|
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
المـقـالـة الأولى أعياد العذراء السبعة السنوية الفصل الأول * الأصلية وكيف أنه لائقٌ جداً بالثلاثة الأقانيم الإلهية أن * * يسبقوا ويحفظوا مريم البتول ناجيةً من دنس خطيئة * * آدم وحواء: وفيه ثلاثة أجزاء * † الجزء الأول † * في كم هو لائقٌ هذا الحفظ بأقنوم الله الآب* فلنتكلم الآن عن هذه اللياقة المختصة بالله الآب الذي هو الأقنوم الأول من الثالوث الأقدس قائلين: أنه لأمرٌ لائقٌ جداً بالآب الأزلي أن يحفظ مريم البتول ناجيةً من دنس الخطيئة الأصلية، لأن هذه العذراء هي أبنته تعالى، بل هي أبنته البكر. كما كتب عنها: أنما أنا خرجت من فم العلي بكراً قبل جميع المخلوقات: (أبن سيراخ ص24 ع5) لأن مفسري الكتاب المقدس، والآباء القديسين بل الكنيسة الجامعة نفسها، خاصةً في عيد الحبل بمريم البريء من الدنس قد خصصت كلمات هذا النص الإلهي بوالدة الإله هذه الدائمة بكارتها. على أن مريم العذراء هي أبنةٌ بكرٌ لله. أما من قبيل كونها أختيرت منتخبةً جملةً مع أبنها يسوع المسيح بالمراسيم الأزلية قبل المخلوقات كلها، كما يعلّم ذلك المدارسيون السكوتيستيون، وأما أنها هي أبنةٌ بكرٌ لله بالنعمة بحسب كونها أعدت مختارةً أماً حقيقيةً لفادي الجنس البشري، بعد أن الله سبق وعرف الخطيئة العتيدة حدوثها، كما يعلّم المدارسيون التوماويون. الا أن هؤلاء وأوالئك على حدٍ سواء يتفقون برأيٍ واحدٍ في أن يسموا هذه البتول المجيدة أبنةً لله البكر، الأمر الذي هو مملؤٌ من اللياقة. أنها أي مريم العذراء لا تكون وجدت أصلاً أسيرةً للوسيفوروس، بل دائماً أن تكون حصلت ممتلكةً من الله وحده خالقها، حسبما تقول هي عن نفسها: أن الرب أقتناني بدأً لطرقه قبل أن يصنع شيئاً من البدء: (أمثال ص8ع22) ومن ثم بالصواب قد دعيت هذه البتول من القديس ديونيسيوس البطريرك الأسكندري: أنها وحدها هي أبنةٌ وحيدةٌ للحياة، خلافاً لبقية الأنفس اللواتي يولدن بالخطيئة بناتٍ للموت.* وما عدا ذلك أنه قد لاق في الغاية أن الآب الأزلي يخلق هذه الأبنة في حال نعمته، لأنه عز وجل قد أقامها منتخباً إياها بصفة مصلحة للعالم الهالك، ووسيطة للصلح والسلام فيما بينه تعالى وبين البشر. حسبما يلقبها بذلك الآباء القديسون، خاصةً القديس يوحنا الدمشقي (في ميمره الأول على ميلادها) اذ يقول نحوها هكذا: أنكِ لقد ولدتِ أيتها البتول المباركة، لتستخدمي صائرةً خلاصاً لسكان الأرض كلها: ولذلك يعلم القديس برنردوس قائلاً: أن سفينة نوح كانت رسما لمريم العذراء لأنه كما أن البشر قد خلصوا من الغرق العرمرمي بواسطة تلك السفينة، فهكذا نحن خلصنا من غرق الخطيئة بواسطة مريم، غير أن الفرق الكائن فيما بين الرسم والحقيقة هو أنه بواسطة السفينة النوحية قد خلص نفرٌ يسيرٌ (أي ثمانية أشخاص فقط) وأما بواسطة مريم فقد خلص الجنس البشري بأسره، ولذلك يسميها القديس أثاناسيوس الكبير أنها هي حواء الجديدة أم الحياة. لأن حواء الأولى قد وجدت هي أم الموت، وأما البتول المجيدة فهي أم الحياة. والقديس ثاوفانوس أسقف نيقية يتفوه نحوها هاتفاً: السلام عليكِ يا مصلحة حزن حواء المنقذة إياها من الغموم. والقديس باسيليوس الكبير يصرخ إليها قائلاً: السلام عليكِ يا وسيطة الصلح فيما بين الله والبشر. والقديس أفرام السرياني يهتف نحوها بقوله: السلام عليكِ يا مصالحة العالم بأسره مع خالقه.* فأمرٌ واضحٌ هو أن من يدخل وسيطاً فيما للصلح، لا ينبغي أن توجد فيما بينه وبين االمهان من الفريق المهين أدنى عداوةٍ. وبأكثر من ذلك يلزمه أن يكون ناجياً من الأشتراك بجريرة الأهانة عينها. لأنه كما يقول القديس غريغوريوس الكبير: أنه لكي يستعطف خاطر القاضي ويهدئ غضبه لا يحب أن يمضي إليه وسيطاً بذلك، رجلٌ يكون عدواً له، والا فعوضاً عن أكتساب رضوان القاضي وأجتلابه الى الصفح يشتد بالأكثر رجزه ضد المذنب. ولهذا اذ كان يلزم أن مريم تدخل وسيطةً للصلح فيما بين الله والبشر، فبكل الوجوه واللياقة كان يلزمها أن لا توجد هي أيضاً مدنسةً بالخطيئة، ولا تظهر أمامه تعالى مشابةً بالعداوة له عز وجل، بل كان يقتضي أن توجد بكليتها صديقةً له بريئة من الذنب، ناجية من دنس المعصية.* ثم بأبلغ من ذلك، لاق واجباً أن الله يسبق ويحفظ هذه البتول من تبعة الخطيئة الجدية، لأنه جلت قدوسيته قد كان أعدها مختاراً إياها لأن تسحق رأس الحية الجهنمية، التي لكونها خدعت أبوينا الأولين، فقد سببت بسقطتهما الموت للجنس البشري جميعه. كما يظهر مما قاله الحق بالذات، اذ أبرز الحكومة ضد هذه الحية الخبيثة بقوله لها: وأضعن العداوة بينكِ وبين الأمرأة. وبين نسلكِ ونسلها وهي تسحق رأسكِ: (تكوين ص3ع15) فأن كانت مريم اذاً هي تلك الأمرأة الشجاعة التي أوجدها الله في العالم لتنتصر على لوسيفوروس، فبالحقيقة لم يكن لائقاً أن تكون هي قبلاً وجدت مغلوبةً من هذا العدو الجهنمي حاصلةً تحت أسره، بل بالأحرى قد كان بالصواب أن توجد هي بريئةً من دنس كل خطيئةٍ، وناجيةً من أية ولايةٍ كانت للعدو الجحيمي عليها، فأي نعم أن لوسيفوروس المتعجرف قد أجتهد في أن يدنس نفس هذه البتول الكلية الطهارة، بالنوع الذي به قد كان دنس بسمه القتال أنفس جميع البشر. ولكن فليكن دائماً مسبحاً وممجداً صلاح الله الذي سبق لأجل ذلك وأملأ هذه النفس المباركة نعماً هكذا عظيمةً، حتى أنها اذ أستمرت ناجيةً من تبعة المعصية، وسالمةً من دنس كل خطيئةٍ. فقد أستطاعت على هذه الصورة أن تحارب الحية الجهنمية المتكبرة وتغلبها منتصرةً عليها، كما يقول القديس أوغوسطينوس: ( أو ذاك المنسوب له تفسير سفر التكوين): أنه اذ كان الشيطان هو رأس الخطيئة الأصلية، فمريم قد سحقته لأجل أن الخطيئة لم تجد في نفسها النقية مدخلاً، وهي وجدت بريئةً من كل دنسٍ. ثم كما يقول القديس بوناونتورا واضحاً: أنه قد كان واجباً أن مريم البتول الطوباوية المزيحة عنا العار والأهانة تنتصر على الشيطان، بحسب كونها لم تحصل تحت حوزته بنوعٍ من الأنواع أصلاً.* الا أنه بوجهٍ أخص من كل الأوجه – لائق أولاً وبدأً بالآب الأزلي أن يصير أبنته هذه خاليةً بالكلية من دنس خطيئة آدم، من هذا القبيل خاصةً، وهو من كونه أنتخبها وميزها وأعدها لأن تكون أماً بالجسد لأبنه الإلهي الوحيد. ولذلك يقول نحوها القديس برنردينوس السياني: أنكِ قد أنتخبتِ مرسومةً في عقل الله قبل الخلائق كلها، لكي تعطي أنتِ الكون الإنساني لله عينه: فاذاً قلما يكون لأجل هذه الغاية اذا لم تكن غاياتٌ أخرى غيرها. أي لكي يكرم الله الآب أبنه الذي هو إلهٌ مساوٍ له، فكان من الصواب أنه تعالى يخلق والدة أبنه هذه بريئة من كل دنسٍ وعيبٍ. فيقول المعلم الملائكي القديس توما: أن كل الأشياء التي رسمت مختصةً بالله، يلزمها أن تكون مقدسةً نقيةً طاهرةً ناجيةً من كل دنسٍ أم وصمةٍ أو عيبٍ. ومن ثم عندما كان هيأ داود الملك تلك المواد العظيمة من الجواهر والذهب والفضة والنحاس وكل ما كان يلزم لتشييد هيكل الله في أورشليم بنوعٍ لائقٍ بالرب قال: لأن هذا البنيان العظيم ليس هو لإنسانٍ بل لله رب العالمين: (سفر الأيام الأول ص29ع1) فكم اذاً بأبلغ من ذلك يلزمنا أن نعتقد بالصواب في أن خالق الكون الأعظم، حينما هيأ لأبنه الإلهي عينه أماً، قد لزم الأمر أن يجملها عز وجل بجميع تلك النعم الأثمن والأسمى، لكي تكون مسكناً لائقاً بإلهٍ. ويثبت هذا القول نفسه الطوباوي ديونيسيوس كارتوزيانوس، بل أن الكنيسة المقدسة عينها تحقق لنا ذلك بشهادتها في أن الله قد هيأ نفس البتول الطوباوية وجسدها، وأعدهما ليكونا منزلاً لائقاً في الأرض لأبنه الوحيد. اذ يقول في صلواتها نحو الله الآب هكذا: أيها الإله الأزلي القادر على كل شيءٍ، يا من هيأت نفس العذراء الأم المجيدة وجسدها بنوعٍ يليق لسكنى أبنكَ، كما أن روحكَ القدوس قد شارككَ في هذا الأستعداد:* فأمرٌ معلومٌ هو أن كرامة الأولاد الأولى وشرفهم الأول هو أتلادهم من والدين شرفا، كما هو مكتوبٌ: أن فخر الأولاد أباؤهم: (أمثال ص17ع6) ولذلك فالأحتقار الذي يلم بأولئك الأولاد من قبيل أنهم لم يملكوا خيراتٍ أرضيةٍ أو علوماً، هو محتملٌ في العالم بأكثر سهولةٍ من الأحتقار الملم بأولئك المولودين مولداً ذا عيبٍ وأهانةٍ. لأن الأبن الفقير يمكنه أن يكتسب بأتعابه وجهده الغنى ويصير مثرياً من الموجودات، وكذلك الأبن العاري من العلوم يمكنه درسها وأكتسابها ولو بعد حينٍ، وأما المولود من سلالةٍ دنيةٍ أو معابةٍ، فأمرٌ كلي الصعوبة هو أن يمكنه البلوغ الى مراتب الشرف. واذا أتفق له أن يحصل على ذلك فدائماً يبقى تحت الخوف من أن أحداً يعيره بدناءة أصله، أو بشائبة مولده، أم بعيب سلالته. فكيف اذاً يمكننا أن نتصور أمراً مستطاعاً لائقاً أن الله الآب، اذ هو قادرٌ أن يجعل أبنه أن يولد متجسداً من أمٍ شريفةٍ بشرفٍ حقيفيٍ. وهو حفظه إياها ناجيةً من دنس الخطيئة بنعمةٍ خصوصيةٍ منه، ولم يرد أن يفعل ذلك، بل شاء أنه يتجسد من أمٍ معابةٍ بجريرة الأثم والمعصية، سامحاً بأن لوسيفوروس يستطيع أن يعيره بأنه ولد من أمٍ حصلت في وقتٍ ما أسيرةً تحت حوزته الجهنمية عدوةً لله، لا لعمري أن الله الآب لم يسمح بذلك قط، لكنه سبق ودبر ما يليق بكرامة أبنه الوحيد، مصيراً أن تكون والدة هذا الإبن الإلهي مستثناةً محفوظةً بريئة من العيب، وناجية من دنس المعصية الأصلية، لتوجد بكليتها أماً لائقةً لأبنٍ هذه صفته. فهكذا تشهد لنا الكنيسة اليونانية في المينولوجيون في فرض اليوم الخامس والعشرين من شهر آذار قائلةً: أن العناية الإلهية قد صنعت البتول الكلية القداسة بتدبيرٍ خصوصيٍ كاملةً، من قبل أن تبتدئ هي بالحياة. نقيةً طاهرةً بريئةً من العيب، بنوع أنها تكون بكليتها لائقةً ومستحقةً أن تصير للمسيح أماً.* فرأيٌ عامٌ فيما بين اللاهوتيين متفقٌ عليه من جميعهم هو أنه لم يكن منح قط لأحدى المخلوقات نوعٌ ما من المواهب، الا وقد وجدت الطوباوية مريم البتول غنيةً بذاك النوع نفسه مما نالته من الله، فهكذا يقول القديس برنردوس: أنه لأمرٌ واضحٌ هو أن الشيء الذي منح لبعض البشر لا يمكن أن يكون نكر أعطاؤه لبتولةٍ هكذا عظيمةٍ: ويقول القديس توما الفيلانوفي: أنه لم يكن منح أصلاً شيءٌ ما من المواهب لأحدٍ من القديسين. الا وقد تلألأ بنوعٍ متفاضلٍ سامٍ جداً في شخص مريم البتول منذ الدقيقة الأولى من حياتها.* ومن حيث أنه أمرٌ حقيقيٌ هو أنه فيما بين والدة الإله وبين عبيد الإله يوجد فرقٌ لا يحد، كقول القديس يوحنا الدمشقي الذائع الصيت: أنه لتباعدٌ غير متناهٍ كائنٌ فيما بين عبيد الله وبين أمه تعالى: فأمرٌ صادقٌ هو أن يحتسب بالحقيقة أن الله قد منح أنعاماتٍ وأختصاصاتٍ ساميةً جداً لوالدته بالجسد، متفاضلةً جداً عن تلك التي منحها لعبيده، وهذا هو تعليم القديس توما اللاهوتي القائل: أنها لأعظم وأجل في كل نوعٍ، ومتميزةٌ جداً هي النعم والأختصاصات الممنوحة لوالدة الإله، وفائقةٌ في الغاية عن تلك الممنوحة لعبيده عز وجل: فاذا أفترضنا ذلك حقيقةً فيبرهن عنه القديس أنسلموس المحامي العظيم عن الحبل البريء من الدنس بوالدة الإله اذ يقول هكذا:" أهل أن حكمة الله لم تستطع أن تهيئ لأبنه الإلهي مسكناً طاهراً نقياً بحفظها هذا المسكن بريئاً من كل دنسٍ ملتحقٍ بالطبيعة الإنسانية، أو هل أن الله الذي أستطاع أن يحفظ الملائكة في السماء غير معابين ولا مدنسين بجريرة الأثم، في حين سقوط عددٍ عظيمٍ من الأرواح الشريرة، وما قدر مع ذلك أن يحفظ والدة أبنه التي هي سلطانة الملائكة من تبعة سقطة البشر العامة". ثم أني أضيف الى ذلك قائلاً هل أن الله قد أستطاع أن يعطي النعمة لحواء أمنا الأولى بأن تأتي الى العالم بريئةً من العيب والدنس في حال البر الأصلي، وبعد ذلك ما قدر تعالى أن يعطي النعمة لمريم العذراء.* كلا، أن الله قد أستطاع أن يصنع هذا حسناً وقد فعله حقاً. اذ أن الصواب والعقل النطقي يوجبانه بكل لياقةٍ، كما يقول القديس أنسلموس عينه هكذا:" أن تلك البتول التي قد أعدها الله لأن يعطيها أبنه الإلهي نفسه أبناً لها، قد صيرها مزينةً بنقاوةٍ هذا حدها، حتى أنها ليس فقط تفوق بطهارتها على البشر جميعاً وعلى الملائكة كافةً، بل أيضاً أن تكون هي الأعظم بعد الله فيما يمكن للفهم أن يدركه". وبأكثر أيضاحٍ من ذلك يقول القديس يوحنا الدمشقي: أن الله قد حفظ مريم البتول وجسدها بحسبما كان يليق بها أن تقتبل في أحشائها الإله متجسداً، على أنه من حيث أن الله قدوسٌ هو ميستريح في القديسين.* ومن ثم قد أستطاع حسناً أن يتفوه الآب الأزلي نحو أبنته هذه المحبوبة منه قائلاً: كسوسنٍ بين الأشواك هكذا قرينتي بين البنات، (نشيد ص2ع2) أي أنكِ يا أبنتي لكائنةٌ أنتِ فيما بين جميع بناتي الأخرات كزهرة الزنبق بين الأشواك. لأن تلك البنات كلهن مدنساتٌ بجريرة المعصية وبتبعة الخطيئة، وأما أنتِ فوجدتِ دائماً بريئةً من الدنس ناجيةً من العيب صديقةً حبيبةً لي كقرينةٍ طاهرةٍ.* † † الجزء الثاني † * في أنه لائقٌ بالأقنوم الثاني الذي هو الأبن أن يسبق ويحفظ* * مريم العذراء من دنس الخطيئة الأصلية، بحسبما هي أمه* وهذا هو موافقٌ لما كتبه الرسول الإلهي بقوله: أن مثل هذا لائقٌ أن يكون لنا رئيس كهنةٍ باراً لا شر فيه ولا دنس، منفصلاً عن الخطأة وصائراً أعلى من السموات: (عبرانيين ص7ع26) فعن هذا النص يقول أحد العلماء البارعين: أنه على موجب تعليم القديس بولس: لائق وواجب أن فادينا يكون منفصلاً ليس عن الخطايا فقط. بل عن الخطأة أيضاً: كما يفسر ذلك القديس توما اللاهوتي قائلاً: قد كان واجباً به تعالى الذي، أنما جاء الى العالم ليرفع خطيئة العالم أن يكون منفصلاً من الخطأة، نظراً الى الذنب الذي حصل آدم تحت تبعته. فاذاً كيف لكان يمكن أن يصدق القول عن يسوع المسيح أنه منفصلٌ عن الخطأة، لو كان أتخذ له أماً قد وجدت مدنسةً بجريرة الخطيئة الأصلية.* ثم أن القديس أمبروسيوس يقول: أن المسيح قد أختار لذاته هذا الأناء ليس من الأرض بل من السماء، لكي ينحدر بواسطته من السماء الى الأرض، وقد كرسه لذاته هيكلاً طاهراً مقدساً. مريداً بذلك هذا القديس أن يشير عن كلمات الرسول الإلهي وهي: أن الإنسان الأول من الأرض ترابي والإنسان الثاني الرب من السماء: (قرنتيه أولى ص15ع47) وأنما يسمي القديس أمبروسيوس هذه الأم الإلهية إناءً سماوياً، لا كأنها لم تكن هي من الأرض بحسب طبيعتها: كما حلم الأراتقة. بل هي سماوية بالنعمة، لأنها هي فائقةٌ على الملائكة السماويين بالقداسة والطهارة. حسبما كان يليق بإله المجد الذي أعدها لأن يسكن فيها متجسداً من أحشائها. كما أوحى القديس يوحنا المعمدان للقديسة بريجيتا بقوله لها: أنه لم يكن لائقاً بملك المجد أن يسكن قاطناً، الا في الأناء الكلي النقاوة، والمنتخب منه قبل الملكية والبشر أجمعين. وليضف الى ذلك ما أعلنه الآب الأزلي نفسه بالوحي لهذه القديسة وهو: أن مريم قد كانت إناءً نقياً وليس بنقيٍ، وهي نقيةٌ لأنها جميلةٌ بكليتها، وليست بنقيةٍ لأنها ولدت من والدين مدنسين بالخطيئة الأصلية، ولكن قد حبل بها غير مدنسةٍ بالخطيئة الجدية، لكي يولد منها أبني من غير خطيئةٍ: فينبغي هنا أن نلاحظ هذه الكلمات الأخيرة، أي حبل بها من دون خطيئةٍ، لتلد الأبن الإلهي خارجاً عن خطيئةٍ، لا كأنه كان ممكناً أن أبن الله يولد بالخطيئة، بل كيلا يحصل مهاناً من قبيل كونه ولد من أمٍ وجدت وقتاً ما مدنسةً بالخطيئة الأصلية أسيرةً للعدو الجهنمي.* فالروح القدس يقول: أن كرامة المرء هي كرامة أبيه، وقباحة الأبن هي الأب بلا كرامةٍ: ( ابن سيراخ ص3ع13) ولهذا كتب القديس أوغوسطينوس قائلاً: أن يسوع المسيح قد حفظ جسد مريم البتول والدته بريئاً من الفاساد بعد موتها، لأنه لكان الأمر راجعاً لأعانته تعالى، لو كان أعترى الفساد والنتن لحمان جسد هذه السيدة البتولي، الذي منه هو كان لبس الناسوت. فاذاً أن يكن أمراً مهيناً ليسوع المسيح أن يولد من أمٍ ذات جسدٍ لم يكن محفوظاً من فساد النتانة بعد الموت، فكم لكانت الأهانة له عز وجل أعظم، لو أنه ولد من أمٍ كانت نفسها تدنست بنتانة فساد الخطيئة الأصلية. ثم ما عدا ذلك أنه لشيءٌ حقيقيٌ هو أن جسد يسوع المسيح هو من جسد مريم البتول بعينه، ولذلك يقول القديس أوغوسطينوس: أن لحمان جسد المخلص قد أستمرت بعد قيامته من الموت أيضاً هي هي نفسها التي كان هو لبسها من جسد والدته العذراء. ومن ثم يقول القديس أرنولدوس كارنوتانسه: أن جسد يسوع وجسد مريم هما جسدٌ واحدٌ، ولذلك أنا أعتبر أن مجد أبن الله مع مجد والدته ليسا هما مجداً مشتركاً فقط، بل مجدٌ هو هو بعينه: فاذاً من حيث أن ذلك هو شيءٌ حقيقيٌ. فلو كان الحبل بالطوباوية مريم البتول قد تم بحال دنس الخطيئة الأصلية، فلئن لم يكن أبنها الإلهي أتخذ عنها ومنها هذا الدنس لذاته أصلاً، فمع ذلك لكان التحق به تعالى على الدوام نوعٌ ما من العيب، لأتخاذه لذاته لحماناً ناسوتيةً قد كانت وقتاً ما مدنسةً بنفس أمه الملتحق بها دنس الخطيئة الجدية، والصائرة إناءً قبيحاً. والخاضعة لولاية لوسيفوروس.* فمريم الطوباوية هي ليست أماً فقط للمخلص. بل هي أمٌ لائقةٌ أيضاً ومستحقةٌ له عز وجل، كما يسميها الآباء القديسين كافةً. فيقول نحوها القديس برنردوس: أنكِ أنتِ وحدكِ وجدتِ أهلاً ومستحقةً لأن يسكن في حجرتكِ البتولية ملكَ الملوك، الذي قبل أن يقطن فيكِ قد سبق وأعدكِ لذاته. ويقول القديس توما الفيلانوفي: أن مريم البتول من قبل الحبل الإلهي وجدت موضوعاً قابلاً بلياقةٍ لأن تصير أماً لله. بل أن الكنيسة المقدسة نفسها تشهد لنا في إحدى صلواتها: بأن البتول القديسة قد أستحقت أن تكون أماً ليسوع المسيح: وفي هذا الشأن كتب القديس توما اللاهوتي قائلاً: أن مريم ليس من ذاتها أستطاعت أن تستحق تجسد الكلمة الإلهي من أحشائها، بل أنها بقوة النعمة الإلهية قد أستحقت هذا الكمال الذي جعلها أهلاً ومستحقةً لأن تكون أماً لائقةً لإلهٍ: وكذلك يقول القديس بطرس داميانوس: انها لأجل سمو قداستها الفريدة من قبل نعمة الله قد أستحقة أن تعتبر أهلاً لأن تقتبل الله في أحشائها.* فاذا تبرهن كما تقدم القول، أن مريم البتول قد وجدت أماً مستحقةً وأهلاً لله، فأية درجةٍ ساميةٍ من الفضيلة والكمال لائقة بها (كما يقول القديس توما الفيلانوفي) ثم أن المعلم الملائكي نفسه يورد قائلاً: أن الله حينما يختار أحداً الى دعوةٍ أو مرتبةٍ ما، فهو تعالى يصيره موضوعاً قابلاً لذلك بلياقةٍ. ومن ثم اذ أنه عز وجل قد أختار مريم أماً له، فبالحقيقة قد صيرها بواسطة نعمته موضوعاً لائقاً مستحقاً لهذا المقام، ولذلك هذه البتول القديسة لم تسقط قط بخطيئةٍ فعليةٍ، حتى ولا بخطيئةٍ عرضيةٍ، والا لما كانت وجدت هي أماً أهلاً ولائقةً ليسوع المسيح، لأن عيب هذه الأم وعدم أستحقاقها لكان يلتحق بأبنها أيضاً، لحصوله على أمٍ خاطئةٍ. فأن كان اذاً أفتراض سقوط مريم البتول بخطيئةٍ واحدةٍ عرضيةٍ، التي لا تعدم النفس نعمة التقديس، لكان يجعلها أماً غير لائقةٍ ولا أهلاً لله، فكم بأعظم من ذلك لما كانت وجدت أهلاً لأن تصير أماً له جلت قدوسيته، لو كانت نفسها تدنست بالخطيئة الأصلية المهلكة، التي كانت صيرتها عدوةً لله وأسيرةً للشيطان، ولهذا قال القديس أوغوسطينوس في تلك الحكومة الشائعة الذكر وهي: أنه حينما يأتي الخطاب عن مريم العذراء، فلم يود أن يؤتى بذكر شيءٍ يمكن أن يتضمن زلةً ما من الزلات، أو نقصاً ما من النقائص، لأجل كرامة ذاك الرب الذي هي أستحقته أبناً لها، وبواسطته قد فازت بالنعمة التي بها أنتصرت على الخطيئة من كل جهاتها.* فمن ثم يلزمنا أن نعتبر أمراً حقيقياً صادقاً أن كلمة الله المتجسد قد أنتخب لذاته أماً لائقةً به. بنوع أنه لا يلحقه من جرائها أدنى خجالةٍ. كما يبرهن القديس بطرس داميانوس، وحسبما يورد القديس بروكلوس قائلاً: أن الرب قد سكن في تلك الأحشاء التي هو تعالى خلقها بريئةً من العيب. فمخلصنا لم يكن يغتاظ أصلاً من تسمية اليهود إياه. بنية أن يحتقروه: أبن مريم: كأنه أبن أمرأةٍ فقيرةٍ بقولهم: أليس أن أمه تسمى مريم: (متى ص13ع55) فهذا لم يسبب له تعالى عاراً، لأنه جاء الى الأرض ليعطي نموذج التواضع والصبر، ولكن من دون ريبٍ لقد كان بضد ذلك حصل له هوانٌ وسبب له العار، لو أمكن للشيطان وملائكته أن يقولوا عنه: أليس هذا هو المولود من مريم التي في وقتٍ ما وجدت مدنسةً بالخطيئة، وكانت حاصلةً أسيرةً لنا تحت حوزتنا: فلقد كان أمراً غير لائقٍ بالمخلص، لو كان يولد من أمرأةٍ مسقومةٍ بنقصٍ جسديٍ يعيبها ويبشع صورتها، أم أنها تكون معتراةً من الشيطان بجسدها، ولكن كم لكان عظم الأهانة له، لو أنه ولد من أمرأةٍ كانت حيناً ما قبيحة النفس ببشاعة الخطيئة الجدية، ومعتراة نفسها من لوسيفوروس المستولي عليها.* فغير ممكنٍ أن هذا الإله الذي هو الحكمة بالذات الا يعرف أن يهيئ لذاته في الأرض ذاك البيت اللائق لسكناه الذي كان هو مزمعاً أن يقطن فيه. والحال أنه قد كتب: أن الحكمو أبتنت لها بيتاً ودعمته بسبعة أعمدة: (أمثال ص9ع1) ولقد قدس العلي مسكنه، الله في وسطها فلن تتزعزع، يعينها الله من الغداة: (مزمور 46ع6) أي أن الله من الغداة المعبر عنه في بدء حياة مريم، قد أعانها وقدسها مسكناً له، ليعدها أماً لائقةً لذاته لأنه لم يكن ممكناً ولا لائقاً بإلهٍ كلي القداسة الا يختار لذاته بيتاً مقدساً ليسكن فيه، كما يقول المرتل نحو الله: لبيتكَ ينبغي التقديس يا رب الى طول الأيام: (مزمور93ع5) والحال أن الباري تعالى يعلن واضحاً أنه لن يدخل هو الى نفسٍ معابةٍ، ولن يقطن في جسدٍ مجرم بجريرة الأثم، اذ يقول: لأن النفس الرديئة صناعتها لن تدخل الحكمة عليها، ولن تسكن في جسمٍ غريمٍ للخطايا: (حكمة ص1ع4) فكيف اذاً نقدر نحن أن نفتكر في أن أبن الله قد أختار أن يسكن في نفس مريم البتول وفي جسدها، قبل أن يكون حفظها ناجيةً من كل شائبةٍ وعيبٍ صادرٍ عن دنس الخطيئة، وقبل أن يكون قدسها. فالقديس توما اللاهوتي يقول: أن كلمة الآب الأزلي قد سكن ليس في نفس مريم فقط، بل في مستودعها وفي أحشاء جسدها أيضاً: ولذلك ترتل الكنيسة المقدسة بقولها: أنك لم تأنف أيها السيد من أن تقطن في بطن البتولة. على أنه لقد كان أمراً تأنف منه الطبيعة الإلهية أنه تعالى يتجسد متأنساً في أحشاء القديسة أنيسا مثلاً، أو في مستودع القديسة جالتروده، أو في بطن القديسة تريزيا، لأن هؤلاء ولئن كن قديساتٍ بتولاتٍ طاهراتٍ، الا أنهن مع ذلك في وقتٍ ما كن مدنساتٍ بالخطيئة الأصلية التي هن أتلدن بها، ولكن لم يأنف عز وجل من أن يتأنس في أحشاء مريم البتول، لأن هذه العذراء المجيدة المحبوبة قد وجدت دائماً بريئةً من الدنس، وخائبةً من أدنى شائبةً أو عيبٍ صادرٍ عن الخطيئة، وقط لم تدخل تحت حوزة الحية الجهنمية ولا هنيةً زهيدةً من الزمان. ولهذا كتب القديس أوغوسطينوس قائلاً: أن أبن الله لم يصنع لذاته بيتاً آخر أشرف من والدته مريم، التي قط لم تكن خضعت لأعدائه ولا تعرت من زينتها: وبالخلاف يقول القديس كيرللس الأسكندري (في العدد السادس من أعمال المجمع الأفسسي):" من سمع أن أحد علماء المهندسين، بعدما كان يشيد لذاته بيتاً خاصاً، فيعطي فيه حق التملك والأستيلاء عليه أولاً وبدءاً لعدوه الألد". ولهذا يقول القديس متوديوس: أن ذاك الرب الذي أمرنا بوصيته بأن نكرم والدينا، لم يرد تعالى اذ تجسد متأنساً أن يهمل تكميل هذه الوصية، بل أنه أعطى والدته كل نوعٍ من الكرامة والنعمة. ولذلك يبرهن القديس أوغوسطينوس، بأنه يلزم بالحقيقة أن يعتقد في أن يسوع المسيح قد حفظ من الفساد جسد أمه مريم بعد موتها، كما سبق القول، لأنه اذا لم يكن يصنع هذا لما كان حفظ حقاً الشريعة المرسومة منه التي، كما أنها تأمر بتكريم الوالدين، كذلك تنهي عن أهانتهم.* فكم لكان نقص يسوع في تكريم والدته، لو أنه لم يكن حفظها من تبعة خطيئة آدم، فيقول الأب توما أرجانتينا أحد رهبان قانون القديس أوغوسطينوس: أنه يرتكب الخطأ من دون ريبٍ ذاك الأبن الذي، مع مقدرته على أن يحفظ والدته من دنس الخطيئة الأصلية لا يريد أن يفعل ذلك. فالشيء الذي يحسب علينا خطيئةً يلزم أن يعتقد أنه لم يكن ملائماً لكرامة أبن الله أن يفعله، أي أن يهمل خلقه والدته بريئةً من العيب، مع مقدرته على خلقها كذلك: كلا، أنه تعالى لم يهمل أن يصنع ذلك، حسبما يهتف العلامة جرسون قائلاً نحو مخلصنا هكذا: أنك اذا أردت أيها الملك السماوي أن تختار أماً لذاتك فكان يلزمك بالحقيقة أن تكرمها، والحال أنه لكان أمراً واضحاً جداً أنك لم تكن أكملت بالصواب هذه الشريعة، لو أنك تكون سمحت بأن دنس الخطيئة الأصلية الرجس يلتحق بتلك التي كان يلزمها أن توجد مسكناً للنقاوة بجملتها. وما عدا ذلك أنه أمرٌ واضحٌ هو ما يقوله القديس برنردينوس السياني: ان الأبن الإلهي جاء الى العالم لينقذ بنوعٍ أخص مريم العذراء فضلاً عن سائر الجنس البشري. ومن حيث أنه كتعليم القديس أوغوسطينوس يوجد نوعان بهما يتم الأنقاذ: فأحدهما هو أنهاض ذاك الذي يكون سقط، وثانيهما هو تدبير طريقةٍ بها يحفظ هو من أن يسقط. ومن دون ريبٍ أن النوع الثاني هو الأشرف (كما يقول القديس أنطونينوس) لأنه بذلك تصير النجاة من الضرر ومن العيب اللذين دائماً يلتحقان بنفس من يسقط بخطيئةٍ. فمن ثم بهذا النوع الثاني الأشرف والأليق بمن هي والدة الإله ينبغي واجباً أن يعتقد في أن مريم قد أنقذت. اذ أن القديس بوناونتورا في عظته الثانية على نياح والدة الإله ( العظة التي هي بالحقيقة له كما يبرهن العلامة فراسان) يقول هكذا: أنه يلزم أن يعتقد بأنه في نوع التقديس الجديد المختص بالحبل بهذه السيدة، فالروح القدس في الدقيقة الأولى حررها معتقاً من تبعة الخطيئة الأصلية (لا كأنها وجدت مدنسةً بها وهو بررها منها، بل أنه جعلها الا تتدنس بها) وهكذا بنعمةٍ حصوصيةٍ حفظها منها: وقد كتب في هذا الشأن الكردينال كوزانوس عباراتٍ جليلة بقوله: أن الآخرين قد فازوا بالمسيح مخلصاً إياهم من الخطيئة التي قد فعلت، وأما مريم البتول فقد فازت بهذا المخلص منجياً إياها من أن تلتحق بها جريرة الخطيئة مطلقاً.* وبالأجمال أختتاماً لهذا الجزء يقول أوغون الذي من سان فيتورة: أنه من الثمرة تعرف الشجرة. فأن كان الخاروف حمل الله قد وجد دائماً بريئاً من العيب، فيلزم أن تكون والدته كذلك دائماً بريئةً من العيب: ومن ثم يتفوه نحوها هذا العلامة نفسه قائلاً: يا لكِ من أمٍ مستحقةٍ إبنٍ مستحقٍ (مريداً أن يبين المعنى بأن مريم العذراء وحدها وجدت أهلاً ولائقةً أن تصير أماً لإبن إلهي هذه صفة عظمته وقداسته. الذي هو وحده أستحق أماً هذا حد نقاوتها وطهارتها التي هي هذه البتول المجيدة): يا لكِ من مستأهلةٍ لمستأهلٍ، وجميلةٍ لجميلٍ، وساميةٍ لسامٍ: فلنقل اذاً نحو هذه السيدة العظيمة (مع القديس أيدالفونسوس) هكذا: يا مريم رضعي خالقكِ، أغدي باللبن ذاك الذي صنعكِ، وقد جملكِ بهذا الحد من النقاوة والكمال، حتى أنكِ أستحقيتِ أن يتخذ هو منكِ الطبيعة الإنسانية:* † الجزء الثالث † في أنه أن كان لائقٌ بالله الآب أن يحفظ مريم البتول بريئةً من دنس الخطيئة الأصلية، بحسبما هي أبنته،ولائقٌ بالله الأبن أن يصنع معها ذلك، بحسبما هي أمه... ولائقٌ أيضاً بالله الروح القدس أن يفعل * معها هذا بحسبما هي عروسته.* فاذاً لو كان ممكناً أن يعطى من الله أحد المصورين أن الأمرأة التي هو يصور صورتها حسبما يريد، جميلةً كانت أو شنيعةً، فهذه نفسها ستكون له عروسةً شرعيةً، فترى كم من الجهد والعناية لكان يبذل هذا المصور في أن يجعل تلك الصورة بهيةً جميلةً فائقةً على كل ما سواها. فمن يمكنه اذاً أن يقول، أن الروح القدس لم يصنع نظير ذلك مع مريم البتول. أي أنه تعالى مع كونه قادراً على خلقها بتلك النقاوة وجمال النفس الفائق البهاء. لتكون عروسةً له، فلم يخلقها هكذا، كلا، أنه عز وجل قد خلقها بريئةً من الدنس لأنه هكذا كان يليق به أن يصنع وكذلك حقاً صنع. حسبما يشهد هو نفسه الحق بالذات في مديحه هذه المخلوقة الجليلة قائلاً نحوها: كلكِ جميلةٌ يا قرينتي وليس فيكِ عيبٌ (نشيد ص4ع7) فهذه الكلمات تفهم بالحصر عن مريم العذراء. كقول القديسين أيدالفونسوس وتوما اللاهوتي، كما يورد كورنيليوس الحجري في تفسيره هذا النص، بل أن القديسين برنردينوس السياني، ولورانسوس يوستينياني يبرهنان على أن الكلمات المذكورة قيلت عن مريم العذراء حين الحبل بها البريء من الدنس. ومن ثم يخاطب هذه السيدة أيديوطا العلامة قائلاً: أنتِ كلكِ جميلةٌ أيتها البتول الكلية المجد، أي ليس بالتجزيء أنتِ جميلةٌ بل بكليتكِ، وليس فيكِ عيبٌ لا من دنس الخطيئة المميتة، ولا من تبعة الخطيئة العرضية ولا من جريرة الخطيئة الأصلية.* والى هذا المعنى نفسه قد أشار الروح القدس حينما دعا عروسته هذه بستاناً مغلقاً بقوله: أن أختي العروسة هي بستانٌ مغلقٌ جنةٌ مقفلةٌ عينٌ مختومةٌ: (نشيد ص4ع12) فيقول القديس أيرونيموس:" أن مريم هي بالحصر هذا البستان المغلق، وهذه العين المختومة، لأن الأعداء ما أستطاعوا قط أن يدخلوا إليها ليهينوها. بل أنها قد أنحفظت على الدوام غير مثلومةٍ ولا معابةٍ، بأستمرارها دائماً قديسةً نفساً وجسماً معاً". ونظير ذلك قال القديس برنردوس مخاطباً هذه السيدة المجيدة في تفسيره النص المقدم ذكره هكذا: انتِ هي هذا البستان المغلق، لأن أيدي الخطأة لم تدخل إليكِ لتسلب منك شيئاً.* ثم اننا نعلم أن هذا العروس الإلهي قد أحب عروسته مريم أشد حباً مما أحب به القديسين كافةً جملةً مع الملائكة. كما يبرهن الأب سوارس مع القديس لورانسوس يوستينياني وغيرهما. فهو تعالى منذ البدء قد أحبها وشرفها وكرمها، كما يرتل داود النبي بقوله: الذي أساسه في الجبال المقدسة، الرب أحب أبواب صهيون أفضل من جميع مساكن يعقوب... إنسانٌ ولد فيها وهو العلي الذي أسسها: (مزمور 87ع1 ثم ع5) فلا ريب في أن هذه الكلمات كلها تعلن أن مريم كانت قديسةً منذ الحبل بها. وهذا نفسه تعنيه أوقال الروح القدس من أجلها في أمكنةٍ أخرى فيقول عز وجل هكذا:" بناتٌ كثيراتٌ صنعن قوةً، كثيراتٌ أمتلكن غناءً. كثيراتٌ وجدن شرفاً وأماءً، وأنتِ فقتِ عليهن وأرتفعتِ مستعليةً على جميعهن: (أمثال ص31ع29) فأن كانت مريم فاقت وأرتفعت على الجميع بغنى النعمة، فاذاً قد فازت منذ خلقتها بالبر الأصلي. كما كان حصل على ذلك آدم والملائكة. ثم يقول تعالى: أن الملكات هن ستون، والسريات هن ثمانون، والشواب لا عدد لكثرتهن، وأما حمامتي وكاملتي (بل أنه يقرأ في النص العبراني كاملتي البريئة من الدنس) فهي واحدةٌ، هي وحيدةٌ لأمها، هي منتخبةٌ لوالدتها: (نشيد ص6ع7) فالأنفس البارة كافةً هن بناتٌ للنعمة الإلهية، وأما مريم فهي فيما بينهن الحمامة النقية الخالية من مرارة الخطيئة، وهي الكاملة البريئة من دنس المعصية الجدية، وهي الوحيدة التي حبل بها في حال النعمة.