|
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
كيف تُعِلّم أخَاك وتُعامله دون رِياء؟
الأحد الثامن من السنة: كيف تُعِلّم أخَاك وتُعامله دون رِياء؟ (لوقا 6: 39- 45) النص الإنجيلي (لوقا 6: 39-45) 39 وضَرَبَ لَهم مَثَلاً قال: ((أَيَستَطيعُ الأَعمى أَن يَقودَ الأَعمى؟ أَلا يَسقُطُ كِلاهُما في حُفرَة؟ 40 ما مِن تِلميذٍ أَسمى مِن مُعَلِّمِه. كُلُّ تِلميذٍ اكتَمَلَ عِلمُه يَكونُ مِثلَ مُعَلِّمِه. 41 لِماذا تَنظُرُ إِلى القَذى الَّذي في عَينِ أَخيكَ؟ والخَشَبَةُ الّتي في عَينِكَ أَفَلا تأبَهُ لَها؟ 42 كَيفَ يُمكِنُكَ أَن تَقولَ لأَخيكَ: يا أَخي، دَعْني أُخرِجُ القَذى الَّذي في عَينِكَ، وأَنتَ لا تَرى الخَشَبَةَ الَّتي في عَينِكَ؟ أّيُّها المُرائي، أَخرِجِ الخَشَبَةَ مِن عَينِكَ أَوَّلاً، وعِندَئذٍ تُبصِرُ فتُخرِجُ القَذى الَّذي في عَينِ أَخيك. 43 ما مِن شَجَرةٍ طَيِّبَةٍ تُثمِرُ ثَمراً خَبيثاً، ولا مِن شَجَرةٍ خَبيثَةٍ تُثمِرُ ثَمراً طَيِّباً. 44 فكُلُّ شَجَرةٍ تُعرَفُ مِن ثَمَرِها، لِأَنَّه مِنَ الشَّوكِ لا يُجنْى تِين، ولا مِنَ العُلَّيقِ يُقطَفُ عِنَب. 45 الإِنْسانُ الطَّيِّبُ مِنَ الكَنْزِ الطَّيِّبِ في قَلبِه يُخرِجُ ما هُوَ طَيِّب، والإِنْسانُ الخَبيثُ مِن كَنزِه الخَبيثِ يُخرِجُ ما هو خَبيث، فمِن فَيضِ قَلبِه يَتَكَلَّمُ لِسانُه. مقدمة يوجّه السيد المسيح تعليماته إلى أتباعه ويدعو المسؤولين منهم بوجه خاص إلى التعامل مع إخوتهم بدون رياء العين ورياء القلب واللسان؛ الرّياء اسم مشتقّ من مصدر الرؤية، والرّياء هو القيام بالأعمال والإتيان بها في سبيل الحصول على إعجاب النّاس، ومن هذا المنطلق، الرياء هو ظاهر العمل سليم لكن الدوافع والنوايا الباطنة غير سليمة بقصد الحصول على ثناء النّاس وحمدهم وإعجابهم. ومعاملة الإخوة تفرض تصرف أسمى من ذلك، وبالتحديد تطابق بين أعمال الإنسان وأفكاره وعدم تناقض بين سلوكه الظاهر وفكره الباطني، وبين أقوال الإنسان وسلوكه والا فهو منافق. لذلك يجب أن يتجاوب سلوكنا مع شعورنا الداخلي وان تصدر شعائرنا الدينية عن إيماننا الوطيد. ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص الإنجيلي وتطبيقاته. أولاً: تحليل وقائع نص إنجيل لوقا (لوقا 6: 39-45) 39وضَرَبَ لَهم مَثَلاً قال: "أَيَستَطيعُ الأَعمى أَن يَقودَ الأَعمى؟ أَلا يَسقُطُ كِلاهُما في حُفرَة؟" تشير عبارة "مَثَلاً" في الأصل اليوناني παραβολή (معناها مقارنة) إلى قول مختصر يوضّح قوانين السلوك ونتائجه على نوع مؤثر. ولكل شعب أمثال عديدة تظهر خصائص ذلك الشعب وحكمته وجهالته وعواطفه وهزلياته. والمثل واقعي فهو منطبق على الحياة وليس غريبًا عنها حتى وإن لم تكن هذه الحوادث قد وقعت بشكل فعلي. استخدمه يسوع كأسلوب تعليم وأبدع فيه. ورد في إنجيل لوقا ثمانية وعشرين مثلا، علماً أن عشرون مثلاً ذُكرت في إنجيل متى وتسعة أمثال في إنجيل مرقس، وأمَّا يوحنا فلم يذكر أمثالًا وإنما اختص بذكر مواعظ المسيح وعجائبه. تشير عبارة "أَيَستَطيعُ الأَعمى أَن يَقودَ الأَعمى؟" إلى مثل وجّهه يسوع التلاميذ خاصة المسؤولين منهم داعياً إياهم إلى حسن التبصّر في مسؤولياتهم، أي كيف يستطيع الأعمى أن يوجّه أخاه الأعمى إلى طريق الرب. وهنا يظهر مشكلتان: الأولى كيف يسمح أعمى لنفسه أن يقود اعمى؟ والمشكلة الثانية: كيف الأعمى الثاني سلّم حياته لأعمى مثله ليقوده؟ ذكر لوقا هذا المثل هنا وهو سائرا بين اليهود وهو متعلق في الآيتين اللاحقتين (لوقا 6: 40، 41). فيما يطبّق متى الإنجيلي هذا المثل على الفريسيين الذين يُضللون شعبهم "إِنَّهُم عُميانٌ يَقودونَ عُمياناً"(متى 15: 14). فالأعمى هو من يحيا حياة الخطيئة (الخشبة في عينه)، فكيف يُظْهِر طريق الغلبة على الخطايا للآخر (القذى في عينه)؟ اعمى البصيرة هو غيرُ صادِق ولا يُقدِّمَ الحقَّ ولا يستطيع أن يدعي هداية إخوته العميان. فالعميان لا يقودهم إلاَّ المُبصرون. والقائد الأعمى يقود شعبه إلى الهاوية، لأنه جاهل وضال وفاسد. فكيف يمكن للجاهل أن ينُير الآخرين؟ وكيف يمكن للضال أن يُهدي الآخرين؟ وكيف يمكن للفاسد أن يُصلح الآخرين؟ انه أعمى البصيرة، ومن هنا تتولد "المقَاصِدُ السَّيِّئَة والقَتْلُ والزِّنى والفُحْشُ والسَّرِقَةُ وشَهادةُ الزُّورِ والشَّتائم" (متى 15: 19). أمَّا عبارة "الأَعمى" فتشير إلى فَاقِد الْبَصَرِ، فكان وصمة عار تم استبعادهم من الكهنوت (الأحبار 21: 18)، ويرمز روحيا وأخلاقيا إلى اعمى البصيرة، وبالتحديد ليس له بصيرة روحية صالحة، والبصيرة هي ما في القلب والفكر والخاطر من وعي للأمور! وهذا واضحٌ في أشعيا " لا يَعلَمونَ ولا يَفهَمون، لِأَنَّه قد غُشِّيَ على عُيونِهِم لِئَلاَّ يُبصِروا وعلى قُلوبِهم لِئَلاَّ يَفهَموا" (أشعيا 44: 18) ويوضح صاحب المزامير مصيرهم "لا يعلَمونَ ولا يَفهَمون وفي الظُّلمَةِ يَسيرون" (مزمور 82: 5). انه أعمى البصيرة هنا هو الذي يعرف عن الله ولكنه لا يعرف الله ويستغني عنه، فهو أعمى الله؛ لأنه ابتعد عن الحقِّ، ويفتقر إلى أيِّ رؤية روحيَّة أو بَصيرة روحيَّة، وفي هذا الصدد يقول بولس الرسول يقول عن العميان روحيا "غَيرِ المُؤمِنينَ الَّذينَ أَعْمى بَصائِرَهم إِلهُ هذِه الدُنْيا" (2 قورنتس 4: 4). فالأشخاص الَّذينَ لا يَعرفون الله عُمْيٌ عن الحقِّ. وإن تَبعتَهم ستسقط في الحفرة. وفي هذا الصدد يقول القديس أوغسطينوس في اعترافاته "عظيم أنت يا ربي قوي وقدير خلقت فأبدعت. خدعتني نفسي وقالت أنتَ غني عن إلهي بك. وتجاهلت أني مسكين، أعمى". فلا يكفي دراسة الدين والكتاب المقدس، بل يجب أن التجاوب مع الله نفسه، وفي هذا الصدد جاء تعليم بولس الرسول شديد اللهجة "تُوقِنُ أَنَّكَ قائِدٌ لِلعُمْيانِ ونُورٌ لِلَّذينَ في الظَّلام ومؤَدِّبٌ لِلجُهَّال ومُعلِّمٌ لِلبُسَطاء، لأَنَّ لَكَ في الشَّريعةِ وَجهَ المَعرِفةِ والحَقيقة. أَفَتُعلِّمُ غَيرَكَ ولا تُعلِّمُ نَفْسَكَ؟ أَتَعِظُ بِالامتِناعِ عَنِ السَّرِقَةِ وتَسرِق؟ أَتَنْهى عنِ الزِّنى وتَزْني؟" (رومة 2: 19 -22).