشترى ولا يُباع. سلام المسيح مصدره سلام الله في قلب الإنسان. سلام المسيح هو سلام الرّوح القدس، سلام المحبّة، سلام التضحيّة، سلام الوداعة، سلام يسعى إلى العدالة الحقّة، واحترام حقوق الشعوب، واحترام الحياة. سلام يقدر بقوّته أن يبدّل داخل التلاميذ ويحوّل العالم إلى واحة سلام. هو سلام الرّب يرافق كنيسته المنطلقة إلى مجتمع يرفضها ويضطهدها، لأنّها تعلن القيم المختلفة، تعلن قيم الرّب وتزرع في العالم ثمار الرّوح القدس. سلام المسيح نعمة تحل فينا من عَلُ، كما يقول صاحب المزامير "الرَّبُّ يُبارِكُ بِالسَّلامِ شَعبَه" (المزمور 29: 11). لذلك إذا طلبنا السلام من الله سنحصل عليه، لأنه من ثمار الروح وهي: " المَحبَةُ والفَرَحُ والسَّلام والصَّبرُ واللُّطْفُ وكَرَمُ الأَخْلاق والإِيمانُ والوَداعةُ والعَفاف" (غلاطية 5: 22-23).
هذا السلام هو عطية مجانية من حيث انه من النعم المسيحانية التي أعلنها الأنبياء: أشعيا (9: 5) وحزقيال (34: 25) وميخا (5: 4) وزكريا (9: 10). وقد صار هذا السلام ممكناً عبر التزام بالطاعة للآب. ويرتبط هذا السلام بشخص يسوع، لأنه يرتبط بالخلاص الذي يمنحه يسوع للتلاميذ. وقد حقَّق يسوع سلامه بعد كفاح طويل وصراع ونضال ضد قوى الشر، لان سيد العالم (إبليس) يقاوم رسالته. لا مكان للاضطراب والفزع في سلام المسيح، ويُعلّق الراهب الكبوشي القدّيس بيّو "إنّ الاضطراب لا يكون أبدًا من الله، بل من الشيطان؛ فكون الله هو روح سلام، لا يمكن أن يعطي سوى الصفاء".
سلام ثمرة ذبيحة يسوع: -
السلام من وجهة نظر يوحنا الإنجيلي هو ثمر ذبيحة يسوع المسيح (يوحنا 16: 33). فقد حقّق المسيح السلام بدمه على الصليب (قولسي 1: 20). المسيح حقق السَّلام بدمه. على الصّليب، ووحّد البشر من خلال كشفه لشرورهم ووضعهم أمام هذه الشرور: "سَيَنظُرونَ إلى مَن طَعَنوا" (يوحنا 19: 37). على الصّليب انتصر يسوع على الخطيئة والشرّ وعلى آخر عدو لنا ألا وهو الموت. وبموته صالح البشر ووحّدهم. فلم يعد سلام يسوع مرتبطاً بحضور يسوع على الأرض، بل يتعلق بانتصاره على العالم. لم يأتِ المسيح ليلاشي الحرب، بل ليضيف سلاما آخر، ألا وهو السلام الفصحى الذي يعقب الانتصار النهائي (لوقا 24: 36). ولذا فيما انه تغلب على الموت يعطي يسوع، مع سلامه الروح القدس وسلطة غفران الخطايا (يوحنا 20: 19-23).
ترك السيد المسيح لتلاميذه الذين تركوا كل شيء وتبعوه "سلامه". ويعلّق القديس يوحنا الذهبي الفم بقوله "إنه يتركهم ليس في حزنٍ ومرارةٍ، بل في سلامٍ ليهبهم ميراثًا ثمينًا، هو سلامه! هو نفسه سلامنا (أفسس 2: 14)، إنه أورثنا ذاته سلامًا لنا". يستمر هذا السلام في خِضَم المِحَن، ولن تعكّر المصائب صفاءَه، كما يقول القديس بولس: " فلَمَّا بُرِّرْنا بِالإِيمان حَصَلْنا على السَّلامِ مع اللهِ بِرَبِّنا يسوعَ المَسيح، ... وَنَفْتَخِرُ بِالَّرجاءِ لِمَجْدِ الله، لا بل نَفتَخِرُ بِشَدائِدِنا نَفْسِها لِعِلمِنا أَنَّ الشِّدَّةَ تَلِدُ الثَّباتَ والثَّباتَ يَلِدُ فَضيلةَ الاِختِبار وفَضيلةَ الاِختِبارِ تَلِدُ الرَّجاء والرَّجاءَ لا يُخَيِّبُ صاحِبَه،َ لأَنَّ مَحَبَّةَ اللّه أُفيضَت في قُلوبِنا بِالرُّوحَ القُدُسِ الَّذي وُهِبَ لَنا" رومة 5: 1-5).