* ولذلك زعيم الملائكة جبرائيل قد وجد هذه البتول ممتلئةً نعمةً قبل أن تكون بعد صارت أماً لله. ولهذه العلة نفسها حياها بالسلام قائلاً لها: أفرحي يا ممتلئةً نعمةً. فعن هذه الكلمات كتب صفرونيوس هكذا: أن النعمة تعطى للقديسين الآخرين بالتبعيض والتجزيء، وأما للبتول القديسة فقد أعطيت النعمة كلها، بنوع أنه كما يقول القديس توما اللاهوتي: أن النعمة قد صيرت قديسةً لا نفس مريم العذراء فقط، بل لحمان جسدها أيضاً، حتى أنها أستطاعت هي بعد ذلك أن تلبس الكلمة الأزلي من هذه اللحمان المقدسة جسداً: فهذه الأقوال كلها تقودنا أن نستنتج ونفهم جيداً، أن البتول مريم قد أغنيت من عروسها الروح القدس في حين الحبل بها بالنعمة الإلهية ممتلئةً منها، كما يبرهن بطرس جالانسه:" بأنه في هذه الأم وجد ملوء النعمة مجموعاً، لأنها منذ الدقيقة الأولى من الحبل بها قد أفيضت عليها النعمة كلها من قبل فعل أنسكاب الروح القدس". ولذلك يقول القديس بطرس داميانوس: أن الله قد أنتخب سريعاً هذه البتول، وسبق الروح القدس وأختارها عاجلاً كمختطفٍ: مريداً بهذا القول أن يشير عن السرعة التي بها الروح القدس حين الحبل بهذه العذراء، قد سبق مختصاً إياها لذاته عروسةً قبل أن يدنو منها لوسيفوروس بتدنسٍ ما.* فأنا أريد أخيراً أن أختتم الفصل الحاضر (الذي قد أمتدت فيه الإيرادات بأكثر مما سواه، من حيث أن جميعيتنا الحقيرة الصغيرة قد أتخذت البتول الكلية القداسة محاميةً عنها بالحصر تحت صفة الحبل بها البريء من الدنس) وأني أنهي هذا الجزء الثالث نفسه، بإيرادي بقدر ما يمكنني من الأختصار، العلل والأسباب التي صيرتني مقتنعاً كل الأقتناع، كما أنها هي كافيةٌ لأن تلزم كل أحدٍ بالأقتناع في هذا الرأي الحاوي ما هو الأفضل في العبادة الحسنة لهذه السيدة المجيدة. وفي تكريمها الواجب الراجه لمجدها السامي، بالأعتقاد في أنه حبل بها نقية ناجيةً من دنس الخطيئة الأصلية.* على أنه يوجد علماءٌ كثيرون وهم غالاتينوس، الكردينال كوزانوس، دابونته، سالاسار، كاتارينوس، نوفارينوس، فيفا، دالوغوس، أجيديوس. ريكاردوس، وغيرهم جزيلوا العدد الذين تمسكوا بهذا الرأي أيضاً محامين عنه بقوةٍ، وهو أنه لم يلتحق بالعذراء المجيدة حتى ولا الدين الناتج عن الخطيئة الأصلية، فهذا الرأي يمكن أثباته كثيراً، لأنه أن كان أمراً حقيقياً هو أنه ضمن أرادة الأب الأول آدم قد كانت موجودةً بالتضمن أرادة جميع البشر. بحسب كون هذا الأب هو رأس الطبيعة البشرية، كما يرتأي أمكانية ذلك المعلمان غونات وهابارت مع آخرين غيرهما، مستندين على كلمات القديس الرسول بولس القائل: أن جميع الناس أخطأوا فيه: (رومانيين ص5ع12) أي بواسطة آدم. فممكنٌ هو أيضاً أن مريم البتول لم تدخل تحت طائلة الدين الصادر عن معصية آدم، من قبيل أن الله قد ميزها كثيراً عن عموم البشر بالنعم الخصوصية. ومن ثم ينبغي أن يعتقد بحسن تدينٍ أن الله لم يشأ أن تكون أرادة مريم العذراء محتويةً ضمن أرادة آدم.* فهذا الرأي أنما هو رأيٌ ممكنٌ أثباته لا غير، وأنا أتبعه من أجل أنه ذو مجد أفضل لسيدتي، ولكنني أعتبر أكيداً حقيقياً ذاك الرأي القائم في أنه لم تلتحق قط بهذه السيدة المجيدة خطيئة آدم، الأمر الذي تمسك به اللاهوتيون الآتي ذكرهم وأعتبروه حقيقياً، بل أعتقدوا به أنه قضيةٌ مناهزةٌ أن تكون محددةً من الكنيسة الجامعة بأنها من الإيمان، وهم الكردينال أيفاراردوس، دوفاليوس، راينالدوس، لوسادا، فيفا، وغيرهم كثيرون. وهنا أترك جانباً، الأوحية التي صارت توطيداً لهذا الرأي، لا سيما تلك التي حصلت عليها القديسة بريجيتا المثبتة من الكردينال طوراكراماتا، ومن أربعة أحبار رومانيين، كما يقرأ في أمكنةٍ مختلفةٍ من الكتاب السادس من هذه الأوحية، الا أنه لا يمكن لي أصلاً أن أترك إيراد بعض الأقوال، التي توجد فيها واضحةً أحكام الآباء القديسين المؤيدة هذا الرأي، لكي يظهر للقارئ كيف أنهم قد أتفقوا جميعاً في أثبات هذه الموهبة الخصوصية، الراجعة لتكريم الأم البتول الإلهية. فالقديس أمبروسيوس يقول مناجياً الله هكذا: أقبلني لا من سارة بل من مريم، حتى أن هذه التي أنت تقبلني لأجلها تكون بتولاً غير مفسودةٍ. ولكن بتولاً بنعمة الله بريئةً من كل دنسٍ ناتجٍ عن الخطيئة. والمعلم أوريجانوس اذ يتكلم عن مريم العذراء يقول: أن هذه البتول ما تدنست قط من نفخة الحية السمية. وقال القديس أفرام السرياني: أن مريم هي بريئةٌ من العيب، وخاليةٌ من الدنس، وناجيةٌ من جريرة أية خطيئةٍ كانت على الأطلاق. والقديس أوغوسطينوس في تفسيره السلام الملائكي كتب قائلاً: أن زعيم الملائكة جبرائيل بواسطة هذه الكلمات وهي: السلام لكِ يا مريم يا ممتلئةً نعمةً، قد أوضح بالتمام (لاحظ أيها القارئ لفظة بالتمام) أن رجز الحكومة الأولى المبرزة ضد حواء قد تلاشى، وقد أستردت البركة بملؤ النعمة. ويقول القديس أيرونيموس: أن العذراء مريم ما وجدت قط في الظلام، بل صودفت دائماً في النور: ثم أن القديس كبريانوس (أم المنسوبة له هذه العبارة أياً كان) يقول: أن العدل لم يكن يحتمل أن ذاك الأناء المنتخب يوجد مدنساً من قبل الأهانة العامة، لأن الأناء المذكور (أي مريم) هو مختلفٌ جداً جداً عنا نحن الآخرين، لأن هذه البتول قد أشتركت معنا بالطبيعة لا بالخطيئة. وقال القديس أمفيلوكيوس: أن ذاك الذي خلق البتول الأولى حواء بريئةً من العيب والدنس، فهو خلق هذه البتول الثانية بريئةً من العيب وخاليةً من دنس الخطيئة. وكتب صفرونيوس: أنه يقال عن البتول مريم أنها بريئةٌ من الدنس، لأنها لم تكن قط فسدت بنوع من الأنواع: والقديس أيدالفونسوس يقول: أن مريم قد وجدت بريئة من تبعة الخطيئة الأصلية: وقال القديس يوحنا الدمشقي: أن الحية لم تجد لها مدخلاً الى هذا الفردوس الذي هو مريم: ويقول القديس بطرس داميانوس: أن جسد العذراء المجيدة هو متسلسلٌ من آدم، ولكنها هي لم تتدنس بجريرة آدم. وقال القديس برونونه: أن هذه الأرض، أي البتول مريم هي غير مفسودةٍ، لأن فيها بركة الرب، وهي ناجيةٌ من عدوة سم كل خطيئةٍ على الأطلاق. ويقول القديس بوناونتورا: أن سيدتنا قد وجدت ممتلئةً نعمةً متقدمةً على تقديسها، نعمةً حافظةً إياها من طاعون سم الخطيئة الأصلية. وكتب القديس برنردينوس السياني قائلاً: أنه لا يمكن أن يصدق هذا وهو أن أبن الله أراد أن يولد من البتولة، ويأخذ من جسدها ناسوتاً مدنساً بجريرة الخطيئة الجدية. وقال القديس لورانسوس يوستينياني: أن مريم منذ الدقيقة الأولى من الحبل بها وجدت حاصلةً على البركات السابقة. والعلامة أيديوطا في تفسيره كلمات المبشر القائل: أنكِ يا مريم قد وجدتِ نعمةً: يخاطب هذه البتول قائلاً: أنكِ قد وجدت نعمةً خصوصيةً أيتها العذراء الكلية الحلاوة، نعمةً قد حفظتكِ ناجيةٍ من دنس الخطيئة الأصلية: وهذا نفسه يقوله معلمون آخرون كثيرون جداً.* غير أن سببين خاصين يحققان لنا صدق هذا الرأي ويوطدان لنا هذه الحقيقة ذات الديانة الحسنة بنوعٍ أخص، فأحدهما هو أتفاق مذهب المؤمنين بوجه العموم على هذه الحقيقة، فيشهد الأب أجيلايوس بأن جمعيات الرهبنات كافةً قد أتبعوا هذا الرأي، أما رهبنة القديس عبد الأحد، فهذه عينها (كما يقول أحد العلماء المتأخرين) ولئن كانت تحوي أثنين وتسعين معلماً قد كتبوا ضد هذا الرأي، فمع ذلك في الوقت عينه حوت مايةً وستة وثلاثين معلماً قد أتبعوا رأينا ضد أولئك، ولكن الأمر الذي ينبغي أن يزيدنا تأكيداً فوق ذلك جميعه في هذا الرأي والحقيقة ذات حسن الديانة، فهو أضافة رأي البابا ألكسندروس السابع الى رأي جميع المؤمنين الكاثوليكيين، والمصرح في رسالته الرسولية المبدوة: أعتناء جميع الكنائس: المبرزة سنة 1661 حيث يقول فيها (ما عدا الأشياء الأخرى) هذه الكلمات وهي: أنه قد تضاعفت كثيراً هذه العبادة الحسنة نحو والدة الإله... فعلى هذه الصورة المدارسيون قد أعتنقوا هذا الرأي الصالح، وقد درج على نوعٍ ما عند جميع الكاثوليكيين". وبالحقيقة أن هذه القضية قد أعضدت وحومي عنها بقوةٍ من علماء المدارس الشهيرة نظير مدرسة سربونا، ومدرسة الكالا، ومدرسة سالاماناكا، ومدرسة كوامبريا، ومدرسة كولونيا، ومدرسة ماغونتسا، ومدرسة نابولي، ومدارس أخر غيرها كثيرة، وفي هذه المدارس كل من يحصل على صك شهادة الدرس، يلزم ذاته بقوة الحلف بأن يحامي دائماً عن الحبل بمريم العذراء البريء من دنس الخطيئة الأصلية. فأتفاق رأي المؤمنين العام على هذه القضية المذكورة، يستخدم من العلامة بيطافيوس في أثباته إياها، وعن برهان هذا الرأي العام قد كتب السيد الجليل فيما بين العلماء الأسقف يوليوس طورني: بأنه لا يمكن أن لا يغلب منه كل أحدٍ: على أنه أمرٌ حقيقيٌ، اذ لم يكن سوى برهان أتفاق رأي المؤمنين العام، هو الذي صير أكيدةً قضية تقديس مريم العذراء في أحشاء والدتها القديسة حنه، وقضية صعودها الى السماء بالنفس والجسد. لماذا اذاً أتفاق رأي المؤمنين على أنه حبل بهذه الأم الإلهية بريئةً من دنس الخطيئة الأصلية. لا يصيرنا متأكيدين هذه القضية نظير القضيتين المقدم ذكرهما.* أما السبب الثاني الذي يحقق لنا بنوع أبلغ وأقوى من السبب الأول صدق هذه القضية، ويجعلنا متأكدين أن مريم العذراء قد حبل بها بريئةً من تبعة المعصية الأصلية، فهو تعيين الكنيسة الجامعة عيداً خصوصياً يحتفل به لتكريم الحبل بها البريء من الدنس. فعن هذا السبب أنا ألاحظ من الجهة الواحدة أن الكنيسة تكرم بهذا العيد الدقيقة الأولى التي فيها خلقت نفس هذه العذراء المجيدة، وأتحدت بجسدها المتكون في أحشاء والدتها، حسبما يعلن ذلك واضحاً البابا ألكسندروس السابع في منشوره الرسولي السابق ذكره الذي به يقول:" أن الكنيسة تقدم للعذراء المجيدة في عيد الحبل بها البريء من الدنس، تلك العبادة عينها التي تكرمها بها كلمات الرأي، أو الحقيقة التي نحن في صددها". أي أنه منذ الدقيقة الأولى التي خلقت بها نفس البتول قد وجدت بريئةً من دنس الخطيئة الأصلية، ومن الجهة الثانية ألاحظ فاهماً ومتأكداً، أن الكنيسة الجامعة لا يمكنها أن تكرم بعبادةٍ أحتفاليةٍ ذات عيدٍ مشتهرٍ شيئاً لم يكن بكليته مقدساً، حسبما يبرهن القديس لاون الكبير الحبر الروماني، ومثله القديس أوسابيوس البابا القائل: أن الإيمان الكاثوليكي قد حفظ دائماً في السدة الرسولية بريئاً من العيب: وكما يعلم اللاهوتيون أجمعون جملةً مع القديس أوغوسطينوس، وكذلك القديس برنردوس والقديس توما اللاهوتي الذي يستخدم هذا البرهان نفسه. أي أحتفال الكنيسة بعيد ميلاد والدة الإله، ليثبت أنها أي العذراء المجيدة قد تقدست قبل أن تولد. وهذه هي كلماته: أن الكنيسة تحتفل بعيد ميلاد الطوباوية مريم البتول، ومن حيث أن الكنيسة لا تعيد الا لشيءٍ مقدسٍ، فمن ثم أستنتج أن الطوباوية العذراء قد تقدست في أحشاء والدتها قبل أن تولد. فاذاً أن كانت قضيةً حقيقيةً هي ما يقول هذا المعلم الملائكي، أي أن والدة الإله قد تقدست في أحشاء والدتها، لأجل أن الكنيسة تحتفل بعيدٍ خصوصيٍ لميلاد هذه العذراء، فلماذا نحن لا نتمسك بأنها حقيقةٌ هي هذه القضية أيضاً، وهي أن مريم البتول قد حبل بها بريئةً من دنس الخطيئة الأصلية، منذ البرهة الأولى من حياتها في حين خلقها، بل أننا عالمون أن الكنيسة تحتفل الآن بعيد الحبل بها البريء من الدنس بالمعنى المحامى عنه من ذوي هذا الرأي الحسن الديانة.* ثم أثباتاً لهذه الخصوصية الجليلة التي فازت بها الطوباوية مريم البتول. بأن يحبل بها خلواً من تبعة المعصبة الجدية، فمعلومةٌ هي عند الجميع النعم العجيبة الفائقة الأحصاء التي تنازل الله لأن يصنعها على نوعٍ ما يومياً في جميع مملكة نابولي خاصةً. بواسطة الصور المطبوعة فيها أيقونة والدة الإله ذات الحبل بها البريء من الدنس، وأنا لقد كنت أستطيع أنأورد أخبار حوادث كثيرةٍ من ذلك قد جرت عن أيدي آباء جمعيتنا عينها، ولكنني أكتفي بتحرير حادثتين فقط منها وهما الآتي ذكرهما.* * نموذجٌ * متى تريدين أن تأخذيني لأعترف، لأني أنا مستعدٌ، فأمرأته من شدة الفرح طفقت تبكي عند مشاهدتها هذا التغيير السريع العجيب، وبالحقيقة أن الرجل قد ذهب في صباح تلك الليلة عينها الى كنيستنا لهذه الغاية، واذ سأله ذاك الأب نفسه كم كان له من الزمن من غير أعترافٍ، فأجابه أنه منذ مدة ثمانية ةعشرين سنة لم يكن تقدم الى منبر سر التوبة، فأعطف عليه الأب الخطاب قائلاً: وكيف أنك الآن في هذا الصباح باكراً حضرت لتعترف: فقال له: أعلم أيها الأب أني كنت مصراً على عدم التوبة، غير أن زوجتي في الليلة البارحة قد اعطتني صورة الحبل بالعذراء بلا دنس، وحالما أخذتها بيدي شعرت بتغييرٍ كلي في قلبي بهذا المقدار، حتى أنه كانت تظهر لي مدة كل ساعةٍ من هذه الليلة مستطيلةً كأنها سنون عديدة. منتظراً أشراق الفجر لكي آتي وأعترف بخطاياي: وحقاً أنه قد أعترف أعترافاً جيداً بنموذج صالح، وغير سيرة حياته الماضية، وواظب أزمنةً مديدةً على الأعتراف بتكاثرٍ عند ذاك الأب عينه.* ثم في مكانٍ آخر من أبرشية سالارنو، في الوقت الذي فيه كنا نحن في تلك الأبرشية نمارس خدمة الرسالة المقدسة، قد كان هناك إنسانٌ حاصلة فيما بينه وبين شخصٍ آخر عداوةٌ شيطانية في أقصى حدود البغضة، فأحد آباء جمعيتنا قد تكلم مع ذاك الإنسان في أن يصفح غافراً لعدوه. أما هو فأجاب وقال له: أهل أنك رأيتني مرةً ما أيها الأب حاضراً في الكنيسة لأستماع مواعظكم. فأجابه: كلا، فقال له: اذاً لأجل هذه الغاية أنا ما حضرت قط لأسمع الوعظ عندكم، لأني أعرف ذاتي أني هالكٌ. ولكنني لا أريد شيئاً آخر سوى أن آخذ الثأر من عدوي: فالأب المومى اليه قد تعب كثيراً في أقناعه. ولكن سدى. فلما رآه بهذا المقدار مصراً على عدم التوبة حتى أن الكلام كله كان يمضي ضائعاً قال له أخيراً: خذ صورة حبل العذراء بلا دنس هذه: ففي الأبتداء أجاب وقال: ترى مالي وهذه الصورة: ولكن أخذها بعد ذلك من الأب. واذا به حالاً كأنه قط لم يكن أنكر الصفح قبلاً. سأل ذاك الأب قائلاً: هل أن أبوتك المكرمة تريد مني شيئاً آخر غير الترك والغفران لعدوي، فهوذا أنا مستعدٌ لأن أتتم ذلك: وهكذا أتفق معه على المجيء إليه لهذه الغاية في الصباح المقبل، غير أنه حينما جاء إليه في الغداة، فمن جديد تقلب روحه عن قصده الصالح. ولم يكن يرد أن يصنع شيئاً مما صار عليه الأتفاق، فحينئذٍ الأب المنوه عنه قد سلمه صورةً أخرى من صور الحبل بالعذراء بلا دنس، فلم يرد أن يقبلها أولاً. ولكنه حياءٍ وبعد الجهد قد أخذها، الا أنه منذ البرهة الأولى قال: هيا بنا، لأني أريد نهاية هذه القضية، أين هو ماستروداتي عدوي: وحالاً صنع معه الصلح وغفر له وتقدم الى منبر التوبة معترفاً بخطاياه.* † صلاة † فدعيني أمدحكِ أنا أيضاً حسبما مدحكِ إلهكِ قائلاً: كلكِ جميلةٌ يا قرينتي وليس فيكِ عيبٌ: يا حمامةً كلية النقاوة بيضاء بجملتكِ، جميلة بكليتكِ. صديقة الله دائماً. فيا مريم البريئة من الدنس الخالية من العيب الكلية الحلاوة، الموضوع الكلي الحب. فلأنكِ أنتِ بهذا المقدار جميلةٌ في عيني سيدكِ. لا تأنفي من أن تنظري بطرفكِ الشفوق الرحيم الى جراحات نفسي المتخنة المستكرهة. بل أنظري اليَّ وأرحميني وأشفيني. فيا حجر مغناطيس القلوب أجتذبي إليكِ قلبي أنا أيضاً الذليل، فأنتِ التي منذ الدقيقة الأولى من حياتكِ قد وجدتِ نقيةً وظهرتِ طاهرةً جميلةً أمام الله. أشفقي عليَّ أنا الذي ليس فقط ولدت بالخطيئة، بل أني بعد المعمودية أيضاً قد دنست من جديد نفسي بالمآثم. فذاك الإله الآب الذي أنتخبكِ أبنةً له، والإله الأبن الذي أختاركِ أماً له، والإله الروح القدس الذي أختصكِ عروسةً له. ولأجل ذلك قد حفظكِ الثالوث الأقدس بريئةً من كل دنسٍ. وميزكِ بحبٍ متقدم على مخلوقاته كلها، فأية نعمةٍ يمكن أن ينكر عليكِ. اذاً يلزمكِ أن تخلصيني أيتها البتول البريئة من العيب، فأنا أقول لكِ ما كان يقوله نحوكِ القديس فيلبس نيري: أجعليني أن أفتكر بكِ دائماً، وأنتِ لا تنسيني، ولكن تظهر لي إعاقتي عن الحضور لأشاهد جمالكِ السماوي كأنها مدة ألف سنة، حيث أراكِ في الفردوس، لكي أحبكِ أشد حباً، وأسبحكِ يا أمي ويا ملكتي، ويا حبيبتي الكلية البهاء والحلاوة والنقاوة البريئة من كل عيبٍ آمين.* † الفصل الثاني * فيما يخص عيد ميلاد العذراء المجيدة، حيث يبرهن أن مريم ولدت* * قديسةً عظيمةً، وأنها وجدت أمينةً عظيمةً فيما نالته من الله.* * فيه حزءان* * أنما أنا خرجت من فم العلي بكراً، قبل جميع المخلوقات (سيراخ 24/5) * * فليكن مسبحاً على الدوام من كل البريئة، الحبل بمريم البريء من دنس الخطيئة الأصلية. صفحة 656 * † الجزء الأول † في كم هي عظيمة النعمة الأولى التي بها أغنى الله مريم البتول* أولاً: في كم كانت عظيمةً النعمة الأولى التي بها أغناها الله. ثانياً: في كم كانت عظيمةً الأمانة التي هي حالاً جاوبت بها على هذه النعمة لله.* فاذ نتكلم الآن عن الشيء الأول، تاركين الشيء الثاني للجزء الآخر فنقول، أنه لأمرٌ حقيقيٌ هو أن نفس مريم العذراء قد كانت هي النفس الأجمل فيما خلقه الله، بل الأبلغ من ذلك هو أنه بعد صنيع سر تجسد كلمة الله، قد وجدت نفس مريم هي الصنيع الأعظم، والأكثر لياقةً بالإله القادر على كل شيءٍ، فيما صنعه في هذا العالم، ولذلك يسميها القديس بطرس داميانوس: أنها هي العمل الذي الله وحده يسمو عليه. فمن ثم أن النعمة الإلهية لم تنحدر فوقمريم نقطةً فنقطةً، كما أنحدرت على القديسين الآخرين، بل نزلت عليها: مثل الندى على الجزة ومثل القطر القاطر على الأرض: حسبما سبق وتنبأ عنها داود الملك (مزمور 72ع6) فقد كانت نفس مريم نظير الجزة التي قد أستوعبت قطر نعمة الله كله الذي أنحدر عليها، من دون أن تضيع منه نقطةٌ واحدةٌ، كما يقول عنها، القديس باسيليوس الكبير: أن البتول القديسة قد أجتذبت إليها نعمة الروح القدس كلها وأستوعبت منها: ولذلك هي تقول عن ذاتها بواسطة الحكيم أبن سيراخ (ص24ع16): وفي جمهور القديسين هو مقامي: أي كما يفسر ذلك القديس بوناونتورا قائلاً عن لسانها: أن جميع ما يملكه القديسون كافةً مفرقاً وبنوع التجزيء، فأنا أملكه كله ملواً وبوجه الأتساع المطلق. أما القديس فينجانسوس فراري، فاذ يتكلم بالخصوص عن سمو قداسة هذه البتول قبل أتلادها يقول: أنها قد فاقت بالقداسة على الملائكة القديسين أجمعين.* فالنعمة التي حصلت عليها العذراء المجيدة قد كانت درجتها أسمى وأعظم، ليس فقط من درجة النعمة التي فاز بها كلٌ من القديسين بمفرده، بل هي أيضاً أعظم من النعم كلها التي حصل عليها القديسون كافةً، جملةً مع الملائكة الطوباويين، كما يبرهن عن ذلك مقنعاً بأثباتاتٍ راهنةٍ الأب العلامة فرنسيس بيبا اليسوعي، في تأليفه الجليل الملقب: عظمة يسوع ومريم. وهناك يورد أن هذه القضية المجيدة في تكريم ملكتنا العظيمة، هي الأن عامةٌ وأكيدةٌ فيما بين اللاهوتيين المحدثين (نظير ما هي مصرحةٌ ومبرهنةٌ من كارتاجانا، وسوارس، وسبينالي، وراكوبيتوس وغوارا، ومن آخرين كثيرين الذين قد فحصوها فحصاً مدارسياً مدققاً، الأمر الذي لم يصنعه هكذا القدماء) ثم يخبر بأبلغ من ذلك بأن هذه الأم الإلهية قد أرسلت من قلبها الأب مرتينوس غوتياراز الى الأب سوارس لكي يشكره على أسمها، لأجل أنه بحرارةٍ قويةٍ حامى عن هذه القضية الكلية الأمكان، كما يشهد أيضاً الأب السنيري بأنه قد حومي عنها فيما بعد من أتفاق رأي أهل مدرسة سالاماناكا العام.* فأن كان اذاً هذا الرأي أو القضية هي هكذا عامةً وأكيدةً، فكذلك القضية الأخرى هي ممكنةٌ جداً، أي أن مريم العذراء منذ الدقيقة الأولى من الحبل بها البريء من الدنس، قد حصلت على هذه النعمة السامية الفائقة درجتها علواً. على النعمة التي فاز بها القديسون والملائكة كلهم معاً. وعن هذا الأمر يحامي بقوةٍ الأب سوارس عينه، وقد تمسك هو به تابعاً للأب سبينالي وللأب راكوبيتوس وللأب كولومباره، ولكن ما عدا قوة رأي اللاهوتيين في هذا الشأن يوجد سببان آخران وعلتان قويتان غير مغلوبتين بهما تتأيد القضية المذكورة ثابتةً، فالعلة الأولى هي لأجل أن الله قد أختار مريم البتول أماً للكلمة الإلهي، ومن ثم يقول الطوباوي ديونيسيوس كارتوزيانوس: أنه من حيث أن هذه العذراء المجيدة قد أختيرت الى رتبةٍ فائقةٍ على جميع المخلوقات، لأن مقام هذه المرتبة أي كونها والدة الإله، هو على نوعٍ ما (كما يورد الأب سوارس) مختصٌ بالأتحاد الأقنومي. فلهذا بالصواب قد أعطيت هي منذ بدء حياتها مواهب ذات رتبةٍ خصوصيةٍ ساميةٍ على المجميع، بنوع أن سمو هذه النعم يفوق بما لا يحد على كل المواهب والنعم الممنوحة لسائر المخلوقات الأخرى، وبالحقيقة أنه لأمرٌ خالٍ من كل أرتيابٍ هو أنه في الوقت عينه الذي فيه بموجب المراسيم الإلهية الأزلية، قد تحدد أمر تجسد كلمة الله الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس، ففيه نفسه قد تحددت وتعينت له الأم التي كان يبتغي أن يتأنس منها، ويظهر من أحشائها لابساً جسداً. وهذه الأم هي حبيبتنا مريم المولودة طفلةً من القديسين يواكيم وحنة. فالمعلم الملائكي القديس توما يعلم قائلاً: أن الله يمنح لكل إنسانٍ النعمة الملائمة والمصاقبة للدعوة أ والمرتبة أم الوظيفة التي هو تعالى يكون عينها له وخصصه بها. بل أن القديس بولس الرسول قد علم بذلك قبل القديس توما بقوله: يا أخوة أن لنا مثل هذه الثقة بالمسيح عند الله... بل كفايتنا هي من الله الذي جعلنا كفوئين أن نكون خادمين الموثق الجديد: ( قرنتيه ثانية ص3ع5) مبيناً لنا بهذا النص أن الرسل قد أقتبلوا من الله المواهب الملائمة والكافية لأتمام واجبات الخدمة الرسولية. التي كان عز وجل أختارهم إليها. ثم يضيف الى ذلك القديس برنردينوس السياني بقوله: أنه حينما يكون إنسانٌ أنتخب من الله الى دعوةٍ ما، فيقتبل منه تعالى لا التهيئ والأستعداد فقط الضروري لتلك الدعوة، بل المواهب أيضاً التي هو يحتاج إليها لأن يقوم حسناً في واجباتها بلياقةٍ. فاذاً أن كانت مريم البتول قد أختيرت منتخبةً لأن تكون أماً لله. فكان من اللائق والمتوجب حسناً أن الله يزينها منذ الدقيقة الأولى من حياتها بنعمةٍ غير محدودةٍ. وبرتبةٍ عاليةٍ على رتبة النعم الممنوحة منه تعالى للقديسين الآخرين كافةً. وللملائكة أجمعين، اذ يلزم أن النعمة تصاقب مجاوبةً، وتكون ملائمةً لحال الدعوة أو المقام والوظيفة الكلية السمو التي قد رفعها الله إليها. حسبما يبرهن اللاهوتيين أجمعون، جملةً مع القديس توما شمس المدارس الذي يقول:" أن البتول مريم قد انتخبت لتكون أماً لله، فلا ريب ولا أشكال في أن الله قد وهبها النعمة التي تجعلها موضوعاً قابلاً وذات كفايةٍ لهذه الدعوة، بنوع أنها قبل أن تكون صارت أماً لله قد تزينت بقداسةٍ كاملةٍ، حتى أنها صارت أهلاً لهذه الدعوة العظيمة والمقام الفائق سموه". ثم أن هذا القديس عينه قال: أنه لأجل ذلك قد سميت مريم ممتلئةً نعمةً، لا من جهة النعمة عينها، لأنها هي أي مريم ما قبلت النعمة العظمى ذاتياً الممكن الحصول عليها، كما أنها لم تكن عظمى ذاتياً النعمة الملكية التي وجدت في يسوع المسيح نفسه. أي بنوعٍ أن القوة الإلهية لم تعد تقدر أن تزيد هذه النعمة العظمى ذاتياً نمواً جديداً حتى تبلغ بها الى أقتدارٍ مطلقٍ، ولكن قد كانت هذه النعمة في يسوع المسيح مجاوبةً بكفايةٍ ومصاقبةً بلياقةٍ للغاية التي بها كان ناسوته تعالى مدبراً ومساساً من الحكمة الإلهية، أي أتحاد الكون الإنساني وبالأقنوم الإلهي: على أنه كما يعلم القديس المذكور نفسه قائلاً: أن القدرة الإلهي هي هكذا عظيمةٌ، حتى أنها مهما تهب مانحةً، فدائماً توجد مقتدرةً على أن تعطى من جديد، ومهما كانت القوة الطبيعية في الخليقة نظراً الى الأقتبال محدودةً، بنوع أنه يمكن أستيعابها وأملاؤها بالتمام، فمع ذلك أن هذه القوة الطبيعية للأقتبال الخاضعة للإرادة الإلهية هي غير محدودةٍ، فالباري تعالى هو دائماً قادرٌ على أن يملأها بالأكثر اذ يصيرها أن تقبل من جديد نعمةً جديدةً بعدما يكون قبلاً أملأها، ولهذا (اذ نرجع الى موضوعنا) يقول هذا المعلم الملائكي: أن البتول الطوباوية ولئن لم تكن ممتلئةً نعمةً نظراً الى النعمة ذاتها، فمع ذلك يقال عنها ممتلئةً نعمةً نظراً الى ذات مريم، لأنها حصلت على نعمةٍ عظيمةٍ غير محدودةٍ مصاقبةٍ وملائمةٍ ومجاوبةٍ وكافيةٍ لرتبتها ومقامها ودعوتها الغير المحدودة، بنوع أن هذه النعمة العظيمة قد صيرتها أهلاً لأن تكون أماً لله. ومن ثم يضيف الى ذلك بناديكتوس فرناندار قائلاً: أن القياس الذي بموجبه يمكننا أن نفهم ما هو مقدار عظمة النعمة التي نالتها مريم البتول من الله، أنما هو حال الدعوة والمرتبة التي هي أختيرت إليها، أي حال كونها أم الله:* فاذاً بالصواب يعلن النبي والملك داود أن أساسات مدينة الله هذه هي فوق الجبال المقدسة قائلاً: الذي أساسه في الجبال المقدسة: (مزمور 87ع1) أي أن أساس حيوة مريم وأبتداء وجودها في العالم، كان يلزم أن يوجد أسمى وأعلى قداسةً من حيوة القديسين الآخرين كافةً الذين شاخوا في البر، ثم أن النبي يتبع كلامه بقوله: الرب أحب أبواب صهيون أفضل من جميع مساكن يعقوب. ويبرهن هو نفسه السبب معلناً: لأن إنساناً ولد فيها وهو العلي الذي أسسها. أي لأن الله قد كان مزمعاً أن يصير إنساناً من المستودع البتولي الذي لهذه المدينة صهيون التي هي مريم العذراء ولهذا كان من الواجب أنه تعالى يهب هذه البتول، منذ الدقيقة الأولى التي فيها هو خلقها نعمةً مصاقبةً للدعوة والمقام والرتبة التي هو أختارها إليها، وهي أن تكون والدةً لإلهٍ هكذا كلي الكمال.* ثم أن النبي أشعيا يريد أن يشير الى هذا نفسه بقوله: لأنه سيكون في آخر الأيام جبل الرب ظاهراً، وبيت الله على قمم الجبال ويستعلي فوق أعلى التلال، ويجيء إليه كل الأمم ويسير إليه شعوبٌ كثيرة: (ص2ع2) مبادرين الى مريم البتول التي هي بيت الرب، ليستمدوا بواسطتها المراحم الإلهية. فالقديس غريغوريوس الكبير يفسر النص المذكور قائلاً: أن هذا الجبل بالحقيقة هو في قمة الجبال، لأن علو مقام مريم يتلألأ سمواً فوق جميع القديسين. ويقول القديس يوحنا الدمشقي: ان مريم هي الجبل الذي سر الله أن يختاره حجرةً لسكناه فيها: فلهذا قد دعيت هذه السيدة شجرة السرو. ولكن سرو جبل صهيون. وسميت بالأرز، ولكن أرز لبنان. ولقبت بالزيتونة، ولكن زيتونة جميلة، وكنيت بالمنتخبة ولكن منتخبة كالشمس، لأنه (يقول القديس بطرس داميانوس: كما أن الشمس تفضل بأشراقها وتفوق بأنوارها على الكواكب والنجوم بهذا المقدار، حتى أن هذه الأجرام لا تعود تشاهد حينما تظهر الشمس. فكذلك البتول العظيمة والأم الإلهية تفضل بقداستها وتفوق بها على أستحقاقات أهل البلاط السماوي أجمعين. بنوع أنه، حسبما يقول بكل فصاحةٍ القديس برنردوس: أن مريم قد كانت هكذا ساميةً في القداسة حتى أنه لم يكن يوجد لله من هي لائقةٌ أن تصير له أماً بالبشرة الا هذه البتول المجيدة. ولم يكن يوجد من هو لائقٌ أن يصير لها أبناً الا الإله الكلي كماله.* وأما العلة الثانية التي من أجلها يثبت أن البتول القديسة منذ الدقيقة الأولى من حياتها، وجدت أكثر قداسةً من جميع القديسين معاً، فهي الوظيفة العظيمة التي أنتخبت هي إليها بأن تكون وسيطةً للبشر عند الله. الوظيفة التي تحددت لها منذ البدء. ومن ثم أحتاج الأمر الى أنها تكون منذ البدء حاصلةً على مقدارٍ عظيمٍ من النعمة تفوق به على البشر كافةً اذا وجدوا معاً. فأمر واضح هو كيف أن الآباء القديسين واللاهوتيين أجمعين يعطون مريم العذراء هذا اللقب، وهو وسيطة في البشر عند الله، لأجل أنها بواسطة شفاعتها المقتدرة وأستحقاقها العظيم الإضافي الى الرجاء في رأفة الله، قد استمدت الخلاص للجميع، معتنيةً للعالم الهالك بنوال الخير العظيم الصادر عن سر الأفتداء، وأنما يقال عن أستحقاقها أنه إضافي الى الرجاء في رأفة الله، لأن يسوع المسيح وحده هو وسيطنا بطريق العدل وبقوة أستحقاقاته الذاتية. الموازية ما كان يحق للوفاء عن خطايا البشر، حسبما تعلم بذلك المدارس، اذ أنه تعالى قد قدم أستحقاقاته لله أبيه الأزلي الذي قبلها من أجل خلاصنا. وبالخلاف أن مريم هي وسيطتنا بطريق النعمة وبمجرد شفاعاتها فينا. وبأستحقاقاتها الإضافية، اذ أنها قدمتها لله الرأوف، كما يقول اللاهوتييون مع القديس برنردوس من أجل خلاص البشر كافةً، وأن الله منةً ونعمةً منه قد قبلها مع أستحقاقات يسوع المسيح. ولذلك يقول أرنولدوس كارنوفانسه: أن مريم قد حصلت في أمر خلاصنا على مفعولٍ واحدٍ مع المسيح أبنها. ويقول ريكاردوس الذي من سان فيتوره: أن مريم قد أشتهت خلاص الجميع وأعتنت في نواله لهم وأكسبتهم إياه بل أن الخلاص حصل للجميع بواسطتها. وبالتالي أن كل خيرٍ وكل موهبةٍ مختصة بالحياة الأبدية، مما ناله من الله كل واحدٍ من القديسين، فبواسطة مريم قد توزع ذلك عليهم وفازوا به.* فهذا هو الشيء الذي تريد منا الكنيسة المقدسة أن نفهمه حينما هي تكرم البتول الطوباوية بتخصيصها بها الكلمات المدونة في حكمة أبن سيراخ (ص 24ع25) وهي:" فيَّ أنا نعمة كل مسلكٍ وحقٍ، فيَّ أنا كل رجاء حيوةٍ وفضيلةٍ". فلفظة مسلكٍ تعني أن بواسطة مريم تتوزع النعم كافةً على عابري طريق هذه الحياة. ولفظة حقٍ توضح أن بواسطة هذه السيدة يعطى النور لمعرفة الحق. ولفظة حيوةٍ تعلن أننا نرجوا أن ننال بوساطة هذه الأم الإلهية حياة النعمة ما دمنا قاطنين في الأرض، والمجد السماوي بعد ذلك في الحياة الأبدية. ولفظة فضيلةٍ تبرهن أننا بواسطة شفيعتنا هذه نستمد أقتناء الفضائل، لا سيما الثلاث الفضائل الإلهية التي هي أساس فضائل القديسين. فتقول هذه السيدة في الاصحاح المذكور عينه (ع24): أنا هي أم المحبة الجميلة والتقوى والمعرفة والرجاء المقدس: لأن وسيطتنا هذه عند الله بقوة شفاعاتها فينا تستمد لنا نحن المتعبدين لها مواهب الحب الإلهي، والخوف المقدس، والنور السماوي، والرجاء الأمين، والطمأنينة المقدسة. ومن ذلك يستنتج القديس برنردوس أن تعليم الكنيسة الجامعة هو، أن مريم هي واسيطةٌ عامةٌ لخلاصنا، اذ يقول: عظم يا هذا اللتي وجدت النعمة، وسيطة الخلاص، مصلحة الدهور، لأن الكنيسة هكذا ترتل عنها، وقد علمتني أنأرتل أنا أيضاً من أجلها هذه الأشياء عينها. فلأجل ذلك يعلن القديس صفرونيوس البطريرك الأورشليمي قائلاً: أن زعيم الملائكة جبرائيل أنما تفوه نحو البتول الطوباوية هاتفاً: أفرحي يا ممتلئةً نعمةً. لأنه قد أعطى للآخرين مقدارٌ من النعمة محدودٌ، وأما لمريم فقد أعطيت النعمة كلها بملؤها كاملةً. وهذا قد تم لكي تستطيع هي فيما بعد بهذا النوع أن تكون بواجب الأستيهال وسيطةً فيما بين الله والبشر! حسبما يورد هذه الألفاظ عينها القديس باسيليوس الكبير، والا اذا لم تكن البتول الكلية القداسة حصلت على ملوء النعمة الإلهية، فكيف كان يمكنها أن توجد هي سلم الفردوس، وشفيعة العالم، والوسيطة الحقيقية فيما بين الإله والبشر. كما يقول هذه الكلمات نفسها القديس لورنسوس يوستينياني في عظته على عيد البشارة.