أمَّا عبارة "أَلا يَسقُطُ كِلاهُما في حُفرَة؟" فتشير إلى الأعمى الذي لم يُحرِّر نفسه في رحمة لله وبالتالي ليس لديه القدرة على تحرير الآخر من ظلامه الخاص، فيجرَّه إلى ظلام أعمق. وقد انتشر هذا المثل حتى على الصعيد الفني. فرسم الفنان الهولندي بيتر بروغل الأكبر Pieter Bruegel the Elder سنة 1568 لوحة يمثل هذا المشهد "أعمى يقود أعمى". هذه اللوحة موجودة حالياً في متحف في مدينة نابولي في إيطاليا. يحذِّرنا يسوع عبر هذا المثل ألاَّ ننقاد إلى أحد دون أن نتحقق إلى أين نحن ذاهبون ومن نتبع. يوجد قادة وأنبياء ومعلمين كذبة، يضلون الشعب، فعلينا أن نفتح عيوننا قبل فوات الأوان. يحذّرنا يسوع أن نُصبِح قادةَ عُميان. وقد سبق وخذر أشعيا النبي من هؤلاء العميان "إِسمَعوا هَذا أَيُّها الأَغبياء الشَّعبُ الفاقِدُ اللُّبّ الَّذي لَه عُيونٌ ولا يُبصِر ولَه آذانٌ ولا يَسمعَ" (إرْميا 5: 21). أمَّا عبارة " حُفرَة " في الأصل اليوناني βόθυνος (معناها حفرة عميقة) فتشير إلى حُفَر كثيرة في فلسطين. فقد كانت هناك مَقالِع غير مُحاطة بسياج. وكانت هناك أخاديد في المناطق الصَّخريَّة الوعرة. وكانت توجد مُنحدرات على طول جانبي الطُّرق وهناك أيضا آبار جافة. والمَغزى الرُّوحيُّ إن تَبعتم مُرشدًا أعمى أو شخصًا لا يعرف الله، أو قائدًا لا يَعرف الطَّريق إلى ملكوت الله، أو شخصا لا يعرف الطَّريق إلى الله ولا يَعرف الدَّربَ المؤدِّي إلى الخلاص، ستذهبون إلى الهلاك. فهذه هي الحُفرة. لِذا، يَجدر بكم أن تختاروا بعناية فائقة المُعلِّمَ الدينيَّ الَّذي تَتبعونه. 40 ما مِن تِلميذٍ أَسمى مِن مُعَلِّمِه. كُلُّ تِلميذٍ اكتَمَلَ عِلمُه يَكونُ مِثلَ مُعَلِّمِه. تشير عبارة "ما مِن تِلميذٍ أَسمى مِن مُعَلِّمِه" إلى وضع التلميذ الذي يُشبه وضع معلمه، ولذلك لا بدَّ له من بذل الذات في خدمة إخوته على مثال معلمه يسوع " ما كانَ الخادِمُ أَعظِمَ مِن سَيِّدهِ ولا كانَ الرَّسولُ أَعظَمَ مِن مُرسِلِه" (يوحنا 13: 16). وتدل العبارة أيضا على تحمل الاضطهاد مثل يسوع " أُذكُروا الكَلامَ الَّذي قُلتُه لَكم: ما كانَ الخادِمُ أَعظمَ مِن سَيِّده. إِذا اضطَهَدوني فسَيَضطَهِدونَكم أَيضاً" (يوحنا 15: 20)؛ وبالتالي لا يجوز أن ينتظر التلاميذ مصيراً يختلف عن مصير معلمهم المصلوب. أمَّا عبارة "تِلميذٍ " فتشير إلى كل من اتبع معلماً مثل أشعيا النبي (أشعيا 8: 16) ويوحنا المعمدان (متى 9: 14). وتستعمل لكل المؤمنين الذين قبلوا تعاليم المسيح (لوقا 14: 26) وبنوع خاص من الرسل الاثني عشر (متى 5: 1). أمَّا عبارة " أَسمى" في الأصل اليوناني ὑπὲρ (معنا أفضل) فتشير إلى أحْسَنُ وأَعْلى مَرْتَبَةً. أمَّا عبارة "كُلُّ تِلميذٍ اكتَمَلَ عِلمُه يَكونُ مِثلَ مُعَلِّمِه" فتشير إلى مقارنة التلميذ مع المعلم (يسوع)؛ والخادم مع السيد (الرب)، وضْع الواحد هو شبيه بوضْع الآخر. الغاية هنا انه لا ينتظر من التلميذ أن يعرف أكثر من معلمه. فان كان المعلم أعمى فالتلميذ كذلك. وأشار المسيح بذلك إلى أهمية أن يكون تلاميذه متعلمين كل حقائق الإنجيل لكيلا يكونوا قادة عمياً للعميان. أمَّا عبارة "اكتَمَلَ عِلمُه" فتشير إلى تعلم التلميذ كل ما قدر معلمه أن يُعلمه إياه حتى صار كالمعلم. فلا يمكن أن يتعلم من المعلم ما لا يُعلمه. وهنا يحثُّ يسوع تلاميذه على الرغبة في بلوغ إلى الدرجة العالية من سلم العلم لكي يكونوا قادرين على تبليغ غيرهم إليها. وكان المسيح مثالا فيما يجب أن يتصف به المعلم. عمل يسوع ما علم به. فلم يكن منتقداً ولا متكبِّراً بل كان لطيفاً متواضعاً حليماً، فيجب على كل معلم أن يتمثل به في كل ذلك. ربما يُطرح عليك سؤال:" مَن الشَّخص الَّذي تُريد لابنكَ أن يَتَمَثَّلَ به؟" لأنه عندما يَنتهي مِن تعليمه سيكونُ مِثل الشَّخص الَّذي عَلَّمَه. وإن لم يكن المُعلِّم يَعرف الله، ولم يكن المُعلِّم يَعرف الحقَّ، لن يعرفه أبنك أيضًا. ومَن هو مُعلِّمُك الرُّوحيُّ؟ إنَّهُ خِيارٌ خَطِر، بل هو أخطرُ خِيارٍ تَصنعه في كلِّ حياتِك بسبب عَواقبه الأبديَّة. 41 لِماذا تَنظُرُ إلى القَذى الَّذي في عَينِ أَخيكَ؟ والخَشَبَةُ الّتي في عَينِكَ أَفَلا تأبَهُ لَها؟ تشير عبارة "لِماذا تَنظُرُ إلى القَذى الَّذي في عَينِ أَخيكَ؟"إلى تصرف ينعته المسيح بالرياء، أي السلوك غير الصريح. ينقل يسوع الكلام من الجمع إلى الأفراد لينسب كل من السامعين الخطاب إلى نفسه. والواقع، إننا نحاول أن نُظهر نفوسنا بعكس ما نحن. والأسوأ من ذلك أنَّنا نحاول تبرير نفوسنا على حساب سمعة الآخرين، وذلك بتحويل الأنظار إلى أخطاء الآخرين ونقدهم. النقد سهل أن ننجرّ إليه، لكن الرب يكره هذه الخطيئة، إذ عاقبها حتى في رجالاته وأنبيائه كمريم وهارون، عندما تكلّما على موسى النبي أخيهما (خروج 32: 1-6). أمَّا عبارة "لِماذا تَنظُرُ" فتشير إلى الاستفهام بهدف التوبيخ، فكأن يسوع يقول لا سبب لم أن تفعل ذلك، ولا عذر لك في فعله، مشيرا إلى عادة الناس العامة وهي أن الإنسان ينتبه لعيوب غيره ويغفل عن عيوب نفسه. أمَّا عبارة "القَذى" و"الخشبة" فتشير إلى استعارة فيها تضخيم للدلالة على من ينتقد الآخرين في زلة صغيرة، ولا يرى خطيئته الكبيرة. ويعلق القديس كيرلس الكبير "يشبِّه يسوع خطيئة َالأخ بالقذَى أمَّا حُكمك المتهوِّر فيحسبه خشبَة. تقريبًا أصعب خطيئة يمكن معالجتها هي إدانة أخينا". لا يقصد الرب يسوع هنا أن نغضَّ الطرف عن الخطأ، ولكن ألاَّ ننشغل بخطايا الآخرين، متجاهلين خطايانا نحن، حيث إننا كثيرا ما نجد تبريرا لخطايانا عندما نوجَّه أنظارنا إلى نفس الأخطاء الموجودة لدى الآخرين. فأي قذى في عين الآخرين من السهل أن ننتقده. لذلك عندما نشعر بميل إلى انتقاد الآخرين يجدر بنا أن نتذكر الخشبة الكبيرة التي في عيوننا. أمَّا عبارة "القَذى" في الأصل اليوناني κάρφος فتشير إلى ما يحلمه الهواء من دقيق الغبار والتبن ونحوهما، فيقع في العين، والمراد به هنا الذنب الصغير والخطأ الطفيف الذي لا يستحق الذكر. أما عبارة" أَخيكَ؟" فتشير إلى كل إنسان مثلك. أمَّا عبارة " الخَشَبَةُ الّتي في