يتوجب على التلاميذ أن يفتحوا قلوبهم لوعد العهد الجديد الذي سيختمه معلمهم بدمه الكريم على الصليب. وهذا الوعد يختصر بكلمة السلام هذه. هذا السلام القائم على وعد قاطع بالطمأنينة المطلقة "سمِعتمُوني أَقولُ لَكم: أَنا ذاهِبٌ، ثُمَّ أَرجعُ إِلَيكمُ. لو كُنتُم تُحِبُّوني لَفَرِحتُم بِأَنِّي ذاهِبٌ إلى الآب لأَنَّ الآبَ أَعظَمُ مِنِّي" (يوحنا 14: 28) هو قمة العطاء والمسيحاني "لِأَنَّه قد وُلدَ لَنا وَلَدٌ وأُعطِيَ لَنا آبنٌ فصارَتِ الرِّئاسةُ على كَتِفِه ودُعِيَ أسمُه عَجيباً مُشيراً إِلهاً جَبَّاراً، أَبا الأَبَد، رَئيسَ السَّلام" (أشعيا 9: 5) وعلامة ملكوت الله، فبهذا المعنى يسمِّيه يسوع "سلامي" (يوحنا 14: 27).
حفظ الوصايا طريق السلام: -
السبيل إلى السلام هو في حفظ كلمة الله ووصاياه، وحفظ كلمة الله له شروطه وأسبابه، "من تلقّى وصاياي وحفظها فذاك الذي يحبني "إذا كنتم تحبوني، حفظتم وصاياي" (يوحنا 14: 15). وينال المؤمن من خلال حفظ الوصايا سلام المسيح وبهذا تتحقق نبوءة حزقيال النبي "أَقطَعُ لَهم عَهدَ سَلام. عَهدٌ أَبَدِيّ يَكونُ معَهما، وأُقيمُهم وأكَثِّرُهم وأَجعَلُ مَقدِسي في وَسطِهم لِلأَبَد" (حزقيال 37: 26). ويعلق البابا فرنسيس يتوجب على المسيحي أن يكون رجل سلام ويسعى لنشر السلام في محيطه "طوبى لفاعليّ السلام". المسيحي لا بقدر لا أن يُعلن حربا أو أن يحامي عن الحرب أو يُبرِّرَها، دون أن يخسر هويّتَه كمسيحي"(عظة 2007.05.11 لدى زيارته للبرازيل). المسيحي هو ذاك الّذي يمارس الوصية الجديدة. ويعلق مارتن لوثر " نحن نحاول أن نفهم الأسرار الخفية، لكنّنا لسنا قادرين أن نمارس أبسط الوصايا:" أجبب قريبك كنفسك! فهل نقدر أن نبني بيتاً بدون أساس؟ وهل نقدر أن نبي السلام دون محبة الآخر؟".
إذًا محبّة الربّ هي بحفظ وصاياه والعمل بها. من أحبّ بذل. إذ أن الحبّ يتعارض مع الأنانية أي حبّ الذات. وما حفظ الوصايا سوى ترك ورفض للإرادة الشخصية، للأهواء، للذات. حفظ الوصايا هو الطاعة وتغيير الذّات هو كفر وزهد بالذّات. " مَن أَرادَ أَن يَتبَعَني، فَلْيَزْهَدْ في نَفسهِ (لوقا 9: 23). فحفظ كلمة المسيح لا يعني أن تقوم ببعض الفروض، ولا أن نتلو بعض الصلوات تلاوة آلية روتينية، إنما حفظ كلمة المسيح هو فعل إرادة قوي؛ به نسمع كلمة الله، وبه نعمل بما توصي هذه الكلمة، أن الأبنية العظيمة قامت من حجارة صغيرة وكذلك حفظ وصايا الله يجب أن يبدأ من الأمانة للأمور اليومية الصغيرة. لذلك سماع كلمة المسيح، دون العمل بها، لا تجدي نفعا في الحياة الروحية.