* فهوذا السبب والعلة الثانية قد توضحت فوق الكفاية، على أنه أن كانت مريم الطوباوية قد أقيمت منذ بدء حياتها بحسب كونها أماً للمخلص العام، بوظيفة وسيطةٍ في البشر أجمعين. وبالتالي وسيطة في القديسين أيضاً، فكان لازماً أنها منذ البدء تحصل هي على نعمةٍ متفاضلةٍ فائقةٍ سمواً، على جميع النعم التي فاز بها القديسون كلهم معاً، وأن توجد محبوبةً من الله وعزيزةً لديه بنوع يعلو تفوقاً على البشر كافةً، ليس مفرقاً بل مجملاً أيضاً. والا فكيف كان مستطاعاً لها أن تتشفع فيهم جميعاً لديه تعالى. لأن لكي يقدر إنسانٌ ما أن يستمد بشفاعاته من أحد الملوك النعمة والمواهب لرعايا هذا الملك بأسرهم الخاضعين لولايته، فيلزم بضرورةٍ مطلقة أن يكون الشفيع المومى إليه عزيزاً على قلب ذاك الملك، ومحبوباً منه بنوعٍ أفضل من جميع أولئك الرعايا. ولذلك يستنتج القديس أنسلموس قائلاً: أن مريم قد أستحقت بكل لياقةٍ أن تصير مصلحةً للعالم الهالك.لأجل أنها كانت هي الأكثر قداسةً من الجميع والأعظم طهارةً من المخلوقات كلها.* ولقائلٍ ان يقول أن مريم البتول اذاً هي وسيطة عند الله في البشر فمسلمٌ. ولكن كيف يمكن أن يقال عنها أنها هي وسيطة في الملائكة أيضاً. فلاهوتيون كثيرون يبرهنون في أن يسوع المسيح قد أستحق مكتسباً للملائكة أيضاً نعمة الثبات في البر. ومن ثم كما أن يسوع المسيح على هذه الصورة وجد هو وسيطاً في الملائكة أيضاً. بوساطة الأستحقاق الذاتي الموازي الوفاء فهكذا مريم هي وسيطتهم بوساطة الأستحقاق الإضافي بالرجاء في رأفة الله. لأنها بقوة تضرعاتها وصلواتها قد أعجلت مجيء المسيح الى العالم، وقد أستحقت قلما يكون أستحقاق الرجاء في المراحم الإلهية أن تكون هي أماً للمسيح. وأكتسبت أن تملأ من الأنفس المخلصة بسر التجسد كراسي الملائكة الساقطين الفارغة، فاذاً قد ربحت للملائكة القديسين قلما يكون هذا المجد العرضي. ولذلك كتب ريكاردوس الذي من سان فيتوره قائلاً: أن الخليقة الواحدة والخليقة الأخرى، أي الملائكة والبشر قد خلصوا بواسطة هذه السيدة، وبها قد أصطلحت طبيعة الملائكة. وتصالحت مع الله الطبيعة الإنسانية. والقديس أنسلموس كان قبل هذا المعلم قال: أن الأشياء كلها قد دعيت الى الحال الأولى التي كانت حاصلةً عليها قبلاً، وأصلحت بواسطة هذه البتول القديسة. فلهذا أن مريم الطوباوية المولودة طفلةً سماويةً، قد أقتبلت من الله منذ الدقيقة الأولى من حياتها نعمةً أعظم من جميع النعم التي فاز بها القديسون أجمعون جملةً، وذلك بحسب كونها أختيرت وتعينت أماً لمخلص العالم، وبحسبما أقيمت بوظيفة وسيطة العالم عند الله، فكم كان اذاً مشهداً جليلاً شهياً مجيداً لأهل السماء والأرض حال بهاء نفس هذه الطفلة القديسة ولئن كانت بعد مسجونةً في مستودع والدتها القديسة حنه. فهي كانت المخلوقة المحبوبة لدى عيني الله أكثر حباً من سائر المخلوقات. لأنها قد حصلت ممتلئةً نعمةً، ومنذ ذاك الوقت كان يمكنها أن تفتخر قائلةً عن ذاتها: أنني منذ حداثتي أرضيت الله. وقد كانت معاً في الوقت عينه هي المخلوقة المحبة لله أكثر حباً من الخلائق بأسرها، التي لحد ذاك الوقت كانت ظهرت في الوجود، بنوع أنه لو أتفق لهذه الطفلة القديسة أن تخرج مولودةً من أحشاء أمها في الدقيقة الأولى التي بها تكونت هي في مستودعها بريئةً من الدنس، لكانت هي جاءت الى العالم حاصلةً على أعظم غنى بالأستحقاقات وأسمى قداسةً من جميع الأبرار والقديسين جملةً. فلنتأمل اذاً في كم كانت أستحقاقات هذه الطفلة المجيدة أعظم من ذلك حينما ولدت من أمها، بعد أن كانت في مدة التسعة الأشهر التي فيها أستمرت محبوسةً في جوف والدتها، وأكتسبت أستحقاقاتٍ جديدةً. وليكن هذا كافياً فيما يلاحظ الجزء الأول الحاضر المختص بالموضوع الأول في شأن النعمة الأولى العظيمة التي نالتها هذه السيدة في الدقيقة التي بها حبل بها بريئةً من الدنس.* † الجزء الثاني † * في كم كانت عظيمةً الأمانة التي بها مريم البتول جاوبت* * حالاً على النعمة الإلهية التي نالتها ساعيةً معها.* فمن ثم منذ هذه البرهة الأولى من حياتها قد وجدت هي عارفةً جميل المحسن إليها، وأبتدأت حالاً بأن تصنع كل ما كان ممكناً لها صنيعه، متاجرةً من ذاك الحين بوزنات النعمة السامية التي وهبة لها. ممارسةً كل شيءٍ بقصد أن ترضي الله، وتسر الصلاح الإلهي. وقد أحبته تعالى منذ بدء حياتها، وداومت بأتصالٍ على حبه فوق كل شيءٍ بمقدار أستطاعتها وبكل قواها. في مدة تلك التسعة الأشهر التي فيها أستمرت قبل أتلادها في جوف أمها، غير تاركة ولا مهملة دقيقةً واحدةً أن تمر من دون أن تضاعف حبها له تعالى، وأتحادها به بعواطف المحبة المتقدة كالنار. فقد كانت هذه القديسة من دون كل ريب بريئةً معتوقةً ناجيةً من جريرة الخطيئة الأصلية. وبالتالي ناجيةً أيضاً من كل أنعطافٍ وتعلقٍ نحو الأشياء الأرضية. ومن أية حركةٍ غير مرتبة، ومن كل تشويش عقلي، ومن جميع أنفعالات الحواس، مما يمكن أن يصدها عن أن تتقدم على الدوام في زيادة الحب لله. وقد كانت قواها وحواسها أيضاً متفقةً مع روحها الطاهرة بالأتجاه والأنعطاف نحو العلي. ولهذا اذ كانت نفسها الجميلة محلولةً من كل مانعٍ، فمن غير توقفٍ كانت دائماً تطير الى الله، وتحبه من دون أنقطاع، وتنمو على الدوام في محبته، ولهذا قد دعيت هي نفسها: شجرة الدلب المرتفعة مغروسةً على شط الماء: (أبن سيراخ ص24ع19) لأنها قد كانت هي غرسة يمين العلي الشريفة التي نمت على الدوام مستقيةً من مجاري النعمة الإلهية، ولذلك قالت هي عن ذاتها: أنا مثل الجفنة أثمرت رائحةً طيبةً، وأنواري أثمار البهاء والمجد: (أبن سيراخ ص24ع23) وأنما شبهت ذاتها بالجفنة ليس فقط لأجل الحال المتضعة التي كانت هي بها لدى أعين الناس، بل أيضاً لأجل أنه كما أن الكرمة تنمو وتمتد على الدوام. ولذلك يقال بالمثل: أن الكرمة لا ينتهي نموها: اذ أن الغروس الأخرى كأشجار الليمون والتوت والتفاح وأمثالها تنمو مرتفعةً وممتدةً الى حدٍ أعتياديٍ لا تتجاوزه. وأما الجفنة فتمتد دائماً ناميةً وتعلو أغصانها بمقدار علو الشجرة التي تكون هي أي الكرمة ملتقةً عليها ومستندةً فوقها. فهكذا مريم البتول الكلية قداستها قد أمتدت على الدوام ناميةً في الكمال. ولذلك يهتف نحوها القديس غريغوريوس العجائبي مسلماً عليها بقوله: أفرحي أيتها الكرمة الحية النامية على الدوام: وقد كانت هذه السيدة متحدةً بالله دائماً ومستندةً عليه بحسب كونه تعالى مسندها الوحيد. ومن ثم يتكلم عنها الروح القدس قائلاً: من هي هذه الصاعدة من البرية مدللةً مستندةً على حبيبها: (نشيد ص8ع5) فالقديس أمبروسيوس يقول في تفسيره هذا النص: من هي هذه التي لمرافقتها الكلمة الإلهي الأزلي، تنمو ممتدةً وصاعدةً نظير الكرمة المستندة على شجرةٍ عالية جداً والملتفة عليها.* فكثيرون من العلماء اللاهوتيين البارعين الرصينين يقولون أن تلك النفس المكتسبة قوة ملكة الفضيلة متأصلةً فيها، فطالما هي تجاوب بأمانةِ ساعيةً مع النعم الحالية الفعلية التي يمنحها الله إياها. فيمكنها دائماً أن تبرز فعلاً بالعزم والنية موازياً لملكة الفضيلة تلك المكتسبة منها، بنوع أنها في كل المرات تربح لذاتها أستحقاقاً جديداً مضاعفاً موازياً لمجموع الأستحقاقات كلها التي تكون هي قبلاً أكتسبتها، فهذا النمو العظيم قد أعطى (كما يعلم اللاهوتيون المومى إليهم) للملائكة في الحال التي هم مستسيرون بها، فأن كان منح للملائكة هذا الإيهاب والنعمة فمن تراه يستطيع أنكاره على الأم الإلهية في مدة حياتها على الأرض. وبنوع أخص في الزمن الذي هي فيه أستمرت مسجونةً في أحشاء أمها، حيث أنها بكل تأكيدٍ قد كانت حينئذٍ أمينةً على حفظ النعمة الإلهية مجاوبةً عليها بأبلغ نوع من الملائكة أنفسهم. فهذه الطفلة القديسة اذ قد أمكنها وأكتسبت في الزمن المشار إليه جميعه، وفي كل دقيقة منه أضعاف تلك النعمة السامية في العظمة التي نالتها من الله منذ البرهة الأولى من حياتها. لأن سعيها مع هذه النعمة كان بكل قواها وبسائر أنواع الكمال في كل دقيقةٍ. بنوع أنها أن كانت في الدقيقة الأولى التي فيها خلقت نفسها قد فازت من النعمة الإلهية بمقدارٍ مثلاً يوازي ألف درجة من هذه النعمة، ففي الدقيقة الثانية قد أكتسبتها مضاعفة أي ألفين درحة، وفي الدقيقة الثالثة أربعة ألف، وفي الرابعة ثمانية ألف، وفي الخامسة ستة عشر ألفاً، وفي السادسة أثنين وثلاثين ألفاً. وهلم جرا الى يومٍ كاملٍ والى شهرٍ بتمامه وأخيراً الى تسعة أشهرٍ، مضاعفةً فيها هذه النعم والأستحقاقات بالنوع المذكور، فاذاً حينما أتلدت من أحشاء أمها كم وجدت هي غنيةً بخزائن النعم والأستحقاقات الفائقة الأدراك.* فلنفرح اذاً متهللين مع حبيبتنا هذه الطفلة المجيدة. التي ولدت في العالم من أمها بهذا المقدار ساميةً في القداسة، محبوبةً في عيني الله، ممتلئةً من النعم الغنية. ولنبتهج ليس من أجلها هي فقط بل من أجل ذواتنا نحن أيضاً. لأنها هي قد جاءت الى العالم ممتلئةً نعمةً ليس من أجل مجدها الذاتي فقط بل من أجل خيرنا نحن أيضاً. فالقديس توما اللاهوتي يتأمل في كتيبه الرابع، في أن مريم العذراء المثلثة القداسة قد كانت بثلاثة أنواع ممتلئةً نعمةً، فهي بالنوع االأول كانت ممتلئةً نعمةً في نفسها الجميلة، التي منذ بدء خلقتها كانت بجملتها مختصةً بالله. وبالنوع الثاني كانت ممتلئةً نعمةً بجسدها، حتى أنها أستحقت أن تنسج من لحمانها الفائقة الطهارة سداءً تلبس منه جسداً لكلمة الله الأزلي المتجسد من دمائها، وبالنوع الثالث كانت ممتلئةً نعمةً لأجل الخير العام، لكي يستطيع البشريون أجمعون أن يستفيدوا الخير لذواتهم بواسطتها ومنها. ثم يضيف الى كلامه هذا، القديس المذكور قائلاً: أن البعض من القديسين قد نالوا من الله مقداراً وافراً من النعم، كافيةً ليس لخلاصهم هم فقط، بل لخلاص غيرهم أيضاً من البشر، ولكن لا لخلاص البشر أجمعين، الا أنه ليسوع المسيح فادينا، ولمريم العذراء شفيعتنا قد أعطيت نعمةٌ هذه صفتها لخلاص كل البشر. ومن ثم أن ما كتبه القديس يوحنا الإنجيلي عن يسوع المسيح بقوله: زمن أمتلائه نحن كلنا أخذنا: (ص1ع16) فهذا نفسه يقوله القديسون بالنسبة الى مريم العذراء، فالقديس توما الفيلانوفي كتب قائلاً: أن البتول المجيدة هي ممتلئةً نعمةً. ومن ملوء هذه النعمة أستوعب الكون. بنوع أنه يقول القديس أنسلموس: أنه لا يوجد أحدٌ مطلقاً لا يشترك بنعمة مريم، لأنه من هو الذي يوجد في العالم ولا يشترك بها حاصلاً على مريم رأوفةً حنونةً شفوقةً من أجله ولا توزع هي عليه مفاعيل رحمتها: الا أننا نلتزم بأن نفهم جيداً أننا أنما نقتبل نحن النعمة من يسوع بحسبما هو تعالى مصدرها وفاعلها بقوته الإلهية الذاتية. وأما من مريم فنقتبل النعمة بحسبما هي وسيطةٌ بنا لديه عز وجل، وهكذا نحن ننال النعمة من يسوع المسيح بحسب كونه فادينا ومخلصنا. وأما من مريم فبحسب كونها شفيعةً بنا أمامه تعالى، ونفوز بهذه النعمة من يسوع بحسبما هو الينبوع، ومن مريم بحسبما هي المجرى. ولذلك كتب القديس برنردوس: أن الله قد أقام مريم قناةً تجري إلينا بواسطتها مياه مراحمه التي يريد جلت خيرية صلاحه أن يوزعها على البشر. ولذلك قد صيرها ممتلئةً نعمةً لكي يشترك من أمتلائها كل أحدٍ بالجزء الذي أعطى له أن يفوز به: وهنا القديس المذكور يحرض الجميع على أن يتأملوا، في كيف أن الله يريد منا أن نكرم هذه البتول العظيمة بمحبةٍ ساميةٍ، من حيث أنه سبحانه قد أدخر فيها خزائن خيراته بأجمعها. حتى أن كل ما نحن نناله من الرجاء ومن النعمة ومن الخلاص. فنشكر من أجله بأسره ملكتنا الكلية الحب نحونا، اذ أن كل شيءٍ أنما يأتينا ويتصل إلينا من يدها وبواسطة شفاعاتها بنا. فالويل اذاً لتلك النفس التي تسد عن ذاتها مجرى النعم هذا، بأهمالها مطلقاً الألتجاء الى مريم المجيدة. فسفر يهوديت (ص7ع6) يوضح لنا: أن أليفانا حينما كان يطوف البلد بالقرب من مدينة بيت فالو قد شاهد عين الماء الجاري الى المدينة من ناحية الجنوب، فأمر غلمانه بأن يقطعوا المجرى: فهذا الأمر نفسه يصنعه الشيطان حينما يريد أن يستولي على نفسٍ ما. وهو أنه يجتهد في أن يصيرها أن تهمل عبادتها لمريم الكلية القداسة. لأنه اذا ما قطع عن تلك النفس هذا المجرى فهي تفقد بسهولةٍ أشراق النور السماوي، ثم خوف الله المقدس، وأخيراً الخلاص الأبدي، فليقرأ النموذج الآتي إيراده ليعرف كم هو عظيم أشفاق قلب هذه الأم الإلهية، وكم هو وافر الخراب الروحي الذي يلم بمن يقطع عن ذاته هذه القناة الروحية بأهماله التعبد لوالدة الإله ملكة السماء والأرض.* * نموذج * † صلاة † † الفصل الثالث يقول الرب الإله: أن الملكات هن ستون، والسريات ثمانون، والمغبوطين، لا عدد لكثرتهن، أما حمامتي وكاملتي، فواحدة هي. (نشيد 6/7) *فيما يلاحظ عيد دخول القديسة والدة الإله الى هيكل الرب* *في أورشليم، حيث قدمت هذه الفتاة الجليلة ذاتها لله بسرعةٍ* *وتأهبٍ خالٍ من كل أبطاءٍ. وبتقدمةٍ كاملةٍ كليةٍ من دون أن* تبقي لذاتها شيئاً خاصاً بها. *وفيه جزءان* † الجزء الأول † * في سرعة تقدمة مريم البتول ذاتها لله.* فمريم منذ الدقيقة الأولى من حياتها قد تقدست في أحشاء والدتها (في البرهة الأبتدائية من الحبل بها البريئ من دنس الخطيئة الأصلية) وقد حصلت منذ تلك الدقيقة على المعرفة الكاملة، لكي تبتدئ من ذلك الحين أن تكتسب الأستحقاقات، حسبما يعلم بهذا اللاهوتيون جملةً مع الأب سوارس القائل: أنه من حيث أن النوع الأكمل المستعمل من الله بتقديسه نفساً ما هو أنه تعالى يقدسها لأجل الأستحقاق الذاتي، كموجب تعايم القديس توما اللاهوتي. فهكذا يلزم أن يعتقد بأن مريم قد تقدست بهذا النوع: لأنه أن كانت هذه الموهبة وهذا الأختصاص قد أعطيا للملائكة ولآدم في حين خلقه. حسبما يبرهن المعلم الملائكي فبأبلغ من ذلك ينبغي لنا أن يعتقد أن الله قد وهبها نعماً أعظم وأجل مما وهبه لجميع مخلوقاته، لأجل أنه تنازل لأن يختارها أماً له بالجسد. كما يعلم القديس توما نفسه بقوله عنها: أنه لأجل أن المسيح أخذ منها الناسوت فقد وهبها أعظم نعمة، حتى أضحت ممتلئةً نعمةً. ويقول من ثم الأب سوارس أن مريم من قبيل كونها أماً فهي مستولية (على نوعٍ ما) على جميع المواهب المختصة بأبنها. وكما أن يسوع المسيح لأجل أتحاده الأقنومي وقيامه بأقنوم الكلمة الأزلي قد كان له ملؤ النعم كلها ذاتياً، فهكذا لأجل سمو كون مريم والدة لله قد وجد حسناً وصواباً به تعالى، أنه يلتزم من قبل دينٍ طبيعيٍ بحسب كونه متأنساً منها، أن يمنحها نعمةً عظمى فائقةً على جميع النعم التي وهبها لملائكته ولقديسيه الآخرين.* فاذاً مريم منذ بداية حياتها المقدسة في مستودع والدتها قد عرفت الله معرفةً هكذا ساميةً، حتى أنه لم يكن ممكناً للسانٍ ما أن يشرح بكفايةٍ، كم أتصل عقلها لأن ينفذ غائصاً فيه تعالى منذ الدقيقة الأولى التي فيها عرفته عز وجل: (حسبما قال الملاك للقديسة بريجيتا) فمن ثم منذ ذاك الوقت مريم قدمت ذاتها بجملتها لسيدها حينما حازت منه أشراق النور الأول الذي به أنار عقلها لمعرفته، وكرست نفسها وجسدها بكليتهما لحبه ولخدمته. (حسبما أتبع كلامه السابق ملاك الرب في خطابه مع القديسة بريجيتا بهذه الكلمات قائلاً): أن ملكتنا منذ ذاك الوقت قد أعتمدت حالاً على أن تضحي أرادتها لله، مع حبها له بجملته في مدة حياتها كلها، بنوع أنه لا يستطيع أحدٌ أن يدرك عظم الخضوع الذي به هي أخضعت أرادتها حينئذٍ لأقتبال كل تلك الأشياء الراجعة لمرضاته ومسرته عز وجل:* ولكن حينما فهمت بعد ذلك هذه الفتاة البريئة من العيب، أن والديها القديس يواكيم والقديسة حنه ق كانا وعدا بنذرٍ خصوصي لله بأن يقدماها مكرسةً له تعالى، كما يبرهن عن ذلك علماء كثيرون بقولهم: أنهما قد وعدا الله بأنهما اذا نالا من كرمه ولداً ما فهما كانا يقدمانه مكرساً لخدمته عز وجل في هيكله بأورشليم، وهكذا اذ كانت عادةٌ جاريةٌ عند اليهود أن يضعوا بناتهم محصوناتٍ داخل القلالي الكائنة ضمن أروقة الهيكل الأورشليمي، لكي يتربين هناك تربيةً صالحةً، حسبما يحقق ذلك الكردينال بارونيوس، والمؤرخ نيكيفوروس، والعلامة جادانوس، والأب سوارس، جملةً مع يوسيفوس المؤرخ العبراني، ومع القديسين يوحنا الدمشقي، وجاورجيوس النيكوميدي، وأنسلموس، وأمبروسيوس، بل كما يظهر واضحاً من سفر المكابيين الثاني (ص3ع19) اذ يقال: أن العذارى الحبيسات أيضاً كن يجرين الى حونيا وأخراتٍ الى الحيطان وأخراتٍ كن ينظرن من الطاقات وجميعهن كن يتضرعن رافعات اليدين الى السماء، وذلك حينما جاء الى أورشليم أيليودوروس أول وزراء سالوكيوس فيلوباطوره ملك سوريا بأمرٍ منه، لكي يأخذ من هيكل الرب خزنة المال المحفوظ فيه. فاذاً اذ عرفت العذراء المجيدة من والديها حقيقة نذرهما المقدم ذكره، فلما كان لها من العمر ثلاث سنواتٍ، كما يشهد القديسان جرمانوس وأبيفانيوس (القائل في عظته على مديحها أنها قربت لله في الهيكل في السنة الثالثة من حياتها) ففي هذا السن الذي فيه بأبلغ مما سواه يوجد الأطفال تعلقٌ كلي بوالديهم وأقربائهم، ويحتاجون فيه الى السياسة والعناية الوافرة قد أرادت هي أن تكرس ذاتها لله بأحتفالٍ مشتهر، بدخولها في هيكل الرب، الأمر الذي هي نفسها توسلت به الى والديها في سرعة تتمتهما نذرهما السابق، وهنا كما يقول غريغوريوس نيصص: أن أمها القديس حنه لم تتأخر أصلاً عن أن تقودها الى هيكل الرب وتقدمها لله:* فالقديس يواكيم والقديسة حنه على هذه الصورة أعتمدا على أن يضحيا لله بسخاءٍ أعز ما كان لديهما، بل أخص أجزاء قلبيهما وأكرم ما وجد لهما في الأرض، أي طفلتهما المحبوبة منهما. ولذلك سافرا بها من مدينة الناصرة الى مدينة أورشليم حامليها تارةً هو وتارةً هي على ذراعي كلٍ منهما، لأنها لم تكن تستطيع بعد على المشي مسافة ثمانين ميلاً، كما هي المسافة الكائنة فيما بين هاتين المدينتين. حسبما يحقق ذلك الذين يعرفون هذه الطريق، وقد رافقهما في هذه السفر البعض من أقربائها، الا أن أجواقاً كثيرة من الملائكة كانوا صحبتهما (كقول القديس جاورجيوس النيكوميدي) يكرمون بكل أحترام هذه الملكة المنطلقة الى بيت الرب. كما جاء البيان عن ذلك في العدد الأول من الاصحاح السابع من سفر النشيد بهذه الكلمات وهي: ماذا ترى في السولامية الا صفوف العساكر، ما أحسن خطواتكِ في أحذيتكِ يا بنت الرئيس: فهؤلاء الأجواق الملائكية كانوا يقولون نحوها (مرتلين كما كان من الواجب) ما أحسن خطواتكِ التي أنتِ تسيرين بها لكي تقدمي ذاتكِ لله، أيتها الأبنة العظيمة لرئسنا السماوي والمحبوبة منه في الغاية، بل أنه كقول برنردينوس البوسطي: أن الباري تعالى نفسه في ذاك اليوم قد سر مع أهل بلاطه السماوي كفي عيدٍ مشاع. عند مشاهدته عروسته هذه مقدمةٍ له في هيكله الأرضي، لأنه عز وجل لم يكن قط شاهد فيما بين الأشخاص الذين كانوا يقدمون له ذواتهم أحداً. لا أكثر قداسةً منها، ولا محبوبةً لديه أشد حباً نظيرها: ولذلك كان القديس جرمانوس يقول نحوها هاتفاً: أذهبي يا ملكة العالم يا والدة الإلة مسرورةً، وأمضي فرحةً الى بيت الرب. لتنتظري أتيان الروح القدس الذي يصيركِ أناً للكلمة الأزلي.* فعندما بلغ هؤلاء كلهم الى مدينة أورشليم كأهل بلاطٍ حول هذه الطفلة الملوكية، فهي من دون تأخيرٍ أخذت تقبل أيدي والديها جاثيةً. طالبةً منهما البركة، وحالاً دخلت هيكل الرب صاعدةً على الخمس عشرة درجةً التي كانت للهيكل (كما يقول أرياس مونتانوس نقلاً عن يوسيفوس المؤرخ اليهودي) من غير أن تلتفت ناظرةً الى والديها وأقاربها، وبلغت أمام كاهن العلي زخريا (حسبما يشهد القديس جرمانوس) وحينئذٍ اذ أنها رفضت كل ما هو في العالم، وجميع ما يعد به تابعيه من الخيرات فكرست ذاتها لله خالقها ضحية حية.* فالغراب حينما أرسل من سفينة نوح، أنطلق ثم أستقر فوق جيف الموتى يرتعي من اللحوم المنتنة، وبخلاف ذلك حينما أرسلت الحمامة من السفينة، فطارت وعادت إليها من دون أن تستقر في مكانٍ (سفر التكوين ص8ع1) فهكذا أن كثيرين قد أرسلوا من الله الى هذا العالم، وهم بتعاسةٍ أستقروا يرعون أنفسهم بخيراته الزائلة، الا أن الحمامة السماوية مريم لم تكن على هذه الصورة، بل أنها قد عرفت جيداً أن رجانا الوحيد، وخيرنا المحض الفريد، وحبنا النقي الشديد، يلزم أن يكون في الله وحده. وقد فهمت حسناً أن العالم هو مملؤٌ من الأخطار، وأن ذاك الذي يهمل الدنيا بأكثر سرعةٍ، يكون معتوقاً حراً من أشراكها. فمن ثم رغبت هي حسناً أن تهرب منها منذ نعومة أظفارها، منفردةً حبيسةً في أمكنة هيكل الرب المقدس، حيث كان يمكنها بأفضل نوع أن تسمع صوت الله، وأن تحبه وتكرمه وتعبده. وبذلك قد صيرت ذاتها من بداية أعمالها مقبولةٌ لديه تعالى محبوبةً منه، حسبما تقول الكنيسة عن لسانها هكذا (في فرض اليوم الخامس من شهر آب): أفرحوا معي يا جميع المحبين الرب، لأني منذ حداثتي قد أرضيت العلي الذي سر بي: ولهذا قد مثلت البتول المجيدة بالقمر، لأنه كما أن القمر يتمم مجرى دورانه بأكثر سرعةٍ من باقي الكواكب والأجرام السماوية، فكذلك مريم بأوفر سرعةٍ من جميع القديسين بلغت الى قمة الكمال بتقدمتها ذاتها لله من دون إعاقةٍ، بل بسرعةٍ كلية منذ بداية حياتها.* † الجزء الثاني † * في أن مريم العذراء قدمت ذاتها لله تقدمةً كاملةً من دون أن* * تبقي لنفسها شيئاً ما خاصاً بها.* وهنا ينبغي لنا أن نتأمل كم كانت قداسة سيرة حياة مريم عظيمةً في بيت الرب، نظير الفجر الذي ينمو أشراقه حتى أن يبلغ الى ضياء النهار، فمن تراه يمكنه أن يصف كيف كانت فضائلها تزداد يوماً فيوماً أشراقاً ونمواً، ويتلألأ جمال حبها، ونقاوة أحتشامها، وعمق تواضعها، وصرامة صمتها، وشدة أماتتها، وعظم دعتها، وعذوبة وداعتها. فيقول القديس يوحنا الدمشقي: أن هذه الزيتونة الجميلة اذ أنغرست في أرض بيت الرب، وأسقيت من الروح القدس، فأضحت مسكناً للفضائل كلها: ويقول (في عظته على ميلادها): أن وجه هذه البتولة القديسة كان مملؤاً من الأحتشام، ونفسها مؤسسةً في التواضع، وكلماتها موعبةً عذوبةً ومحبةً صادرةً عن ترتيب باطن. ثم يبرهن عن كيف أنها قد أبعدت أفكارها عن جميع الأشياء الأرضية، معتنقةً كل الفضائل، فاذاً من حيث أنها مارست واجبات الكمال على هذه الصورة، فأستحقت بزمنٍ وجيزٍ أن تصير هيكلاً لائقاً بالله.* وكذلك القديس أنسلموس يتكلم عن كيفية عيشة هذه الفتاة الجليلة في هيكل الرب قائلاً: أن مريم كانت هناك هادئةً عذبةً لطيفةً لينةً، قليلة التكلم، حافظة هندام أثوابها بالأحتشام. بعيدة مطلقاً عن الضحك، عادمة أن تقلق أو تضطرب من شيء، مواظبة على الصلوات بأنعطاف كلي، مثابرةً على قراءة النصوص الإلهية، ممارسةً الأصوام ومجتهدة في أتقان كل الفضائل. ثم أن القديس أيرونيموس يورد عن سيرتها في الهيكل أشياء أخرى ذات تدقيقٍ أوفر بقوله: أن العذراء المجيدة كانت مرتبة حياتها في هيكل الرب على هذه الصورة، وهي أنها منذ الصباح الى الساعة الثالثة كانت تداوم على الصلوات، ومن الساعة الثالثة الى التاسعة كانت تباشر أعمالاً خدميةً بيديها، ومن الساعة التاسعة الى ما بعد كانت تعود الى ممارسة الصلوات، التي لم تكن تنتزح عنها الا حينما كان ملاك الرب يأتيها بالطعام، حسب العادة، وكانت تجتهد في أن تكون هي الأولى في المجيء الى صلاة السهرات الليلية، وفي حفظ الصيامات، وأن تكون هي الأوفر تدقيقاً في تكميل شريعة الله، والأشد تعمقاً في التواضع، والأكثر كمالاً في الفضائل كلها، ولم يكن أحدٌ قط يراها مغتاظةً مغمومةً محتدةً في الخلق، وكلماتها كافةً كانت موعبةً حلاوةً وعذوبةً، ولم يكن ينقص ذكر أسم الله من لسانها:* ثم أن هذه القديسة والدة الإله المجيدة هي نفسها قد أوحت للطوباوية أليصابات الراهبة التي من قانون القديس بناديكتوس، في دير سكوناوجيا، بأنه حينما تركها في هيكل الرب أبواها، قد عزمت هي على أن تتخذ الله وحده أباً لها، مراتٍ مترادفةً كانت تفتكر في كيف يمكنها أن تجد ما به ترضيه تعالى وتسره بأفضل نوع، وقد اعتمدت على أن تكرس له عذريتها الدائمة، وبالا تمتلك شيئاً ما على الأرض، وأن تهب لله أرادتها بجملتها، وأنها فيما بين الوصايا الإلهية بنوع أخص كانت تكرر التأمل في تلك الوصية الآمرة بأن يحب الرب الإله من كل القلب. وأنها في ساعة نصف الليل كانت تمضي أمام هيكل الله مصليةً بتوسلاتٍ حارة لديه تعالى، في أن يمنحها أن تحفظ بالتمام وصاياه، وفي أن ترتضي بأن يصير أن تولد في العالم أم المسيح المخلص المنتظر. وكانت تتضرع لمراحمه في أن يحفظ لها عينيها الى حينما تشاهد بهما أم المسيح، ولسانها لكي تمدحها به، ويديها ورجليها لكي تخدمها بها، وركبتيها لكي تسجد بهما لأبن الله الطفل الكائن في أشائها حين حبلها به. غير أن البارة أليصابات عندما سمعت هذه الكلمات من العذراء المجيدة قالت لها: أفما كنتِ أيتها السيدة ممتلئةً نعمةً وفضائل: فأجابتها الطوباوية بقولها:" أعلمي أني كنت أعتد ذاتي الأكثر ذلاً وحقارةً، والعديمة الأستيهال بالكلية للنعمة الإلهية، ولذلك كنت ألتمس بأتضاعٍ منه عز وجل أن يهبني النعمة والفضيلة". وأخيراً لكي نقتنع باحتياجنا المطلق جميعاً لأن نتوسل لله في أن يمنحنا النعم الضرورية لنا، قد أردفت قولها لها: أتظنين أنتِ يا إبنتي قد نلت أنا من الله النعم والفضائل من دون تعبٍ، فأعلمي أني لم أفز من الرب بنعمةٍ ما كمرغوبي من غير أتعابٍ عظيمة، وصلواتٍ متصلة، وأشواقٍ متقدة، ودموعٍ غزيرة، وأماتاتٍ شاقة.* غير أنه بأبلغ من ذلك يجب أن يصير التأمل فيما أوحى به للقديسة بريجيتا عن الفضائل والرياضات والأعمال التقوية السامية التي مارستها مريم الطوباوية في مدة حداثتها، كما يظهر من كلماتها الآتي إيرادها التي قيلت للقديسة المذكورة وهي:" أن مريم البتول منذ طفولتها وجدت ممتلئةً من الروح القدس، وبحسبما كانت تنمو في العمر فبحسبه كانت النعمة تنمو فيها متزايدةً، ومنذ ذاك السن الطفولي قد وطدت هي عزمها على أن تحب الله من كل قلبها، بنوع أنه ما كان يصدر على الأطلاق، لا في أعمالها ولا في كلماتها شيء ما يمكن أن يغيظه تعالى، ولذلك قد أحتقرت خيرات الأرض كلها ورذلتها، وكانت تعطي الفقراء الصدقة بمقدار أستطاعتها، وفي مأكولها كانت بهذا المقدار قنوعةً، حتى أنها لم تكن تقتات سوى بتلك الأشياء البسيطة الضرورية التي لا بد منها لقيام الحياة، واذ فهمت فيما بعد من تلاوتها الكتاب المقدس أن الإله القادر على كل شيءٍ نفسه، كان مزمعاً أن يظهر في العالم متجسداً مولوداً من بتولةٍ ليخلص العالم، فقد ألتهب قلبها مشتعلاً بنار الحب الإلهي، أتقاداً هذا حده، بنوع أنها لم تعد تشتهي شيئاً آخر أو تفتكر في موضوعٍ ما سوى في الله وحده، وفيه عز وجل كانت قائمةً لذتها وتعزيتها القصوى، وكانت تهرب من المخاطبات والأحاديث حتى مع والديها ذاتهما، لكيلا تفصلها مفاوضاتها مع البشر عن التفكر الدائم بالله، وكانت عواطفها ومرغوباتها وأشواقها مضطرمةً بزيادةٍ كلية نحو هذا الموضوع، وهو أن توجد هي في الحياة على الأرض، حينما كان مزمعاً أن يظهر في العالم المسيح المنتظر، ليمكنها أن تتعبد لتلك البتول العتيدة أن تلده من أحشائها، وتخدمها كجاريةٍ لها، لأجل أنها تكون أستحقت أن تصير له تعالى أماً.* فيا له من حبٍ هكذا متقدٍ في قلب الله نحو هذه الطفلة المثلثة قداستها حتى أنها عطفت قلب الكلمة الأزلي لأن يسبق الزمن المحدود منه لتجسده، وأن يأتي الى العالم قبل الزمان آخذاً منها جسداً، لأنها في الوقت الذي فيه لم تكن هي من عمق تواضعها تحتسب ذاتها أهلاً حتى ولا أن تصير جاريةً لوالدة الإله، ففيه عينه قد أختارها الله هي ذاتها أن تكون تلك الأم الإلهية التي منها يظهر المسيح. وهكذا بواسطة عرف فضائلها، وبقوة صلواتها المتقدرة قد أجتذبت أبن الله من السماء الى مستودعها البتولي. ولذلك قد دعيت هذه العروسة الطاهرة من عروسها الإلهي يمامةً بقوله: صوت اليمامة قد سمع في أرضنا: (نشيد ص2ع12) وأنما لقبت هي منه عز وجل باليمامة ليس فقط من كونها نظير اليمامة قد أحبت دائماً الأنفراد والتوحد، عائشةً في هذا العالم كأنها في القفر البعيد عن الناس، بل أيضاً، كما أن اليمامة تجول على الدوام طائرةً في الحقول والكروم مناغيةً بصوتٍ خشوعي كمترثية. فهكذا مريم كانت من دون أنقطاعٍ في هيكل الرب تتنهد مترثيةً وتندب متوجعةً حال شقاوة العالم الهالك بالخطيئة. وتلتمس من الله سرعة مجيء الفادي المنتظر قدومه مخلصاً للعالم. فبكم من الحراة والأتضاع كانت هي أمام هيكل الله تكرر بعواطف الحب التضرعات لديه تعالى، والتنهدات المستعملة قبلها من الأنبياء والقديسين، في ألتماس أرسال المخلص الى العالم. كم من مرةٍ كانت تهتف نحو الرب قائلةً كلمات النبي أشعيا وهي: أرسل يا رب الحمل المسلط على الأرض من صخرة البرية الى جبل بنت صهيون: (ص16ع1): سحي نداءً أيتها السموات من فوق والغيوم فلتمطر الصديق: (ص45ع8): ليت السموات تنشق وتنزل يا رب: (ص64ع1).