عَينِكَ أَفَلا تأبَهُ لَها؟" فتشير إلى عدم إمكانك أن تُعالِج الأخطاء في حياة شخصٍ آخر إن كانت أخطاؤك أسوأ بكثير. وهذا هو ما يريد يسوعُ أن يُبَيِّن أنَّه مُنافٍ للمنطِق. أمَّا عبارة "الخَشَبَةُ" في الأصل اليوناني δοκός (معناها خشبة عارضة) فتشير إلى الدِّعَامَة الخشبيَّة الرئيسيَّة في البِناء وهي ترمز إلى الذنب الكبير والخطأ الفادح حيث تشبه عارضة الخشب التي توضع كجسر لبناء سقف البيت، ومع ذلك لا يراها الأنسان في عينه، بل يتوقف عند القذى في عين أخيه، وهكذا يظلمه. يبيِّن الفرق العظيم بين القذى والخشبة قبح ما يأتيه المُرتكب الذنوب الفظيعة من دينونته للمقترف الذنوب الصغيرة. ويُعلق القديس كيرلس الكبير "كيف يمكنك رؤيّة القذَى الذي في عين الغير وبعينك خشبَة تحجب الرؤية فلا ترى شيئًا؟". يقول يسوع لنا كمسؤولين وقادة الكنسية عبر هذه الآية أن نتبصَّر أولاً في ذواتنا وننظر في أعماق حياتنا وداخلية نفوسنا وننتقد ذواتنا قبل أن نكشف أخطاء الغير وقبل أن نُحسن أوضاع الآخرين على خطى الله "فإِنَّ اللهَ لَم يُرسِلِ ابنَه إلى العالَم لِيَدينَ العالَم بل لِيُخَلَّصَ بِه العالَم " (يوحنا 3: 17). أمَّا عبارة " أَفَلا تأبَهُ لَها؟" في الأصل اليوناني οὐ κατανοεῖς(معناها لا تفطن بها) فتشير إلى عدم تنبَّه لَها، وأَدْراك مَعْنَاها وَمَقْصَدَها. فمن هو التلميذ الذي يتجاسر على إدانة أخيه بعد سماع توبيخ يسوع؟ 42 كَيفَ يُمكِنُكَ أَن تَقولَ لأَخيكَ: يا أَخي، دَعْني أُخرِجُ القَذى الَّذي في عَينِكَ، وأَنتَ لا تَرى الخَشَبَةَ الَّتي في عَينِكَ؟ أّيُّها المُرائي، أَخرِجِ الخَشَبَةَ مِن عَينِكَ أَوَّلاً، وعِندَئذٍ تُبصِرُ فتُخرِجُ القَذى الَّذي في عَينِ أَخيك. تشير عبارة" كَيفَ يُمكِنُكَ أَن تَقولَ لأَخيكَ" إلى سؤال كيف تجيز لنفسك أن تفعل ما لا يحسن بك. والمراد من ذلك لا يستطيع الأشرار أن يحكموا بالعدل على غيرهم. وان انتصارنا على شرور قلوبنا شرط ضروري لصحة حكمنا على غيرنا. أمَّا عبارة "أَخٌي" فتشير إلى الابن في علاقته بأبناء أو بنات نفس الوالدين (تكوين 27: 6) أو نفس الأب فقط (تكوين 28: 2) أو نفس الأم فقط (قضاة 8: 19). (2) كذلك أطلق على قريب من الأسرة الواحدة، ابن الأخ مثلاً، (تكوين 14: 16) أو من نفس الجنس (نحميا 5: 7) أو من أمّة قريبة (تثنية الاشتراع 23: 7) أو من أمة حليفة (عاموس 1: 9). (3) وأطلق أيضاً على إنسان من نفس الدين الواحد (أعمال 9: 17) وكثيراً ما دُعي المسيحيون إخوة (متى 23: 8). كما أطلق أيضاً على الصديق المحبوب فقد دعي داود يوناثان أخا (2 صموئيل 1: 26)، وكذلك أُطلق على إنسان غريب، إذ دعا أخاب بنهدد أخاً (1 ملوك 20: 32). وكذلك أطلق على أي إنسان من الجنس البشري مراعاة لأخوة البشر (تكوين 9: 5). أمَّا عبارة " دَعْني أُخرِجُ القَذى الَّذي في عَينِكَ، وأَنتَ لا تَرى الخَشَبَةَ الَّتي في عَينِكَ؟ " فتشير لكل إنسان في عينه قذى وخشبة وعمى. لذلك يتوجب على صاحب القذى أن يُزيل من عينه قذاه. وعلى صاحب الخشبة أن يُزيل من عينه الخشبة، لكي تصح عند هذا وذاك رؤية الأمور. ويُعلق القديس أوغسطينوس "إذا اضطررت إلى الكشف عن أخطاء الآخرين أو انتهارهم، فلننظر إلى أنفسنا إن كنا نرتكب نفس الخطايا، أو سبق لنا ارتكابهافإن كنَّا لم نرتكبها لنعلم أننا بشر معرَّضون للخطيئة. أما إن كنَّا قد ارتكبنا الخطيئة من قبل وقد تحررنا منها، فلنذكر ضعفنا على الدوام". هل تريد أن تكون معلمًا، عليك باختبار طرق الغلبة على الخطيئة أولًا، وبعد أن تعرفها اشرحها لغيرك؛ ويُعلق البابا فرنسيس "لننظر إلى أنفسنا بالمرآة قبل أن نحكم على الآخرين". أمَّا عبارة "دَعْني" فتشير إلى ظاهر هذا الكلام الصداقة وباطنه الانتقاد كما يدل على ذلك سياق الكلام. أمَّا عبارة "المُرائي" في الأصل اليوناني ὑποκριτά(معناهامُمثِّل، والممثل له لغتان وشخصيّتان، مزدوج) فتشير في الكتاب المقدس إلى الإنسان الذي يُخفي شخصيته الحقيقة وراء مظاهر خادعة. إذ يظهر نفسه بصورة غير التي هو عليها،ويتظاهر بتقوى ليست لديه لذلك لا يحكم على الآخرين بغرض حمايتهم بل بسبب إرادة شريرة عنده. واستعمل هنا لمن يدّعي أنه بارٌ وقاض عادل يوبِّخ على كل خطيئة يراها في غيره وهو يرتكب أفظع منها. يجدر بالإنسان المُنصِف والخَيِّر وحده توبيخ أخيه على عيوبه. أمَّا فعل الأشرار ذلك، فيكونوا قد تعدّوا على دور غيرهم؛ حالهم حال الممثِّل الذي يُخفي هوّيته وراء قناع. انه المرائي الذي لا يوجد لديه تطابق بين أعماله وأفكاره (متى 6: 2)، وتناقض بين السلوك الظاهر والفكر الباطني. وإنه يتمسّك بالشكلياّت مُرتدياً زي السلوك الديني حتى يجذب الانتباه إليه، ويكتسب قبول الآخرين وإعجابهم. كما جاء في تعنيف يسوع للكتبة والفريسيين "أَنتُم، تَبدونَ في ظاهِرِكُم لِلنَّاسِ أَبراراً، وأَمَّا باطِنُكُم فَمُمتَلِئٌ رِياءً وإِثماً" (متى 23: 28). ومن هنا المرائي مُعرّض أن يكون منافقاً (متى 24: 51) كما يدل اللفظ الآرامي הֶחָנֵף. المرائي لا يدل على الرياء الديني فحسب، إنما على الكذب. ويمكن ضبط معنى كلمة مرائي من سياق الكلام. إنه غش للغير بقصد كسب تقديره عن طريق ممارسات دينية لا تكون النيّة فيها بسيطة. فيبدو المرائي كأنه يعمل من أجل الله، في حين أنه يعمل في الواقع من أجل ذاته. لذلك يُبطن الخبث كما أكد يسوع "شعَرَ يسوع بِخُبْثِهم فقال: ((لِماذا تُحاوِلونَ إِحراجي، أَيُّها المُراؤُون!" (متى 22: 18) والكذب، الذي يشعر به الإنسان، كما الأمر هو هنا، وكثيرا ما يكون المرائي كافرا وفاسدا. وقد يصبح المرائي أعمى (لوقا 6: 42)؛ وفي الواقع يستبدل الإنجيل الرابع لقب مراءٍ بلقب أعمى فيفسد حكمه كما ورد في إنجيل يوحنا إن خطيئة اليهود، تقوم على قولهم "إننا نرى" في حين أنهم عميان (يوحنا 9: 40). كيف يستطيع المرائي أن ينزع (من عينه) الخشبة التي تمنعه من النظر، في حين أنه لا يفكر إلاَّ في نزع القذى من عين قريبه؟ إن للقادة الروحيين دوراً لا بدّ منه على الأرض، ولكن يتوجب عليهم ألاَّ يأخذون مكان الله نفسه، عندما يستبدلون بالشريعة الإلهية سنناً بشرية إنهم عميان يريدون أن يقودوا غيرهم (يوحنا 15: 3 -14)، وتعليمهم ما هو إلا خميرة خبيثة (لوقا 12: 1). وفي هذا الصدد يقول القرآن " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونا مَا لَا تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّـهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا مَا لَا تَفْعَلُونَ (سورة الصف، آية: 2-3). أمَّا عبارة "أَخرِجِ الخَشَبَةَ مِن عَينِكَ أَوَّلاً " فتشير إلى تطهير القلب وإماتة الشهوات وإصلاح السيرة وتقويمها وإبعاد الضغينة عنك أوّلا فتُصبح أهلاً لتأديب مَن تُحبّ. فيجب على الإنسان أن يهتم بأمر خطاياه أكثر مما يهتم بخطايا غيره، وان يتوب قبل أن يجلس على كرسي القضاء. وفي هذ الصدد حثّ بولس الرسول تلميذه طيموتاوس "إِنتَبِهْ لِنَفْسِكَ " (1طيموتاوس 4: 16)، " واحفَظْ نَفْسَكَ طاهِرًا" (1طيموتاوس 5: 22). ويعلق البابا فرنسيس " أنظر إلى نفسك في المرآة لا كي تتزيّن أو لكي تخفي التجاعيد في وجهك. فهذا ليس هدف النصيحة! أنظر إلى نفسك في المرآة لكي ترى ذاتك". من هذا المنطلق، قبل أن يُقدِم الإنسان على إصلاح عيوب الآخرين عليه فحص ضميره وإصلاح نفسه وعدم التهرب من نفسه خوفا من رؤية نفسه على حقيقتها أمام الله.ومن اختبر رحمة الله ليس بحاجه إلى إخفاء نفسه، لتظهر بخلاف ما هو عليه. وهذ الأمر يساعده على التعامل مع أخيه، بالرحمة التي تلقاها من الله واختبرها في نفسه. وتجاه أقوال المسيح هذه كتب المؤلف المشهور أرنست رنان "هذه هي الديانة المسيحية. وإذا كان في الإجرام السماوية أجرام مأهولة فإن ديانتهم لا تكون أرقى منها مهما بلغوا من ارتقاء في سلم الكمال". أمَّا عبارة "عِندَئذٍ تُبصِرُ" فتشير إلى الخطيئة التي لا تزال في القلب تعمي البصيرة، فامتحان النفس استعداد ضروري للنظر في أعمال الغير. أما عبارة "فتُخرِجُ القَذى الَّذي في عَينِ أَخيك" فتشير إلى إسعاف الإنسان أخاه على النجاة من ذنوبه بدلا من أن ينظر إليها ويُجسِّمها ويوبِّخه عليها. 43 ما مِن شَجَرةٍ طَيِّبَةٍ تُثمِرُ ثَمراًخَبيثاً، ولا مِن شَجَرةٍ خَبيثَةٍ تُثمِرُ ثَمراً طَيِّباً. تشير عبارة "ما مِن شَجَرةٍ طَيِّبَةٍ تُثمِرُ ثَمراً خَبيثاً" إلى المثل القائل " إن كل إناء ينضح بما فيه". إن صاحب القلب والنية الطيبة يقرِّر أعمالا صالحة وليس شريرة. أمَّا عبارة " ثَمراً " فتشير إلى ما في داخل الإنسان فكلمته تعبّر عن اتجاه وموقفه "من ثِمارِهم تَعرِفونَهم" (متى 7: 16)؛ ويطبِّق يسوع على قلب الإنسان ما قاله عن الشجرة. فالثمرة تدل على الشجرة، فكما أن الشجرة الرديئة لا يمكن أن يكون ثمرها ألاّ رديئا، كذلك صورة تصرّف الإنسان في كلامه وأعماله. فتصرفه يدل ُّعلى عمق شخصيته. لذلك لا يحاول أن يكذب ويتظاهر بما ليس في وإلاَّ نسمع توبيخ يسوع قلائلا "إِليكُم عَنِّي، أَيُّها المَلاعين، إلى النَّارِ الأَبَدِيَّةِ المُعدَّةِ لإِبليسَ وملائِكَتِه" (متى 25: 41).أمَّا عبارة "لا مِن شَجَرةٍ خَبيثَةٍ تُثمِرُ ثَمراً طَيِّباً" فتشير إلى الإنسان المرائي الذي يتظاهر بالتدين كما جاء في تأنيب يسوع للفريسيين " يا أَولادَ الأَفاعي، كيفَ لَكم أَن تقولوا كَلاماً طَيِّباً وأَنتُم خُبَثاء؟ " (متى 12: 35).يمكن أن يكون الشخص معلما في الكنيسة ومع ذلك يكون مخدوعا من جهة خلاصه الذاتي. كما ورد في إنجيل متى " فَسَوفَ يقولُ لي كثيرٌ منَ النَّاسِ في ذلكَ اليَوم: يا ربّ، يا ربّ، أمَّا بِاسْمِكَ تَنبَّأْنا؟ وبِاسمِكَ طرَدْنا الشِّياطين؟ وباسْمِكَ أَتَيْنا بِالمُعْجِزاتِ الكثيرة؟" (متى 7: 22). 44 فكُلُّ شَجَرةٍ تُعرَفُ مِن ثَمَرِها، لِأَنَّه مِنَ الشَّوكِ لا يُجنْى تِين، ولا مِنَ العُلَّيقِ يُقطَفُ عِنَب. تشير عبارة "فكُلُّ شَجَرةٍ تُعرَفُ مِن ثَمَرِها" إلى البيئة الفلسطينية حيث يُشاهد المسافر في بلادنا "عنباً" يُظلّل "التين"، وكلاهما يلتفّ حوله "العُلَّيقِ" والأشواك، فلا يُميز هذا من ذاك إلاّ بثماره. ويفسر بولس الرسول هذه الظاهرة " إِنَّما يَحصُدُ الإِنسانُ ما يَزرَع. فمَن زَرَعَ لِجَسَدِه حَصَدَ مِنَ الجَسَدِ الفَساد، ومَن زَرَعَ لِلرُّوح حَصَدَ مِنَ الرّوحِ الحَياةَ الأَبدِيَّة"(غلاطية 6: 7-8). " أَمَّا ثَمَرُ الرُّوح فهو المَحبَةُ والفَرَحُ والسَّلام والصَّبرُ واللُّطْفُ وكَرَمُ الأَخْلاق والإِيمانُ 23 والوَداعةُ والعَفاف" (غلاطية 5: 22-23). إن المعلمين يُعرفون من نتائج تعليمهم وحياتهم وحياة تلاميذهم وتابعيهم. ومن هذا المنطلق، يُعرف المعلمون الصادقون بصلاح تعليمهم. أمَّا عبارة "ثَمَرِها" فتشير إلى تصرف الإنسان على مستوى القول والعمل. وتصرفه يدل على عمق شخصه. أمَّا عبارة "لِأَنَّه مِنَ الشَّوكِ لا يُجنْى تِين، ولا مِنَ العُلَّيقِ يُقطَفُ عِنَب" فتشير إلى الثمر الذي يُميز تلك الشجرة عن غيرها. الشوك والعليق إنَّهما تُثْمِران ثَمرًا يُوافقُ طبيعتهما. وَهُما تُثمران ثَمرًا رديئًا وسَامًّا ومُؤذيًا. كما أن لكل شجرة ثمرا خاصا كذلك للخطيئة نتائج خاصة وللقداسة نتائج خاصة بها. فمن الحماقة أن نتوقع من الأشرار أعمالا صالحة كما انه من الجهل أن نتوقع الأثمار الجيدة من الأشجار الرديئة. وهذا هو الخطر الأخير الَّذي يُبيِّنُه يسوعُ هنا. وهكذا عمل الإنسان يجب أن يكون إنسانياً وثمره جيد، ولا يحاول أن يكذب ويتظاهر بما ليس هو. يدعونا يسوع أن نثمر ثمرا جيداً يليق بإنسانيتنا ودعوتنا. في هذا الآية بيان العلاقة بين صفات الإنسان وتعليمه. فالإنسان الصالح لا يكون معلم الضلال، والإنسان الشرير لا يستطيع أن يكون معلم الحق. وهذا خلاف ما يعتقد البعض من جواز أن تكون سيرة الإنسان رديئة مع صلاحه لان يكون معلم الدين. 