الخلاصة
نجد توما الرسول يطرح سؤالاً في الفصل الرابع عشر من إنجيل يوحنا ويسوع يجيب عنه (يوحنا 14: 5-7)، ومن ثَمَّ يطرح فيليبّس الرسول سؤالاً فيجيب يسوع أيضاً (يوحنا 14: 8-21)، وبعدئذٍ يطرح يهوذا سؤالا ويحصل على التعليم من الرّب حول محبته وحفظ وصاياه ونيل سلامه (يوحنا (14: 22-26).
يرغب الإنسان من أعماق قلبه في السلام. والسبيل الذي يسلكه لاقتناء السلام وهو الإصغاء لصوت المسيح الذي وعد بمنح السلام، إذ وعد السيد المسيح تلاميذه ليلة آلامه: "السلامَ أستَودِعُكُم وسَلامي أُعطيكم" (يو14: 27). هذا هو الإرث الذي تركه لنا: كلّ المواهب وكلّ المكافآت التي وعدنا بها كانت مرتبطة بالمحافظة على السلام. إن كنّا ورثة المسيح، فلنَحافظ على سلام المسيح. إن كنّا أبناء الله، نكون مسالمين: "طوبى للسَّاعينَ إلى السَّلام فإنَّهم أبناءَ اللهِ يُدعَون" (متى5: 9).
يتوجب على أبناء الله أن يكونوا مسالمين، ومن ذوي القلوب الطيِّبة وبسطاء، وفي توافق تامّ من خلال المحبّة ومتّحدين برباط الفكرة الواحدة. لأنه وراء كل الهموم يوجد سلام الله الذي يفوق كل إدراك، فهو يحفظ قلوبنا وأفكارنا في المسيح يسوع (فيلبي 4: 6-7).
قبل رحيله يستودعنا يسوع سلامه لنكون صانعي سلام. فلا ننسى أن كل مسيحي هو رسول سلام من العالم للعالم. "وسَلامي أُعْطيكم": لكن أي سلام ننقل للعالم؟ هو سلام يسوع المسيح الذي هو مصدره ومنبعه، بل حضور يسوع هو حضور سلاميّ. فجوهر رسالته على الأرض أن يزيل سلطان الخطيئة عن كاهل الإنسان فيُصالحه مع الله وذاته والقريب، فيردَّ له حالة السلام الأولية. إنه "رئيس السلام" (أشعيا 5: 9). أعطنا السّلام، أيّها الحمل الّذي ذبح من أجل خلاصنا (رؤيا 5: 6)، يا "حَمَلَ اللهِ الَّذي يَرفَعُ خَطيئَةَ العالَم، أعطنا السّلام". (يوحنا 1: 29).
دعاء
لنرفع مع أمِّنا الكنيسة صلاة السلام التي نتلوها في كل قداس:
"أيها الربُ يسوع المسيح، يا من قلتَ لرسلك: "السلامَ أستودعُكم، سلامي أمنحُكم"
لا تنظر إلى خطايانا، بل إلى إيمان كنيستك،
وتنازل وأولِها الوحدَةَ والسلامَ، بحسبِ مشيئتِكَ".
فيا رب السلام أمطر علينا السلام
يا رب السلام املأ قلوبنا سلام،
السّلام بين البشر، والسّلام الداخليّ والأهم سلام القلب.
الأب لويس حزبون - فلسطين


رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

الانتقال السريع

قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً
الموضوع
السَّلامَ أَستَودِعُكُم وسَلامي أُعْطيكم في الكتاب المقدس
الثالوث في خطاب الوداع في الكتاب المقدس
السَّلامُ عَلَيكِ يا مَسكِنَ العَلِيِّ
صلاة باكر السَّلامُ لَكِ |تصميم|
أوباما في «خطاب الوداع» لا نخشى من الإرهاب و«داعش»


الساعة الآن 10:41 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024