* وبالأجمال أن هذه الفتاة الإلهية قد وجدت أمام الله موضوع مسرته ورضاه الكلي، عند مشاهدته إياها متراقيةً يوماً فيوماً على درج الكمال الأكثر سمواً، متجهةً نحو قمته العالية في الغاية نظير عامود دخان مؤلفاً من أطيب روائح الفضائل الزكية العرف. حسبما أشار عنها الروح القدس نفسه بهذه الكلمات وهي: من هذه الصاعدة من القفر كأنها غصن بخور من طيوبٍ ومرٍ وكندر ومن جميع ذرائر العطار: (نشيد ص3ع6) فيقول صفرونيوس: أن هذه الفتاة القديسة قد كانت بالحقيقة نظير البستان المختص بالله، المملؤ من التنعمات، لأنه كان يوجد فيه جميع أنواع الزهور وطيب نشر الفضائل كلها. ويثبت ذلك القديس يوحنا فم الذهب قائلاً:" أن الله لأجل هذه العلة أنتخب مريم أماً له بالجسد في الأرض، أي لأجل أنه تعالى لم يجد على الأرض بتولةً، لا أكثر منها قداسةً، ولا أسمى منها كمالاً، ولم يصادف محلاً أعظم لياقةً وأكثر أهلاً ليسكن فيه، من مستودعها البتولي الكلي الطهارة والقداسة". ويؤيد ذلك القديس برنردوس بقوله: أنه لم يوجد على الأرض مكانٌ لسكنى الإله الكلمة. أوفر لياقةً وأكثر أهلاً من مستودع العذراء مريم الدائمة بتوليته. ويقول القديس أنطونينوس: أنه يازم أن تكون الطوباوية مريم البتول وجدت ممتلكةً درجاتٍ سامية جداً من الكمال، بنوع أنها فاقت بها متعاليةً سمواً على كمال جميع المخلوقات، حتى أنها لأجل ذلك أنتخبت وتعينت أماً لله على الأرض.* فاذاً بالنوع الذي به مريم المثلثة قداستها في سن ثلاث سنين من عمرها قدمت ذاتها لله في هيكله الناموسي من دون أبطاءٍ، ومن غير أن تبقي لذاتها شيئاً خاصاً بها. فبهذا النوع نحن اليوم ينبغي لنا أن نقدم ذواتنا أمام هذه السيدة عاجلاً، ومن دون أنقسام قلوبنا، متوسلين إليها بأن تقدمنا هي نفسها لله الذي لا يأنف من أن يقبلنا، عندما يرانا مقدمين إليه بواسطتها وعن يدها، هي التي كانت الهيكل الحي للروح القدس، وموضوع تنعم الرب سيدها، والأم المنتخبة للكلمة الأزلي. وهكذا نحن نرجوا واثقين بهذه السيدة العظيمة والكلية الأحسان، في أنها تكافئ بحبٍ وافرٍ الكرامة والتعبد الذي يتقدم لها من عبيدها، كما يبان من النموذج الآتي إيراده.* * نموذج * † صلاة † فعينيني أنتِ أيتها الأم الرحيمة بواسطة شفاعتكِ المقتدرة. مستمدةً لي من أبنكِ يسوع نعمة الثبات، والقوة في أن أكون أميناً في خدمتكِ الى الموت. حتى اذا ما أحسنت تعبدي لكِ في هذه الحياة. يمكنني أن آتي الى الفردوس السماوي لأمدحكِ †الى الأبد آمين† † الفصل الرابع * فيما يلاحظ عيد بشارة البتول المجيدة بالحبل الإلهي، حيث* * يبرهن عن عمق تواضع هذه السيدة الكلي، وعلو الرفعة* * السامية التي عظمها الله بها في سر التجسد* * وفيه جزءان* † الجزء الأول † *في أن مريم البتول لم يمكنها أن تواضع ذاتها أكثر أتضاعاً* * مما أتضعت به حين تجسد الكلمة الأزلي منها.* فاذ تكلم الرب في سفر النشيد (ص1ع12) مشيراً الى عظم تواضع هذه البتول القديسة قال تعالى هكذا: أنه اذ كان الملك في مضجعه النردين الذي لي أفاح نسيم طيبه. فالقديس أنطونينوس في تفسيره هذا النص الإلهي يقول: أن نصبة شجر النردين التي هي صغيرة واطية ذليلةً، كانت رسماً لعمق تواضع مريم التي فاحت رائحة طيبها، وأرتفع نسيم عرفها الزكي حتى السماء وأجتذب من حضن الآب الأزلي الى مستودعها البتولي الكلمة أبن الله: فعلى هذه الصورة رائحة طيب تواضع هذه العذراء المجيدة، قد أجتذبت الرب لأن يختارها أماً له عندما شاء أن يتأنس ليفدي العالم. غير أنه عز وجل لكي يمجد هذه الأم الإلهية ويزيد أستحقاقاتها، لم يرد أن يصير هو لها أبناً من دون أن يأخذ قبلاً رضاها بذلك، كما يقول الأنبا غولياموس في تسبحته الثالثة: أن الرب لم يشأ أن يأخذ من هذه العذراء جسداً ألم تعطيه إياه هي برضاها. فمن ثم حينما كانت البتول المملؤة تواضعاً جالسةً في بيتها الحقير في حال الفقر، مصليةً بأشد حرارةٍ متنهدةً من سويداء قلبها، ملتمسةً من الله أن يرسل سريعاً الى العالم المخلص المنتظر المشوق إليه، حسبما أوحي للقديسة أليصابات الراهبة التي من قانون القديس بناديكتوس، فحينئذٍ أنحدر زعيم الملائكة جبرائيل من القناطر العلوية، الى بيت هذه العذراء النقية ليخبرها بهذا الأمر العظيم من قبل الله، واذ مثل أمامها قد قال لها: أفرحي يا ممتلئةً نعمةً الرب معكِ مباركةٌ أنتِ في النساء: (لوقا ص1ع28) وكأنه برهن لها قائلاً: السلام عليكِ أيتها العذراء الممتلئة نعمةً. لأنكِ قد وجدت دائماً غنيةً بالنعم فوق جميع القديسين والقديسات، أفرحي الرب معكِ، لأنكِ متعمقةٌ بالتواضع، فأنتِ مباركةٌ فيما بين النساء، لأن النساء كلهن قد حصلن في اللعنة الصادرة عن الخطيئة، وأما أنتِ فلأنكِ أنتخبتِ أماً للمبارك فقد بوركتِ منذ البدء وعتيدة أن تكوني على الدوام مباركةً معتوقةً بريئةً من كل زلةٍ وعيبٍ ودنسٍ.* فما الذي أجابت به هذه البتول النقية عندما سمعت كلام المدح والنعت والتقريظ بالنوع المتقدم ذكره، أنها لم تجب بشيء عن هذا، بل أنها أضطربت من ذاك الكلام، وفكرت ما هذا السلام، ولكن لماذا هي أضطربت، أهل خوفاً من الخداع. أم حياءً من دخول رئيس الملائكة إليها بصورة رجلٍ، كما فسر ذلك بعض العلماء، كلا، بل أن نص كلمات الإنجيل عن هذا التبشير هو واضح اذ يقال: فلما سمعت أضطربت من كلامه: كما ينبه أوسابيوس الأميساني، بأن الإنجيل لم يقل أنها أضطربت من منظره بل من كلامه، فاذاً أنما كان قلقها وأضطرابها جميعه صادراً من قبل عمق تواضعها، عندما سمعت ألفاظ ذاك المديح البعيد بجملته عن روح أتضاعها. وعن أحتسابها ذاتها كلا شيء ومن ثم بمقدار ما كانت تسمع من جبرائيل ألفاظ الرفعة والتقريظ، فبأكثر من ذلك كانت هي تخفض نفسها وتحقر ذاتها متأملةً في كونها عدماً لا تستحق أدنى مديح. فهنا يتأمل القديس برنردينوس قائلاً: أنه لو كان الملاك يقول لها أنها هي أعظم الخاطئات الموجودات في العالم، لما كان حصل عندها من هذا القول تعجب بالكلية ولكنها عندما سمعت منه ألفاظ ذاك المديح السامي قد أستوعبت قلقاً وأضطراباً: فاذاً أنما أضطربت هذه البتول لأجل أنها اذ كانت مملؤةً من التواضع العميق. فلم تكن تطيق أستماع أية كلمات كانت راجعةً لمدحتها. وكل رغبتها وأشواقها كانت في أن خالقها وحده الذي هو علة المواهب، وأصل جميع الخيرات والنعم يوجد ممدوحاً معظماً مباركاً مسبحاً، كما أوضحت ذلك هي نفسها فيما أوحت به للقديسة بريجيتا بتكلمها معها عن زمن تجسد أبن الله منها قائلةً: أني لم أكن أريد أن أمدح أنا بل الله وحده أصل المواهب وخالق كل شيء:* ولكنني أقول أن الطوباوية مريم البتول قد كانت، لتعمقها في قراءة نصوص الكتاب المقدس، وأقوال الأنبياء تعرف حسناً قلما يكون، أن زمان مجيء المسيح الى العالم قد كان دنا، وأن أسابيع دانيال قد كانت ناهزت النهاية، وأن قضيب ملك يهوذا قد كان أنتقل الى يد هيرودس الرجل الغريب عن قبيلة هذا السبط، وأن بتولةً ما كان ينبغي لها أن تحبل بالمسيح وتصير أمه، ولكن عندما سمعت هي من زعيم الملائكة ألفاظ نعوتٍ لم تكن واجبةً الا لمن هي والدة الإله، وهو كان يخصصها بها نفسها هي، فهل أنه ربما جاء في فكرها حينئذٍ أنه من يعلم أنها هي تكون تلك التي أختارها الله لهذه الدعوة. لا لعمري، أن عمق تواضعها لم يكن يحضر في عقلها تصوراً هذه صفته، بل أن كلمات ذاك المديح لم تفعل فيها شيئاً آخر سوى دخول الخوف العظيم على قلبها بهذا المقدار، حتى أنها حسبما يقول القديس بطرس الذهبي النطق: كما أن المسيح مخلصنا قد أراد أن يظهر له في بستان الزيتون ملاكٌ ليشجعه ويقويه. فهكذا لزم الأمر أن جبرائيل لملاحظته شدة الخوف الذي أعترى قلب هذه الفتاة من قبل سلامه وكلامه لها أن يأخذ في أن يشجعها ويقويها بقوله لها: لا تخافي يا مريم فقد ظفرتِ بنعمةٍ أمام الله: وكأنه يريد بذلك قائلاً: لا تجزعي ولا يأخذكِ أنذهالٌ من قبل ما نعتكِ أنا به نعتاً عظيماً، لأنكِ اذا كنتِ أنتِ عند ذاتكِ هكذا حقيرةً تعتدين شخصكِ أدنى ما يوجد في البشر، فالله الذي يرفع المتواضعين قد أهلكِ مستحقةً أن تجدي النعمة التي أضاعها البشريون كافةً، ولذلك قد حفظكِ تعالى سالمةً ناجيةً بريئة من الدنس العام الذي ألتحق ببني آدم أجمعين، ومن ثم منذ الدقيقة الأولى من الحبل بكِ قد زينكِ بنعمةٍ عظمى فائقة على كل النعم، التي حازها من الله القديسون الآخرون كلهم، ولهذا الآن قد رقاكِ الى مقام والدةٍ له. وها أنتِ تحبلين وتلدين أبناً وتدعين أسمه يسوع: فهنا القديس برنردوس يقول: ماذا تنتظرين يا مريم، هوذا الملاك يريد أن يسمع منكِ الجواب، ولكن نحن بأبلغ من الملاك ننتظر جوابكِ، لأنه حكم علينا كافةً بالموت، فها أن ثمن خلاصنا وقيمة نجاتنا قد فوضت إليكِ وخيرتِ بها، وهي أن كلمة الله أزمع أن يتجسد منكِ متأنساً، فأن كنتِ تقبلينه أبناً لكِ فنحن حالاً نصير معتوقين من حكومة الموت. فسيدنا نفسه بمقدار ما أنه أحب جمالكِ حباً شديداً، فبمقدار ذلك ينتظر رضاكِ الذي حدد هو عز وجل أن به توجد علة خلاص العالم: (بل يضيف الى ذلك القديس أوغوسطينوس قائلاً): فاذاً أعجلي أيتها السيدة باعطاء الجواب من دون تأخيرٍ. ولا تجعلي أن خلاص العالم يعاق أمره، لأن فداء الدنيا ونجاة الكون هي الآن متوقفة على رضاكِ.* فهوذا أن البتول المجيدة قد أعطت الجواب لرئيس الملائكة بقولها له: ها أنا أمةٌ للرب فليكن لي كقولكَ: فيا له من جوابٍ هو الأعظم حسناً، والأعمق أتضاعاً. والأكثر فطنةً، من كل ما تستطيع البشر كافةً والملائكة أجمعون بحكمتهم كلها أن يخترعوه، اذا كانوا أجتمعوا معاً وأستمروا عدةً من السنين يدرسون ليرتبوه بهذه الكلمات، يا له من جوابٍ ذي أقتدارٍ قد أوعب السماء تهليلاً، وجلب لسكان الأرض بحراً ذاخراً من النعم والمواهب التي لا تحد ولا تحصى، يا له من جوابٍ حالما خرج من فم البتول الكلية القداسة، قد أجتذب من حضن الآب الأزلي أبنه الوحيد الحبيب الى أحشائها الفائق الطهر متأنساً من دمائها النقية. على أنه في الدقيقة عينها التي فيها هذه العذراء المجيدة قالت: ها أنا أمةٌ للرب فليكن لي كقولكَ: ففيها نفسها: الكلمة صار جسداً وحل فينا: وأبن الله صار أبن مريم أيضاً. فهنا القديس توما الفيلانوفي يهتف صارخاً: يا لعظم أفتدار لفظة فليكن، يا لها من لفظة فعالةٍ، يا لها من لفظة تستحق منا فوق كل لفظةٍ تكريماً عظيماً، لأنه بواسطة لفظة فليكن الأخرى المتكررة من الله بقوله فليكن الضوء، فليكن جلدٌ فيما بين الماء والماء فليكن فليكن ألخ قد خلق تعالى السموات والأرض، وأما بهذه اللفظة المقولة من العذراء مريم: فليكن لي كقولكَ: قد صار الله إنساناً مثلنا:* ولكن من دون أن نبتعد عن الموضوع الذي نحن في صدده. فلنتأمل في عمق التواضع الذي لا قرار له. المعلن في هذا الجواب المعطى من مريم العذراء لزعيم الملائكة. فهي وقتئذٍ قد عرفت جيداً مستنيرةً من الله كم كانت عظيمةً المرتبة والدعوة التي أختارها إليها تعالى بأن تكون والدةً له، لا سيما لأن ألفاظ المبشر رئيس الملائكة المقولة منه لم تكن ذات أشتباه، بأنها هي هي تلك البتول السعيدة المنتخبة من الرب لتجسد كلمة الله منها، فمع ذلك جميعه هي لم تتقدم الى ما قدام معتبرةً ذاتها شيئاً. ولم تلبث قط مستلذةً بأرتفاعها الى هذا المقام الأسمى، بل اذ شرعت من جهةٍ أولى تتأمل في دناءتها وعدمها، ومن جهةٍ أخرى في سمو عظمة جلالة الله خالقها الذي تنازل لأن يختارها أماً له. فقد أعتبرت ذاتها حسناً أنها لم تكن أهلاً لذلك، ولا مستحقةً لهذه الكرامة، غير أنها لم ترد أصلاً أن تقاوم أرادته الإلهية، فلهذا اذ ألتزمت بأن تعطي الجواب. فماذا صنعت وفي أي شيء أفتكرت، أنها قد أنخفضت كأنها متلاشية بجملتها في عمق الأتضاع، وفي الوقت ذاته قد أشتعلت بنيران الشوق لأن تتحد بالله أعظم أتحاداً، فأهملت ذاتها بكليتها بخضوع تام لمشيئته تعالى، وأجابت قائلةً:" ها أنا أمةٌ للرب". هوذا العبدة الأسيرة لخالقها الملتزمة بأن تصنع ما يأمرها به سيدها، وكأنها تقول بذلك، أنه أن كان الله يريد أن ينتخبني أماً له، أنا التي لا أملك شيئاً خاصاً بي، وجميع ما عندي أنما هو خاصته تقدس أسمه موهوبٌ لي منه. فمن ثم من يمكنه أن يفتكر بأنه عز وجل قد أختارني لهذا المقام من أجل أستحقاقي، أنا التي أنما أمةٌ للرب، فأي أستحقاقٍ تستطيع أن تملكه من هي عبدةٌ أمةٌ جاريةٌ أسيرةٌ لأن تصير أماً لسيدها ومولاها، فأنا أمةٌ للرب، وبالتالي فليكن المديح كله لصلاح الرب ولخيرية جوده، ولا تمدح الأمة الأسيرة، لأن هذا جميعه هو مفعول صلاح الله، بأنه رمق بنظره الرحيم خليقةً ذليلةً، متواضعةً نظيري، ليجعلها كبيرةً عظيمةً بهذا المقدار.* فهنا يهتف الأنبا غواريكوس صارخاً:" يا له من تواضعٍ عميقٍ قد صير مريم البتول المتضعة به صغيرةً حقيرةً دنيةً عند ذاتها، ولكن عظيمةً جليلةً مكرمةً في عيني الله، وجعلها في نفسها ذليلةً كلا شيء، وأما عند ذاك الرب الغير المحدود الذي العالم لم يعرفه فمستأهلة مكرمة ذات أستحقاقٍ كلي". الا أن كلمات هتاف القديس برنردوس في هذا الموضوع هي أحلى وأكرم بقوله في عظته الرابعة على أنتقال الطوباوية مريم البتول الى السماء هكذا:" كيف أمكنكِ أيتها السيدة أن تجمعي في قلبكِ أتضاعاً بهذا المقدار عميقاً، بأحتقاركِ ذاتكِ وبأعتدادكِ إياها كالعدم، جملةً مع طهارةٍ ونقاوةٍ وبرارةٍ فائقة الوصف، ثم مع كمالٍ ونعم ومواهب سامية على كل ما سواها ممتلكةً إياها بغنى عظيم، فمن أين ومن أي قبيل قد أصلت فيكِ أيتها البتول الطوباوية تواضعاً هذه صفته قراره العميق، في الوقت الذي فيه أنتِ حاصلةٌ على مرتبةٍ كلية السمو، عارفةً مقدار الرفعة العظيمة والوظيفة الفائق جلالها التي رقاكِ الله إليها. فلوسيفوروس حينما كان شاهد ذاته مزيناً بجمالٍ فائقٍ قد أشتهى قاصداً أن يرفع كرسيه فوق الكواكب، ويصير شبيهاً بالله، كما يقول عنه أشعيا النبي (ص14ع13) هكذا: أنت قلت في قلبك أصعد الى السماء وفوق كواكب الله أرفع كرسيَّ... وأكون شبيهاً بالعلي: فلو أن هذا الروح المتكبر كان يجد ذاته حاصلةً على تلك الصفات والأختصاصات والمرتبة والوظيفة والرفعة التي حصلت عليها البتول المجيدة، فكم لكان قال وأدعى وأشتهى. فلم يكن روح هذه القديسة الا بالضد أي بمقدار ما رأت نفسها مرتفعةً فائزة بهذا جميعه، فبأكثر من ذلك كانت تواضع ذاتها محتقرةً إياها. ومن ثم يختتم القديس برنردوس خطابه قائلاً: أنكِ أنتِ أيتها السيدة لأجل تواضعكِ هذا الجميل قد أستحقيتِ حسناً وصواباً أن ينظر الله إليكِ نظراً ذا حبٍ فريدٍ في نوعه. وصرت أهلاً لأن تكتسبي قلب ملككِ الى محبة جمالكِ. وفزتِ بأن تعطفي بواسطة نشر طيب أتضاعكِ الزكي الرائحة أبن الآب الأزلي الكائن سعيداً في حضن أبيه في راحته الأبدية، وأن تجتذبيه من القناطر العلوية الى مستودعكِ البتولي الكلي الطهر والنقاوة". وهنا يقول العلامة برنردينوس البوسطي: "أن مريم العذراء قد أكتسبت بجوابها لرئيس الملائكة قائلاةً: ها أنا أمةٌ للرب:" أستحقاقاً لم يكن للمخلوقات كلها معاً ممكناً أن تكتسبه بجميع أعمالها الصالحة مهما كانت عظيمة.* فهذا هو أمرٌ حقيقيٌ (يقول القديس برنردوس في ميمره الأول) على أنه ولئن كانت هذه العذراء قد أهلت ذاتها بواسطة بتوليتها ونقاوتها، لأن تكون عزيزةً مقبولةً لدى الله، فمع ذلك قد صيرت نفسها بواسطة التواضع أهلاً بمقدار ما هو ممكنٌ لخليقة أن تجعل ذاتها مستحقةً لأن تنتخب أماً لخالقها". ويثبت هذا الأمر القديس أيرونيموس بقوله: أن الله أنما أختار مرمي أماً له لأجل عمق تواضعها، أفضل مما لأجل سائر فضائلها الأخرى السامية: بل أن هذه البتول المجيدة هي نفسها قد أوضحت ذلك في الوحي للقديسة بريجيتا قائلةً: من أين أمكنني أنا أن أستحق نعمةً هذه صفتها، وهي أن أصير أماً لسيدي وربي، الا من هذا القبيل، وهو من معرفتي ذاتي أنني كلا شيء عديمة كل أستحقاق وهكذا غصت في عمق التواضع: كما قد كانت هي عينها أعلنت ذلك في تسبحتها المملؤة تواضعاً اذ هتفت قائلةً: تعظم نفسي الرب وتبتهج روحي بالله مخلصي لأنه نظر الى تواضع أمته... لأنه صنع معي عظائم: (لوقا ص1ع47) وهنا القديس لورانسوس يوستينياني ينبه: بأن العذراء المجيدة لم تقل في تسبحتها أن الله نظر الى بتوليتها والى برارة نفسها، بل الى تواضعها: ثم أن القديس فرنسيس سالس يبرهن بقوله: أن مريم الكلية قداستها لم تقصد بكلماتها المقدم ذكرها أن تمدح فضيلة تواضعها، بل أرادات أن توضح حقاً أن الله قد نظر الى كونها عدماً، وكلا شيء، وبمجرد صلاحه وخيرية رحمته شاء أن يرفعها الى مقامٍ هذا سموه، وأن يصنع معها العظائم.* وبالأجمال يقول القديس أوغوسطينوس: أن تواضع مريم العذراء قد وجد نظير السلم التي فيها قد تنازل الرب لأن ينحدر من السماء الى الأرض متأنساً في أحشائها. ويؤيد ذلك القديس أنطونينوس بقوله: أن أتضاع مريم البتول قد كان هو الأستعداد الأخص والأكمل والأقرب لصيرورتها والدةً لله. ويشير بهذا الى ما كان النبي أشعيا سبق وتفوه به قائلاً: يخرج قضيبٌ من أصل يسىَّ وتصعد زهرةٌ من أصله. فعن هذا النص يتفلسف الطوباوي ألبارتوس الكبير بقوله: أن الزهرة الإلهية أي أبن الله الوحيد قد كان يلزمه حسب نبؤة أشعيا أن ينبت صاعداً، لا من رأس القضيب الخارج من نسل يسىَّ، ولا من أحد فروعه، بل من أصله وشلشه، ليعلن بالحصر عمق أتضاع والدته: وكذلك يفسر هذا النص الأنبا جلانسه قائلاً: أن الزهرة المذكورة كان يلزمها أن تفرخ من عمق القضيب وأصله الواطي وليس من رأسه: ولذلك قال الله لأبنته هذه المحبوبة منه: ردي عينيكِ من مقابلتي فهما قد طيراني: (نشيد ص6ع4) فهنا يقول القديس أوغوسطينوس: ترى من أين طيرته مقلتاها الا من حضن الله أبيه الى مستودعها البتولي. وفي هذا الشأن يتكلم المفسر العلامة فارنانداس قائلاً: أن مقلتي مريم العذراء المملؤتين تواضعاً اللتين بهما قد نظرت ملاحظةً العظمة الإلهية، في الوقت عينه الذي فيه لم تفتر أصلاً من النظر الى ذاتها ذليلةً كأنها عدمٌ، فقد فعلتا في قلب الله حركة أنعطافٍ كأنها أغتصابية بهذا المقدار حتى أنهما أجتذبتاه من كرسي جلاله الى أحشائها الطاهرة. ويقول الأنبا فرنكوني: أنه بهذا المعنى نفسه ينبغي أن يفهم المديح الذي به كرم الروح القدس عروسته هذه واصفاً جمالها، بأنها حاصلة على مقلتين نقيتين وديعتين متواضعتين كالحمامة بقوله: ها أنتِ جميلةٌ يا قرينتي، ها أنتِ حسنة، عيناكِ كحمامتين (نشيد ص4ع1) لأن مريم البتول اذ كانت تنظر الى الله بعين ساذجة نقية متضعة كحمامةٍ طاهرة، قد جذبته الى أن يحبها بهذا المقدار كمغرم في جمال نفسها حتى أنه برباطات الحب أرتضى أن يقيد ذاته محبوساً في مستودعها الأعذر.* فلنختتم اذاً هذا الجزء قائلين: أن مريم من ثم لم تقدر أن تواضع ذاتها في سر التجسد بأكثر مما تواضعت به. ولننظر الآن في الجزء الآتي كيف أن الله بتصييره إياها أماً له، لم يقدر أن يرفعها بأكثر مما رقاها.* † الجزء الثاني † * في أن الله لم يقدر أن يرفع مريم العذراء رفعةً أكثر سمواً* * مما رفعها إليه في سر التجسد الإلهي* ثم أن القديس توما الفيلانوفي يقول هكذا: أن هذا الأمر يرفع من الوسط علةً تعجب بعض القائلين:" لماذا أن القديسين الإنجليين قد وجدوا أسخياء في تحريرهم المديح الوافر عن شخص القديس يوحنا المعمدان وعن شخص المجدلية، فقد وجدوا بعد ذلك شحيحين في كتابتهم المديح والصفات المختصة بشرف مريم البتول": فماذا تريد يا هذا أن تفهم من الإنجيليين عن عظمة هذه العذراء المجيدة وعن صفاتها الكلية السمو أكثر مما دونوه عنها. فينبغي أن يكفيك ما قالوه في مديحها عند كتابتهم عنها أنها أم يسوع، وأنها هي والدة هذا الإله، فمن حيث أنهم في تسجيلهم صفتها ومرتبتها هذه قد دونوا عنها، وشهدوا من أجلها بمجموع المدائح وبسائر التعظيمات وبكل التفخيمات. فلم يعد بعد ذلك لازماً أن يشرحوا عنها مفصلاً خصوصياتها وصفاتها الأخرى فرداً فرداً، بعد أن جمعوا كل شيء في صفتها هذه العظمى. ثم يضيف الى ذلك القديس أنسلموس قائلاً:" كيف لا، والحال أن القول عن مريم العذراء هذا فقط، وهو أنها والدة الإله. فيعلو متسامياً ويفوق متزايداً على كل أرتفاعٍ وعلوٍ وعظمةٍ يمكن التفوه بها، أو الأفتكار فيها بالعقل من بعد الله". وهكذا بطرس جالانسه يتبع هذه الكلمات بقوله: أنك يا هذا بتسميتك مريم العذراء سلطانة السموات، أو سيدة الملائكة، أم بأية صفةٍ أخرى ذات شرفٍ وكرامةٍ مهما كانت عظيمةً، مما تريد أنت أن تكرم بها سيدتنا المجيدة، فلا تستطيع أن تبلغ الى أن تمدحها بما يساوي تسميتك إياها بهذه الصفة فقط، وهي والدة الإله:* فالسبب والبرهان في ذلك هما واضحان. لأنه كما يعلم القديس توما اللاهوتي قائلاً: أن الشيء بمقدار ما أنه يدنو من مركزه وأصله وقطبه مقترباً منه، فبمقدار ذلك يكتسب منه كمالاً، ولهذا اذ كانت مريم البتول هي الخليقة الأكثر دنواً وأقتراباً الى الله، فقد أخذت عنه تعالى ونالت منه نعمةً وكمالاً وعظمةً، أكثر مما أخذت عنه المخلوقات الأخرى كلها: ثم أن الأب سوارس يستنتج عن ذلك الحجة الراهنة التي لأجلها قد وجدت المرتبة الوالدية لله هي المرتبة الفائقة سمواً على كل مرتبةٍ أخرى مطلقاً في المخلوقات بأجمعها، وهي من حيث أن هذه المرتبة هي متوقفة ومؤسسة على نوعٍ ما بالأتحاد بأقنومٍ إلهي، الذي بالضرورة هي مضافة إليه. ومن ثم يضيف الى ذلك القديس ديونيسيوس كارتوزيانوس بقوله:" أنه من بعد الأتحاد الأقنومي الذي به أتحد كلمة الله بالناسوت المأخوذ من مريم العذراء فلا يوجد شيء من الأشياء أكثر قرباً لله من تلك التي هي والدة الإله". ويعلم القديس توما بقوله: أن هذا هو الأتحاد الأسمى والأعظم الذي يمكن لخليقة ما أن تتحد به مع الله. والطوباوي ألبارتوس الكبير يوضح قائلاً: أن الكيان والدةً لله هو المرتبة الفضلى الغير المتوسطة بعد مرتبة الألوهية. وبالتالي أن مريم البتول لا تقدر أن تتحد بالله أكثر أتحاداً مما فازت به بصيرورتها والدة الإلة، الا أن ترتقي الى مرتبة الإلوهية عينها:* ويثبت ذلك القديس برنردينوس بقوله: أن البتول القديسة لكي تصير والدةً للإله، قد أحتاجت لأن ترتقي الى مرتبة التساوي على نوعٍ ما بالأقانيم الإلهية. بأيهاب الله إياها نعماً هي على نوعٍ ما غير متناهية: ومن حيث أن الأولاد يحتسبون على نوع أدبي شيئاً واحداً مع والديهم. حتى أن خيرات الجهة الواحدة وكراماتها هي مشاعة للجهة الأخرى، فلأجل هذا اذاً يقول القديس بطرس داميانوس: أن الله يوجد متحداً مع خلائقه على أربعة أنواع، فأتحاده مع مريم البتول هو أتحاد ذاتي، لأنه تعالى هو نظيرها وهي نظيره (في الناسوت): فمن ثم يهتف هذا القديس تلك الكلمات الجليلة قائلاً: فلتصمت هنا كل الخليقة وترتعد وبالكاد يمكنها أن تتجاسر على أن تنظر ملاحظةً مرتبةً هكذا عظيمةً فائقة الأدراك، وهي أن الله يسكن في البتولة ومعها يحوي جوهر طبيعةٍ واحدةٍ هي ذاتها. ولهذا يقول القديس توما اللاهوتي: أنه من حيث أن مريم قد صارت والدةً لله فلسبب أتحادها الشديد بخيرٍ محض، هكذا متناهٍ، قد أقتبلت مرتبةً على نوعٍ ما هي غير متناهية: بل أن الأب سوارس يسمي هذه المرتبة غير متناهيةٍ في نوعها، حسبما كتب عن ذلك مبرهناً. على أن مرتبة كون العذراء مريم والدةً لله هي المرتبة العظمى الفائقة على كل ما سواها، مما هو ممكنٌ أن ترتقي إليه خليقة ما محضة. اذ أن القديس توما اللاهوتي نفسه يورد عن ذلك قائلاً: أنه كما أن ناسوت يسوع المسيح ولئن كان ممكناً له أن يقتبل من الله نعمة ملكية أعظم (اذ أن النعمة الملكية: وهذا هو السبب: هي موهبة مخلوقة، فيلزم أن نقر بأن جوهرها هو محدود، لأنه يوجد مقدار محدود من الأستيعاب لكلٍ من الخلوقات. وهذا المقدار المحدود لا يثني حقوق القدرة الإلهية، عن وسعها أن تبدع خليقةً أخرى ذات أتساعٍ أعظم...) فمع ذلك نظراً الى الأتحاد بالأقنوم الإلهي فلم يقدر أن يقتبل شرفاً أعظم. لأن القدرة الإلهية ولئن كانت تستطيع أن تخلق شيئاً ما أعظم وأجود من النعمة المكلية، التي وجدت في المسيح، فمع ذلك لن تقدر أن تصنع شيئاً متجهاً الى ما هو أعظم من الأتحاد الأقنومي الكائن فيما بين الآب والأبن الوحيد، وبالعكس هو أن البتول الطوباوية لم تكن موضوعاً قابلاً لأن ترتقي الى مرتبة أعظم مما رفعها الله إليه، وهي صيرورتها أماً لله، لأنه من حيث أنها هي والدة الإله، فهي حاصلة على مقامٍ هو غير متناهٍ على نوعٍ ما، وفائزة به من الخير المحض الغير المتناهي الذي هو الله. ولذلك لم تكن هي قابلةً لأن تحصل على شيء أجود من هذا: ثم أن القديس توما الفيلانوفي قد قال نظير ذلك هكذا: أنه بالحقيقة أن من هي أمٌ للغير المتناهي، فهي حاصلة على مقامٍ هو غير متناهٍ على نوعٍ ما: وقال القديس برنردينوس: أن الحال التي إليها رفع الله البتول بتصييره إياها أماً له قد كان هو المقام الأعظم والحال العظمى. فاذاً لم يكن قادراً أن يرفعها أكثر من ذلك. ويثبت هذا ألبارتوس الكبير الطوباوي بقوله: أن الرب بأنتخابه المغبوطة مريم البتول الى رتبة والدةٍ له، قد أعطاها موهبةً عظمى لا يمكن إيهاب أعظم منها لخليقةٍ محضة، ولا هو ممكن أن يعطى أعظم منها:* ومن ثم كتب القديس بوناونتورا تلك القضية الشائعة الذكر وهي: أن الله لقادرٌ أن يخلق عالماً أكبر من عالمنا هذا، وسماءً أكثر أتساعاً من السماء التي فوقنا، ولكنه لا يقدر أن يرفع خليقةً بسيطةً الى رتبةٍ أعظم من أنه يجعلها أن تصير والدةً له: الا أن البتول مريم الكلية القداسة هي نفسها قد أوضحت ذلك أفضل إيضاحاً من هذه الأقوال. بما تفوهت به هاتفةً: أن الله صنع معي عظائم، القوي والقدوس أسمه: (لوقا ص1ع49) وأن سئل، لماذا هذه الأم الإلهية لم تورد مفصلاً ما هي تلك العظائم التي صنعها الله معها، فيجيب عن ذلك القديس توما الفيلانوفي قائلاً: أن البتول لم تفسر ما هي تلك العظائم، من أجل أنها بهذا المقدار هي عظائم سامية عن الوصف والأدراك، حتى أنه لا يمكن تفسيرها وتعدادها أو شرحها كما ينبغي:* فاذاً بالصواب قال القديس برنردوس: أن الله لأجل هذه العذراء التي كانت عتيدةً أن تصير أماً له تعالى بالجسد، قد خلق العالم بأسره. والقديس بوناونتورا يقول: أن العالم يحفظ تحت أرادة البتول الكلي طهرها: مشيراً بذلك الى كلمات سفر الأمثال وهي: أنا التي كنت عنده ناظمةً كل شيء: لأن الكنيسة المقدسة تخصص هذه الكلمات بالعذراء المجيدة، ثم يضيف الى ذلك القديس برنردينوس بقوله: أن الله لأجل حبه مريم البتول لم يلاشِ من الوجود الإنسان بعد خطيئة آدم: ولهذا بكل صوابٍ ترتل الكنيسة عن هذه الأم العذراء (في فرض عيد نياحها) أنها أختارت النصيب الأفضل في القسمة. على أن هذه البتول المجيدة ليس فقط أختارت من الأشياء الأفضل والأجود، بل أنها قد أنتخبت من الأشياء الأجود والأحسن النصيب والقسمة الأفضل والأجود فيها. اذ أن الرب قد شرفها بالشرف الأسمى، ورفعها الى أعلى درجة من العظمة في النعم كلها، وفي المواهب بوجه العموم والخصوص الممنوحة منه تعالى لسائر المخلوقات، وهذا كله هو نتائج تصييره إياها أماً له بالجسد (كما يبرهن الطوباوي ألبارتوس الكبير في تفسيره بشارة لوقا ع13). لأنه قد وجدت هذه البتول طفلةً بالجسد، ولكن في هذا السن كانت مالكةً برارة الأطفال لا نقص معرفتهم، اذ أنها منذ البرهة الأولى من حياتها فازت بموهبة المعرفة التامة. قد وجدت هي عذراء وبقيت كذلك دائماً. ولكن من دون أن يلتحق بها عار العقرية. قد صارت أماً ولكن معاً قد حفظت كنز البتولية. قد كانت جميلةً بل كلية الجمال في الخلقة، كما يحقق ذلك ريكاردوس الذي من سان فيتوره. والقديس جاورجيوس النيكوميدي، والقديس ديونيسيوس الأريوباجيتا قاضي علماء أثينا الذي (بموجب رأي كثيرين) اذ حصل على الحظ السعيد بأن يتمتع بمشاهدة هذه العذراء الفائقة في الحسن مرةً واحدةً فقال: أنه لولا أن الإيمان يرشده الى أن مريم البتول هي خليقة، لكان هو سجد لها وعبدها كإلهٍ: بل أن الرب نفسه قد أوحى للقديسة بريجيتا بأن جمال والدته الطبيعي، قد فاق جمال البشر أجمعين والملائكة بأسرهم، اذ أنه تعالى صير هذه البارة بريجيتا أن تسمعه مخاطباً والدته هكذا:" أن جمالكِ قد فاق على جمال الملائكة كافةً والمخلوقات كلها". ولكن جمال هذه العذراء العظيم لم يكن يضر نفس من كان يشاهدها، لأن بهاءها الفائق كان يلاشي في ناظريها مبدداً كل أنعطافٍ دنسٍ، بل كان يحرك فيهم أفكاراً بكليتها طاهرةً، كما يشهد القديس أمبروسيوس قائلاً: أن النعمة التي كانت حاصلةً عليها مريم هي بهذا المقدار عظيمة. حتى أنها ليس فقط حظيت فيها البتولية الطاهرة، بل كانت تبرز مفعولها في الآخرين أيضاً الذين كانوا يشاهدونها، واهبةً إياهم التأمل في موضوع كمال هذه الفضيلة السامية: ويثبت ذلك القديس توما اللاهوتي بقوله: أن نعمة التقديس ليس فقط قد أبادت في العذراء المجيدة كل حركةٍ مضادة الطهارة أو غير جائزة، بل قد بلغت مفعولها في الآخرين أيضاً. ومن ثم ولئن كانت هي فائقةً جمالاً في جسدها، فمع ذلك لم يكن يتحرك بمشاهديها أدنى أنعطاف ألمي صادر عن الشهوة: ولهذا هي سميت: مراً وميروناً طارداً رائحة الفساد: كما تدعوها الكنيسة المقدسة بتخصيصها إياها بهذه الكلمات وهي: مثل المر المختار فاح مني رائحةٌ طيبةٌ (ابن سيراخ ص24ع20). وقد كانت هي مهتمة في الأعمال الخدمية، ولكن من دون أن تصدها هذه أم تبعدها عن الأتحاد الدائم بالله. وفي تأملاتها وغوصها في الثاوريا مع الله لم تكن تتهاون في أتمام واجبات الأمور الزمنية، ولا فيما يخص أفعال محبة القريب الواجبة. وقد ماتت حقاً بالجسد، ولكن من دون أن تشعر بمرارة الموت ومن غير أن يلتحق بجسدها الفساد* فلنختتم اذاً القول بأن هذه الأم الإلهية هي بنوعٍ غير متناهٍ متميزة وطواً وأنخفاضاً عن الجوهر الإلهي، ولكنها بنوعٍ غير محدود هي سامية متفوقة على المخلوقات كلها. ومن حيث أنه غير ممكن مطلقاً أن يوجد أبنٌ أشرف وأفضل وأعظم من يسوع المسيح، فغير ممكن أيضاً أن توجد أمٌ أشرف وأفضل وأعظم من مريم العذراء وهذا ينبغي أن يفيد عباد هذه الملكة الجليلة ليس فقط لكي يفرحوا قلبياً لأجل عظمتها وتفوق جلال مرتبتها. بل أيضاً لكي ينمو فيهم حسن الرجاء والأتكال على شفاعاتها وحمايتها المقتدرة: لأنها بحسب كونها والدة الإله (يقول الأب سوارس) فلها على نوعٍ ما السلطة والتولي على مواهبه تعالى. لكي تهبها مستمدةً منه لأولئك الذين هي تتوسل لديه عز وجل من أجلهم: كما أن القديس جرمانوس يقول من جهةٍ أخرى، أن الله لا يمكنه أن يقبل تضرعات هذه الأم، اذ أنه لا يقدر هو أن لا يعرفها أماً حقيقيةً له بريئةً من العيب والدنس. فهكذا يخاطبها هذا القديس قائلاً: أنتِ التي قد حصلتِ على السلطان الوالدي عند الله فتستمدين نعمة المصالحة لأولئك أنفسهم الذين أخطأوا خطأً يفوق الأفراط، لأنه تعالى لا يمكنه أن لا يستجيب طلباتكِ، اذ أنه يعاملكِ كأمٍ حقيقيةٍ له بريئةٍ من الدنس في كل الأشياء. فمن ثم لا ينقصكِ يا والدة الإله وأمنا الرحيمة، لا الأقتدار على أن تعينينا، ولا الأرادة في أن تسعيفينا: (كما يقول القديس برنردوس) وهكذا أقول نحوكِ ما قاله الأنبا جالانسه عبدكِ: أن الله قد خلقكِ ليس لأجل ذاته هو فقط، بل أنه أعطاكِ للملائكة أيضاً مصلحةً. وللبشر كذلك محاميةً ومنقذةً، وللشياطين أنفسهم غالبةً منتصرةً مبيدةً، لأننا بواسطتكِ نحن نكتسب جديداً النعمة الإلهية المفقودة منا، وبواسطتكِ عدونا أيضاً يغلب مقهوراً:* فأن كنا نرغب أن نرضي هذه الأم الإلهية فعلينا بأن نكرمها متواتراً بتلاوة السلام الملائكي العزيز لديها، لأنها ظهرت هي مرةً للقديسة ماتيلده وقالت لها، أنه لا يمكن لأحدٍ أن يكرمها بأفضل نوعٍ مقبول عندها، من أن يحييها بالسلام الذي حياها به زعيم الملائكة جبرائيل، واذا ما داومنا على ذلك بحسن عبادةٍ فنكتسب منه لأنفسنا نعماً وافرةً خصوصيةً، بشفاعة أم الرحمة هذه، كما يبان من النموذج الآتي إيراده.