45 الإِنْسانُ الطَّيِّبُ مِنَ الكَنْزِ الطَّيِّبِ في قَلبِه يُخرِجُ ما هُوَ طَيِّب، والإِنْسانُ الخَبيثُ مِن كَنزِه الخَبيثِ يُخرِجُ ما هو خَبيث، فمِن فَيضِ قَلبِه يَتَكَلَّمُ لِسانُه. تشير عبارة "الإِنْسانُ الطَّيِّبُ مِنَ الكَنْزِ الطَّيِّبِ في قَلبِه يُخرِجُ ما هُوَ طَيِّب، والإِنْسانُ الخَبيثُ مِن كَنزِه الخَبيثِ يُخرِجُ ما هو خَبيث" فتشير إلى إدانة الإنسان على أعماله الخارجة من القلب. أمَّا عبارة "الإِنْسانُ الطَّيِّبُ مِنَ الكَنْزِ الطَّيِّبِ في قَلبِه يُخرِجُ ما هُوَ طَيِّب" فتشير إلى هؤلاء المعلمين الصالحين الذي ينتج منهم ومن اتباعهم إثمار الروح وهي "المَحبَةُ والفَرَحُ والسَّلام والصَّبرُ واللُّطْفُ وكَرَمُ الأَخْلاق والإِيمانُ 23 والوَداعةُ والعَفاف" غلاطية 5: 22-23). هذه الأثمار لا تنتج من قلب فاسد. "فَمِن فَيضِ القَلْبِ يتكلَّمُ اللِّسانُ، الإِنْسانُ الطَّيِّبُ مِن كَنزِه الطَّيِّبِ يُخرِجُ الطَّيِّب. والإِنْسانُ الخَبيثُ مِن كَنزِه الخَبيثِ يُخرِجُ الخَبيث" (مَتَّى 12: 33، 35). أمَّا عبارة "قَلبِه " فتشير إلى ما هو داخلي أو مركزي أو عميق أو خفي حيث يعتبر القلب مركز العواطف الجسدية والروحية (مزمور 62: 8 ويوحنا 14: 1)، ومركزاً للعقل (خروج 35: 35) والرغبة (نحميا 4: 6) والنيّة (مزمور 12: 2). وبحسب القلب تكون طبيعة الإنسان الروحية معوجَّة أو مستقيمة، طيبة أو خبيثة (مزمور 101: 4). أمَّا عبارة "الإِنْسانُ الخَبيثُ" فتشير إلى المعلمين الكاذبين الذي يدّعون التقوى ولكن أعمالهم تغاير كلامهم. فشهادة أعمالهم أصدق من شهادة ألسنتهم. أمَّا عبارة " فمِن فَيضِ قَلبِه يَتَكَلَّمُ لِسانُه" فتشير إلى ما نقوله ينمُّ عمّا في قلوبنا. وصدق المثل القائل "كل إناء بما فيه ينضَح" الكلمات التي تصدر من الفم، دليل على حقيقة القلب؛ فما يُخفيه الإنسان في القلب سيظهر على لسانه في حديثه وفي سلوكه. إن الحديث والأعمال تكشف عن معتقدات الإنسان الحقيقية غير الظاهرة. يوضَّح ذلك متى الإنجيلي بقوله "الإِنْسانُ الطَّيِّبُ مِن كَنزِه الطَّيِّبِ يُخرِجُ الطَّيِّب. والإِنْسانُ الخَبيثُ مِن كَنزِه الخَبيثِ يُخرِجُ الخَبيث"(متى 12: 34). وقد استعمل متى الإنجيلي هذه الاستعارة نفسها ليدلَّ على الإنسان الذي يُدان على أعماله (متى 7: 16-20) كما يستخدمها لتمييز الأنبياء الكذبة الذين يتنبؤون بما يريد الملك أو الشعب أن يسمعوه ويدّعون أن كلامهم رسالة الله. ولذلك يجب أن نفحص دوافع المعلمين وتوجيهاتهم والغايات التي يسعون إليها. ذكر المسيح المعلمين الكذبة وعاقبتهم؛ وبما أن تلاميذ يسوع يمكن أن يكونوا عرضة لمثل ذلك حذَّرهم من الرياء والخبث وخداع أنفسهم. ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (لوقا 6: 39-45) انطلاقا من هذه الملاحظات الوجيزة حول وقائع النص الإنجيلي (لوقا 6: 39-45)،يُمكننا أن نستنتج أن النص يتمحور حول كيفية تعامل الإنسان مع أخيه دون رياء. إنَّ من أكثر الأمراض انتشاراً بين الناس هو الرياء فعلى كل إنسان أن يُجاهد في سبيل حماية ذاته منه. والرياء قد يكون بالعين وقد يكون عن طريق القلب. 1) التعامل دون رياء العين: أعطى يسوع رسالة للتلاميذ أن يصبحوا القادة والمعلّمين الروحيّين للأرض كلّها. "اذهبوا في الأرض كلها وأعلنوا البشارة إلى الخلق أجمعين"(مرقس 16: 15). وهنا يطلب منهم أن يتعاملوا دون رياء العين موضحا ذلك بمثل "أَيَستَطيعُ الأَعمى أَن يَقودَ الأَعمى؟ أَلا يَسقُطُ كِلاهُما في حُفرَة؟" (لوقا 6: 40). المعلم يكون أعمى البصيرة إذا لا يميِّز الحرّية من الإباحية؛ ولا يعرف النور من الظلام، لانَّ خطيئة الكبرياء والسلطة والمال أعمت عينيه. في هذا النوع من العمى يكون الإنسان له عين فعلا، ولكن الشرير خدعه، ودخل من خلال إرادته واستعبدها وبالتالي أصبح اعمى العين، اعمى البصيرة. له عين ولا يبصر، ولا يرى كما يقول ارميا النبي "إِسمَعوا هَذا أَيُّها الأَغبياء الشَّعبُ الفاقِدُ اللُّبّ الَّذي لَه عُيونٌ ولا يُبصِر ولَه آذانٌ ولا يَسمعَ "(ارميا 5: 21)؛ في حين يتمتع المعلمون الحقيقيون بالتطويب الإلهي: " طُوبى لِعُيونِكم لأَنَّها تُبصِر، ولآذانِكم لأَنَّها تَسمعَ" (متى 13: 11-16). وأضاف يسوع بقوله "ما مِن تِلميذٍ أَسمى مِن مُعَلِّمِه. كُلُّ تِلميذٍ اكتَمَلَ عِلمُه يَكونُ مِثلَ مُعَلِّمِه" (لوقا 6: 40). فيتوجب على المعلمين أن يعتادوا على طريقة العيش بحسب الإنجيل، ويستعدوا للقيام بأيّ عمل صالح وأن ينقلوا العقيدة الصحيحة، حول الخلاص، والمطابقة تمامًا للحقيقة، للّذين سيعلّمونهم، بعد أن يكونوا قد تأمّلوها هم نفسهم أوّلاً، وتركوا النور الإلهيّ يُنير عقولهم، وإلاَّ يكونوا عميانا يقودون عميانا. وكذلك أراد الربّ أن يوقف المَيل إلى التباهي الّذي نجده عند الكثير من الناس، وأن يُثنيهم عن منافسة معلّميهم. فقال لهم: "ما مِن تِلميذٍ أَسمى مِن مُعَلِّمِه". حتّى لو تمكّن البعض من بلوغ درجة فضيلة مساوية لمعلميهم عليهم خاصّةً أن يتبعوا تواضع المسيح. ويعطينا بولس الرسول الدليل على ذلك بقوله: "اِقتَدوا بي كما أَقتَدي أَنا بِالمسيح" (1قورنتس 11: 1). وإذا لم يسرْ التلميذ على خطى المعلم يسوع المسيح يُصبح أعمى البصيرة، خاصة إذا أخذ يدين إخوته الآخرين. فيسوع المعلم الإلهي لم يأتِ لِيَدين العالم بل لِيُخَلِّصَه (يوحنا 12: 47)، فإذا أخذ تلميذ يدين فإنه مذنب أكثر من الّذي يُدينه. ومن هنا جاء سؤال يسوع موبِّخاً "لِماذا تَنظُرُ إلى القَذى الَّذي في عَينِ أَخيكَ؟ والخَشَبَةُ الّتي في عَينِكَ أَفَلا تأبَهُ لَها؟"(لوقا 6: 41). وفي هذا الصدد قال الشاعر المشهور أبو الأسود الدؤلي" لا تنهَ عن خلُقٍ وتأتيَ مثلَه -عارٌ عليك إذا فعلت عظيم. ابدأ بنفسك فانهَها عن غَيِّها -فإذا انتهت عنه فأنت حكيم". فلا يجوز أن يستوقف الإنسان عند خطايا الناس، ويُغمض عينه عن خطاياه. من يحكم على قريبه، يمكنه أن يُخطئ، وأمّا مَن يسامحه فلا يُخطئ. فمن يركز على خطاياه سيراها كبيرة " الخشبة التي في عينك" فيهتم أن يخرجها. ولكن من ينسى نفسه ويركز على خطايا الآخرين، لن يرى سوى القذى الذي في عيونهم، فيدينهم وينسى أن يخرج الخشبة من عينه. والقذى هو الذرات المتطايرة من الخشب عند نشره بالمنشار، وهذه إشارة للخطيئة الصغيرة، فكيف ندين الناس على خطايا صغيرة، ونحن ملوّثون بخطايا كبيرة. ولذلك يتوجب على المعلم أن يهتم بنفسه أولاً، فيصلح نفسه قبل إصلاح تلاميذه. إذ كيف يستطيع المرائي أن ينزع من عينه الخشبة التي تمنعه من النظر، في حين أنه لا يفكر إلاَّ في نزع القذى من عين قريبه؟ فمن يدّعي أنّه أهمّ وأفضل من قريبه، فهو مُراءٍ ودجّال. الأعمى هو المرائي في مفهوم يوحنا الإنجيلي، حيث يستبدل لقب مراءٍ بلقب أعمى؛ فخطيئة اليهود في نظر يوحنا الإنجيلي تقوم على قولهم "إننا نرى" في حين أنهم عميان (يوحنا 9: 40). ويتعودِ المرء مغايرة ما في القلب عما على الشفتين، فيخفي نيَّته الخبيثة تحت شعار المهاودة والتمسّك بالشكلياّت، وهذا ما ندعوه رياء أو مراءاة. وليس الرياء الديني مجرد كذب، بل هو أيضا غش للغير بقصد كسب تقديره عن طريق ممارسات دينية لا تكون النيّة فيها سليمة. فيبدو المرائي كأنه يعمل من أجل الله، في حين أنه يعمل في الواقع من أجل ذاته والاهتمام "بالظهور أمام الناس" كما جاء في تعليم السيد المسيح "جَميعُ أَعمالِهم يَعمَلونَها لِيَنظُرَ النَّاسُ إِلَيهم"(متى 23: 5)، لذلك جاء تأنيب يسوع شديد اللهجة تجاههم " أَيُّها المُراؤُون، أَحسَنَ أَشَعْيا في نُبؤءتِه عَنكم إِذ قال: ((هذا الشَّعْب يُكرِمُني بِشَفَتَيْه وأَمَّا قَلبُه فبَعيدٌ مِنِّي. إِنَّهُم بالباطِلِ يَعبُدونَني فلَيسَ ما يُعلِّمونَ مِنَ المَذاهِب سِوى أَحكامٍ بَشَرِيَّة"(متى 15: 7 -8). لذلك وصفهم يسوع بالقبور "الوَيلُ لَكم أَيُّها الكَتَبَةُ والفِرِّيسيُّونَ المُراؤون، فإِنَّكم أَشبَهُ بِالقُبورِ المُكَلَّسَة، يَبدو ظاهِرُها جَميلاً، وأَمَّا داخِلُها فمُمتَلِئٌ من عِظامِ المَوتى وكُلِّ نَجاسَة. وكَذَلِك أَنتُم، تَبدونَ في ظاهِرِكُم لِلنَّاسِ أَبراراً، وأَمَّا باطِنُكُم فَمُمتَلِئٌ رِياءً وإِثماً" (متى 23: 27 -28). المرائي الأعمى يحاسب الناس على التعدِّيات الواهية، بينما يسمح لنفسه بارتكاب المنكرات، وأعظم الشرور فُجورًا. يدين الآخرين ويرميهم بأشنع المساوئ والعيوب وهو عن نفسه أعمى، إذ لا ينظر شيئًا، لأن الخشبة في عينيه تحجب الضوء عنه. "فمَن خالفَ وَصِيَّةً مِن أَصْغَرِ تِلكَ الوَصايا وعَلَّمَ النَّاسَ أَن يَفعَلوا مِثْلَه، عُدَّ الصَّغيرَ في مَلَكوتِ السَّمَوات. وأَمَّا الَّذي يَعمَلُ بِها ويُعَلِّمُها فذاكَ يُعَدُّ كبيراً في ملكوتِ السَّمَوات" (متى 5: 19). فيطلب منا يسوع أن نطبق النصائح على أنفسنا قبل أن نمليها على الآخرين. خطر المرائيين هو أن ينتهي بهم الأمر إلى أن يحسبوا حقيقة ما أرادوا أن يصدِّقه الآخرون: إنهم يعتبرون أنفسهم أبراراً (لوقا 18: 9). يصبح المرائي أشبه بممثل على مسرح كما تدل عليه الكلمة اليونانية ὑποκριτά، فيواصل تمثيل دوره بقدر ما تكون مكانته ذات شأن وكلمتُه مُطاعة، كما جاء في تعليم يسوع عن رياء الكتبة والفريسيين "إِنَّ الكَتَبَةَ والفِرِّيسيِّينَ على كُرسِيِّ موسى جالِسون، فَافعَلوا ما يَقولونَ لَكم وأحفظوه. ولكِن أَفعالَهم لا تَفعَلوا، لأَنَّهم يَقولونَ ولا يَفعَلون" (متى 23: 2 -3). من المعروف أنَّ للقادة الروحيين دوراً لا بدَّ منه على الأرض، ولكن لا يجوز أن يأخذوا مكان الله نفسه. فعندما يستبدلون بالشريعة الإلهية سنناً بشرية يُعتبرون عُمياناً يريدون أن يقودوا غيرهم كما أوضح يسوع "لِمَ تُخالِفونَ أَنتُم وَصِيَّةَ اللهِ مِن أَجلِ سُنَّتِكم؟ "(متى 15: 3)؛ وتعليمهم ما هو إلا خميرة خبيثة، كما نبّه يسوع تلاميذه من الفِرِّيسيِّين بقوله "إيَّاكُم وَخَميرَ الفِرِّيسيِّين، أَي الرِّياء." (لوقا 12: 1). هؤلاء العميان، وإذا أعماهم خبثهم، ينبذون صلاح يسوع، ويتمسكون بأهداب شريعة السبت ليمنعوا عمل الخير فيها كما أعلن يسوع "أَيُّها المُراؤون، أَما يَحُلُّ كُلٌّ مِنكُم يومَ السَّبْتِ رِباطَ ثَورِه أَو حِمارِه مِنَ المِذوَد، ويَذهَبُ بهِ فيَسقيه؟ وهذِه ابنَةُ إبراهيم قد رَبطَها الشَّيطانُ مُنذُ ثَمانيَ عَشرَةَ سَنَة، أَفما كانَ يَجِبُ أَن تُحَلَّ مِن هذا الرِّباطِ يَومَ السَّبْت؟"(لوقا 13: 15 -16). إن كان الفريسيون المراؤون يجرؤون على تصور يسوع المسيح الصانع المعجزات هو ِبَعلَ زَبولَ سيِّدِ الشَّياطين، فما ذلك إلا لأن القلب الخبيث لا يمكن أن يُخرج كلمة طيبة (متى 12: 24-34). وعليه فإنّ خطيئة المرائي الأساسية هي فساده الخفي (متى 23: 27-28)، فكان يسوع هنا يستخدم الكلمة الآرامية הַחֲנֵפִים التي تعني في الكتاب المقدس "فاسق، كافر ": فالمرائي يصبح في نهايته كافراً. ليس خطر الرياء محصورا على الفِرِّيسيِّين، إنَّما يشمل الجميع أيضا (لوقا 12: 56). فالمسيحي عُرضةٌ هو أيضاً لأن يصبح مرائياً. فالرسول بطرس نفسه وبرنابا وبعض اليهود لم ينجُوا من هذا الخطر، في حادث أنطاكيا، الذي جعلهم في خلاف مع بولس الرسول، فسلكوهم كان رياءً كما نقرا في رسالة غلاطية "لَمَّا قَدِمَ صَخْرٌ (بطرس) إلى أَنْطاكِية، قاوَمتُه وَجْهًا لِوَجْهٍ لأَنَّه كانَ يَستَوجِبُ اللَّوم: ذلِكَ أَنَّه، قَبْلَ أَن يَقدَمَ قَومٌ مِن عِندِ يَعْقوب، كان يُؤاكِلُ الوَثنِيِّين. فلَمَّا قَدِموا أَخَذَ يتَوارى ويتَنحَّى خوفًا مِن أَهْلِ الخِتان، فجاراه سائِرُ اليَهودِ في رِيائِه، حتَّى إِنَّ بَرنابا انقادَ هو أَيضًا إلى ريائِهِم" (غلاطية 2: 12-13). لذلك يوصى بطرس الرسول المؤمن أن يعيش بعيداً عن الرياء عالماً بأن الرياء واقف له بالمرصاد "أَلقُوا عَنكم كُلَّ خُبْثٍ وكُلَّ غِشٍّ وكُلَّ أَنواعِ الرِّياءِ والحَسَدِ والنَّميمة" (1 بطرس 1:2-2). لان الرياء يقود المؤمن إلى الارتداد عن الإيمان كما جاء في تعليم بولس الرسول “إِنَّ بَعضَهم يَرتَدُّونَ عنِ الإِيمانِ في الأَزمِنَةِ الأَخيرة، ويَتْبَعونَ أَرْواحًا مُضِلَّةً ومَذاهِبَ شَيطانِيَّة، وقَد خَدَعَهم رِياءُ قَومٍ كَذَّابينَ كُوِيَت ضمائِرُهم" (طيموتاوس 4: 1-2). 