* * نموذج * غير أن هذا القائد القليل الفطنة بعد ذلك بستة أشهرٍ أعتمد على أن يذهب عند تلك الأمرأة مفتقداً إياها، لينظر أن كانت هي أيضاً تابت عن خطاياها وأصلحت سيرتها أم لا. الا أنه حينما بلغ الى باب بيتها، وأثر أن يدخل إليه (الأمر الذي بالحقيقة كان خطراً عليه جداً للسقوط جديداً مع تلك الأمرأة، بالدنس الذي كان مارسه هو معها قبلاً أزمنةً مديدةً) واذا بيد غير منظورة قد منعته من الدخول الى الدار مرجعةً إياه الى الوراء. وشاهد ذاته على الفور بعيداً من باب تلك الدار مسافة طول الطريق كلها. ووجد نفسه أمام باب بيته الخصوصي، وحينئذٍ قد عرف بنورٍ واضحٍ أن والدة الإله هي التي أنقذته من خطر السقوط جديداً بالأثم. فمن هنا يفهم جلياً كم هي سريعة هذه الأم الإلهية سيدتنا ليس فقط في أن تخرجنا من حال الخطيئة، اذا نحن ألتجأنا إليها بهذه النية والقصد بأصلاح ذواتنا. بل أنها تنجينا من الخطر أيضاً الذي يلم بنا، لكيلا نسقط جديداً في الأثم.* † صلاة † بأستحقاقات يسوع المسيح أبنكِ، وبواسطة شفاعتكِ من أجلنا، فنقدر أن نأتي يوماً ما الى السماء حيث لا يعود علينا خطرٌ ما في شأن خلاصنا، وهناك نسبح أبنكِ ونمدحكِ * الى أبد الدهور آمـين* † الفصل الخامس *فيما يلاحظ تذكار زيارة والدة الإله عند نسيبتها القديسة أليصابات،* *حيث يبرهن عن هذه البتول أنها هي خازنة جميع النعم الإلهية.* * وأن من يلتجئ إليها يلزمه أن يطمئن بنواله النعم التي يرغبها.* *وفيه جزءان* † الجزء الأول † * في أن من يروم أن يفوز بنعمةٍ ما فيلزمه أن يلتجئ الى مريم العذراء* فالبتول الكلية القداسة بعد أن سمعت من زعيم الملائكة جبرائيل، أن نسيبتها أليصابات كانت هي أيضاً حبلى بأبنٍ على شيخوختها، وهذا القول كان في الشهر السادس من حبل تلك المدعوة عاقراً. فقد عرفت بنورٍ خاص من قبل اروح القدس، أن كلمة الآب الأزلي المتجسد في أحشائها أبناً لها، قد كان يريد أن يبتدئ في أن يعلن للعالم عنى مراحمه، بتلك النعم الأولى التي كان هو يشاء أن يوزعها على عيلة الكاهن زخريا، فلهذا من دون تأخيرٍ: قامت مريم في تلك الأيام وذهبت مسرعةً الى الجبل الى مدينة يهوذا، ودخلت الى بيت زخريا وسلمت على أليصابات: (لوقا ص1ع39) مع أنها في هذا السفر أحتاجت الى أن تنتزح عن هذوها في أنفرادها المحبوب منها، الذي فيه كانت تمارس تأملاتها في الحقائق الأبدية، ولكن لأجل أن المحبة المقدسة تحتمل كل شيء ولا تعرف أن تتكاسل في عملها، كما يتكلم في هذا الشأن القديس أمبروسيوس قائلاً: أن نعمة الروح القدس لا تعرف أن تستعمل الإعاقة في تكميل مقصودها: فلذلك العذراء المجيدة الحديثة ألسن، واللطيفة المزاج لم تتوقف عن أن تعاني سفراً مضنكاً، بذهابها السريع من الناصرة الى مدينة يهوذا، متحركةً من قبل المحبة التي لا تقوى عليها صعوبةٌ، ومنجذبةً من قبل نعمة الروح القدس. وحالما بلغت الى بيت زخريا فسبقت هي أولاً بالتحية وسلمت على أليصابات، حسبما يلاحظ ذلك القديس أمبروسيوس عينه، ولكن زيارتها هذه لم تكن نظير زيارات أهل العالم التي غالباً تقوم بأحتفالاتٍ خارجية وبغاياتٍ كاذبة، بل أن زيارة الطوباوية مريم البتول قد جلبت لأهل ذلك البيت كنزاً من النعم، لأنه حال دخولها إليه قد أمتلأت القديسة أليصابات من الروح القدس، والطفل يوحنا الذي كان في مستودعها قد أنحل من وثاق الخطيئة الأصلية وتقدس بنعمة الله. لذلك قد أعطى هو العلامة الحسية بحركةٍ غير أعتيادية مبتهجاً في جوف أمه، مريداً بهذا أن يعلن حقيقة النعمة التي فاز بها من الله بواسطة مريم البتول، حسبما أوضحت ذلك القديسة أليصابات نفسها بقولها لهذه السيدة: هوذا لما صار صوت سلامكِ في مسمعي، أرتكض الجنين بأبتهاجٍ في بطني: فمن ثم كما يلاحظ العلامة برنردينوس البوسطي، أنه بقوة سلام مريم قد أقتبل يوحنا في مستودع أمه بأبتهاجٍ نعمة الروح الإلهي الذي قدسه وبرره.* فأن كانت اذاً نواجم أثمار سر الفداء هذه قد توزعت في العالم بيد مريم الطوباوية، وهي وجدت القناة التي بواسطتها قد جرت نعمة التقديس ليوحنا الجنين في أحشاء والدته. ونعمة الأمتلاء من الروح القدس للبارة أليصابات، ونعمة روح النبؤة للكاهن زخريا والد السابق، وبركاتٌ أخرى كثيرة قد استوعب منها ذاك البيت، وهذه هي النعم الأولى التي نعرفها أنها أعطيت في الأرض من الكلمة الأزلي بعد تأنسه. فاذاً عادلٌ جداً هو الإيقان من دون ريبٍ، في أن الله منذ ذلك الحين قد أقام مريم البتول وعينها بصفة قناةٍ أو مجرى عام للنعم، كما يسميها القديس برنردوس. وبواسطة هذه القناة قد جرت وتجرى إلينا بعد ذلك كل النعم الأخرى. التي يريد الرب أن يوزعها علينا. حسبما برهنا عن هذه القضية في الفصل الخامس من القسم الأول من مؤلفنا الحاضر.* فاذاً بالصواب قد دعيت هذه الأم القديسة: خزنة النعم الإلهية وخازنتها وموزعتها: كما يسميها الأنبا جلانسه المكرم بقوله: أنها هي خزنة الله وخازنة أنعامه: والقديس بطرس داميانوس يدعوها: خزنة النعم الإلهية. والطوباوي ألبارتوس الكبير يسميها: خازنة يسوع المسيح. والقديس برنردينوس يلقبها: بموزعة النعم والمواهب. وأحد العلماء اليونانيين المورد من بيطافيوس ينعتها: بأنها خزنة الخيرات كلها. والقديس غريغوريوس العجائبي يقول: أنه كتب عن البتول مريم أنها ممتلئةٌ نعمةً، من حيث أن كنز النعم قد أذخر فيها كداخل خزنةٍ. وقال ريكاردوس الذي من سان لورانسوس: أن الله قد أستودع في مريم كضمن الأهراء المختصة برحمته جميع المواهب والنعم، ومن هذا الكنز يغني هو عبيده. ثم أن القديس بوناونتورا بتكلمه عن المثل المورد من سيدنا يسوع المسيح بقوله: يشبه ملكوت السموات كنزاً مخفياً في حقلٍ وجده إنسانٌ فخبأه، ومن فرحه مضى فباع كل شيءٍ له وأشترى ذلك الحقل: (متى ص3ع4) يقول:أن هذا الحقل أنما هو مريم سلطانتنا المخبئ فيها كنز الله الذي هو يسوع المسيح، ومع هذا الكنز الإلهي يوجد ينبوع النعم كلها. وقبلاً قد كان أثبت هذه الحقيقة القديس برنردوس بقوله: أن جميع النعم التي يريد الرب أن يوزعها علينا قد وضعها تعالى في يد مريم، لكي نعرف أن كل ما نحن نقتبله من الخيرات فأنما نفوز به بواسطتها ونعطاه عن يدها: بل أن هذه الأم الإلهية عينها تؤكد لنا ذلك قائلةً: فيَّ أنا نعمة كل مسلكٍ وحقٍ: (ابن سيراخ ص24ع25) أي أن جميع نعم الخيرات الحقيقية التي يمكنكم أنتم يا معشر البشر أن ترغبوها وتشتهوها في مدة حياتكم، فهذه كلها تجدونها فيَّ. ولذلك يقول نحو هذه السيدة القديس بطرس داميانوس: أي نعم أننا نعلم حسناً يا أمنا ورجانا أن خزائن المراحم الإلهية وكنوزها كلها توجد تحت يدكِ. وقبل هذا الجليل كان القديس أيدالفونسوس اوضح ذلك بأكثر أعلان اذ قال مخاطباً هذه السيدة هكذا: أن جميع النعم التي رسم الله وحدد أن يمنحها للبشر، فعين تعالى أن يوزعها كلها عليهم عن يدكِ أيتها السيدة، ولذلك قد سلم إليكِ عز وجل خزائن النعم جميعها: ومن ثم يستنتج القديس جرمانوس قائلاً نحوها: فاذاً لا توجد يا مريم نعمةٌ ما من النعم تعطى لأحدٍ الا بواسطتكِ وعن يدكِ.* أما الطوباوي ألبارتوس الكبير. فاذ يتكلم مفسراً ألفاظ زعيم الملائكة جبرائيل بقوله للدائمة بتوليتها: لا تخافي يا مريم فقد ظفرتِ بنعمةٍ أمام الله (لوقا ص1ع30) يضيف الى ذلك هذه العبارة الجليلة قائلاً: فأنتِ يا مريم لم تختطفي النعمة كما أختطفها لوسيفوروس، ولا أضعتيها كما أضاعها آدم، ولا أشتريتيها كما كان يرغب أن يشتريها بالأموال سيمون الساحر، لكنكِ قد وجدتيها وظفرتِ بها لأجل أنكِ فتشتِ عليها ورغبتيها، فقد وجدتِ النعمة الغير المخلوقة التي هي الله نفسه المتأنس منكِ صائراً أبناً لكِ. ومع هذه النعمة الغير المخلوقة قد ظفرتِ بجميع الخيرات المخلوقة: ثم أن القديس بطرس خريسولوغوس يثبت ذلك بقوله: أن هذه الأم العظيمة قد ظفرت بالنعمة ووجدتها، لكي تجلب بعد هذا لكل البشريين الخلاص الأبدي، فمريم قد وجدت نعمةً طافحةً يمكنها بها أن تخلص كل واحدٍ.* يقول ريكاردوس الذي من سان لورانسوس: بحسبما أن الله قد خلق الشمس لكي تنير الأرض، فهكذا تعالى قد خلق مريم لكي يوزع بواسطتها على العالم مراحمه كلها. ويضيف الى ذلك القديس برنردينوس قائلاً: انه من حينما صيرت مريم البتول والدةً لله المخلص قد أكتسبت على نوعٍ ما التولي على كل النعم:* فلنختتم اذاً هذا الجزء بما قاله ريكاردوس المار ذكره، وهو أننا أن كنا نريد أن ننال نعمةً ما فلنلتجِ الى مريم التي لا تقدر أن لا تستمد لعبيدها كل ما تطلبه لهم، لأنها قد ظفرت هي بالنعمة الإلهية، ودائماً تظفر بها اذ يقول: أننا أن كنا نرغب أن نصادف نعمةً ما، فلنفتش على تلك التي وجدت النعمة، لأنها هي قد وجدتها دائماً، ولا يمكن أن لا تحصل عليها. وهذا هو موافق لما قاله القديس برنردوس هكذا: فلنطلب النعمة بواسطة مريم، لأنها تجد الذي تطلبه، ولا يمكن أن لا تحصل عليه. فأن كنا اذاً نرغب نوال نعمةٍ ما، فيلزمنا أن نمضي الى خازنة النعم وموزعتها. لأن هذه هي أرادة معطي كل خير العلي. كما يحقق لنا ذلك القديس برنردوس عينه قائلاً: لأن هذه هي أرادة ذاك الذي شاء أن نحصل نحن على كل شيءٍ بواسطة مريم، أي أن النعم كلها أنما تتوزع بواسطة مريم العذراء وعن يدها: فمن المعلوم أن قوله كلها لا يستثني نعمةً ما منها، ولكن من حيث أنه لكي ينال أحدٌ النعمة التي يرغبها فيلزم بالضرورة أن يكون موجوداً فيه الرجاء والثقة في نوالها. فلنأت الى التكلم عن ذلك في الجزء الآخر.* † الجزء الثاني † * في كم يلزمنا أن نثق مطمئنين في نوال النعم التي نطلبها* * بواسطة ألتجائنا الى مريم العذراء* ثم أن هذا القديس نفسه أي برنردوس يجتاز بخطابه قائلاً: لماذا أن رئيس الملائكة جبرائيل بعد أن عرف أن مريم كانت موعبةً من النعم. ولهذا هو عينه سلم عليها قائلاً: أفرحي يا ممتلئةً نعمةً الرب معكِ. فمع ذلك قال لها: أن الروح القدس يحل فيكِ وقوة العلي تظللكِ. لكي تمتلئ من النعمة بأوفر زيادة، فأن كانت هي من ذي قبل ممتلئةً نعمةً، فما الذي كان يمكنها فوق أستعابها من النعمة أن تأخذه من أتيان الروح القدس عليها من النعم الجديدة. فالقديس المذكور عينه يجيب عن ذلك قائلاً: أن مريم قد كانت قبلاً ممتلئةً نعمةً. الا أن اروح القدس قد حل عليها وأفاض فيها زيادة النعم فوق ملوئها لأجل خيرنا نحن البشر. لكي نفوز نحن الأشقياء المساكين من زيادة أمتلاء هذه البتول من النعم بما نحتاج إليه، ولذلك قد لقبت مريم وشبهت بالقمر الذي يقال عنه: أنه ممتلئ لذاته ولغيره.* فأمنا هذه الرحيمة تقول عن ذاتها:" من يجدني يجد الحياة ويستقي الخلاص من عن الرب: (أمثال ص8ع35) أي مغبوطٌ هو من يصادفني بألتجائه إليَّ، لأنه بواسطتي يجد الحياة ويفوز بها بسهولةٍ، لأنه كما أن أمراً سهلاً هو أن يجد أحدٌ الماء في ينبوعه وحوضه ويأخذ منه بمقدار ما يشتهي، فهكذا هو سهلٌ وجود النعم ومصادفتها والظفر بها، ونوال الخلاص الأبدي بواسطة الألتجاء الى مريم." فأحد الأبرار كان يقول: أنه لأجل نوال النعمة يكفي طلبها من والدة الإله. كما أن القديس برنردوس يقول:" أنه لأجل ذلك قبل أن تولد مريم العذراء في الدنيا، كان ينقص العالم سخاء النعم العظيمة التي الآن هو مملؤٌ منها، أي من حيث أنه كان ناقصاً وجد هذه القناة المشتهاة التي هي والدة الإله. فاذاً اذ نحن الآن حاصلون على هذا المجرى الذي هو أم الرحمة الإلهية. فأية نعمة نحن نلتمسها منها بألتجائنا إليها ونخاف من أن لا ننالها. فالقديس يوحنا الدمشقي يصيرها أن تتكلم عن ذاتها قائلةً: أنا هي مدينة الملجأ لكل أولئك الذين يبادرون نحوي محتمين بي، فتعالوا اذاً يا أولادي إليَّ لتنالوا النعم بأوفر سخاءٍ مما أنتم تفتكرون وتأملون.* فأي نعم أنه يحدث لكثيرين ذاك الشيء الذي عرفته الراهبة مريم فيلاني، بواسطة رؤيا سماوية، حيث شاهدت هي مرةً ما والدة الإله بصورة ينبوع ماءٍ عظيمٍ متدفقٍ بغزارةٍ، وأن كثيرين كانوا يدنون من هذا الينبوع ويستقون لذواتهم مياه نعمٍ وافرة جداً، الا أنه ماذا كان يحدث بعد ذلك. فقد نظرت هذه الراهبة البارة أن أولئك الذين كانوا يأتون الى الينبوع، بأوعيةٍ سالمةٍ صحيحةٍ وبها يستقون منه الماء، فكانت مياه النعم تحفظ لهم في أوعيتهم سالمةً فيما بعد أيضاً فائزين بأمتلاكهم تلك النعم. وأما أولئك الذين كانوا يقبلون الى العين بأوعيةٍ مشققةٍ، أي الخطأة المثقلون برباطات الأثم، فأي نعم أنهم هم أيضاً كانوا يملاءون أوعيتهم من نعم هذا الينبوع. ولكن من دون أبطاءٍ كانوا يفقدونها جديداً. فالشيء الحقيقي هو أن البشر يقتبلون يومياً بواسطة مريم البتول نعماً فائقة الإحصاء ويفوز بذلك الناس العديمون المعروف والناكرون الجميل أيضاً والخطأة الأكثر شقاوةً. فيقول القديس أوغوسطينوس مخاطباً والدة الإله هكذا: أننا نحن الأشقياء قد ورثنا الرحمة بواسطتكِ، ونحن الناكرين الجميل حزنا بكِ النعمة، ونحن الخطأة فزنا بكِ بالغفران، ونحن الحقيرين الأذلاء قد حصلنا بكِ على الأشياء العالية، ونحن الأرضيين قد نلنا بكِ الملكوت، ونحن المائتين قد فزنا بكِ بالحياة، ونحن الغرباء بكِ حصلنا على الوطن". فلننعش اذاً فينا يا معشر المتعبدين لمريم الرجاء والثقة والطمأنينة نحوها متزايدةً يوماً فيوماً في قلوبنا. ولنفتكر بأتصالٍ بنوعٍ خاصٍ في هاتين الصفتين الجليلتين الحاصلة عليهما هذه الأم الإلهية، وهما الرغبة المستحرة بأشتياقٍ لأن تصنع معنا الخير، والمقدرة التي لها عند أبنها على أن تستمد منه كل شيء تطلبه، فلكي تفهم الرغبة التي لها في أن تسعف الجميع وتفيدهم، يكفي أن يصير التأمل في سر العيد الحاضر المختص بتذكرة زيارتها عند نسيبتها القديسة أليصابات. على أن المسافة الكائنة فيما بين مدينة الناصرة حيث كانت ساكنةً هذه البتول الكلية القداسة، وبين المدينة التي كانت تسكنها القديسة أليصابات، وهي مدينة حبرون على رأي الكردينال بارونيوس وغيره من الكتبة (والقديس لوقا الإنجيلي يسميها مدينة يهوذا) هي مسافة ذات تسع وستين ميلاً. كما يؤكد ذلك الأب يوسف الراهب الكرملي، وبيدا، وبروكاردوس ومع ذلك هذه الفتاة الحديثة السن واللطيفة الجسم لم تتأخر عن أن تباشر حالاً هذا السفر المتعب جداً، فما الذي حركها لصنيعه، أنه بلا شكٍ لم يكن شيئاً آخر الا الحب المتقد فيها على الدوام بقلبٍ كلي الأنعطاف، لأن تمارس منذ ذلك الوقت وظيفتها التي هي: موزعة النعم: حسبما يتكلم عن ذلك القديس أمبروسيوس في تفسيره الاصحاح الأول من بشارة لوقا قائلاً: أن مريم البتول لم تذهب من الناصرة الى مدينة يهوذا لكي تتحقق صدق ما قاله لها زعيم الملائكة جبرائيل عن حبل أليصابات، بل أنها لأبتهاجها في أن تصنع الخير مع تلك العيلة. فقد أسرعت فرحةً بذهابها لأن تفعل الصلاح مع الآخرين. متحركةً بجملتها الى ذلك من قبل المحبة المتقدة في قلبها نحو القريب: ولذلك ينبغي أن تلاحظ عبارة الإنجيل المدونة عن سفر هذه الأم الرأوفة وهي: أن مريم قامت وذهبت مسرعةً الى الجبل: وبخلاف ذلك اذ يخبر الإنجيل عن رجوعها فلا يورد شيئاً من الأسراع. بل بنوع البساطة يقول: أن مريم مكثت عند أليصابات نحو ثلاثة أشهرٍ وعادت الى منزلها: (لوقا ص1ع56) ثم أن القديس بوناونتورا يتكلم هكذا قائلاً: فأية غايةٍ أخرى كانت تغتصب والدة الإله لأن تسرع ذاهبةً لتزور بيت أهل المعمدان. الا رغبتها في أن تصنع الخير مع تلك العيلة المكرمة:* فمن المعلوم أن مريم العذراء بعد أرتقائها الى السماء لم تدع أن يفتر فيها هذا الحب نحو البشر بل أنه هناك قد تضاعف فيها نامياً، لأنها قد عرفت أفضل معرفة كم هي أحتياجاتنا القصوى. ومن ثم هي الآن نحونا ذات أشفاقٍ أعظم، لتفهمها جيداً حال شقائنا، فقد كتب برنردينوس البوسطي: أن مريم تريد راغبةً بشوقٍ أن تفعل معنا الخير أكثر من رغبتنا نحن أن نناله منها بنوع أنه، كما يقول القديس بوناونتورا: ان والدة الإله تحتسب ذاتها مهانةً من أولئك الذين لا يلتجئون إليها طالبين النعم لأن هذه هي رغبة العذراء المجيدة (كما يقول أيديوطا) أي أنها تروم أن تغني الجميع بالنعم. ولكنها بنوعٍ فائقٍ في السخاء ترغب أن تغني المتعبدين لها:* ولذلك يقول أيديوطا عينه: أن من يجد مريم فيجد كل خيرٍ: ويضيف الى هذا قوله: أن كل أحدٍ يمكنه أن يجدها، ولئن كان هو الخاطئ الأكثر أثماً من أهل العالم بأسره، لأنها اذ هي كلية الحنو والأشفاق فلا تطرد أحداً من أولئك الذين يبادرون نحوها مستغيثين بها. وتوما الكامبيسي يجعلها متكلمةً هكذا: أنني أنا نفسي أدعو الجميع لأن يلتجئوا إليَّ وأنتظرهم كافةً، وأرغب حضورهم إليَّ جميعاً، ولا أزدري بأحدٍ من الخطأة مهما كان عديم الأستحقاق، متى أستغاث بي وطلبني لمعونته: ويقول ريكاردوس: أن كل من يمضي نحو مريم ملتمساً نوال النعم فيجدها على الدوام مستعدةً راغبةً مشتهيةً أن تسعفه بها وتستمد له كل النعم المفيدة لخلاصه الأبدي بواسطة شفاعاتها المقتدرة.* وقولي شفاعاتها المقتدرة يعني الصفة الثانية التي يلزمها أن توطد رجانا بزيادةٍ وثقتنا بطمأنينةٍ. في أنها تستمد من الله كل شيء تطلبه منه في خير المتعبدين لها. فيقول القديس بوناونتورا: تأمل يا هذا بالحصر في زيارة الطوباوية مريم عند القديسة أليصابات، في كم حصلت كلمات هذه السيدة على القوة العظيمة لأن تبرز مفعولها. لأنها بمجرد كلماتها وصوتها قد أوعبت من نعمة الروح القدس في الوقت عينه أليصابات والجنين في بطنها، كما يوضح الإنجيلي بقوله: وكان لما سمعت أليصابات سلام مريم تحرك الجنين بأبتهاج في بطنها وأمتلأت أليصابات من الروح القدس: (لوقا ص1ع41) فأنظر كم هي عظيمة قوة صوت مريم ومفعول كلماتها المقدسة. حيث أنها حالما تلفظت بها قد منحت نعمة الروح القدس: ثم يقول ثاوفيلوس الأسكندري: " أن يسوع المسيح يسر جداً حينما تتضرع إليه مريم والداته من أجلنا. لأن جميع النعم التي يمنحناها تعالى حينئذٍ لأجل توسلات مريم، لا يعتدها موهوبةً لنا بمقدار ما يعتبرها أنها معطاة منه لأمه هذه عينها". فلاحظ هنا كلماته المذكورة بقوله عن يسوع المسيح: أنه يعتبر تلك النعم ممنوحةً منه لأمه عينها. على أنه كما يقول القديس جرمانوس: أن يسوع المسيح لا يقدر أن لا يستجيب مريم في كل شيء تطلبه منه، مريداً بذلك على نوعٍ ما أن يطيعها خاضعاً لها بحسب كونها والدته، لأن تضرعات هذه الأم الإلهية لها نوعٌ من الولاية لدى أبنها. ومن ثم هي تستمد منه الغفران للخطأة الأكثر أثماً الذين يلتجئون إليها.* وهذا الأمر يتحقق بأبلغ البيان، كما ينبه القديس يوحنا فم الذهب، من الحادث الذي تم في عرس قانا الجليل. وهو أنه حينما قالت هذه الأم الرأوفة ليسوع عن أصحاب وليمة العرس. أن ليس عندهم بعد خمرٌ. فأجابها قائلاً: مالي ولكِ أيتها الأمرأة لم تأتِ ساعتي بعد: (يوحنا ص2ع4) فلئن لم يكن حينئذٍ جاء الزمن الذي فيه كان ينبغي للمسيح أن يبتدئ بصنيع العجائب، كما يبرهن الذهبي فمه نفسه. ومثله تاوفيلاكطوس فمع ذلك (يقول هذا العسجدي الفم) أن المخلص طاعةً منه لإرادة أمه قد صنع الأعجوبة التي هي طلبتها منه. اذ أحال الماء الى خمر:* " فلنتقدم اذاً بدالةٍ الى عرش النعمة (كما يحرضنا الرسول عبرانيين ص4ع16) لندرك الرحمة ونجد النعمة عوناً لنا في زمانٍ واجبٍ: فعرش النعمة هو الطوباوية مريم البتول، يقول الطوباوي ألبارتوس الكبير: فأن كنا اذاً نرغب نوال نعمةٍ ما فلنذهب نحو عرش النعمة الذي هو مريم، ولكن فلنتقدم الى هذا العرش بدالةٍ أي برجاءٍ وطيد في أن مطلوبنا يستجاب بتأكيدٍ، لأننا حاصلون على شفاعة هذه الأم الإلهية التي تنال من ابنها كل ما تطلبه منه. ولهذا أكرر كلمات القديس برنردوس: أننا أن أردنا أن نجد نعمةً فنجدها بواسطة مريم: مشيراً بذلك الى ما قالته البتول الكلية القداسة هي نفسها للقديسة ماتيلده: أنه اذ كان الروح القدس قد أملأ هذه السيدة من عذوبته كلها. فصيرها عزيزةً على قلبه تعالى ومحبوبةً منه بهذا المقدار. حتى أن كل من ألتمس منه عز وجل بواسطتها النعم التي يرغبها فينالها من دون ريب:* ثم أن كنا نصدق القضية المشتهرة عن القديس أنسلموس بقوله: أنه يتفق بعض الأحيان أن ننال الخلاص بأستغاثتنا بأسم مريم بأكثر سرعةٍ مما نناله اذا أستغثنا بأسم يسوع: فكذلك (كما يقول القديس نفسه) يتفق بعض الأحيان أن نفوز بالنعم بألتجائنا الى والدة الإله بأكثر سرعةٍ من نوالها إياها اذا ألتجأنا الى مخلصنا يسوع المسيح نفسه، لا كأنه تعالى ليس هو ينبوع النعم كلها ومولاها المطلق، بل من قبيل أننا حينما نبادر بالأستغاثة نحو هذه الأم الإلهية، التي هي حينئذٍ تتوسل لدى أبنها يسوع من أجلنا، فبأكثر سرعةٍ تستمد لنا منه النعم التي نلتمسها. اذ أن تضرعاتها لديه هي تضرعات أمٍ، ولها قوة أكثر من توسلاتنا الغير المتوسطة أمامه. فاذاً ينبغي لنا أن لا نبارح قدمي خازنة النعم هذه قائلين لها مع القديس يوحنا الدمشقي: أفتحي لنا باب التحنن يا والدة الإله المباركة، لأننا بأتكالنا عليكِ لا نخيب وبكِ نخلص من كل المحن، لأنكِ أنتِ خلاصٌ لجنس المسيحيين". واذا ما ألتجأنا الى هذه السيدة، فالأفضل هو أن نتوسل إليها بأن تستمد لنا من الله تلك النعم. التي تعلم هي أنها أكثر ملائمةً وأفادةً لخلاصنا، نظير ما كان يصنع الراهب الدومينيكاني راجينالدوس. حسبما هو مدون في الرأس الخامس من الكتاب الأول من تاريخ هذه الرهبنة. فيوماً ما كان عبد مريم هذا مريضاً، وكان يطلب منها الصحة الجسدية. فظهرت له سيدته هذه المجيدة مرأفقةً من القديستين كيكيليا وكاترينا، وقالت له بعذوبةٍ كلية: يا أبني ماذا تريد أن أصنع من أجلك: فالراهب المذكور عند سماعه منها هذه الكلمات قد حصل مبهوتاً لا يعلم ماذا يجاوب، فحينئذٍ الواحدة من القديستين المقدم ذكرهما شارت عليه بقولها له هكذا: أتعرف ماذا تصنع يا راجينالدوس، فأنت لا تطلب منها شيئاً معيناً، بل سلم ذاتك بجملتها بين يديها تسليماً تاماً، لأن هذه السيدة تعلم هي أن تصنع معك تلك النعمة بأفضل نوع مما أنت تعرف أن تطلبها منها: فهكذا فعل المريض ومريم وقتئذٍ أستمدت له نعمة الشفاء من مرضه.* ولكن اذا نحن أردنا أن نفوز بأن تزورنا ملكة السموات بزيارتها السعيدة، فيفيدنا كثيراً أننا نحن أيضاً نزورها مراتٍ مترادفةً بذهابنا أمام بعض أيقوناتها المقدسة. فليقرأ النموذج الآتي تسطيره، لكي يفهم بكم من المواهب الخصوصية تكافئ سلطانة العالمين الذين يزورون أيقوناتها بحسن عبادة.* * نموذج * † صلاة † فتضرعي اذاً من أجلي يا مريم حبيبتي. وأوصي بي أنبكِ الإلهي ولأنكِ أفضل مني تعرفين شقاوتي وأحتياجاتي فليس لي ما أقوله لكِ أكثر. بل أرحميني لأني مسكينٌ جاهلٌ لا أعلم ماذا ألتمس من النعم المفيدة لي والمحتاج أنا إليها. فأنتِ يا أمي وسلطانتي الكلية الحلاوة ألتمسي لي من أبنكِ تلك النعم التي تعرفين أنها أكثر إفادةً لي. وأوفر ضرورةً لخلاص نفسي. فأنا أسلم ذاتي بجملتها في يديكِ. وأتوسل للعزة الإلهية بأستحقاقات مخلصي أن تهبني النعم التي أنتِ تطلبينها في شأني. فأطلبي من أجلي أيتها البتول الكلية الطوبى ذاك الشيء الذي تعرفين أنه أجود لي. لأن صلواتكِ لا يمكن أن ترد خائبةً، لأنها صلوات أمٍ نحو أبنها الذي يحبها حباً شديداً، ويسر بأن يصنع كل ما تطلبه منه، لكي يكرمكِ بذلك كرامةً أعظم، ويظهر لكِ في القت عينه سمو درجات الحب الذي يحبكِ به، فقد أتفقنا على ذلك يا سيدتي، وأنا أحيى واثقاً بكِ، وأنتِ يخصكِ أن تفتكري في أمر خلاصي آمين.* † الفصل السادس * فيما يلاحظ عيد تطهير البتول الكلي طهرها، أي تقدمة أبنها يسوع المسيح الى الهيكل بعد أربعين يوماً من ميلاده وفيه يبرهن عن عظمة القربان الذي صنعته هذه السيدة في مثل اليوم الحاضر لله، بتقدمتها له حياة أبنها.* فالآب الأزلي قد كان حدد راسماً أن يخلص الإنسان الهالك بالخطيئة وينقذه من الموت الأبدي، ولكن من حيث أنه جلت حكمته كان يريد في الوقت عينه أن عدله الإلهي لا يبقى خائباً من الوفاء المحق له ضرورةً، فلذلك اذ لم يوفر في هذا الأمر المهم عنايةً، حتى ولا حياة أبنه الوحيد المتجسد لأجل خلاص البشر، فأراد تعالى أن هذا الأبن يفي بكل صرامةٍ العقاب الذي أستحقته البشر، كما يقول الأنبا المصطفى: أن الله لم يشفق على أبنه بعينه بل بذله عن جميعنا: (رومانيين ص8ع32) فقد أرسله اذاً الى العالم لأجل هذه الغاية متأنساً، وعين أماً له البتول مريم الطوباوية، ولكن لأنه عز وجل لم يرد أن أبنه الإلهي يصير ابناً لهذه العذراء قبل أن تعطى هي رضاها الصريح بذلك. فهكذا لم يشأ تعالى أن هذا الأبن يقدم ذاته وحياته ضحيةً من غير أن ترافقه أرادة والدته ورضاها، حتى يكون على هذا النوع قلب مريم العذراء مقدماً ضحيةً لله جملةً مع تقدمة حياة ابنها يسوع. فالقديس توما اللاهوتي يعلم: بأن للأمهات من قبل صفتهن الوالدية حقاً وولايةً على أولادهن: فاذاً من حيث أن يسوع قد كان في ذاته باراً. ولم يكن مستحقاً أدنى عقابٍ لأجل ذنبٍ خصوصي الذي قط لم يلتحق به. فقد يبان لائقاً أن لا يكون تعينً هو لأن يقدم ذبيحةً على عود الصليب من أجل خطايا العالم من دون رضا أمه، الذي به تقدمه هي طوعاً وأختيارياً للموت.* ولكن ولئن كانت مريم البتول من حين صيرورتها أماً ليسوع المسيح. قد أعطت رضاها بموته، فمع ذلك أراد الرب أن هذه الأم الإلهية تقدم لديه تعالى في مثل هذا اليوم في الهيكل الأورشليمي ذاتها ضحيةً كاملةً، بطقسٍ أحتفالي خارج، وذلك بتقدمتها الأحتفالية له حياة أبنها الحبيب غفراناً عن خطايا العالم ووفاءً لعدله الإلهي. ولهذا يسمي القديس أبيفانيوس هذه البتول القديسة: العذراء الكاهنة المقدمة الضحية. فالآن ينبغي لنا أن نتأمل في كم وجد ثمن هذه الضحية لدى مريم عظيماً. من قبل الألم الذي شعرت به باطناً، وكم هو مقدار الشجاعة وسمو فضيلة الصبر التي بها مارست هي هذه الضحية، بأمضائها حكومة الموت ضد أبنها الحبيب كأنه بخط يدها.* فهوذا مريم تبادر نحو مدينة أورشليم بأسراعٍ لتكمل تقدمة أبنها قرباناً. حاملةً على ذراعيها الحمل المهيأ للذبيحة، حيث دخلت الى هيكل الرب، ودنت من المذبح مملؤةً من الأحتشام والتواضع وحسن العبادة، مقدمةً للعلي بكرها المحبوب في الغاية، وفي الوقت عينه قد جاء الى هناك القديس سمعان الشيخ، الذي كان حصل من الله على الوعد بألا يرى الموت قبل أن يعاين مسيح الرب المنتظر، فهذا البار اذ أقتبل من يدي البتول طفلها الإلهي. وأستنار من قبل الروح القدس، فأخبر هذه الأم عن عظمة ثمن ذاك القربان المقدم لله منها، لأنه كان يلزمها أن تضحي نفسها جملةً مع أبنها. فهنا القديس توما الفيلانوفي اذ يتأمل في كيفية حال الشيخ البار سمعان، عند ألتزامه بأن يعلن للعذراء المجيدة تلك الحكومة المرة ضدها. يقول هكذا: أن هذا الشيخ عند ذلك القلق وسكت، ولكن مريم كأنها كانت تقول نحوه لماذا أنت يا سمعان مضطربٌ، في الوقت الذي أنت فيه حاصلٌ على تعزيةٍ عظيمةٍ بمشاهدتك تمام ما وعدت به. فمن ثم أجابها هو قائلاً: أيتها السيدة الشريفة أني كنت أتمنى الا أخبركِ بقضيةٍ مغمةٍ مملؤةٍ من المرارة، ولكن من حيث أن الله يريد مني أن أعلنها لديكِ، لأجل أزياد أجركِ وأستحقاقاتكِ ، فأسمعي ما أقوله لكِ، وهو أن هذا الطفل الذي الآن يجلب لكِ مقداراً لا حد له من الأبتهاج والمسرة، وذلك بكل صوابٍ، أواه أنه هو نفسه يوماً ما عتيد أن يجلب لكِ الحزن الأشد مرارةً، الذي ما تجرعه قط أنسانٌ في العالم، وهذا سيكون حينما أنتِ تشاهدين أبنكِ هذا نفسه مضطهداً من كل نوعٍ من الشعوب، مطروحاً في الأرض كأحقر العبيد وكآخر الناس، مهزأ به غاية الأستهزاء. وأخيراً أمام عينيكِ سيمات مشجوباً موت العار، ثم أعلمي أيضاً أنه بعد موته عتيد أن يموت من أجله عددٌ عظيمٌ من الشهداء فيما بين العذابات القاسية، ولكن اذا كان أستشهادهم المر مزمعاً أن يتم بأجسادهم، فأستشهادكِ أنتِ أيتها الأم الإلهية عتيد أن يصير بنفسكِ وقلبكِ.* أي نعم أن أستشهاد هذه البتول المجيدة كان عتيداً أن يتم في قلبها، بواسطة التوجع والحزن المر على أبنها الحبيب الوحيد، وهذا هو السيف الذي كان عتيداً أن يحوز في نفسها قاطعاً فاصلاً مفقداً إياها الأبن الكلي الحب لديها. وهذه هي ألفاظ نبؤة الشيخ سمعان القائل لمريم أمه: ها هوذا هذا موضوع لسقوط وقيام كثيرين في أسرائيل. ولعلامة تخالفٍ، وأنتِ سيحوز سيفٌ في نفسكِ، لتظهر أفكارٌ من قلوبٍ كثيرين: (لوقا ص2ع34) فيقول القديس أيرونيموس أن البتول الكلية القداسة قد كانت أستنارت من الكتاب الإلهي، وعرفت مقدار الآلام التي كان يلزم أن يحتملها أبنها المخلص في مدة حياته، وبأبلغ من ذلك في حين موته. على أنها كانت تفهم جيداً من أقوال الأنبياء أنه كان ينبغي له أن يسلم بخيانةٍ من أحد المختصين به، كقول داود النبي: أن إنسان سلامي الذي وثقت به الذي أكل خبزي ورفع عليَّ عقبه: (مزمور 41ع10) وأنه سيهمل متروكاً من تلاميذه. بموجب نبؤة زخريا هكذا (ص13ع7): قال رب الجنود أضرب الراعي فتتبدد الخراف: وكانت تعرف حسناً الأهانات التي كان يلزمه أن يتكبدها. واللطم والبصاق والأستهزاء المزمع أن يلم به من الشعوب. كقول أشعيا النبي: أنا لست أعصي ولا أجاوب. قد بذلت ظهري للسياط. وخدي لل لطمات. وما رددت وجهي من خزي البصاق عليه: (ص50ع5) قد كانت تعلم أنه كان عتيداً أن يصير هو عاراً فيما بين الأمم وهزاءاً للناظرين ورذالةً في الشعب، حسبما تنبأ عنه داود قائلاً (مزمور22ع7): أنا دودة ولست أنساناً، عارٌ للبشر ورذلةٌ في الشعب: وكما قال عنه أرميا (مراثي ص3ع30): يعطي الخد لمن يلطمه، يشبع من العار: وكانت عارفةٌ أن لحمانه المقدسة كانت عتيدةً عند نهاية حياته أن تتناثر بالجلد، كقول أشعيا النبي: هو جرح لأجل تجاوزنا الشريعة، وتوجع بسبب خطايانا: (ص53ع5) بنوعٍ أن جسده كان يلزم أن يعود فاقد الصورة حاصلاً كجسم إنسانٍ أبرص كله جراحاتٌ. حتى أن عظامه نفسها تصير منظورةً مجردةً. كقول النبيين أشعيا وداود هكذا: ليس له منظرٌ ولا جمال... ونحن حسبناه كأبرص: وأحصوا جميع عظامي: وكانت تعرف أنه كان يلزم أن يديه ورجليه تتبجن مسمرةً كقول المرتل: ثقبوا يدي ورجلي: (مزمور22ع18) وأنه مزمعٌ أن يحصى فيما بين الأشرار. كقول أشعيا النبي: أنه حسب مع العادمين الشريعة ( ص53ع12) وأخيراً كانت عارفةً بأنه كان عتيداً أن يموت مطعوناً بحربةٍ على الضليب. كقول زخريا النبي: وينظرون إليَّ أنا الذي طعنوه: (ص12ع10).* فأي نعم أن هذه الأشياء بوجه العموم كانت معروفةً عند البتول الكلية القداسة، ولكن عندما قال لها سمعان الشيخ: وأنتِ سيحوز سيفٌ في نفسكِ: فحينئذٍ (حسبما أوحى الرب للقديسة تقلا) قد أنكشفت لديها ظروف آلام أبنها مفصلاً، والأوجاع الباطنية والخارجة التي كانت مزمعةً أن تحيق به حين آلامه، وهي أي العذراء المجيدة قد أرتضت بذلك جميعه، وبثبات عزمٍ وشجاعةٍ تذهل عقول الملائكة قبلت حكومة الموت على أبنها الوحيد. موتاً هكذا شنيعاً وذا آلامٍ مرةٍ قابلةً: أيها الآب الأزلي أنك اذ كنت هكذا تريد، فلتكن مشيئتك لا مشيئتي، وأنا أتحد أرادتي مع أرادتك المقدسة، وأضحي لديك أبني هذا، وأرتضي بأن يعدم الحياة لأجل مجدك، ولأجل خلاص العالم، ومعه أنا أقرب لك ضحية قلبي أيضاً فليجز فيه سيف الحزن والوجع حينما تشاء يا إلهي، ويكفيني أنك تعود ممجداً وراضياً، ليس كمشيئتي بل كمشيئتك". فيا لها من محبةٍ لا قياس لها، ويا لها من شجاعةٍ لا مثيل لها، ويا له من أنتصارٍ يذهل العقول، ويا لها من غلبةٍ تستحق مؤبداً مديح السماويين والأرضيين.* فمن هذا القبيل والدة الإله حين آلام أبنها قد وجدت ساكتةً، ولم تتكلم شيئاً ضد المثالب الضالة التي منيَ هو بها، بل لم تهتم في أنقاذه عند بيلاطس الذي كان عرف برائته مريداً أطلاقه. ولكنها ظهرت في ذلك المحفل فقط عند جبل الجلجلة لكي تشترك بتقدمة ذبيحته العظيمة هناك، اذ أنها قد رافقته منذ أبتداء صلبه، ولم تفارقه الى أن تمم الذبيحة ومات على الصليب، كقول البشير: وكانت واقفةً عند صليب يسوع أمه: وهذا كله فعلته لتكمل الضحية التي كانت سبقت وقدمتها لله، من يوم تقدمتها يسوع له تعالى في الهيكل.* فلكي يستطيع أحدٌ أن يدرك عظم الجهاد الذي تكبده هذه الأم الإلهية ضد ذاتها في أمر قربان أبنها وتقدمتها إياه ضحيةً وكم كان علقم مرارة الألم الذي هي تجرعته في شربها هذه الكأس. فينبغي ضرورةً أن يدرك قبلاً مقدار الحب الذي به كانت هي تحب هذا الأبن الوحيد. فنحن بوجه العموم نعلم أن المحبة الوالدية الكائنة في الأمهات عموماً نحو أولادهن، تصيرهن عند موتهم أو فقدانهم أن ينسين بالكلية نقائصهم بأسرها، وخصالهم الرديئة وبشاعة خلقة بعضهم بل الأهانات والأفتراء الذي يكون التحق بهن من البعض منهم. وبالأجمال يشعرون بالوجع والحزن على فقدهم كأنهم مزينون بالكمالات بأجمعها. هذا مع أن حب هؤلاء الأمهات لأولادهن المشار إليهم هو حبٌ مقسومٌ فيما بينهم وبين أولادهن الآخرين، أو فيما بينهم وبين موضوعاتٍ أخرى من الأشياء المجلوقة. أما البتول القديسة فليس لها الا أبنٌ طبيعي واحدٌ فقط، وهو كلي الجمال وسامٍ في البهاء على أولاد آدم كافةً، وهو موضع الحب الكلي، لأنه حاوٍ كل الصفات الموجبة حبه. وهو مطيعٌ وديعٌ عذبٌ بارٌ قدوسٌ، مالكٌ على كل الفضائل الفائقة سمواً، ويكفي القول عنه أنه متأنسٌ، ثم أن الحب الذي لهذه الم الإلهية نحوه تعالى لم يكن مقسوماً فيما بينه وبين موضوعاتٍ أخرى، بل أنها وضعت حبها بجملته في هذا الأبن الوحيد، ولم يكن عندها خوفٌ من أن تفرط بحبه الزائد المتفاوت الحدود، اذا تركت لذاتها العنان بتعلق قلبها الشديد به. لأنه في الوقت عينه الذي فيه هو أبنها، ففيه نفسه هو إلهها المستحق أن يحب فوق كل شيءٍ حباً غير متناهٍ. فأبنٌ هذه صفاته قد وجد هو هو عينه الضحية التي هذه الأم ألتزمت بأن تقدمها أختيارياً للموت.* فلينظر كل واحدٍ متأملاً في كم أحتملت مريم العذراء في ذاتها وبأية شجاعةٍ قد أتصفت بتقدمتها أبنها هذا الحبيب محرقةً حيةً، ليموت على الصليب موت العار. فهذه هي الأم الأعظم سعادةً فيما بين الأمهات كلهن. من حيث أنها أختيرت والدةً لله، ولكنها في الوقت ذاته هي الأم المستحقة أكثر من سائر الأمهات التوجع من أجلها. لأنها أختبرت في ذاتها مرائر الألام بنوعٍ لم يحدث قط، ولا هو ممكنٌ أن يحدث لأمٍ سواها. لأنها من حينما حصلت على هذا الأبن. فأنما فازت هي به محكوماً عليه بأن يموت فيما بين الآلام الأشد قساوةً. فترى أيت أمٍ تقبل لها أبناً ذاك الذي قد أعد معيناً لأن يموت موت الخزي والعار أمام عينيها. فمريم وحدها قد أقتبلت أن تتبنى بهذا الأبن تحت شرطٍ هكذا شديد المرارة، وفائق الأحتمال طبيعياً، وليس فقط أنها قبلت هذا الشرط، بل أيضاً هي نفسها في مثل هذا اليوم قدمت أبنها بيديها، قرباناً معداً لذبيحةٍ دمويةٍ مزمعة أن تضحى على الصليب اللعدل الإلهي. فيقول القديس بوناونتورا: أن الطوباوية مريم البتول لقد كانت بأوفر رضا أقتبلت على ذاتها الآلام والموت المرسوم على أبنها أحتماله. ولكنها طاعةً منها لله قد صنعت التقدمة العظيمة، مضحيةً حيوة أبنها الإلهية المحبوبة منها بهذا المقدار، منتصرةً بألمٍ لا يوصف على مفاعيل أنعطافات حبها الوالدي الشديد: ومن ثم في هذه التقدمة قد صنعت هي أمراً أعظم جداً. بأغتصابها ذاتها وبصبرها على التوجع بشجاعةٍ، مما لو كانت تقدم ذاتها هي نفسها لأحتمال جميع ما كان مرسوماً على أبنها أن يتحمله، فهي بفعلها هذا سمت متعاليةً على جميع ما أحتمله فيما بعد الشهداء كلهم. لأن الشهداء أنما قدموا لله حياتهم الذاتية، أما مريم فقدمت له تعالى حيوة أبنها الذي كانت تحبه وتعتبره أفضل من حياتها بما لا يحد ولا يوصف.* ثم أن تقدمة البتول المجيدة لم تنته عند هذا الحد، بل ههنا هي بدايتها، لأن هذه الأم الإلهية منذ تلك الساعة الى نهاية حيوة أبنها، قد كانت على الدوام تشاهج بإزاءٍ عيني عقلها جميع الآلام والموت المزمع هذا الأبن الإلهي أن يتكبده. وبالتالي بمقدار ما كانت يوماً فيوماً تختبر جديداً في حبيبها يسوع موضوعاتٍ للحب ولتعلق القلب به. فبأكثر من ذلك كان يزداد في فؤادها ألم الحزن بتذكرها ما كان عتيداً أن يحدث له عند نهاية حياته.* أواه أيتها الأم المحزونة. أنكِ لو تكونين وجدت أقل حباً لأبنكِ، أو لو كان هذا الأبن وجد مستحقاً أقل حباً. أم لو أنه كان أحبكِ أقل حباً. فلكان توجعكِ وآلامكِ وجدا أقل مرارةً وعذاباً، بتقدمتكِ حيوة هذا الأبن ضحيةً للموت على الصليب. ولكن لا وجدتِ ولا هو ممكنٌ أن توجد أمٌّ أحبت أبنها بمقدار حبكِ يسوع أبنكِ. لأنه لا وجد قط ولا هو ممكنٌ أن يوجد أبنٌ محبوبٌ ومستحق أن يحب نظير أبنكِ. ولا نظير حبه إياكِ الشديد. أترى لو أمكننا أن نشاهد جمال وجه هذا الطفل الإلهي، وجلالة هيبته ألقد كنا أرتضينا بأن نقدمه ضحيةً من أجل خلاصنا. أما أنتِ يا مريم التي هي أمه المتعلقة بحبه بهذا المقدار كما يستحق. فكيف أستطعتِ أن تقدمي ذبيحةً من أجل خلاص البشر هذا الأبن البار، ضحيةً للموت فيما بين أوجاعٍ فائقة الأدراك، وبميتةٍ لم يحدث مثلها قد لأحدٍ من المجرمين.* أواه كم كانت مرائر الحزن تجرح قلب هذه الأم الرأوفة منذ ذلك اليوم فصاعداً، أي مدة حياة يسوع المسيح على الأرض. بتذكرها على الدوام، وبتصورها أمام عينيها الآلام والأهانات التي كان البشر عتيدين أن يعاملوا بها هذا الابن الإلهي. فالحب الوالدي كان دائماً يصور لديها يسوع غائصاً في بحر الحزن في بستان الزيتون، قاطراً من جسده عرقٌ دمويّ، مجلوداً في دار بيلاطس، ممزقاً جسمه من شدة الضرب، مكللاً بأكليل الشوك، متردياً بثوب الأرجوان للأستهزاء. وأخيراً معلقاً على خشبة العار فيما بين لصين على جبل الجلجلة. فهوذا أيتها الأم (كان يقول نحوها الحب) الأبن الحبيب البار الذي أنتِ تقدمينه ضحيةً ليحتمل أعظم آلاماً هذه صفتها وشدة مرارتها. فترى ماذا يفيدكِ أن تهربي به الى مصر لتخلصيه من يدي هيرودس، وتحفظيه لميتةٍ ذات حزنٍ أعظم وآلامٍ أمر.* فاذاً مريم ليس في هيكل أورشليم فقط قدمت أبنها ضحيةً لله أبيه، بل أنها قدمته قرباناً متصلاً متكرراً على الدوام مدة حياته كلها. لأن هذه السيدة قد أوحت للقديسة بريجيتا: بأن سيف الحزن والوجع الذي أخبرها عنه سمعان الشيخ لم يفارق قلبها قط، طالما هي بقيت في الأرض الى حينما أرتقت الى السماء. ثم يقول نحوها القديس أنسلموس: أنه لا يمكنني يا سيدتي أن أصدق، أنكِ مع وجودكِ في حزنٍ ومرارة قلبٍ هكذا شديدةٍ، أستطعتِ أن تعيشي على الأرض دقيقةً واحدةً، لولا أن الله نفسه الذي يهب الحياة يحفظكِ بقوته الإلهية: الا أن القديس برنردوس يشهد لنا عن مرارة الحزن الذي تجرعته هذه البتول، حين تقدمتها أبنها لله في الهيكل الناموسي بقوله: أنها كانت تعيش مائتةً في كل دقيقةٍ، لأنه في كل دقيقةٍ كان يعتريها وجع موت أبنها يسوع الحبيب، الوجع الذي هو أشد قساوةً من أية ميتةٍ كانت.* فبالصواب هذه الأم الإلهية، لأجل ما أكتسبته من الأستحقاق العظيم، بواسطة هذا القربان الكريم الذي قدمته لله من أجل خلاص العالم، قد دعيت من القديس أوغوسطينوس: مصلحة الجنس البشري. ومن القديس أبيفانيوس: فادية المأسورين: ومن القديس أيدالفنسوس: مقومة العالم الهالك. ومن القديس جرمانوس: أصلاح تهشمنا وشقائنا. ومن القديس أمبروسيوس: أم المؤمنين أجمعين. ومن القديس أوغوسطينوس نفسه: أم جميع الأحياء. ومن القديس أندراوس الأقريطشي:"أم الحيوة". على أنه، كما يقول أرنولدوس كارنوطانسه: أنه في موت يسوع قد أتحدت مريم أمه أرادتها مع أرادة أبنها هذا الإلهي، بنوع أنهما كليهما قدما ذبيحةً واحدةً هي نفسها. ولهذا كما الأبن كذلك الأم قد باشرا عمل الفداء وأستمدا الخلاص للبشر. فيسوع أكتسب لنا الخلاص بواسطة وفائه عن خطايانا. ومريم بواسطة أستمدادها لنا تخصيص هذا الوفاء ومن ثم كتب الطوباوي ديونيسيوس كارتوزيانوس: أنه يمكن أن تسمي هذه الأم أفلهية: مخلصة العالم: لأنها بواسطة الآلام التي هي تكبدتها بتوجعها من أجل أبنها (الذي هي أختيارها قدمته ذبيحةً للعدل الإلهي) قد أستحقت للبشر أن يشتركوا بعد ذلك بأثمار الفداء.* فمن حيث أن البتول المجيدة اذاً لأجل أستحقاقات آلامها وتوجعها، وما تكبدته بتقدمة أبنها قرباناً لله أكتسبت صفة كونها أماً لجميع المفتدين. فأمرٌ عادلٌ هو الأعتقاد بأنه بواسطتها هي وحدها يعطى لهم حليب النعم الإلهية. التي هي أثمار أستحقاقات يسوع المسيح. ثم الوسائط المبلغة الى الحياة الأبدية. وهذا يوافق لما يقوله القديس برنردوس: أن الله قد وضع في يد مريم كل ثمن فدائنا: فبهذه الكلمات يعلمنا القديس المذكور أنه بواسطة تضرعات البتول الطوباوية. تتخصص الأنفس بأستحقاقات المخلص. في الوقت الذي فيه تتوزع عن يدي هذه الأم الإلهية النعم التي أنما هي قيمة أستحقاقات يسوع المسيح.* لأنه أن كان الله بهذا المقدا أرتضى مسروراً بتقدمة أبينا أبراهيم. التي بها أطاع صوته تعالى ليقدم له أبنه أسحق ضحيةً. حتى أنه عز وجل ألزم ذاته بأن يكثر نسل أبراهيم كنجوم السماء. كما هو مكتوبٌ: بذاتي حلفت يقول الرب. لأجل أنك عملت هذا العمل وما شفقت من أجلي على أبنك الحبيب. بالحقيقة لأباركنك تبريكاً. ولأكثر نسلك تكثيراً كنجوم السماء، وكالرمل الذي عند شاطئ البحر. ويرث نسلك مدن أعدائه، وتتبارك بنسلك كافة أمم الأرض عوض ما سمعت صوتي: (سفر التكوين ص22ع16 ألخ) فيلزمنا بكل تأكيدٍ أن نصدق. بأن القربان الأعظم والأكمل والأشرف. الذي قدمته لله هذه الأم العظيمة بتضحيتها أبنها يسوع. قد وجد لديه سبحانه أكثر قبولاً. وسر به أوفر سروراً من قربان أبراهيم. ولذلك قد اعطاها جلت عدالته. أن بواسطة تضرعاتها يتكاثر عدد المنتخبين. أي نسل أولادها السعيد الذي هي تحامي عنه متشفعةً بالمتعبدين لها.* فالقديس سمعان الشيخ قد نال الوعد من الله بألا يذوق الموت ألم يعاين مسيح الرب. كما يقول عنه القديس لوقا الإنجيلي (ص2ع26): أنه لا يرى الموت حتى يعاين مسيح الرب: الا أن هذا البار لم يفز بهذه النعمة من دون واسطة مريم البتول. لأنه لم يجد مسيح الرب يسوع الا فيما بين ساعدي أمه هذه العذراء، ولهذا من يريد أن يجد يسوع. فلا يحصل عليه الا بواسطة مريم. فلنذهبن اذاً نحو هذه الأم الإلهية أن كنا نريد أن نجد يسوع. ولنبادرن إليها برجاءٍ وطيدٍ واملٍ أكيدٍ. فقد أوضحت العذراء المجيدة لعبدتها برودانتسيا نازاينوني، أن كل سنةٍ في هذا اليوم الثاني من شهر شباط المختص بعيد تطهيرها، يمنح الله نعمةً ذات رحمةٍ عظيمةٍ لواحدٍ من الخطأة، فمن يعلم أن هذا الخاطئ السعيد يكون واحداً منا نحن في هذا اليوم. فأن تكن خطايانا عظيمةً، فأعظم منها هو أقتدار مريم، لأن أبنها الإلهي لا يعرف أن ينكر شيئاً مما تطلبه منه هذه الأم العزيزة لديه، كما يقول القديس برنردوس. وأن كان يسوع هو غضبان علينا، فمريم حالاً تهدئ غضبه وتعطفه الى الرضوان نحونا. فيخبرنا المؤرخ بلوطاركوس بأن أنتيباطروس كتب الى الملك ألكسندروس الكبير رسالةً مستطيلةً ضد أوليمبيا أمه. فلما قرأ الرسالة ألكسندروس قال: أن أنتيباطروس لا يعلم أن دمعةً صغيرةً تقطر من عيني أمي تكفي لأن تمحي عدداً فائق الإحصاء من الرسالات المملؤة شكاواتٍ. فهكذا يمكننا أن نتصور في عقولنا أن يسوع يرد الجواب للشيطان عدونا عن جميع الشكايات التي يقدمها ضدنا، حينما تتوسل مريم الى هذا الأبن افلهي من أجلنا ويقول: أن لوسيفوروس لا يعلم أن تضرعاً واحداً مقدماً لي من أمي من أجل خاطٍ ما، يكفي لأن يجعلني أن أنسى جميع الأهانات التي هو أغاظني بها. وهذ يتضح من النموذج الآتي تحريره.* * نموذج* †صلاة † فأنا أشتهي يا سلطانتي أقتداءً بنموذجكِ أن أقرب لله في هذا اليوم قلبي المسكين، ولكني أخاف من أنه تعالى يرذله عند مشاهدته إياه هكذا دنساً متمرغاً في حماة الأباطيل. غير أنه اذا أنتِ قدمتيه له تعالى فلا يرفضه. لأن التقدمات التي تتقرب إليه عز وجل عن يديكِ الكلية طهارتهما. فهو يقبلها كلها مرتضياً بها، فمن ثم أتقدم إليكِ في هذا النهار يا مريم أنا الشقي، وأهبكِ ذاتي بجملتها، فأنتِ قدميني كشيء مختص بكِ لدى الآب الأزلي جملةً مع أبنكِ يسوع، وتوسلي إليه بأستحقاقات أبنه الإلهي وحباً بكِ، بأن يقبلني خاصته. فلا تهمليني يا أمي الكلية الحلاوة، بحق المحبة التي بها تحبين أبنكٍ الذي ضحيتيه قرباناً من أجلي. لكن عينيني دائماً. ولا تسمحي بأني يوماً ما أفقد بخطاياي هذا الأبن الإلهي، الذي أنتِ بأوجاعٍ هكذا مرةٍ قدمتيه ضحيةً على خشبة الصليب من أجل خلاصي. بل قولي أني عبدكِ أنا وأني قد ألقيت عليكِ كل رجائي. وبالأجمال قولي له أنكِ تريدين خلاصي، لأنه تعالى بكل تأكيدٍ يقبل ذلك آمين.* † الفصل السابع * فيما يلاحظ عيد نياح سيدتنا والدة الإله. وفيه يبرهن عن * كم كان موتها كريماً، أولاً: لأجل الأشياء التي رافقته. ثانياً: لأجل النوع الذي به حدث. وفيه جزءان † الجزء الأول † * في كم هو كريمٌ موت هذه السيدة لأجل الأشياء الجليلة التي رافقته* فأمرٌ واضح هو أن الموت أنما هو عقاب الخطيئة، ولهذا يبان أن والدة الإله لم تكن خاضعةً لشريعة هذا العقاب، ولا كان يلزمها أن تتكبد شيئاً من تعاسة أولاد آدم عينها. من حيث أنها وجدت دائماً بريئةً من كل شائبة دنسٍ أو خطيئةٍ مطلقاً، وعلى الدوام كانت قديسةً بكليتها. ولكن لأجل أن الله أراد أن تكون هذه الأم الإلهية شبيهةً بأبنها يسوع في كل الأحوال. فأذ كان هذا الأبن قد مات حقيقةً فكان يجب أنها هي أيضاً تموت حقيقةً، مريداً بذلك تعالى أن يعطي الأبرار نموذجاً مختصاً بالميتة الكريمة لديه المعدة لهم. ولهذا رسم بأن تموت هذه الطوباوية ولكن ميتةً حلوةً بكليتها. سعيدةً بجميع ظروفها. مرافقةً من حوادث جليلة جداً.* فأعتيادياً أن الموضوعات التي تصير الموت مراً هي ثلاثةٌ، أي تعلق القلب في الأشياء الأرضية، وتوبيخ الضمير من أجل الخطايا المفعولة. وعدم معرفة حقيقة الحكومة العتيدة أن تبرز على النفس بعد أنفصالها من الجسد أن كان بالخلاص أو بالهلاك. فميتة القديسة والدة الإله قد كانت منفصلةً بالكلية عن هذه الموضوعات بجملتها. ومرافقةً من ثلاثة أشياء جليلة تجعلها كريمةً جداً، عذبةً في الغاية، سعيدةً بكل ظروفها. فهي ماتت غير متعلقة القلب بشيء من الأشياء الأرضية مطلقاً. كما عاشت جميع أيام حياتها، ورقدت بسلام ضميرٍ مملؤٍ هدواً لنجاتها من أدنى خيال خطيئةٍ، وتنيحت بمعرفةٍ أكيدةٍ بأنها كانت منتقلةً الى السماء لتملك مع أبنها سرمداً.* فأولاً:أنه لا ريب ولا أشكال في أن تعلق القلب بخيرات الأرض يصير الموت مراً بزيادةٍ. كما يقول الروح القدس: ما أشد مرارة ذكرك أيها الموت على الرجل المستريح في أمواله: (أبن سيراخ ص41ع1) ولكن من حيث أن القديسين يموتون غير متعلقي القلب بشيءٍ من الموجودات الأرضية. فالموت لديهم ليس هو مراً. بل عذبٌ محبوبٌ كريمٌ. وحسبما يفسر القديس برنردوس لفظة موتٍ كريمٍ، أي أنه يستحق أن يشترى بأثمن ما يوجد من الأشياء الكريمة. فقد كتب في سفر الأبوكاليبسي: طوبى للموتى الذين يموتون بالرب" (ص14ع13) فمن هم هؤلاء الذين يموتون، مع أنهم يسمون موتى. أي ماتوا قبلاً، فبالحصر هن الأنفس السعيدة اللواتي ينتقلن من هذه الحياة الى الأبدية، بعد أن يكن متن قبلاً عن جميع الأشياء الأرضية. اذ أنهن قد وجدن في الله وحده كل خيرٍ لهن. نظير ما كان وجد القديس فرنسيس أسيزي الذي كان يقول: أن إلهي هو كل شيءٍ لي: ولكن ترى أية نفسٍ أمكن أن توجد بعيدةً عن حب الأشياء الأرضية بأبلغ نوع. ومتحدةً بالله أشد اتحاداً من نفس مريم العذراء الكلي جمالها. فهي كانت منفصلةً بكليتها عن التعلق بالأقرباء، بعد أنها منذ السنة الثالثة من عمرها، السن الذي به توجد الأطفال أشد تعلقاً بأقربائهم، وبأوفر أحتياج للمساعدة منهم. قد تركت هي والديها وأنسباءها، ودخلت الى هيكل الرب بكل هدوٍ وسرورٍ، بعيدةً عن كل واحد بالأنفراد. لتهتم بالتردد المتصل مع الله وحده. منفصلة القلب عن محبة الملابس. مكتفيةً بأن تعيش فقيرةً على الدوام، بعيدةً عن حب الكرامات، مختارةً عيشة التواضع والأحتقار، ولئن كان يحق لها أن تسمى سلطانةً، لأجل تسلسلها من نسل ملوك يهوذا. وقد أوحت هذه الأم الإلهية عينها للراهبة التي من قانون القديس بناديكتوس الطوباوية أليصابات، بأنها حينما دخلت هيكل الرب. قد عزمت على أن لا تعرف لها أباً آخر، ولا أن تحب خيراً آخر سوى الله وحده.* ثم أن القديس يوحنا الرسول قد شاهد رسم البتول المجيدة في تلك الأمرأة التي رآها ملتحفةً بالشمس دائسةً على القمر، حسبما كتب لنا بقوله: وظهرت آيةٌ عظيمة في السماء أمرأةٌ ملتحفةٌ بالشمس، والقمر تحت رجليها، وعلى رأسها أكليلٌ من أثني عشر كوكباً: (أبوكاليبسي ص12ع1) فالمفسرون يفهمون موضحين بالقمر خيرات هذه الأرض. التي هي عابرةٌ زائلةٌ ناقصةٌ نظير القمر. فهذه الخيرات الأرضية كافةً لم تحوها مريم قط في قلبها. بل دائماً أحتقرتها تحت رجليها عائشةً في الأرض نظير اليمامة المحبة التوحد والأنفراد، من دون أن يوجد فيها تعلقٌ ما نحو شيء من الموجودات الزمنية. كما قيل عنها: أن صوت اليمامة قد سمع في أرضنا: (نشيد ص2ع12): من هي هذه الصاعدة من القفر: (نشيد ص3ع6) حسبما يفسر روبارتوس بقوله نحو العذراء، كذلك أنتِ صعدتِ من القفر حيث أنكِ حاصلة على النفس المحبة الأنفراد: فاذاً من حيث أن هذه البتول المجيدة قد عاشت على الأرض منفصلة القلب بالكلية من محبة الأشياء الأرضية، ومتحدةً بجملتها في الله وحده. فلم يوجد الموت لديها مراً، بل عذباً جداً محبوباً عزيزاً مرغوباً منها. لأنه كان ينقلها من الأرض الى السماء حيث يمكنها بأفضل نوعٍ وبأشد أرتباطٍ أن تتحد مع الله الى الأبد.* ثانياً: أن ما يجعل موت الأبرار كريماً هو سلام الضمير وهدؤه. فالآثام المصنوعة في مدة الحيوة أنما هي ذلك الدود الذي يقرض قلوب الخطأة المساكين، ويحزن أفيدتهم حين موتهم، لدنوهم من الساعة التي فيها يلزمهم أن يحضروا في ديوان الله. فهؤلاء يوجدون محاطين في تلك الساعة من مجموع خطاياهم، التي تصرخ حولهم مخيفة إياهم، كقول القديس برنردوس: أننا نحن أعمالك فلا نفارقك: فوالدة الإله بالحقيقة لم تكن حين موتها متعوبةً من قبل ضميرها بشيء يوبخها. لأنها وجدت دائماً قديسةً بارةً خاليةً من العيب، معتوقةً من خيال أثمٍ، ومن كل شائبة خطيئةٍ، لا أصليةٍ ولا فعلية، وعنها قيل: كلكِ جميلةٌ يا قرينتي وليس فيكِ عيبٌ: (نشيد ص4ع7) لأنها مذ حصلت على المعرفة والتمييز، أي منذ الدقيقة الأولى من الحبل بها البريء من الدنس في أحشاء والدتها القديسة حنه، الى حين نياحها، قد أحبت الله متزايدةً يوماً فيوماً في أضطرام قلبها بمحبته تعالى، وفي الفضائل والكمال مدة حياتها كلها. ولم تكن أشواقها ومرغوباتها وعواطفها شيئاً آخر سوى الأتجاه نحو الله والأتحاد به، والأرتياح إليه والى مجده، من دون أن تفه بكلمةٍ، أو تصنع عملاً، أم تتحرك حركةً، أو تنظر نظرةً، أم تستنشق نفساً، لا يكون راجعاً لله ولمجده، ومن غير أن تنفصل خطوةً ما عن محبته عز وجل، فيا له من أنتقالٍ سعيدٍ طوباوي، لأن فضائل هذه القديسة التي بموجبها مارست هي أفعالها في مدة حياتها. قد أحاطت حينئذٍ فراشها الطاهر أي فضيلة إيمانها الثابت الراسخ، ورجاها بالله الوطيد الأمين، وصبرها الجميل الفريد فيما بين أوجاع الحزن وآلامه القاسية. وأتضاعها العميق فيما بين أختصاصاتٍ ومواهب كلية السمو. وأحتشامها العظيم. ثم وداعتها وأنسها وداعتها ورأفتها وحنوها وأشفاقها على الأنفس، وغيرتها على المجد الإلهي. وفوق الجميع حبها الكامل نحو الله. وتسليمها ذاتها التام للمشيئة الربانية. وبالإجمال كل ما قعلته من القداسة والصلاح والبر. فهذا جميعه كان محيطاً بها. وكأنه يقول نحوها بلسان حاله: أننا نحن أعمالكِ فلا نفارقكِ: أي أننا نحن الفضائل التي أنتِ يا سيدتنا مارستينا، فأنما نحن هن بنات قلبكِ الجميل. فأنتِ الآن تتركين هذه الأرض الحقيرة. أما نحن فلا نريد أن نترككِ، بل أننا نذهب معكِ الى السماء لكي نكون حولكِ كخدام المجد والشرف في الفردوس. أنتِ التي تجلسين هناك سلطانةً بواسطتنا فوق جميع الملائكة والبشر أجمعين.* ثالثاً:أن الشيء الذي يجعل الموت حلواً محبوباً هو تأكيد أمر خلاص النفس الأبدي. فالموت يسمى عبوراً، أجتيازاً، أنتقالاً، وذلك لأننا بواسطته نعبر مجتازين ونمر منتقلين من حياةٍ وجيزةٍ الى حيوةٍ أبديةٍ. فاذاً كما أنه عظيمٌ هو خوف أولئك الذين يدنون من الموت حاصلين على الأرتياب في أمر خلاصهم، ويدخلون في أبواب المنون ليس من دون خوفٍ صوابي من أنهم يعبرون به الى موتٍ أبدي، فهكذا بضد ذلك عظيمٌ هو فرح القديسين الذين ينهون حياتهم حاصلين على رجاءٍ ليس بضعيفٍ في أنهم أنما ينتقلون من هذه الأرض لكي يمتلكوا الله الى الأبد. فأحدى الراهبات ذوات قانون القديسة تريزيا، حينما أخبرها الطبيب في حال مرضها الأخير بأن أرتحالها من الدنيا قد دنا. فعند سماعها منه هذه الخبرية قد أستوعبت فرحاً وتهليلاً فائق وصفهما، وهتفت نحو الطبيب قائلةً: أيها السيد أنك قد أتيتني بهذه البشارة العظيمة، ولا تطلب مني هديةً لائقةً من أجلها: والقديس لورانسوس سوستينياني اذ أقترب من ساعة الموت، وسمع خدامه يبكون حول فراشه قال لهم: أن كنتم تريدون أن تبكوا، فأمضوا الى أمكنةٍ أخرى، وأما أن كنتم تريدون أن تلبثوا عندي ههنا، فيلزمكم أن تسروا فرحين معي، كما أني أبتهج عند نظري أفتتاح أبواب الفردوس لكي أذهب وأتحد بإلهي. وهكذا القديسان بطرس دالكانترا ولويس غونزاغا وكثيرون غيرهما. قد أظهروا علامات البهجة والتهليل عند سماعهم من الأطباء خبرية دنوهم من الموت، هذا مع أن هؤلاء كلهم لم يكونوا فائزين بعلمٍ سماوي أكيدٍ عن أنهم كانوا في حال النعمة الإلهية حقاً. ولم يكونوا متأكيدين حقيقة قداستهم بالنوع الذي به كانت المجيدة مريم البتول متأكدةً ذلك. فاذاً ترى أي أبتهاجٍ وحبورٍ ومسرةٍ وتهليلٍ شعرت به هذه السيدة حين دنوها من الموت، في الوقت الذي هي فيه كانت كلية التأكيد بأنها حاصلةٌ في حال نعمة الله. لا سيما بعد أن كان أكد لها ذلك زعيم الملائكة جبرائيل أنها ممتلئةً نعمةً. وأنها ممتلكة الله بقوله لها: السلام لكِ يا مريم يا ممتلئةً نعمةً أفرحي الرب معكِ... وقد وجدتِ نعمةً وظفرتِ بها أمام الله: (لوقا ص1ع28) بل أنها هي عينها كانت تعلم كم هو أشتعال قلبها بنار الحب الإلهي بنوع أنها (كما يقول برنردينوس البوسطي) قد حازت من الله موهبة حبٍ خاص لم يعط لأحدٍ من القديسين الآخرين، به قد كانت تحبه تعالى حباً فعالاً في كل دقيقةٍ من حياتها بأضطرامٍ شديدٍ هذا حده حتى أنه على رأي القديس برنردوس قد كان ضرورياً لها فعل أعجوبةٍ متصلة. ليمكنها أن تعيش على الأرض ولا تموت من شدة ألتهاب قلبها بهذا الحب الفائق الأدراك.* فعن هذه السيدة العظيمة قد كتب: من هي هذه الصاعدة من العطار: (نشيد ص3ع6) ففضيلة أماتتها الكلية التي قد شبهت بالمر. وصلواتها الحارة التي مثلت بالبخور، وسائر فضائلها الأخرى المقدسة وحبها الكامل لله، قد كانت بمنزلة نارٍ تحرق فؤادها، وتبعث عنها عاموداً من دخان البخور صاعداً نحو السماء معبقاً من كل ناحيةٍ يبعث نشر طيبها الزكي على الدوام. كما كتب عنها روبارتوس بقوله نحوها: أنكِ أيتها الطوباوية مريم أنتِ نظير عامود الدخان المذكور ترسلين نحو الإله العلي رائحةً كلية الزكاوة: وكذلك قال أوسطاكيوس بعباراتٍ أبلغ هاتفاً: أن العذراء المجيدة هي غصن بخورٍ، محترقة داخلاً كمحرقةٍ ملتهبةٍ بنار الحب الإلهي، حيث ينبعث عنها الى خارجٍ طيب رائحةٍ زكية العرف بما لا يوصف. فحسبما عاشت هذه السيدة المغرمة بحب إلهها، كذلك ماتت. وكما أن الحب الإلهي هو الذي حفظها في الحيوة، فهو عينه الذي أماتها. لأن موت هذه الأم الإلهية. كما يقول القديسون والعلماء كافةً، لم يكن مسبباً من قبل مرضٍ طبيعي، بل أنما صدر من قبل حبها الشديد لله. وفيما بين هؤلاء قال القديس أيدالفونسوس أن الطوباوية مريم البتول، أما أنه لم يكن لازماً لها أن تموت بل أن تستمر على الدوام حيةً، وأما أنه كان يلزمها أن تموت من مجرد شدة حبها لله: (فاذاً سهم الحب أماتها).* † الجزء الثاني † * في النوع الذي به تمت وفاة البتول المجيدة* فالكتبة الكنائسيون كادرانوس ونيكيفوروس وسمعان ميتافراسته أخبروا بأن الرب أرسل قبل أيامٍ وجيزةٍ من وفاة هذه السيدة، رئيس ملائكته جبرائيل عينه الذي كان بشرها، بأنها هي تلك الأمرأة المباركة في النساء التي أختارها الإله أماً له، واذ أمتثل أمامها قال لها:" يا سيدتي وملكتي أن الله قد أقتبل مرغوباتكِ وأشواقكِ، وقد أرسلني لأقول لكِ ان تتأهبي لتتركي الأرض، لأنه تعالى يريد أن تكوني معه في السماء، فهلمي اذاً لتأخذي التملك على مملكتكِ، في الوقت الذي فيه أنا وسائر القديسين سكان الملكوت ننتظر حضوركِ متشوقين لمشاهدتكِ". فترى ماذا صنعت هذه البتول المملؤة تواضعاً عند سماعها بشارةً هكذا سعيدةً، سوى أن تغوص بأبلغ نوعٍ في أعماق تواضعها، وأن تكرر للملاك الجواب عينه الذي كانت أعطته إياه حينما بشرها قبلاً بالحبل الإلهي قائلةً له من جديد: ها أنا أمةٌ للرب فليكن لي كقولك، على أن الرب بمجرد صلاحه وجوده، قد أختارني أماً له. والآن يدعوني الى السماء أنا التي لم أكن مستحقةً، لا ذاك المقام العظيم، ولا هذا الشرف الوسيم. ولكن من حيث أنه عز وجل يريد أن يظهر فيَّ ونحوي سخأه الغير المتناهي. فها أنا أمةٌ له، فلتكن مكتملةً بي دائماً مفاعيل أرادة إلهي وسيدي.* فبعد أن أقتبلت البتول المجيدة هذا التنبيه قد أخبرت به القديس يوحنا الأنجيلي، الذي بسهولةٍ يمكننا أن نتصور بعقولنا كم كانت هذه الخبرية لديه مرةً. اذ أنه كان في مدةٍ ليست بوجيزةٍ من السنين قد تمتع بصفة أبنٍ خاص لهذه الأم الكلية القداسة، فائزاً بمخاطباتها وبعيشته معها، ثم أنها قد زارت من جديد الأماكن المقدسة لا سيما جبل الجلجلة حيث كان أبنها أسلم روحه على خشبة الصليب، وأنفردت في بيتها الحقير متأهبةً للموت. وفي بحر تلك الأيام كانت الملائكة يترددون إليها مسلمين عليها ومعزينها بسرورٍ لا يوصف، عند معرفتهم أنه بعد قليلٍ من الزمان قد كانوا مزمعين أن يشاهدوا ملكتهم هذه مكللةً في السماء. فكثيرون من الكتبة الكنائسين (نظير القديس أندراوس الأقريطشي في خطبته على نياحها. والقديس يوحنا الدمشقي في ميمره على رقودها، وأفتيميوس) أخبروا بأن الرسل القديسين كافةً، وجانباً من تلاميذ الرب بأعجوبةٍ إلهيةٍ قد ألتئموا من أقطار الأرض قبل نياح هذه السيدة الى أورشليم. ووجدوا داخل بيتها، وانها عندما شاهدت أولادها هؤلاء الأعزاء مجتمعين حولها قد خاطبتهم هكذا قائلةً:: أن أبني قد تركني ههنا عندكم لأجل مساعدتكم يا أعزائي وحباً بكم، أما الآن فالإيمان المقدس قد أنتشر في العالم، وأثمار الزرع الإلهي قد نمت متكاثرةً، ولهذا اذ رأى سيدي أن حضوري في الأرض لم يعد ضرورياً، فشفق عليَّ لمرارة أبتعادي عنه. وأستجاب لكثرة عواطفي وأشواقي نحو الخروج من هذه الحيوة، لكي أمضي الى السماء وأتمتع بالنظر إليه، فواظبوا اذاً أنتم على التعب من أجل مجده تعالى. فأنا أن فارقتكم بالجسد فلا أفارقكم بالروح، لأن حبي إياكم العظيم هو في قلبي ودائماً سيكون معي. وهوذا أنا منطلقةٌ الى الفردوس السماوي لكي أصلي من أجلكم". فمن يمكنه أن يصف مقدار الحزن المرافق من هطل الدموع والندب الذي حصل عند هؤلاء الرسل القديسين وتلاميذ الرب. حينما فهموا أنه بعد زمنٍ وجيزٍ كان يلزمهم أن يفارقوا أمهم هذه الرحيمة. فمن ثم بسكب العبرات قالوا لها هكذا: فاذاً تريدين أيتها البتول أن تتركينا. فأي نعم أن هذه الأرض ليست هي مكاناً لائقاً بكِ، ولا نحن مستحقون أن نتمتع برفقة والدة الإله التي هي أنتِ، ولكن أفتكري في أنكِ امنا أنتِ. وقد كنت لحد الأن معلمتنا ومرشدتنا في حل المشاكل والأبهامات، ومعينتنا ومشجعتنا فيما بين الأضطهادات، فكيف الآن تهملينا وحدنا من دون مساعدتكِ لنا المنيعة نحن المحاطين من أعداءٍ أقوياء وكثيرين، والمحاربين من جهاتٍ مختلفةٍ. فقد كنا قبلاً فقدنا من على الأرض معلمنا وأبانا يسوع الذي صعد الى السماء وبقيتِ تعزيتنا الوحيدة قائمةً مدة هذا الزمان في شخصكِ يا أمنا العزيزة. فكيف أنتِ أيضاً تريدين الآن أن تتركينا يتامى، من دون أبٍ ومن غير أمٍ، فيا سيدتنا نتوسل إليكِ أما بأن تمكثي فيما بيننا. وأما بأن تأخذينا معكِ: (هذا ما كتبه القديس يوحنا الدمشقي في ميمره على نياحها) فهنا البتول المجيدة قالت لهم بعذوبةٍ: كلا. يا أولادي الأحباء أن هذه ليست هي أرادة الله. فأرتضوا اذاً بما رسمه عز وجل عليَّ وعليكم. لأنه يخصكم أن تستمروا أيضاً في الأرض لتجاهدوا من أجل مجد المخلص. ولكي تتمموا أكتساب تيجان نصرتكم الأبدية، فأنا لا أفارقكم مهملةً إياكم بل لكي أساعدكم وأسعفكم وأعينكم بأفضل نوعٍ بواسطة تضرعاتي من أجلكم أمام الله في السماء فأمكثوا هادين راضين، وأنا أوصيكم بالكنيسة المقدسة، وأستودعكم الأنفس المفتداة، وهذه لتكن لكم وصيتي الأخيرة الوادعية، فأحفظوها أن كنتم تحبوني، أي أتبعوا من أجل خلاص الأنفس، ومن أجل مجد أبني، لأننا يوماً ما عتيدون أن نجتمع كلنا من جديد في السماء، وحينئذٍ لا يعود يحدث فيما بيننا فراقٌ ما أصلاً.