2) التعامل دون رياء القلب لا يكفي أن نتعامل مع أخينا دون رياء العين، بل مطلوب منا أيضا معاملته دون رياء القلب. في اللغة العبرية لا يشمل مدلول القلب الحياة العاطفية والمشاعر فحسب، (مزمور 21: 3) إنما يُعبِّر أيضا عن "باطن " الإنسان بما فيه من الذكريات والأفكار، والمشاريع والقرارات. فالله أعطى البشر "قلباً يفكر" (سيراخ 17: 6)؛ فقلب الإنسان هو بالذات مصدر شخصيته الواعية، العاقلة والحُرَّة، وموطن اختياراته الحاسمة، واستعداده الداخلي. فمظهر الإنسان الخارجي يدلّ عادة على ما يَعمر به قلبه. فيُعرف ما في القلب، بطريق غير مباشر، بواسطة ما يبدو على الوجه (سيراخ23: 25)، وبما تنطق به أيضاً الشفتان (أمثال 16: 23)، وما تشهد به الأفعال (لوقا 6: 44-45). أ) رياء الازدواجية: قد يكون قلب الإنسان منقسماً وبالتالي يعيش رياء الازدواجية؛ فهو يعبّر خارجيا عن شيء بخلاف ما في داخله من قرارات واستعدادات. انه يهتم بالمظهر على حساب الجوهر، ويهتم بالطقوس على حساب السلوك، ويهتم بالكلام على حساب الفعل. إن هذه الازدواجية شرّ عميق يستنكره الكتاب المقدس بشدة كما جاء في صلاة صاحب المزامير "لا تَجرني معِ الأَشْرار وفَعَلَةِ الآثام مَن يُسالِمون قَريبَهم بأَلسِنَتِهم والشر كامِنٌ في قُلوبِهم" (مزمور 28: 3-4). ومن هنا جاءت كلمات سيدنا يسوع المسيح "الإِنْسانُ الطَّيِّبُ مِنَ الكَنْزِ الطَّيِّبِ في قَلبِه يُخرِجُ ما هُوَ طَيِّب، والإِنْسانُ الخَبيثُ مِن كَنزِه الخَبيثِ يُخرِجُ ما هو خَبيث، فمِن فَيضِ قَلبِه يَتَكَلَّمُ لِسانُه" (لوقا 6: 45). فالقلب كمصدر النوايا العميقة للإنسان، هو الذي يُقرِّر أعمالنا الصالحة أو الشريرة. "إن الإناء ينضح بما فيه" كما يقول المثل. قلب الإنسان كالإناء إذا امتلأ بالغَيرة والحقد وتصيًد السلبيات فلا يمكن إلا أن يفيض بالسلبيات-مهما حاولنا أن نحول دون ذلك. والقلب الفاضل لا يصدر منه إلا الإيجابيات، و "ما بيطلع من المليح إلا المليح". يدعونا يسوع أن نظهر كما نحن، لا رياء فينا ولا فَرّيسيّة. ومن هذا المنطلق، يجب أن تتجاوب حركاتنا الظاهرية مع شعورنا الداخلي، أن تصدر شعائرنا الدينية عن إيمان باطني وطيد. لذلك يطلب السيد المسيح من تلاميذه في معاملتهم مع إخوتهم بدون رياء القلب فيكون شجرة صالحة ليأتي بالثمر الصالح. وإذا أثمرنا ثمرا رديئاً يأتي تأنيب يسوع لنا "لِماذا تَدعونَني: يا رَبّ، يا رَبّ! ولا تَعمَلونَ بِمَا أَقول؟ "(لوقا 6: 46)، ولكن إن كنا نحب يسوع ونريد أن نتبعه، فعلينا أن نعمل بما يقوله فنثمر ثمرا طيّباً. ب) رياء الشفتين: يظهر الإنسان ما في قلبه من خلال الشفتين. فهما في خدمة القلب الطيِّب أو المنافق كما يقول صاحب الأمثال "شَفَتا البارَ تعرِفانِ المَرضِيَّ وأَفْواهُ الأَشرْارِ تَعرِفُ الخَدائع" (أمثال 10: 32). وهما تنبئان بصفاته: إمَّا بالنعم لدى القلب الطيِّب كما قال صاحب المزامير "إِنَّكَ أَجمَلُ بني آدم والظرفُ على شَفَتَيكَ اْنسَكَب" (مزمور 45: 3)، أو الكذب لدى القلب الشرير كما جاء في سفر الأمثال "فاْستَمالَتهَ بِكَثرَةِ فُنونها واْستَهوَته بِتَمَلّقِ شَفَتَيها" (أمثال 7: 21)، أو بالنفاق والخداع والنميمة لدى الخاطئ كما يقول صاحب الأمثال "إِنْفِ عنكَ خِداعَ الفَم وخُبثُ الشَّفَتَينِ أَبْعِدْه عنكَ" (أمثال 4: 24). وتستطيع الشفتان أن تخفيا الشر الدفين وراء وجه لطيف: "الشِّفاهُ المُتَوَهَجَةُ والقَلبُ الشَرير فِضَّةٌ ذاتُ خَبَثٍ على خَزَف" (أمثال 26: 23). وقد يظهر النفاق أيضا ليس في الحوار مع الإنسان فحسب، إنما في الحوار مع الله كما جاء في تعليم يسوع "هذا الشَّعْبُ يُكرِمُني بِشَفَتَيْه وأَمَّا قَلبُه فبَعيدٌ مِنِّي" (متى 15: 8). وللمحافظة على الشفتين مخلصتين وبارتين بعيديتين من كل كلمة خبث، لا بدّ من الطاعة والأمانة لله كما ترنَّم صاحب المزامير " أَقِمْ يا رَبِّ حارِسًا على فَمي وراقِبْ بابَ شَفَتَيَّ." (مزمور 141: 3). ج) رياء الكذب: يكشف الإنسان ما في قلبه من خلال الكذب. والكذب في مدلوله الواسع هو الغش، والخداع، وعدم مطابقة الفكر واللسان "أَلسِنَتُهم سِهامٌ قاتِلة في أَفْواهِهمِ يَنطِقونَ بِالمَكْر ويُكَلِّمونَ أصدِقاءَهم بِالسَّلام وفي بَواطِنِهم يَكمُنون لَهم" (إرميا 9: 7). يطلب يسوع من اتباعه الوضوح والصراحة "فلْيَكُنْ كلامُكم: نعم نعم، ولا لا. فما زادَ على ذلك كانَ مِنَ الشِّرِّير" (متى 5: 37). وجعل بولس الرسول من كلام يسوع قاعدة للسلوك (2 قورنتس 1: 17)؛ لذلك يوصي المسيحيين " لا يَكذِبْ بَعضُكم بَعضًا، فَقَد خَلَعتُمُ الإِنسانَ القَديم وخَلَعتُم معَه أَعمالَه " (قولسي 3: 9)، "وكُفُّوا عنِ الكَذِب ((ولْيَصدُقْ كُلٌّ مِنكُم قَريبَه))، فإِنَّنا أَعضاءٌ بَعضُنا لِبَعْض" (أفسس 4: 25). فالكذب يكون بمثابة عودة إلى الطبيعة المشوَّهة بالخطيئة، ويُوقعنا في تناقض مع التضامن بيننا في المسيح. ومن هذا المنطلق، ينبغي على المؤمن الحقيقي أن ينبذ الكذب من حياته، ليصير في وحدة شركة مع إله الحق كما أشار صاحب المزامير في صلاته " يا رَبُّ، مَن يُقيمُ في خَيمَتِكَ ومَنْ يَسكُنُ في جَبَلِ قِدسِكَ؟ السَّالِكُ طَريقَ الكَمالِ وفاعِلُ البِرِّ والمُتَكَلِّمُ مِن قَلْبِه بِالحَقِّ (مزمور 15: 1-2). لا يكمن الكذب الأكبر في كذب الشفتين، بل في كذب الحياة (1 تسالونيقي 1: 9). ويكمن كذب الحياة في تجاهل الإله الحقيقي باتَخاذ الكذب عادة ثابتة في الحياة، ذلك هو مسلك الأشرار المحتالون، أعداء الإنسان الصالح كما يشير إلى ذلك يشوع بن سيراخ "لا يَدْعُكَ النَّاسُ نَمَّامًا ولا تَكْمُنْ بِلِسانِكَ فإنَّ لِلسَّارِقِ الخِزْي وعلى ذي اللِّسانَين الحُكمَ الشَّديد "(سيراخ 5: 14)، وليس لديهم إلا الكذب تمتلئ به أفواههم، كما يصفهم صاحب المزامير "خطيئَةُ أَفْواهِهم كَلامُ شِفاهِهم: فليؤخَذوا في تَكبُرِهم لِأَنَّهم بِاللَّعنَةِ والكَذِبِ يَتَحَدَّثون" (مزمور59: 13). ويضعون ثقتهم في الكذب كما جاء في نبوءة هوشع "لقَد حَرَثتُمُ الشَّرُّ وحَصَدتُمُ الظُّلْم وأَكَلتُم ثَمَرَ الكَذِب (هوشع 10: 13). إن التجرد من كل كذب هو مطلب أوّلي من مطالب الحياة المسيحية لا سيما من قِبل حاملي رسالة المسيح ومعلمي الإنجيل (1 بطرس 2: 1). وأننا نقصد بذلك لا كذب الشفتين فحسب، بل أيضاً الكذب الذي تنطوي عليه كل الرذائل (رؤيا 21: 8) وخاصة تجاهل الحقيقة الإلهية وهي أن يسوع هو المسيح كما أشار يوحنا الرسول "مَنِ الكَذَّابُ إِن لم يَكنْ ذاكَ الَّذي يُنكِرُ أَنَّ يسوعَ هو المسيح؟ هذا هو المسيحُ الدَّجَّال ذلك الَّذي يُنكِرُ الآبَ والاِبْن"(1 يوحنا 2: 22). وفي العهد القديم قد أدان الأنبياء الحقيقيون الأنبياء الكذبة، هؤلاء الذين بدلاً من "كلمة" الله، قدّموا للشعب رسالات خادعة (إرميا 5: 31، حزقيال 13: 23 وزكريا 13: 3). أنهم منقادون بالأرواح الشريرة (1 ملوك 22: 21). وكان من الأنبياء الكذبة حنانيا النبي الكذاب (إرميا 28: 1 و12-17). وصدقيا بن كنعنة (1 ملوك 11: 22، 24). ولم يتردَّد السيد المسيح في العهد الجديد من إدانة قادة الشعب اليهودي العميان (متى 23: 16)، هؤلاء المراؤون الكذابون، الذين رفضوا أن يؤمنوا به (يوحنا 8: 55)، كما أدان كل الذين يحرِّضون على الكذب وإبعاد الناس عن الإنجيل مثل: المسحاء الدجالون (1 يوحنا 2: 18-28)، والرسل الكذبة (رؤيا 2: 2)، والأنبياء الكذبة (متى 7: 15)، والمسحاء الكذبة (متى 24: 24) والمعلمون الكذبة (2 طيموتاوس 4: 43) والأخوة الكذبة، أعداء الإنجيل الحقيقي (غلاطية 2: 4) وأعداء الحق الإنجيلي (1 طيموتاوس 4: 2). الخلاصة إن من يبحث عن الله ويحمل رسالة الإنجيل ينبغي أن يتجنب كل رياء وازدواجية (حكمة 1: 1)، بحيث لا ينبغي أن يتقاسم قلبه شيء كما جاء في تعليم يعقوب الرسول "نَقُّوا قُلوبَكم يا ذَوي النَّفْسَين" (يعقوب 4: 8)، أو ما يُضلّل نيَّته (سيراخ 1: 28-30)، أو يحدّ من سخائه البالغ حدّ المجازفة بالحياة (1 مكابين 2: 37)، أو يجعل ثقته في حالة تردُّد (يعقوب 1: 8). فيجب أن يتغلب على كل اعوجاج في سلوكه (أمثال 10: 9) وفي كلامه (سيراخ 5: 9). علاوة على ذلك، يطلب السيد المسيح من تلميذه أن ينظر إلى أعماق حياته، إلى داخله وينتقد ذاته، خاصة عندما يحاول أن ينظر بالمجهر إلى ضعف الكنيسة والكهنة وإخوته الذين لا يشاطرونه آرائه، وليحاول بالحري أن يكشف أخطائه. والواقع، إننا نفقد القوَّة على إصلاح أنفسنا عندما ننظر دائما نحو أخينا، أنه لأمر خطير أن نحكم على إنسان من أجل خطيئة واحدة ارتكبها، لذلك يقول المسيح: "يا مرائي أخرج أولًا الخشبة من عينك، وحينئذ تُبصر جيِّدًا أن تُخرج القذَى الذي في عين أخيك". يسوع يشبِّه خطيَّئة الأخ بالقذَى. فكيف يمكنك نقد الآخرين والكشف عن سيئاتهم وشرورهم وفحص أسقامهم وأمراضهم وأنت شرِّير أثيم ومريض سقيم؟ بل كيف يمكنك رؤيّة القذَى الذي في عين أخيك، وبعينك خشبَة تحجب عينك فلا ترى شيئًا؟ فالأولى بك أن تنزع عنك عيوبك، فيمكنك الحكم بعد ذلك على الآخرين. علينا مراجعة الحياة، أن نعود إلى أعماق ذواتنا قبل نقذنا اللاذع للآخرين بقصد إظهار أخطائهم وعيوبهم. وبكلمة أخرى، علينا إصلاح ذواتنا قبل إصلاح الآخرين. في حال توجّب علينا التوبيخ أو التأديب، فلنحرص حرصًا شديدًا على طرح السؤال التالي على أنفسنا: ألم نقترف قطّ هذا الخطأ ذاته؟ وهل شُفينا منه؟ حتّى لو لم يسبق أن اقترفنا ذلك الخطأ، فلنتذكّر أنّنا بشر وأنّه كان بوسعنا اقترافه. أمّا إذا كنّا قد اقترفنا هذا الخطأ في الماضي، فلنتذكّر هشاشتنا حتّى يغدو توبيخنا أو تأديبنا مليئًا بالعطف لا بالحقد. لكن خلال عودتنا إلى ذواتنا، إن اكتشفنا فينا الخطأ ذاته الذي نلوم الآخر على اقترافه، فلنبكِ مع المُذنب بدلاً من تأنيبه ولنطلب منه مشاركتنا جهودنا عوضًا عن إطاعتنا. دعاء "قَلبًا طاهِرًا اْخلُقْ فيَّنا يا ألله ورُوحًا ثابِتًا جَدِّد في باطِننا "، هبنا رؤية واضحة، فنستطيع أن نعامل إخوتنا دون رياء العين ودون رياء القلب كي نساعدهم أن يروا الأشياء بوضوح للسير في طريق الذي تؤدي إلى الحق والحياة. أمين قصة وعبرة: "مِن فَيضِ قَلبِه يَتَكَلَّمُ لِسانُه" (لوقا 6: 45) حكى أنه كان هناك ثلاثة رجال، يفكرون كثيراً في كيفية حماية لسانهم من الزلل، وكيف يضمنون صواب كلماتهم وتأثيرها. وبينما هم يفكرون، أقبل عليهم ملاك من السماء قائلاً: "لقد سُرِّ الله بكم وأنتم تفكرون في أمر كهذا وأرسلني لأرى ماذا يطلب كل واحد منكم". ثم اتجه الملاك إلى الأول بسؤاله: ماذا تريد أن يعطيك الله؟ فأجاب الأول: إني أخطئ كثيراً في كلامي، لذلك أريد فماً مغلقاً. أعرف إني سوف أخسر الكثير من الكلام الجيد الذي يمكن أن أقوله، لكنى سأضمن إني لن أخطئ في الكلام". وهكذا فعل له الملاك، فأعطاه فماً مغلقاً لا ينطق، فعاش طول عمره أخرساً، لا يخطئ في الكلام، ولكنه لا يتكلم أيضاً بما يفيد. ثم اتجه الملاك إلى الثاني بذات السؤال: فجاوبه قائلاً: "أعطني ذهناً متقداً بالذكاء، وبذلك سوف يقي ذكاء ذهني لساني من الزلل، وسأعرف أن أميِّز بين المفيد والمضر من الكلام. وكان له هذا فأعطاه الملاك ذهناً متقداً بالذكاء، وكان يُميز بين المفيد من الكلام والضار بذلك الذهن المتَّقد ذكاءً، إلا أن مشاعره وأحاسيسه كانت تغلبه أحياناً، فينطق بما لا يريد أن ينطق، ويقول ما يعرف أنه ضار، لقد كان ذهنه يُميِّز بين المفيد والضار، أما إرادته فكانت تغلبه أحياناً. وأخيراً جاء الملاك الثالث بذات السؤال، لم يجيب الثالث على الفور ولكنه فتح الكتاب المقدس على إنجيل القديس لوقا وقرأ بصوت عال " فمِن فَيضِ قَلبِه يَتَكَلَّمُ لِسانُه" (لوقا 6: 45). ثم بدأ يوجه كلامه للملاك قائلاً: أعطني قلباً مرضياً لدى الله." وبذلك لن أخشى الزلل في الكلام، ولن أفكر كثيراً قبل أن أنطق. فقلبي الطاهر سيضمن لي أن أخرج كلمات نقية في وقتها الصحيح". وقد أعطاه الملاك ما طلبه، فعاش سعيداً هانئاً. ويحكى أن ذلك الشخص لم يخطئ في كلامه أبداً، بل كان كل كلامه كلام حكمة، وكان بلسم لكل متألم، وتشجيع لكل ضعيف، وقد كانت أحلى كلماته تلك التي يترنم بها، هي تلك التي يقرأها في الكتاب المقدس. فكان في كل صباح تجده يترنم قائلاً: " قَلبًا طاهِرًا اْخلُقْ فيَّ يا ألله ورُوحًا ثابِتًا جَدِّد في باطِني" (مزمور 51: 12). الأب لويس حزبون - فلسطين |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
صَليبُكَ أعطاني الخَلاص وكَساني رِداء البِرّ |
القديس ميساك القفطي |
السلام لكى يا من حملتى النور فى أحشاك |
إعصار أيزاك يقطع الكهرباء عن نصف مليون شخص فى ولاية لويزيانا |
رِداء شنعاري |