* ثم بعد ذلك قد توسلت إليهم بأن يدفنوا جسدها بعد موتها. وهكذا باركتهم ورسمت على القديس يوحنا الأنجيلي، كما يورد القديس يوحنا الدمشقي، بأن يعطي عقيب نياحها ثوبيها اللذين كانت تلبسهما، الى أبنتين بتوليتين كانتا خدمتاها مدةً من الزمان، (كما هو مدون من المؤرخ نيكيفوروس وغيره) وبعد هذا الخطاب قد أتكأت بكل أحتشامٍ على سريرها الحقير، منتظرةً بأشواقٍ دنو الموت منها. ومعاً ملاقاةٌ ختنها الإلهي المزمع بعد هنيئةٍ أن يأتي ليأخذها صحبته الى الملك الطوباوي. وهوذا أنها قد أمتلأت باطناً تعزيةً فائقة الوصف وغير مألوفةٍ من الفرح والتهليل، وحينئذٍ اذ رأتها الرسل ناهزت مفارقتهم، فجميعاً جثوا على الأرض حول فراشها نادبين فقدها ساكبين الدموع، ومنهم من كان يقبل قدميها الطاهرتين، ومنهم من كان يلتمس بركتها الخصوصية، ومنهم من كان يتوسل إليها في أمر أحتياج خصوصي، شاعرين كلهم بسهام الحزن الذي صمى أفيدتهم. لفراقهم هذه الأم الإلهية من دون أمل أن يشاهدوها فيما بعد في الأرض مدة حياتهم. وأما هي فكانت موعبةً أشفاقاً عليهم، معزيةً إياهم بعذوبة ألفاظها، موعدةً بمساعدتهم، مباركةً هذا ومشجعةً ذاك، وموصيةً الآخرين، ومحرضةً الجميع على الأجتهاد في أكتساب الأنفس الى الإيمان. واخيراً أستدعت القديس بطرس بحسب كونه هامة الرسل ورأس الكنيسة ونائب أبنها على الأرض، وأوصته بنوعٍ خاص في أنتشار الإيمان، موعدةً إياه بحمايتها الخصوصية في السماء. وكذلك خاطبت القديس يوحنا الأنجيلي الذي بأشد مرارةٍ من الجميع كان مجروحاً على فقدها، متذكرةً هذه السيدة مقدار الحب الذي به خدمها هذا التلميذ الحبيب. في كل السنين التي عاشت بها على الأرض بعد موت أبنها، قائلةً له بمحبةٍ والديةٍ: أنني أشكرك يا يوحنا خاصتي على كل ما صنعته معي. فكن مطمأناً يا أبني بأني لا أكون ناكرة الجميل نحوك، فأن كنت الآن أفارقك فأنا ماضيةً لأن أصلي من أجلك، فأمكث بسلامٍ هادئاً في هذه الحياة، الى حينما يشاهد بعضنا بعضاً جديداً في السماء حيث أنتظرك فلا يبرح في فكرك أن تستغيث بي في جميع أحتياجاتك، وأنا أعينك ولا أنساك أصلاً يا ولدي الحبيب. الذي الآن أنا أباركك. فعش بسلامٍ وها أنا أستودعك لله.* قالت هذا وقد كان أقترب مجيء الدقيقة التي بها أزمعت هي أن تفارق الحيوة الزمنية، لأن الحب الإلهي بواسطة شهائب حرارته المغبوطة قد جذب عن هذه الأم المثلثة القداسة خارجاً الأرواح الحيونانية. ونظير طير العقاب السماوي كانت هي تفنى بنار المحبة، وقد أقبلت طغمات الملائكة من السماء الى ذلك المسكن السعيد، كأنهم صفوف عساكر مستعدون لمرافقة ملكتهم بزفة الأنتصار. أما هي فكانت تعزيتها تزداد عذوبةً عند مشاهدتها إياهم محيطين بها، ولكن لا تعزيةً كاملةً، اذ أنها لم تكن تشاهد بعد أبنها فيما بينهم، ولذلك كانت تقول نحوهم كلمات النشيد: يا بنات أورشليم أستحلفكن اذا وجدتن حبيبي، فأخبرنه بأني من المحبة ضعيفة: (ص5ع8) فأنتم يا ملائكة السماء القديسين سكان أورشليم العليى، أنما تأتون إليَّ أجواقاً أجواقاً لكي تعزوني، وحقاً أنكم بحضوركم تجلبون لي المسرة والأبتهاج، ولذلك أشكر فضل معروفكم، ولكن جمهوركم لا يوعبني من البهجة الكاملة والتعزية التامة، لأني لا أشاهد أبني الذي هو تعزيتي الوحيدة، فأرجعوا الى السماء أن كنتم تحبوني، وقولوا لحبيبي أنني من شدة المحبة أنا ضعيفة، وصرت عادمة القوة. فاذاً قولوا له من قبلي أن يأتي سريعاً لأني هوذا أموت من شدة أشواقي إليه.* غير أن رب المجد في هذا الغضون قد جاء ليأخذ والدته المباركة الى ملكوته الطوباوي. فقد أوحي الى القديسة أليصابات الراهبة، بأن يسوع المسيح قد ظهر لأمه الكلية القداسة قبل نياحها حاملاً بيده الصليب المقدس. لكي يوضح المجد الخصوصي الذي أختصه بواسطة سر الفداء، اذ أنه بموته قد أكتسب تلك المخلوقة العظيمة التي كان يلزمها أن تكرمه في الدهور الأبدية أكثر أكراماً من الملائكة كافةً والبشر أجمعين. ثم أن القديس يوحنا الدمشقي يورد، أن مخلصنا نفسه قد ناول القربان الأقدس لوالدته زوادةً أخيرةً قائلاً لها بعواطف الحب: خذي يا أمي فكلي من يدي جسدي هذا الذي أنتِ أعطيتينيه: وبأن مريم البتول عندما أقتبلت هذه المرة الأخيرة جسد المسيح أبنها بعواطف حبٍ أعظم. قالت له فيما بين أنفاسها النهاية: يا أبني في يديك أنا أستودع روحي، وأسلم بيدك هذه النفس التي خلقتها بخيرية صلاحك منذ الدقيقة الأولى من حياتها غنيةً بنعمٍ هكذا سامية. بل بأختصاصٍ فريد في الغاية أنت سبقت وحفظتها من دنس الخطيئة الأصلية. وأستودعك جسدي الذي أنت تنازلت الى أن تتأنس منه آخذاً لحماً ودماً من جوهره، ثم أني أوصيك أيضاً في أولادي هؤلاء (مشيرةً الى الرسل والتلاميذ الذين كانوا حاضرين عندها) ولأنهم الآن مملؤون من الحزن لسبب أنفصالي عنهم، فأنت عزهم، لأنك تحبهم أكثر مما أنا أحبهم، وباركهم وأعطيهم عونك ليصنعوا العظائم من أجل مجدك.* فاذاً عندما أشرفت نفس الطوباوية مريم البتول على الأنفصال من جسدها. قد سمع في المسكن الذي كانت هي متكئةً فيه أصوات آلات الطرب الفائقة الوصف. كما يقول القديس أيرونيموس. ثم حسبما أوحى للقديسة بريجيتا قد أشرقت في البيت أنوارٌ سماويةٌ عظيمةٌ. فالرسل عندما سمعوا تلك النغمات وشاهدوا الأنوار الفائقة الأدراك قد عرفوا أنها دنت دقيقة أنفصال نفس سيدتنا المجيدة من جسدها، ومن ثم ضاعفوا تضرعاتهم بسكب الدموع، وكلهم رفعوا أيديهم وأصواتهم قائلين: يا أمنا المنطلقة الى السماء تاركةً إيانا على الأرض، باركينا البركة الأخيرة، ولا تنسينا نحن المساكين. وأما هي فجالت بنظرها نحو جميعهم كأنها تودعهم كافةً وقالت لهم: أني أستودعكم لله وأبارككم. فلا ترتابوا، لأني لا أنساكم أبداً: وحينئذٍ جاء إليها الموت، ولكن لا بالسواد والحزن كما يأتي نحو البشر. بل بالفرح والأشراق. غير أنه ما عسانا أن نقول موتاً وأي موتٍ، بل قد جاء إليها الحب الإلهي، وهو لا سواه قطع خيط حياتها الزمنية. فهي المنارة التي قبل أن تنطفئ قد أبرقت بلميع ضياها الأخير برقاً عظيماً ثم انطفت. وهي الفراشة الإلهية الجميلة التي اذ دعاها أبنها إليه. قد دنت من مصباح نوره وأحترقت بلهيب حبه الغير المتناهي، وفيما بين عواطف تنهداتها قد أنفصلت عن الجسد نفسها المغبوطة، وأنحلت تلك الحمامة الكلية النقاوة من رباطات الجسم. وطارت متراقيةً الى الأخدار السماوية، حيث ملكت وتملك سلطانةً على جميع المخلوقات الى أبد الآبدين.* فهوذا مريم البتول هي في السماوات العليي تنظر إلينا نحن أولادها القاطنين في وادي البكاء، مشفقةً علينا وموعدةً إيانا بالمعونات أن كنا نريد ذلك. فلنتوسل إليها دائماً بأن تستمد لنا بأستحقاقات موتها السعيد ميتةً صالحةً، وأن تنال لنا منه تعالى أن كان ذلك يسره أن يكون موتنا في يوم سبتٍ اليوم المكرس لعبادتها، أو في يومٍ من الأيام المتقدمة على أعيادها السنوية أو المتأخرة عنها، كما قد وهبت هي هذه النعمة المستمدة من الله لكثيرين من المتعبدين لها، لا سيما للقديس سطانيسلاوس كوتكا من الرهبنة اليسوعية. الذي نالت له أن يموت يوم عيد نياحها. كما هو مدون من الأب بارتولي في سيرة حيوة القديس المذكور.* * نموذج * † صلاة † † الفصل الثامن أنهضي يا عزيزتي، تعالي يـا جميلتي، هلمي يا حمامتي، فها الشتاء قد عبر. (نشيد 2/10) * في شأن عيد أنتقال سيدتنا والدة الإله نفسه. وفيه يبرهن عن كم كان * *مجيداً هذا الأنتقال، وكم وجد عظيماً العرش السماوي * *الذي هي أرتقت إليه* وفيه جزءان.* † الجزء الأول † * في كم كان مجيداً الأنتصار الذي به أنتقلت البتول* * الكلية القداسة من الأرض الى السماء* فالطغمات الملائكية بعد أن شاهدوا أن مخلصنا قد كان أكمل عمل الفداء وخلص الجنس البشري بموته، فكانوا يتشوقون لأن يفوزوا بمشاهدة ناسوته المتحد مع لاهوته مالكاً في السموات، ومن ثم كانوا يهتفون نحوه بالكلمات الداودية: قم يا رب الى راحتك أنت وتابوت قدسك: (مزمور132ع8) أي أنك أنت يا رب اذ أفتديت البشر، فقم وهلم الى ملكوتك معنا، وأصحب معك التابوت الحي المختص بتقديسك أي والدتك التابوت المختار منك الذي أنت قدسته بسكناك فيه. فهكذا القديس برنردينوس يجعل الملائكة مخاطبين الله بقولهم نحوه: "فلتصعد أمك أيضاً الى السماء مريم الكلية القداسة التي أنت قدستها حين حبلها بك." فأراد الرب أخيراً أن يسر سكان السماء هؤلاء ويتمم مرغوبات أشواقهم، بأستدعائه أمه الدائمة بتوليتها الى السماء. ولكن أن كان هو عز وجل قد شاء أن يحتفل بأدخال تابوت العهد الى مدينة داود أحتفالاتٍ عظيمةً، كما هو مكتوبٌ في الاصحاح السادس من سفر الملوك الثاني: أن داود وجميع بني أسرائيل، كانوا يصعدون تابوت عهد الرب بتضريب التهليل وصوت البوق. فقد رسم تعالى بأن يحتفل بأعظم من ذلك في صعود تابوته الحي أي والدته المجيدة الى السماء. فالنبي إيليا قد صعد الى السموات بواسطة مركبةٍ ناريةٍ التي (حسبما يبرهن المفسرون) لم تكن شيئاً آخر سوى جوقٍ من الملائكة قد رفعوه عن الأرض مخطتفين إياه الى العلو: ولكن لأجل رفعكِ أنتِ من الأرض الى السماء (يقول نحو هذه السيدة الأنبا روبارتوس) لم يكن كافياً جوقٌ من الملائكة، بل أن ملك الملائكة نفسه قد جاء إليكِ ليرفعكِ الى السماء، مرافقاً من أهل بلاطه السماوي بأسرهم.* والقديس برنردينوس السياني هو نفسه يرتأي ذلك بقوله: ان يسوع المسيح لكي يكرم أنتصار مريم والدته، فهو تعالى عينه جاء من السماء الى ملاقاتها، وأخذها صحبته الى الأخدار الملكوتية. ولهذا يقول القديس أنسلموس:" أن المخلص قد أراد أن يصعد هو أولاً الى السماء قبل أن ترتقي إليها أمه، وذلك ليس فقط لكي يهيء هناك عرشاً لائقاً بهذه الملكة. بل أيضاً حتى يصير دخولها فيما بعد الى السماء ذا مجدٍ أعظم بحضوره الى ملاقاتها هو عينه، وبرفقته الأرواح الطوباويون أجمعون". ومن ثم القديس بطرس داميانوس اذ كان يتأمل في عظته أنتقال هذه الأم الإلهية الى الفردوس السماوي قد قال:" أننا نلاحظ أن صعود مريم العذراء الى السماء هو ذو مجدٍ أعظم من صعود يسوع المسيح، لأجل هذا السبب، وهو لأنه في صعود مخلصنا قد جاءت الملائكة فقط لملاقاته ولمرافقته. وأما الطوباوية والدة الإله فقد أرتقت الى السماء بمجدٍ هكذا سامٍ، حيث أن إله المجد نفسه قد استقبلها ورافقها. جملة مع المليكة كافةً والقديسين أجمعين بزفةٍ إلهيةٍ." ولهذا الأنبا غواريكوس يجعل الكلمة الأزلي قائلاً هكذا: أنني قد نزلت من السماء الى الأرض لكي أصنع ما به أمجد أبي الأزلي، ولكن بعد ذلك لكي أكرم أمي مريم وأمجدها قد أنحدرت مرةً ثانيةً من السماء حتى يمكنني هكذا أن أستقبلها بذاتي وأرافقها بحضوري الشخصي الى الفردوس في السموات.* فلنمض اذاً متأملين بعقولنا كيف جاء المخلص لملاقاة والدته، وحالما رآها قال نحوها معزياً: أنهضي يا قرينتي وتعالي يا جميلتي وهلمي يا حمامتي، فها الشتاء قد عبر والمطر ذهب وصار الى ذاته: (نشيد ص2ع10) فقومي يا أمي يا عزيزتي يا جميلتي الحمامة النقية، أتركي وادي الدموع هذا الذي هو الأرض حيث تكبدتِ أتعاباً وأحزاناً عظيمةً من أجلي وحباً بي. يا عروستي تعالي من لبنان هلمي من لبنان تجئين فتتكللين: (نشيد ص4ع8) فهلمي بنفسكِ وجسدكِ معاً لتتمتعي بمكافأة حياتكِ المقدسة، ومن حيث أنكِ قد تألمتِ كثيراً في الأرض فأنا قد اعددت لكِ مجداً أعظم بما لا يحد في السماء، فتعالي لتجلسي في العرش بالقرب مني. هلمي لتأخذي الأكليل الذي أتوجكِ به سلطانةً على العالمين.* فهوذا مريم الكلي قدسها تترك الأرض مفارقةً إياها. ولكنها عند تذكرها مقدار النعم التي حازتها من الرب في هذه الأرض. فتنظر إليها بعلامات الحب والأشفاق والرحمة، تاركةً فيها جميع أولادها المساكين فيما بين الأحزان والشدائد والأخطار. وهوذا يسوع أبنها يسندها بيده حيث رفعها الى الجو، وأجتاز بها من أبواب السحب، وعلا بها فوق الكواكب والنجوم. ودنا بها من أبواب الفردوس. فمن عادة الملوك أنهم حينما ينطلقون ليأخذوا التملك على أحدى المدن فلا يدخلون من بابها، بل أما أنهم يصيرون أن يهدم بابها ليدخلوا منه من دون أن تعلو فوق رأسهم عتبته العليي، وأما أنهم يجعلون أجتيازهم بمماشي خشبية من فوق باب المدينة إليها. ومن ثم كما أن الملائكة حينما دخل يسوع المسيح الى السماء هتفوا قائلين: أرفعوا أيها الرؤساء أبوابكم وأرتفعي أيتها الأبواب الدهرية ليدخل ملك المجد: (مزمور 24ع9) فهكذا عندما بلغت مريم البتول الى الفردوس لتأخذ التولي سلطانةً على السماوات والأرض، فالملائكة المرافقون إياها هتفوا نحو الملائكة المتقدمين أمامها: ارفعوا أيها الرؤساء أبوابكم وأرتفعي أيتها الأبواب الدهرية لتدخل ملكة المجد.* فهوذا مريم المجيدة قد دخلت الوطن الطوباوي، ولكن عند أجتيازها إليه فاذ شاهدتها الطغمات النورانية المنتظرتها هناك، هكذا متصفةً بالجمال والمجد. سألوا الملائكة الآخرين القادمين صحبتها. كما يتأمل المعلم أوريجانوس قائلين: من يه هذه الصاعدة من البرية مدللةً مستندةً على حبيبها: (نشيد ص8ع5) فمن هي هذه المخلوقة الفائقة البهاء والكمال المقبلة من قفر الأرض، المكان المملؤ من الأشواك والقرطب. لكنها صاعدةٌ هكذا غنيةً بالفضائل ومتلألئةً بالنقاوة، مستندةً على سيدها العزيز وحبيبها الوحيد الذي قد تنازل هو عينه لأن يستقبلها، ويرافقها بشرفٍ وأكرام هذا حدهما. فأجابهم هؤلاء الأرواح الطوباويين المحيطون بها بقولهم: أتسألون من هذه، والحال أنها هي أم ملكنا وهي سلطانتنا المباركة في النساء الممتلئةً نعمةً، قديسة القديسين، حبيبة الله البريئة من العيب والدنس، الحمامة الفائقة جمالاً على المخلوقات كلها. فمن ثم جميع الأرواح السماوية معاً طفقوا يسبحونها ويباركونها ويمدحونها، بأفضل مما مدح العبرانيون يهوديت الجليلة بقولهم: أنتِ هي شرف أورشليم وعز أسرائيل ومدحة شعبنا: (يهوديت ص15ع10) فأنتِ هي اذاً يا ملكتنا وسيدتنا مجد الفردوس وبهجة وطننا. أنت هي شرفنا كلنا. فسعيدٌ هو قدومكِ إلينا، ولتكوني مباركةٍ سرمداً، فها هو ملككِ الذي تملكين فيه، وها نحن بأجمعنا عبيدٌ لكِ وخاضعون تحت سلطانكِ ومستعدين لطاعة أوامركِ.* ثم بعد ذلك أقبل نحو هذه الملكة السماوية القديسون أجمعون الموجودون هناك يومئذٍ، يسلمون عليها كسلطانتهم. وكذلك القديسات البتولات كافةً تقدمن إليها واذ: أبصرتها هؤلاء البنات فأعطينها الطوبى ومجدنها: (نشيد ص6ع8) قائلاتٍ لها: أننا نحن أيضاً يا سيدتنا سلطاناتٌ في هذه المملكة، وأما أنتِ فهي ملكتنا بأجمعنا، لأنكِ أنتِ كنتِ الأولى التي أعطتنا النموذج العظيم في أن نكرس بتوليتنا لله، الأمر الذي من أجله نحن نشكركِ نبارككِ. وبعد هذا جاء المعترفون والأبرار ليحيوها بالسلام كمعلمتهم، لأنهم منها أتخذوا تمثال الكمال ونموذجات الفضائل الجميلة بواسطة سيرة حياتها المملؤة قداسةً. وهكذا أقبل مصاف الشهداء ليسلموا عليها كملكتهم، لأنها بثباتها العظيم على أحتمال آلام أبنها الإلهي قد علمتهم الشجاعة. وبصلواتها وأستحقاقاتها قد أستمدت لهم نعمة الأستشهاد التي بها سفكوا دمائهم من أجل الإيمان. وقد جاء أيضاً القديس يعقوب الكبير الذي هو وحده من مصاف الأثني عشر رسولاً كان حينئذٍ في السماء وقدم لها الشكر نيابةً عن باقي أخوته الرسل عما ساعدتهم به وشجعتهم عليه وأرشدتهم إليه. طالما كانت معهم على الأرض. ثم تقدم إليها الأنبياء القديسون قائلين لها: أيتها العظيمة سيدتنا أنتِ هي موضوع نبؤاتنا التي سبقنا وأخبرنا بها عن أتيان المسيح منكِ: ثم تقدم إليها رؤساء الآباء قائلين لها: أنتِ اذاً كنتِ رجانا الذي منذ أزمنةٍ هكذا مستطيلةٍ ننتظره وأشواقنا كانت متقدةً نحوكِ: الا أنه فيما بين هؤلاء وقبلهم كافةً قد دنا منها أبونا آدم مع أمنا حواء قائلين لها: نعماً يا أبنتنا العزيزة فأنتِ قد أصلحتِ الضرر الذي نحن سببناه للجنس البشري. وأستمديتِ للعالم تلك البركة التي نحن فقدناها بمعصيتنا. وقد خلصنا نحن بواسطتكِ، فلتكوني دائما مباركةً.* وهكذا جاء القديس سمعان الشيخ ليقبل قدميها. مذكراً إياها بذلك اليوم الذي فيه هو كان أقتبل في هيكل الرب من يديها يسوع المسيح طفلاً. وأقبل القديس زخريا مع القديسة أليصابات وكررا لها جديداً تقدمة الشكر، على تلك الزيارة التي كانت صنعتها لهما في بيتهما بأتضاعٍ وحبٍ ساميين، وعما نلاه من النعم العظيمة بتلك الزيارة المقدسة. وبأبلغ من ذلك تقدم يشكرها القديس يوحنا المعمدان على كونه تقدس في أحشاء أمه بمجرد صوت سلامها. ولكن من يمكنه أن يصف مقدار فرح القديس يواكيم والقديسة حنه والديها. عندما أقبلا نحوها يباركانها بذاك الحب والأنعطاف الوالدي قائلين:" يا لسعادتنا ويا لشرف حظنا يا أبنتنا الحبيبة على الغبظة التي فزنا بها بأن نحصل على أبنةٍ هذه صفتها. فأنتِ الآن هي سيدتنا وملكتنا لأنكِ أم إلهنا، فهكذا نعتبركِ وكذلك نسجد لكِ". غير أن الحب والأنعطاف والتهليل والمسرة التي بها جاء إليها القديس يوسف خطيبها. من يستطيع أن يصفها عند مشاهدته عروسته هذه المجيدة بلغت الى الفردوس بتلك العظمة والجلالة سلطانةً على العالمين، وبأية كلماتٍ خشوعيةٍ كان يقول لها: يا خطيبتي وسيدتي بأي نوعٍ يمكنني أن أشكر إلهي وأسبحه وأمدحه على ما أنعم به عليَّ نعمةً هذا سمو مقدارها، بأن أكون خطيباً لكِ أنتِ التي هي والدته الحقيقية، فبواسطتكِ أنا أستحقيت أن أخدم يسوع كلمة الله على الأرض في زمن طفوليته وحداثته، وأن أحمله مراتٍ كثيرةً على ذراعي. وأن أنال منه نعماً خصوصيةً عظيمةً، فلتكن مباركةً تلك الأوقات التي أنا أصرفتها في حياتي خادماً له تعالى ولكِ أنتِ أيتها العروسة السامية في القداسة. فها هوذا يسوع حبيبنا، الذي ليس هو الآن متكياً في مذود البهائم في مغارة بيت لحم كما شاهدناه هناك حين أتلاده منكِ، ولا هو عائشاً فقيراً كما عاش معنا ضمن الدكان في الناصرة، ولا هو معلقاً على الصليب حسبما مات موت العار على جبل الجلجلة في أورشليم من أجل خلاص البشر، بل هو جالسٌ من عن يمين الله الآب ملكاً على السموات والأرض، وها نحن يا سيدتي وملكتي مستمران معه من دون خطر أن نفترق منه بعد، بل نقبل قدميه ونسبحه ونباركه الى أبد الآبدين.* ثم أنه حينما جاءت الملائكة كافةً ليسلموا على سلطانتهم. فهي شكرتهم على مساعدتهم إياها لما كانت على الأرض، بنوعٍ خاص شكرت زعيمهم القديس جبرائيل على البشارة التي كان أتاها بها بسر الحبل الإلهي، والبشارة التي جلبت لها السعادات كلها بصيرورتها والدة الله. الا أن البتول المجيدة المتواضعة قد جثت ساجدةً للعزة الإلهية، غائصةً في عمق أتضاعها وفي معرفتها ذاتها أنها كالعدم، وقدمت له عز وجل الشكر الواجب على جميع النعم السامية التي أفاضها عليها. لا سيما أنتخابه إياها أماً للكلمة الأزلي، وذلك بمجرد خيرية صلاحه ورأفته. وهنا الذي يستطيع أن يدرك فيمكنه أن يفهم بأية عواطف حبٍ إلهي، قد بارك الثالوث الأقدس هذه المخلوقة المحبوبة منه تعالى حباً لا حد له، وبأية كرامةٍ أقتبل الآب الأزلي أبنته هذه العزيزة، والأبن الإلهي أمه هذه الجليلة، والروح القدس عروسته هذه الفائقة في البهاء والنقاوة. وهكذا قد توجها الآب مفوضاً لها القدرة، والأبن واهباً إياها الحكمة، والروح القدس مفيضاً عليها الحب، ومن ثم الثلاثة الأقانيم الإلهية أقاموا لها عرشاً عن يمين أبنها، وكللوها سلطانةً مطلقةً على السموات والأرض، وأمروا الملائكة والمخلوقات كلها بأن يعرفوها سلطانتهم الحقيقية وتحت هذه الصفة يخدمونها ويطيعونها.* † الجزء الثاني † من هي الطالعة من البرية، مدللة، مستندة على حبيبها (نشيد8/5) قد قيلة فيكِ المسبحات يا مدينة الله (مزمور 87/3) لوجهكِ يصلي كل أغنياء الشعب (مزمور 45/13) *في كم هو عظيمٌ العرش والمرتبة التي أقيمت * *فيها هذه البتول المجيدة في السماء* فيقول القديس برنردوس: أن كان لمن المستحيل أن قلباً بشرياً يدرك تلك الأشياء المعدة في السماء، لأولئك الذين يحبون الله على الأرض، مما لا سمعت به أذنٌ، ولا شاهدته عينٌ، ولا خطر على قلب إنسانٍ، كما يعلم الرسول الإلهي: فمن يمكنه أن يدرك اذاً عظمة المجد الذي أعده تعالى لوالدته الحقيقية، التي قد أحبته على الأرض حباً أشد جداً مما أحبه به البشر كلهم، بل منذ الدقيقة الأولى من حياتها قد أحبته أكثر مما أحبه به البشريون والملائكة معاً أجمعون، فاذاً لأجل أن مريم اذ كانت على الأرض قد أحبت الله أشد حباً مما أحبه به الملائكة كافةً فبالصواب ترتل الكنيسة عنها (في فرض عيدها الحاضر): بأن الله قد رفعها في السماء فوق طغماتهم أجمعين: أي نعم قد رفعها تعالى فوق الملائكة (يقول الأنبا غوليالموس) بنوع أنها لم تعد ترى أحداً يعلوها سوى أبنها يسوع الذي هو أبن الله الوحيد:.*ثم أن العلامةجرسون يقول: أنه اذ كانت المصافات الملائكية وطغماتهم تقسم بوجه العموم الى ثلاثة مراتب، حسبما يعلم القديس توما اللاهوتي، جملةً مع القديس ديونيسيوس. فمريم قد أقيمت برتبةٍ خصوصيةٍ في السماء أشرف وأعظم وأمجد من الثلاثة المراتب كلها، وأضحت هي في المرتبة الثانية بعد الله. ويضيف الى ذلك القديس أنطونينوس بقوله: أن السيدة تتميز من عبيدها سمواً لا قياس ولا تمثيل له، وكذلك من دون قياسٍ ولا تمثيل والدة الإله هي أعظم قدراً وسمواً من الملائكة كافةً: ولكي يفهم هذا يكفي أن يعرف ماذا يقول النبي والملك داود (مزمور 45ع9) هكذا: قامت الملكة من عن يمينكَ مشتملةً بثوبٍ مذهبٍ موشى: كما يفسر القديس أثناسيوس: بأن هذه الكلمات النبوية قيلت بالحصر عن جلوس مريم البتول ملكةً من عن يمين أبنها في البلاط السماوي:* أما القديس أيدالفونسوس فيقول: أن أفعال البر التي مارستها العذراء المجيدة في مدة حياتها على الأرض. فهي من دون ريبٍ أعمالٌ تفوق بأستحقاقاتها أمام الله على استحقاقات أعمال القديسين الصالحة كلهم، تفوقاً لا حد لعلوه ولا قياس لأدراكه، ولذلك لا يمكن وصف المكافأة والمجد الذي هي أستحقته في السماء، ولا يستطاع أدراكه: على أنه كان هو أمراً صادقاً (كما هو بالحقيقة) قول الأنا الصطفي: أن الله يجازي كل إنسانٍ حسب أعماله: (رومانيين ص2ع6) فصادقٌ هو وكلي: التأكيد (يقول القديس توما اللاهوتي) أن البتول الكلي قدسها التي يفوق أستحقاقها على أستحقاق البشر أجمعين والملائكة بأسرهم، قد لزم أرتفاعها فوق جميع المراتب السماوية. وبالأجمال يضيف الى ذلك القديس برنردوس قائلاً: فلتعتبر النعمة التي حصلت عليها والدة الإله في الأرض بنوع أختصاصٍ فريدٍ، وبموجب قياس هذه النعمة فليعتبر سمو المجد والمكافأة التي هي حصلت عليها في السماء.* فمجد مريم البتول (يقول أحد العلماء الأب كولومبياري) هو مجدٌ تامٌ، مجدٌ كاملٌ، وهو مختلفٌ عن المجد الحاصل عليه القديسون الآخرون في الملكوت: (فهذه الملاحظة هي حسنةٌ) على أنه أي نعم حقٌ هو أن كلاً من القديسين يتمتع في السماء بسلامٍ تامٍ، وبراحةٍ ونعيمٍ كاملٍ. ولكن مع ذلك أمرٌ حقيقي هو، أنه ولا واحدٌ منهم يتمتع بذاك المجد الأعظم، الذي لكان يمكنه أن يفوز هو به في السعادة الأبدية، لو كان خدم الله على الأرض بأعظم أمانةٍ، وأحبه أشد حباً مما خدمه وأحبه في مدة حياته. فمن ثم ولئن كان لطوباويون في السماء لا يشتهون راغبين أن يملكوا مجداً أعظم مما قد حصل كلٌ منهم عليه. بل أنهم جميعاً هم راضون بما قد فازوا به، فمع ذلك يوجد الموضوع لأشتهاء شيءٌ أعظم، يكون هذا ممكناً. ثم كذلك حقٌ هو أن الخطايا المفعولة على الأرض من بعض هؤلاء القديسين قبل تبريرهم منها، لا يمكن أن توجب لهم عنها عقاباً ما في النعيم الأبدي، ولا يعاقب الزمان الضائع منهم على الأرض، أي الذي لم يكتسبوا فيه أستحقاقاً ما. ولكن مع هذا فأمرٌ صادقٌ هو لا يستطاع أنكاره، أن الخير الأوفر أو أعمال البر الأعظم الممارسة على الأرض من البعض منهم، تسبب لهؤلاء فرحاً أعظم وتعزيةً أكمل. ومثل ذلك يحدث للذين حفظوا بر المعمودية غير مدنسٍ، ولم يضيعوا من الزمن شيئاً سدى بدون أعمالٍ ذات أستحقاقٍ. أما مريم البتول فلا ترغب ولا يمكنها أن تشتهي نوال شيءٍ أعظم، اذ أن الظروف المشار إليها لم تلتحق بها أصلاً. على أن القديس أوغوسطينوس يقول: ترى من من القديسين الكائنين في السماء اذا سئل أن كان هو صنع خطيئةً ما على الأرض فيقدر أن يجيب، لا، ما عدا مريم البتول فقط التي هي وحدها تستطيع أن تجيب، كلا، لأنه كما حدد المجمع المسكوني التريدنتيني، المقدس (في القانون 13من الجلسة 6): أن مريم العذراء لم ترتكب أصلاً خطيئةً ما على الأطلاق، حتى ولا أصغر النقائص. على أن هذه السيدة المجيدة ليس فقط لم تفقد قط نعمة التقديس، ولم تضعفها أصلاً، بل أيضاً لم تترك هذه النعمة الإلهية بطالةً من العمل، ولم تمارس مطلقاً عملاً ما لم يكن ذا أسحقاقٍ، ولا تكلمت قط كلمةً، ولا قبلت فكراً ما، ولا تركت من أنفاسها شيئاً من دون أن توجه ذلك جميعه لمجد الله الأعظم. وبالأجمال أنها لم تفتر بالكلية، ولا توخرت هنيئةً من الزمان خلواً من الأنعطاف نحو الله والألتجاء إليه. وبالتالي لم تخسر شيئاً ما خسارة الكسل والتهاون، بل دائماً سعت مع نعمة الله بكلية قواها وأستططاعتها. وأحبته عز وجل بكل ما أمكنها أن تحبه، وبذلك تقدر أن تقول نحوه الآن في السماء: يا سيدي أن كنت أنا ما أحببتك بمقدار ما أنت تستحق، فقلما يكون أحببتك بمقدار ما أسطتعت أنا أن أحبك.* ثم أن النعم الإلهية قد اعطيت للقديسين بأنواعٍ مختلفةٍ، كما يقول رسول الأمم القديس بولس: أن المواهب والنعم هي متميزة: ومن ثم اذ كان كلٌ منهم قد سعى مع النعمة التي أعطيت له. فقد ظهر هو معتبراً في فضيلةٍ ما بنوعٍ متميز عما سواها. فمنهم من تلألأ في أكتساب الأنفس وأقتادها الى الخلاص. ومنهم أشرق في سيرة النسك وأفعال الأماتات الشاقة جداً. ومنهم من لمع في أحتمال التعاذيب المبرحة. ومنهم من تسامى في الثاوريا والغوص في الأمور السماوية. ولذلك تقول الكنيسة المقدسة في أحتفالها بعيد كل من هؤلاء القديسين: أنه لا شبيه له: وانه كموجب الأستحقاقات يتميز القديسون بعضهم عن بعضٍ بالمجد في السماء، لأن نجماً يفضل على نجمٍ في البهاء: (قرنتيه أولى ص15ع41) فالرسل يتميزون عن الشهداء والأبرار والمعترفون عن البتولات. والذين حفظوا بر المعمودية عن الذين قد أخطأوا وصنعوا توبةً، فأما البتول مريم المثلثة القداسة، فمن حيث أنها وجدت ممتلئةً من النعم كلها. فقد ظهرت في كل الفضائل أسمى من كل من القديسين في فضيلته التي تلألأ هو بها، وأكمل من فضائلهم كافةً. فهي وجدت رسولةً أعظم من الرسل. وسلطانةً للشهداء لكونها تألمت أكثر منهم جميعاً. ومقداماً وقائدةً للبتولين والعذارى. ونموذجاً وقدوةً للمتحدين بسر الزواج، ومارست هي في ذاتها أنواع الأماتات وبالأجمال قد جمعت في قلبها الفضائل كلها بأعلى درجاتها، متساميةً بكلٍ منها على أسمى فضيلةٍ بلغ إليها كلٌ من القديسين. ولذلك قيل عنها: قامت الملكة من عن يمينك مشتملةً بثوبٍ مذهبٍ موشى: (مزمور 45ع10) لأن كل النعم وجميع الفضائل وسائر الأستحقاقات التي تزينت بها الأبرار والقديسون، فقد وجدت مجموعةً في شخص هذه الملكة. كما يخاطبها الأنبا جالانسه قائلاً: أن أختصاصات القديسين أجمعين قد أنجمعت فيكِ بجملتها:* ومن ثم يقول القديس باسيليوس الكبير: أنه كما أن نور الشمس يفوق ضياءً على أنوار الكواكب والنجوم كافةً، فهكذا مجد هذه الأم الإلهية يعلو متسامياً على مجد الطوباويين كلهم: ويضيف الى ذلك القديس بطرس داميانوس بقوله: كما أن أنوار القمر والكواكب والنجوم تغيب مضمحلةً، كأن هذه الأجرام تفقد كونها من الوجود حينما تظهر الشمس مشرقةً، فهكذا مجد مريم العذراء يفوق على مجد جميع الملائكة وسائر البشر حتى كأن هؤلاء لا يعود لهم ظهورٌ في السماء. ولأجل ذلك كتب القديس برنردينوس السياني بأتفاق رأي مع القديس برنردوس قائلاً: أن الطوباويين يشتركون في جزءٍ من المجد الإلهي، أما البتول مريم فقد أغنيت بالمجد بنوعٍ خاص بهذا المقدار، حتى يبان أنه لمن المستحيل أن خليقةً ما يمكنها أن تتحد مع الله أشد أتحاداً، مما فازت بالأتحاد معه تعالى هذه العذراء المجيدة: ويضاف الى هذا ما حرره الطوباوي ألبارتوس الكبير بقوله: أن ملكتنا السعيدة تشاهد الله وتتمتع بالتأمل فيه بأكثر قربٍ، بنوعٍ فائقٍ عادم القياس على ما يتمتع بالنظر إليه الأرواح السماويون بأجمعهم: بل أن القديس برنردينوس السياني عينه يقول: أنه كما أن سائر الكواكب أو الأجرام السماوية الأخرى تستمد الضياء من الشمس، فهكذا جميع الطوباويين يكتسبون مجداً أعظم ونعيماً متفاضلاً بواسطة مشاهدتهم مريم البتول في مجدها: ويقول في عظته على نياحها: أن هذه العذراء المغبوطة حينما أرتقت الى السماء ضاعفت نعيم سكانه أجمعين. وقد كتب القديس بطرس داميانوس: أنه لا يوجد عند الطوباويين في السماء مجدٌ أعظم بعد الله. من أنهم يتمتعون بالنظر الى هذه الملكة الكلية الجمال: ويقول القديس بوناونتورا: أن مجدنا الأعطم ونعيمنا الألذ بعد الله هو في مريم البتول:* فلنفرح اذاً مبتهجين مع مريم لأجل سمو العرش وعلو المرتبة التي رفعها الله إليها في السماء ولنسر فرحين مع ذواتنا، لأن أمنا هذه اذ تركتنا على الأرض بأرتقائها الى الملكوت منفصلةً عنا بالجسد، فلم تتركنا من حبها ولم تنفضل عنا بأنعطافاتها نحونا. بل بالأحرى لكونها الآن في السموات أكثر قرباً الى الله، وأشد أتحاداً به تعالى، فتعلم بأفضل نوعٍ حال شقائنا، ومن هناك تتشفق علينا أوفر أشفاقاً، وتقدر بأسهل طريقة أن تسعفنا وتعيننا. ومن ثم يخاطبها القديس بطرس داميانوس قائلاً: أهل أنكِ أيتها العذراء المغبوطة نسيتينا نحن البائسين المضنوكين لأجل أنكِ أرتفعتِ في السموات الى مقامٍ هكذا عظيمٍ، كلا، والعوذ بالله من التفكر بذلك، لأن قلباً هذه صفة رأفته وحنوه نظير قلبكِ، لا يقدر أن لا يشفق على شقائنا والا يحنو علينا. ويقول القديس بوناونتورا: أنه أن كان بهذا المقدار وجدت عظيمةً رأفة هذه السيدة نحونا حينما كانت هي عائشةً على الأرض، فحنوها الآن هو أعظم من ذلك في حال كونها متملكةً في السموات.* فلنخصص ذواتنا اذاً لخدمة هذه الملكة. ولننعش فينا روح عبادتنا لها وتكريمنا وحبنا إياها بمقدار ما يمكننا: لأنها ليست هي نظير المسلطين والملوك الآخرين (يقول ريكاردوس الذي من سان لورانسوس) الذين يثقلون على رعاياهم حمل إيفاء الأموال والخراجات والخسائر، بل أن ملكتنا هذه تغني عبيدها وخدامها بالنعم والأستحقاقات والمكافأة. ولنصل إليها متضرعين مع الأنبا غواريكوس بقوله لها: أنكِ يا أم الرحمة أنتِ جالسةٌ بالقرب من الله سلطانةً للعالم على عرشٍ هكذا سامٍ، فأشبعي حسناً من مجد أبنكِ يسوع. وأرسلي إلينا نحن عبيدكِ الفتات الذي يزيد عنكِ، فأنتِ انما تتنعمين على مائدة الرب، ونحن المساكين نوجد تحت هذه المائدة ههنا في الأرض نظير كلابٍ صغيرة حقيرة، نطلب منكِ الرأفة والشفقة، فأرحمينا وترأفي علينا يا أم الرحمة.* * نموذج * † صلاة † † |
05 - 08 - 2022, 01:50 PM | رقم المشاركة : ( 2 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب امجاد مريم البتول - القديس ألفونس دي ليكوري
المقالة الثانية شرح أحزان والدة الإله، بوجه العموم والخصوص الفصل الأول * فيما يلاحظ أحزان هذه العذراء المجيدة بوجه العموم تحت صفة* * كونها سلطانة الشهداء، لأجل أن أستشهادها وجد أطول* * وأشد من أستشهادهم كافةً.* * وفيه جزءان* † الجزء الأول † * في أن أستشهاد مريم البتول وجد أكثر أستطالةً من * * أستشهادات جميع الشهداء* ترى من هو ذاك الإنسان الحاصل على قلبٍ قاسٍ كالجلمود، حتى أنه لا يتوجع متخشعاً عند أستماعه إيراد حادثٍ مملؤٍ من الغم، مستحق الندب والبكاء الحادث الذي حصل وقتاً ما في هذا العالم وهو أنه كانت على الأرض أمرأةٌ شريفةٌ قديسةٌ، لم يكن لها الا أبنٌ وحيدٌ، وهذا الأبن كان هو الموضوع المستحق أعظم المحبات الممكن تصوره في العقل، باراً جميلاً حاوياً كل الفضائل، مغرماً بالحب الشديد نحو هذه الوالدة، بنوع أنه قط لم يكن أغاظها بأدنى شيءٍ. بل كان دائماً يحترمها بوقارٍ، ويطيعها بتكريمٍ، ويكمل مشيئتها بكل حقائق الحب، ولذلك قد وضعت هي فيه جميع أميالها وعواطفها وحبها على الأرض. فماذا جرى بعد ذلك، فقد حدث أن هذا الأبن لأجل روح الحسد الذي أستوعبت منه قلوب أعدائه، قد اشتكوا عليه كذباً وعدواناً أمام القاضي، الذي ولئن كان عرف براءته وأشهرها معترفاً بها، فمع ذلك لكيلا يغيظ هو أولئك الأعداء قد حكم على هذا الأبن البريء من الذنب بالموت ذي العار والخزي، بالنوع المطلوب من الأعداء أنفسهم، ومن ثم هذه الأم المسكينة أحتملت الحزن الشديد المسبب لها من قبل مشاهدتها أبنها البار المحبوب منها بهذا المقدار، يقتل ظلماً في سن شبوبيته بميتةٍ بربريةٍ كلية القساوة! أعدموه ــ الحياة أمام عينيها، فيما بين العذابات الأشد أوجاعاً، وأماتوه موت الخزي والعار. فماذا تقولون يا ذوي الأنفس الحنونة اللينة، أما أن هذا الحادث هو مستحق التوجع والشفقة، وأما أن هذه الوالدة الحزينة هي مستأهلة أن يرثى لها ويشفق عليها. فأنتم تفهمون جيداً عمن أشير أنا بهذا الحادث. أي أن الأبن الذي حكم عليه بالموت وقتل بالنوع المقدم إيراده، هو مخلصنا يسوع المسيح الموضوع المستأهل كل محبة، والأم التي تكبدت الأحزان والآلام بما أشرنا عنه، هي والدة الإله مريم الطوباوية، التي حباً بنا وبخلاصنا قد أرتضت بأن تشاهد أبنها هذا الحبيب مقدماً ذبيحةً للعدل الإلهي بأيدي البشر القساة القلوب. فاذاً الأوجاع والأحزان التي ذاقتها من أجلنا هذه الأم الإلهية بمرارةٍ تفضل على مرائر ألف ميتةٍ، تستحق منا التوجع والترثي ومعرفة الجميل. وأن كان لا يوجد لنا شيءٌ آخر نكافئ به حبها إيانا هذا الشديد، فقلما يكون نأخذ في هذا اليوم بالتأمل برهةً من الزمان، في شدة الحزن والتوجع والألم الذي تكبدته هذه العذراء، ومن قبل ذلك صارت هي سلطانة الشهداء، اذ أن أوجاع أستشهادها قد فاقت على عذابات الشهداء كافةً. أولاً: بما أن هذا الأستشهاد وجد زمنه أكثر أستطالةً من أزمنة عذابات الشهداء. الأمر الملاحظ في الجزء الحاضر. ثانياً: لأنه قد وجد هو الأستشهاد الأشد أوجاعاً من عذاباتهم كلها الأمر الملاحظ في الجزء الآخر.* فكما أن يسوع المسيح سمي: سلطان الأوجاع، وملك الشهداء لأجل أنه في مدة حياته قد أحتمل آلاماً أشد مما أحتمله الشهداء أجمعون، فهكذا بكل عدلٍ تدعى مريم البتول: سلطانة الشهداء لأنها أستحقت هذا اللقب بأحتمالها أستشهاداً أعظم من كل ما سواه بعد ذاك المحتمل من أبنها مخلصنا. فاذاً بالصواب يسميها العلامة ريكاردوس الذي من سان لورانسوس: شهيدة الشهداء: ويمكن أن يقال عنها ما قاله أشعيا النبي: يكللكِ الله بالضيق تكليلاً: (ص22ع18) أي أن الأكليل الذي تتوجت به هذه السيدة سلطانةً للشهداء قد كان أكليل الضيق والأوجاع عينها التي فاقت على عذابات الشهداء كلهم اذا أنجمعت معاً. فأما عن كون مريم العذراء وجدت شهيدةً حقيقيةً، فهذا لا ريب فيه ولا أشكال، ويبرهن عنه بأثباتٍ العلماء كارتوزيانوس وبالبارتوس وكاتارينوس وآخرون غيرهم. على أنه لحكمٌ عامٌ هو أنه يكفي لحقيقة الأستشهاد أن يحتمل الشهيد عذاباً وألماً كافياً لأن يعدمه الحياة الجسدية، ولئن لم يكن هو يموت من مجرد هذا العذاب، فهكذا القديس يوحنا الأنجيلي قد كرم من الكنيسة الجامعة بصفة شهيد ولئن لم يكن مات هذا الرسول ضمن خلقين الزيت المغلي، حينما هو وضع فيها بأمر الملك دوميتسيانوس، بل خرج من تلك الخلقين أشد قوةً من ذي قبل (كما هو مدون تحت اليوم السادس من شهر أيار في كتاب الفرض الروماني) ويقول القديس توما اللاهوتي: أنه يكفي لأكتساب مجد الأستشهاد أن الإنسان يطيع في أن يقدم ذاته لحد الموت: فمريم وجدت شهيدةً لا مماتةً بواسطة الحديد، بل بشدة أوجاع القلب: كما يقول عنها القديس برنردوس، أي أن كان جسدها الطاهر لم يجرح من الجلادين، فقد طعن قلبها المبارك بسهام أوجاع آلام أبنها، وهذه الأوجاع قد وجدت كافيةً لأن تسبب لها لا موتاً واحداً فقط، بل ألف ميتةٍ أيضاً، ومن ثم أن مريم قد صارت ليس شهيدةً حقيقيةً فقط، بل أيضاً أن أستشهادها الأليم قد فاق على أستشهادات جميع الشهداء، لأجل أستطالة زمنه، لأنه يمكن القول أن حياتها بأسرها قد وجدت أستشهاداً متصلاً من دون أنقطاعٍ.* فكما أن آلام سيدنا يسوع المسيح قد أبتدأت معه منذ أتلاده على الأرض، حسبما يقول القديس برنردوس: أن المسيح قد ولد ومعه ولدت آلام الصليب: فهكذا مريم التي هي شبيهة بأبنها في كل شيءٍ. قد أحتملت أستشهادها مدة حياتها كلها. فأسم مريم فيما بين التفاسير التي يعنيها يفسر: بحر المرارة: كما يبرهن الطوباوي ألبارتوس الكبير. ولذلك يخصص بهذه البتول ما قاله أرميا النبي في العدد الثالث عشر من الاصحاح الثاني من مراثيه وهو: يا بتول أبنة صهيون أن أنكساركِ هو عظيمٌ كالبحر فمن يعالجكِ: لأنه كما أن مياه البحر كلها هي مرةً مالحةً، فهكذا هي حياة مريم البتول قد وجدت دائماً مملؤةً من المرائر، لأجل أن آلام مخلصنا كانت على الدوام بأزاء عقلها مصورةً، فلا يمكن لأحدٍ أن يرتاب في أن هذه السيدة قد أستنارت من الروح القدس أكثر أستنارةً من الأنبياء كلهم. وكانت هي تعلم أفضل علماً منهم حقيقة ما دونوه عن المسيح في أقوالهم النبوية. فهكذا قال الملاك للقديسة بريجيتا، كما أنه قال لها في محلٍ آخر: أن البتول المجيدة اذ كانت تعرف كم هو مقدار الآلام التي كان مزمعاً الكلمة المتجسد أن يتكبدها من أجل خلاص الجنس البشري، فمن قبل أن تصير هي أمه كانت تتصور آلامه وتتوجع من أجل الميتة البربرية المعدة له، ليس من أجل خطاياه، اذ لا خطيئة فيه، وعلى هذه الصورة منذ ذاك الوقت أبتدأ زمن أستشهادها:* فهذا التوجع والآلام قد أزدادت مرارةً وقوةً بما لا يحد عندما صارت هذه البتول أماً للكلمة المتجسد، لأنها حينئذٍ عند تأملها في جميع ما كان عتيداً هذا الأبن المحبوب منها أن يتألم به. فهي أحتملت بهذا التصور المتصل عذاب أستشهادٍ متصلٍ مدى حياتها، ولذلك يقول نحوها الأنبا روبارتوس: أنكِ اذ كنتِ سبقتِ وعرفتِ آلام أبنكِ العتيدة صيرورتها بعد زمنٍ طويلٍ من معرفتكِ بها. فوجد لذلك أستشهادكِ في تكبدكِ مرارتها مستطيلاً: وهذا بالحصر ما تفسره الرؤيا التي شاهدتها القديسة بريجيتا في مدينة رومية، في كنيسة القديسة مريم الكبرى، حيث ظهرت لها البتول الطوباوية وبرفقتها القديس سمعان الشيخ، مع ملاكٍ كان حاملاً بيده سيفاً طويلاً جداً، مصبوغاً بالدم، مشيراً به الى الحزن والآلام الشديدة المرارة والمستطيلة معاً، التي أجتازت في نفس هذه الأم الإلهية طول أيام حياتها. ولذلك الأنبا روبارتوس يجعل هذه السيدة متكلمةً هكذا: أيتها الأنفس المفتداة، يا بناتي العزيزات لا تتوجعن من أجلي لما تكبدته في تلك الساعة فقط، التي فيها شاهدت أبني يموت فيما بين العذابات أمام عيني. لأن سيف الحزن والوجع الذي سبق سمعان وأخبرني عنه. قد أجتاز في نفسي مدة حياتي كلها. ومن ثم حينما كنت أرضع أبني الحبيب. وأدفئه في حجري وبين ذراعي. فدائماً كنت أشاهد الميتة المرة التي كانت تنتظره. فتأملن كم هي شدة التوجع. وكم هو مستطيلٌ زمان هذه الآلام التي أنا أحتملتها.* ولهذا بكل صوابٍ يمكن للعذراء المجيدة أن تقول عن ذاتها ما قاله النبي والملك داود: أن حياتي قد فنيت بالأوجاع وعمري بالتنهد: (مزمور 31ع10): لأنني أنا للضرب مستعدٌ ووجعي مقابلي في كل حين: (مزمور 380ع17): فقد أصرفت حياتي كلها بالأوجاع والدموع. من حيث أن حزني وتوجعي الصادرين من تذكري في آلام أبني الحبيب وموته. ولم يبرحا قط من أمام عيني، بل دائماً كنت أشاهد أنواع آلامه، وكيفية ميتته التي يوماً ما كان هو مزمعاً أن يتكبدها: فهذه الأم الإلهية قد أوحت الى القديسة بريجيتا: بأنها قد استمرت تشعر حتى بعد قيامة أبنها من بين الأموات وصعوده الى السموات، بمرارة آلامه وموته في قلبها باقي الزمن الذي عاشت هي فيه على الأرض. سواءٌ كانت تمارس أعمالها، أو تأكل أم تصنع شيئاً آخر الى حين نياحها: ولهذا كتب طاولاروس: بأن مريم البتول قد أجتازت زمن حياتها بأسره في توجعٍ متصلٍ. لأنه لم يكن يهجس في قلبها شيءٌ من قبيل الآلام سوى الغم والحزن:* ولهذا فأستطالة الزمان المعتاد أن يصرف من المحزونين في الأنفراج. وفي تمويه الحزن ونسيان موضوعه، لم يفد البتول القديسة لتخفيف أوجاعها، بل بالعكس أن أستطالة الزمن كانت لديها علةً لأزدياد التوجع والحزن، لأن نمو أبنها يسوع في القامة والعمر، فبمقدار ما كان ينمى فيها تعلق قلبها به من الجهة الواحدة، لمشاهدتها فيه موضوعاتٍ جديدةً للحب والكمال وحسن الصفات، فبأكثر من ذلك من الجهة الأخرى، لتقدمه نحو زمن الآلام ولدنوه من أيام الحكومة عليه بالموت البربري كان ينمى فيها شدة الحزن والتوجع من أجله لفقدانها إياه من على الأرض. وحسبما أخبر ملاك الرب في الرؤيا للقديسة بريجيتا:" أنه كما أن الوردة تظهر نابتةً فيما بين الأشواك، فكذلك والدة الإله كانت تتقدم بالسنين فيما بين الأوجاع. ونظير ما أن الوردة في نموها تنمو معها الأشواك المحيطة بها، فهكذا وردة الرب المختارة هذه بمقدار ما كانت هي تنمو في العمر، فبأكثر من ذلك كانت تنمو معها أشواك آلامها وأحزانها لتزيدها وجعاً وغماً". فاذ تأملنا لحد ههنا في أستطالة زمن أحزان هذه السيدة فلنأتِ الى *الجزء الثاني لنتأمل عظم هذه الأحزان.* † الجزء الثاني † * في أن أستشهاد مريم البتول هو أشد أوجاعاً من عذابات الشهداء كلهم* فمريم العذراء دعيت سلطانة الشهداء ليس فقط من كون زمن أستشهادها في أحتمال الآلام وجد أطول من أزمنة عذابات الشهداء بل أيضاً من كون أوجاعها وآلامها قد وجدت أشد وأعظم من أوجاع الشهداء وآلامهم كافةً. على أنه ترى من يمكنه أن يقايس مقدار هذه الأوجاع. ويعرف حقيقتها وشدتها وعظمتها. فالنبي أرميا يشير الى أنه لا يقدر أن يجد من يمثل هو به أوجاع هذه الأم وأحزانها، لأنه يقول: بمن أشبهكِ، أو بمن أمثلكِ يا بنت أورشليم. من أقايس عليكِ وأعزيكِ، يا بتول أبنة صهيون فأن أنكساركٍ هو عظيمٌ كالبحر فمن يعالجكِ: (مراثي ص2ع13) ولذلك اذ فسر هذا النص الكردينال أوغون فكتب قائلاً نحو هذه البتول المجيدة هكذا: أنه كما أن مرارة مياه البحر تفوق في شدتها على مرائر الأشياء المرة كلها. فعلى هذا المثال أن أوجاعكِ أيتها العذراء المباركة قد فاقت في شدتها على الأوجاع الأخرى بأسرها: ولهذا يقول القديس أنسلموس: أنه لولا يكون الله بأعجوبةٍ خصوصيةٍ حفظ حياة مريم البتول. لكان وجع قلبها كافياً لأن يميتها في كل دقيقةٍ من دقائق حياتها: وأما القديس برنردينوس السياني فقد أتصل الى أن يقول: أن أوجاع مريم قد كانت بهذا المقدار عظيمةً. حتى أنه لو أمكن تفريقها موزعةً على البشر كلهم. لكانت كافيةً لأن تميتهم كافةً بكل سرعةٍ.* الا أننا ههنا نتأمل الأسباب التي من أجلها وجد أستشهاد هذه الأم الإلهية أعظم من أستشهاد كل الذين سفكوا دماؤهم من أجل الإيمان بالمسيح. فليعتبر. أولاً:أن الشهداء أنما أحتملوا العذابات في أجسادهم بواسطة النار أو الحديد وغيرهما. أما مريم فأحتملت عذاب أستشهادها باطناً في نفسها. حسبما سبق القديس سمعان الشيخ وقال لها: وأنتِ سيحوز سيفٌ في نفسكِ: (لوقا ص2ع35) وكأنه يريد بقوله هذا أن يعلن لها هكذا مخاطباً: أيتها البتول المثلثة القداسة أن جميع الشهداء أنما عتيدون في أجسادهم أن يتكبدوا أوجاع الحديد، وأما أنتِ فأستشهادكِ أنما هو باطنٌ، لأن سيف الحزن مزمع أن يحوز في نفسكِ وتحيق الأوجاع بقلبكِ مع آلام أبنكِ يسوع: فاذاً بمقدار ما أن النفس هي أشرف من الجسد فبمقدار ذلك كان أستشهاد مريم بنفسها أعظم من أستشهاد الشهداء بأجسادهم. كما أوحى مخلصنا عينه للقديسة كاترينا السيانية بقوله لها: أنه فيما بين الأستشهاد بالأجساد، وبين الأستشهاد بالأنفس يوجد فرق لا قياس لعظمته: ومن ثم يقول الأنبا القديس أرنولدوس كارنوتانسه: أن من أتفق له أن يوجد حاضراً في جبل الجلجلة ليشاهد ذبيحة الحمل البريء من العيب، حينما هو مات على خشبة الصليب. لقد كان لاحظ هناك مذبحين عظيمين. أحدهما في قلب يسوع، وثانيهما في قلب مريم. حيث أنه في زمنٍ واحدٍ نفسه الذي فيه كان الأبن يضحي قرباناً بالتوجع القلبي:* ثانياً:يقول القديس أنطونينوس: أن الشهداء الآخرين قد تعذبوا بواسطة ذبيحة حياتهم الذاتية. واما البتول البطوباوية فتعذبت بواسطة ذبيحة حياة أبنها الذي كانت هي تحبه أشد حباً بما لا يحد من حياتها الذاتية. ولهذا ليس فقط قد تكبدت هي بنفسها كل الأوجاع التي تكبدها أبنها في جسده. بل أيضاً قد سبب لقلبها نظرها بعينيها تعاذيب أبنها أوجاعاً أعظم مما لو كانت هي نفسها أحتملت تلك التعاذيب في جسدها عينه. فعن القول أن مريم العذراء قد تكبدت في قلبها جميع العذابات التي شاهدت هي أبنها الحبيب يسوع معذباً بها. لا يمكن أن يوجد ريبٌ أو أشكالٌ. فكل أحدٍ يفهم أن عذاب الأبناء هو نفس عذاب أمهاتهم. اذا كن حاضراتٍ وناظراتٍ مباشرة ذاك العذاب. فالقديس أوغوسطينوس اذ كان يتأمل في الأوجاع التي أحتملتها القديسة (صالومي) أم السبعة شهداء المكابيين بمشاهدتها العذابات التي كانت أولادها هؤلاء يتكبدونها قال: أنها اذ كانت تنظر أوجاع أولادها قد تألمت هي بالأوجاع كلها، لأنها كانت تحبهم كلهم. وبالتالي كانت هي تتعذب في عينيها بجميع العذابات التي هم كانوا يتعذبون بها في أجسادهم. فهكذا حدث لوالدة الإله، أي أن جميع تلك العذابات من الجلد وأكليل الشوك، والمسامير، والصليب التي تعذبت بها لحمان يسوع الطاهرة. فهذه كلها دخلت حينئذٍ في قلب مريم لتكمل بواسطتها أستشهادها، كما كتب القديس أماداوس قائلاً: أن هذه العذابات التي دخلت على جسد يسوع هي نفسها دخلت على قلب مريم: بنوع أنه (حسبما قال القديس لورانسوس يوستينياني) قد أضحى قلب هذه الأم بمنزلة مرآةٍ للأوجاع التي أحتملها أبنها، وبهذه المرآة كانت تنظر اللطمات والبصاق والجراحات وسائر العذابات التي تألم بها يسوع. ثم أن القديس بوناونتورا يتأمل: في أن جميع تلك الجراحات التي كانت مفرقةً في جسد يسوع كله، فهذه بأسرها وجدت مجموعةً معاً في قلب مريم.* فاذاً قد تكبدت هذه البتول لأجل أوجاع أبنها وآلامه محتملةً في قلبها الشديد الحب أنواع تلك الآلام! أي الجلد، التكليل بالشوك، الأهانات، التعييرات، المسامير، الصليب، كأنها هي نفسها جلدت، كللت، أهينت، عيرت، سمرت، صلبت، ولهذا اذ يتصور القديس بوناونتورا عينه حال وجود هذه الأم الإلهية في جبل الجلجلة حاضرةً موت أبنها، فيخاطبها كمستفهمٍ قائلاً: أيتها السيدة أخبريني أين كنتِ حينئذٍ واقفةً، أهل أنكِ وجدتِ قريبةً فقط من صليب يسوع، كلا بل أنني أقول الأجود أنكِ كنتِ مرفوعةً على الصليب عينه، ومسمرةً مصلوبةً مع أبنكِ نفسه. أما ريكاردوس فالى كلمات النبي أشعيا المدونة في العدد الثالث من الاصحاح 63 من نبؤته المقالة منه عن لسان مخلصنا وهي: دست المعصرة وحدي ومن الأمم ليس معي رجلٌ: يضيف هو هذه الكلمات قائلاً: أنك بالصواب تقول أيها السيد أنه في عمل أفتداء الجنس البشري أنت وحدك دست المعصرة متألماً، ولم يكن معك رجلً يتوجع من أجلك بكفايةٍ. ولكن توجد أمرأةٌ وهي أمك التي مقدار ما أنت أحتملت في جسدك، فهي مقدار ذلك تكبدت في قلبها.* الا أن هذه الأقوال كلها هي شيءٌ زهيدٌ جداً بالنسبة الى حقيقة ما تألمت به العذراء المجيدة، من حيث أنها (كما قلت آنفاً) قد تكبدت هي بالنظر الى عذابات يسوع آلاماً وأوجاعاً أشد مرارةً من آلام يسوع وأوجاعه عينها، لو كانت هي أحتملتها في جسدها بدلاً منه. فالعلامة أيرازموس كتب في تكلمه بوجه العموم عن الوالدين بقوله عنهم: أنهم يشعرون في ذواتهم بالأوجاع التي تتعذب بها أولادهم. أشد آلاماً مما يشعرون بأوجاعهم الذاتية: الا أن هذا ليس بحقيقي دائماً ولا في كل الوالدين. أما في مريم البتول فقد تحقق ذلك بكل تأكيدٍ. لأجل أن هذه الأم المجيدة كانت تحب أبنها الإلهي حباً أعظم بما لا يحد، ولا يمكن وصفه من حبها ذاتها، بل من حبها ألف حياةٍ لو كانت لها. ولذلك بكل صدقٍ يشهد لنا القديس أماداوس: بأن هذه الوالدة المحزونة اذ كانت تشاهد المنظر المرثى له، الذي به أبنها يسوع الحبيب كان يحتمل العذابات، فهي قد تعذبت أكثر جداً مما لو كانت هي نفسها تحتمل في جسمها آلام هذا الأبن كلها: فالبرهان هو واضحٌ من حيث أنه كما يقول القديس برنردوس: أن النفس توجد مستقرةً ومتحدةً في الموضوع المحبوب منها أتحاداً أشد جداً من كيانها في الجسد الذي هي تحييه: بل أن مخلصنا عينه قبل هذا القديس قال: أنه حيثما يكون كنزكم فهناك يكون قلبكم: (لوقا ص12ع34) فاذاً من حيث أن هذه البتول كانت بقوة الحب تحيى بيسوع بنوعٍ أفضل مما كانت تحيى في ذاتها، فمن دون ريبٍ أنها تكبدت من الآلام، لأجل موت حبيبها هذا، أوجاعاً أشد وعذاباً أعظم مما لو كانت هي نفسها تمات فيما بين أمر عذابات العالم، ميتةً ذات قساوةٍ أشد من كل ما يمكن أختراعه من التعذيبات.* ثالثاً:أن السبب الذي قد صير عذاب أستشهاد والدة الإله أعظم من عذابات الشهداء كلهم بما لا حد له ولا قرار، هو أنها قد تألمت هي كثيراً، ومن دون أدنى تعزيةٍ. فأي نعم أن الشهداء كانوا يشعرون بالعذابات التي كان المضطهدون القساة يذيقونهم إياها، ولكن حبهم ليسوع كان يصير عذبةً حلوةً مراير تلك الأمتحانات. بل كان يجعلها محبوبةً منهم. فالقديس فينجانسوس في أستشهاده تكبد عذاباتٍ وافرةً كلية القساوة، من الزيار والجلد، وسلخ الجلد والتمشيط بالأظفار الحديد، والحريق بالمشاهيب. ولكن يقول عنه القديس أوغوسطينوس: أن آخر كان يتعذب هكذا، وآخر كان يتكلم بفصاحةٍ: لأن هذا الشهيد وهو فيما بين عذاباتٍ هذه صفتها كان يخاطب المغتصب بشجاعةٍ وفصاحةٍ، وبأحتقار عظيمٍ لتلك التعاذيب، حتى أنه أستبان أن فنجانسوس واحداً كان يعذب. وفينجانسوس آخر كان يتكلم، ومن هنا يظهر واضحاً كم كان الله بعواطف حبه العذبة، يشجع هذا الشهيد ويقويه على أحتمال تلك النكال المرة. وهكذا القديس بونيفاسيوس الشهيد كان يقاسي شدائد الأمتحانات، بتمزيق لحمان جسده بالمخالب الحديد، وبأدخال القضيب الرفيع تحت أظافره، وبصب الرصاص المذاب في فمه. أما الشهيد ففيما بين هذه العذابات لم يكن يشبع من تكرار الشكر لله هاتفاً: أشكرك شكراً دائماً أيها الرب يسوع المسيح. وكذلك القديسان مرقص ومركلوس اذ كانا يتكبدان عذابات الأستشهاد، مسمرين بأرجلهما على قائمةٍ من خشبٍ، والمغتصب كان يقول لهما: أيها الشقيان تأملا حالكما هذه التعيسة. وخلصا ذاتيكما من هذا العذاب بالطاعة. فهما أجاباه قائلين: عن أية عذابات أنت تتكلم، فهذه هي أشياء مضحكةٌ، لأننا نحن ما شعرنا قط بلذةٍ ولا تنعمنا أصلاً على مائدةٍ، بمقدار ما نلذ ونتنعم الآن في هذه الوليمة، التي فيها نحتمل الأوجاع بالتذاذٍ عظيمٍ حباً بيسوع المسيح. ومثلهما القديس المجيد في الشهداء رئيس الشمامسة لافرنتيوس حينما كان يشوى على المصبع الحديد فوق جمرات النار: قد وجد حينئذٍ (يقول القديس البابا لاون في خطبته على عيد هذا القديس) أعظم قوةً لهيب الحب الباطن في قلبه لله ليعزي نفسه، وأشد حرارةً من لهيب النار المادية الخارجة التي كانت تحرق جسده. وقد فاز بالقوة والشجاعة في تلك الحال بنوع أنه أتصل الى أن يستهزئ بالمغتصب قائلاً له: هوذا لحماني قد أشويت حسناً وأنتهي شيها من الجانب الواحد، فأن كنت تريد أن تأكل منها فأقلبها على الجانب الآخر وكل. ولكن كيف أمكن لهذا الشهيد في أحتماله تلك الميتة المستطيلة بعذابٍ هذه صفة شدته أن يتهلل مبتهجاً، فيجيب القديس أوغوسطينوس قائلاً: أن هذا المعظم في الشهداء قد سكر بخمرة الحب الإلهي، حتى أنه لم يعد يشعر لا بالعذابات ولا بالموت:* فاذاً أن الشهداء بمقدار أشتداد حبهم ليسوع، فبمقدار ذلك كانت تحلو لديهم العذابات من أجله. حتى كأنهم لم يعودوا يشعروا بها. وكان الموت يصير لديهم عذباً حلواً. وكان مجرد تصورهم مرائر آلام إلهٍ متجسدٍ على الصليب يخفف عنهم مرائر تعاذيبهم معزياً إياهم. ولكن أهل أن حب سيدتنا مريم البتول ليسوع، قد كان على هذه الصورة يعزيها ويخفف عنها مرائر الأوجاع، لا لعمري، بل أن أبنها الحبيب يسوع الذي كان هو يتألم، فهو نفسه كان علة أحزانها وآلامها، وأن الحب الشديد الذي كان قلبها به مغرماً نحوه تعالى، فهو عينه كان الجلاد الوحيد الكلي قساوة المعذب إياها. لأن كل أستشهاد هذه الأم الإلهية كان قائماً في مشاهدتها عذابات أبنها المحبوب منها بهذا المقدار، والبريء من كل خيال ذنبٍ. بل البراءة بالذات، الذي كان يتألم آلاماً فائقة الوصف. وبالتالي أنها بمقدار أزدياد حبها إياه حباً هكذا عظيماً، فبمقدار ذلك كانت شدة أوجاعها وأحزانها تتعاظم من دون أدنى تعزيةٍ: فأنكساركِ هو عظيمٌ كالبحر يا بتول أبنة صهيون فمن يعالجكِ. أواه يا سلطانة السموات والأرض، أن المحبة قد صيرت الشهداء الآخرين أن ينسوا عذابتهم، لخفتها عنهم من قبل الحب الذي كان يشفي جرحاتهم، وأما أنتِ فمن يعالجكِ ويجلي لديكِ بحر المرائر والحزن العظيم. ومن يشفي جراحاتكِ المتخنة الكلية الأوجاع، المجروح بها قلبكِ. لأن ذاك الأبن الحبيب عينه الذي كان يمكنه أن يفرح غمكِ ويعزيكِ فهو كان بآلامه العلة الوحيدة لأوجاعكِ. والحب الذي أنتِ ملتهبةٌ به نحوه فهو نفسه الذي كان يصور مجموع أستشهادكِ. ولهذا يقول العلامة دياز: أنه قد جرت العادة في أن المصورين عندما يصورون أيقونات الشهداء ففي كلٍ منها يرسمون مع الشهيد صورة تلك الآلة التي بها كمل أستشهاده، مثلاً السيف مع القديس بولس، الصليب مع القديس أندراوس، المصبع الحديد مع القديس لافرنتيوس وهلم جراً. فأما العذراء مريم فيصورن آلة أستشهادها المسيح عينه ميتاً متكئاً على ركبتيها، لأن حبها الشديد إياه كان لها آلة الأستشهاد. أما القديس برنردوس فبألفاظٍ وجيزةٍ يثبت جميع ما قلته لحد الآن، اذ أنه كتب هكذا قائلاً: أنه في الأستشهادات الأخرى عظم الحب الشديد يخفف مرائر العذابات، أما البتول الطوباوية فبمقدار ما كان حبها له تعالى أشد ألتهاباً. فبأكثر من ذلك كانت أوجاعها أعظم قساوةً ومرارةً، وهو الذي صير أستشهادها أوفر تألماً وأمر توجعاً.* فأمرٌ حقيقي هو أنه بقياس المحبة التي توجد في قلب إنسانٍ ما نحو موضوعٍ ما، يقاس حزنه وغمه على فقد ذاك الموضوع، وهكذا يوجد قياس شدة توجعه على خسرانه إياه، مقدار شدة غرامه في حبه الزائد نحوه. ومن ثم أن فقد الإنسان أخاه الطبيعي بالموت يحزن قلبه أشد حزناً، مما يحدث له من الغم على فقده أحد الحيوانات، كالفرس وغيرها. وكذلك يتوجع الأب على موت أبنه أعظم توجعاً مما على موت أحد أصدقائه. ولهذا يقول كورنيليوس الحجري: أنه لكي يفهم كم كان مقدار توجع مريم البتول على موت أبنها يسوع، يلزم أن يفهم مقدار الحب التي هي كانت تحبه به تعالى. ولكن من يمكنه أن يعرف قياس هذا الحب الذي هي كانت مغرمةً به نحو أبنها (يقول الطوباوي أماداوس) حيث أن حبها إياه بالنوع الواحد وبالنوع الآخر قد أجمعا معاً في قلبها كشيءٍ واحدٍ، أي الحب الفائق الطبيعة الذي به كانت هي تحبه عز وجل بحسبما هو إلهها، ثم الحب الطبيعي الذي به كان قلبها متعلقاً بمحبته بحسب كونه أبنها". فاذاً هذان النوعان من الحب قد أجتمعا واحداً في قلبها. ولكن بهذا المقدار وجد هذا الحب المضعف عظيماً فائق الحد والقياس، حتى أن غوليالموس الباريسي يقول:" أن الطوباوية مريم العذراء قد أحبت أبنها وإلهها يسوع بمقدار ما أمكن للنوع الإنساني أن يكون قابلاً لأن يحب، أي أن خليقةً محضةً لم تقدر أن تكون موضوعاً قابلاً لأن تحب أكثر من ذلك". ولهذا كتب ريكاردوس الذي من سان لورانسوس: أنه كما ان حب مريم ليسوع ما وجد قط ولن يوجد أبداً أعظم منه، فلا وجد ولن يوجد أصلاً وجعٌ أعظم من وجعها من قبل آلامه وموته، ومن حيث أن حبها إياه تعالى كان عديم الحد ولا قرار له، فعديم الحد ولا قرار له كان وجعها بفقدها إياه بالموت. وقال الطوباوي ألبارتوس الكبير: أنه حيثما يكون الحب أشد. فهناك يوجد التوجع أعظم.* ولهذا فلنتصور أن مريم اذ كانت واقفةً تحت صليب يسوع على جبل الجلجلة، فبكل عدلٍ وصوابٍ كان يمكنها أن تخصص ذاتها بكلمات أرميا النبي وهي: يا عابري الطريق أنظروا وتأملوا هل رأيتم وجعاً مثل وجعي: (مراثي ص1ع12) أي يا معشر المجتازين على الأرض أيام حياتكم ولا تفتكرون بي ولا تتوجعون من أجلي. قفوا قليلاً متأملين فيَّ أنا التي الآن أشاهد أمام عيني مدنفاً على الموت، في بحرٍ من الآلام هذا الأبن الحبيب، وأنظروا هل يوجد فيما بين جميع الحزانى والمتألمين أحدٌ أوجاعه تشابه أوجاعي. فهنا يرد الجواب القديس بوناونتورا قائلاً: كلا، أيتها الأم المملؤة أحزاناً أنه لا يمكن أن يوجد من الأرض وجعٌ مرٌ قاسٍ مثل وجعكِ، لأنه لا يمكن وجود أبنٍ عزيزٍ حبيبٍ على الأطلاق نظير أبنكِ. ويضيف الى ذلك القديس لورانسوس يوستينياني بقوله: أنه حقاً لم يكن وجد قط في العالم أبنٌ موضوعٌ للحب الشديد نظير يسوع، ولا أمٌ مغرمةٌ بالحب الكلي نحو أبنها مثل مريم. فأن كان اذاً ما صودف على الأرض حبٌ هكذا عظيمٌ يشابه حب هذه الأم الإلهية لأبنها، فكيف يستطاع أن يصادف وجعٌ شديد القساوة يماثل وجعها ويشابهه.* ومن ثم القديس أيدالفونسوس لم يرتب في أن يقول: أنه لقليلٌ هو أن يورد عن مريم البتول أن آلامها قد فاقت على عذابات الشهداء كلهم، حتى ولو أفترضت أوجاعهم متحدةً معاً بجملتها. ويضيف الى ذلك القديس أنسلموس بقوله: أن التعاذيب الأشد مرارةً ووجعاً التي بها عذب الشهداء القديسون بأعظم قساوةٍ، قد وجدت خفيفةً وكلا شيء بالنسبة الى أستشهاد البتول المجيدة. وكتب القديس باسيليوس الكبير قائلاً: أنه كما أن الشمس تفوق بأنوارها على سائر الكواكب والنجوم، فهكذا مريم العذراء قد فاقت بآلامها على مرارة أوجاع الشهداء الآخرين أجمعين. من العلماء العباد (وهو الأب بينامونته) يبرهن بعبارةٍ جليلةٍ عما أشرنا إليه قائلاً: أن أوجاع مريم البتول قد كانت بهذا المقدار شديدةً وعظيمةً، حتى أن هذه الأم الحنونة وحدها وجدت حين آلام أبنها بهذه الأوجاع كافيةً ومقتدرةً على أن تتوجع بألمٍ كافٍ على موت إلهٍ متأنسٍ.* ولكن ههنا يلتفت القديس بوناونتورا نحو هذه السيدة المجيدة قائلاً كمستفهم هكذا: أخبريني يا سيدتي لماذا أنتِ أردتِ أن تذهبي الى جبل الجلجلة، لتقدمي أنتِ أيضاً ذاتكِ ذبيحةً. أهل أنه ربما لم يكن كافياً لأفتدائنا أن إلهاً يموت من أجلنا على الصليب بالجسد، ولذلك رغبتِ أن تصلبي معه أنتِ أيضاً والدته: الجواب، أنه لأمرٌ كلي الوضوح هو أن موت يسوع المسيح وجد كافياً ليس لخلاص هذا العالم كله فقط، بل لخلاص عوالم غير متناهٍ عددها أيضاً، الا أن هذه الأم الصالحة قد أرادت لأجل الحب الشديد الذي تحبنا به، أن تفيد أمر خلاصنا هي أيضاً بواسطة أستحقاقات الأوجاع التي تكبدتها هي وقدمتها لله على جبل الجلجلة. ولذلك يقول الطوباوي ألبارتوس الكبير: أنه كما أننا ممنونون وملتزمون بالمعروف نحو يسوع المسيح، لأجل آلامه التي تكبدها حباً بنا. فهكذا نحن ممنونون وملتزمون بمعرفة الجميل نحو مريم العذراء لأجل الأستشهاد الذي هي أرادت بموت أبنها أن تحتمله من تلقاء مشيئتها لأجل خلاصنا.* وأنما قلت من تلقاء ذاتها: لأن أمنا هذه الكلية الأشفاق نحونا (كما أوحى ملاك الرب للقديسة بريجيتا) "قد أرتضت بأن تحتمل بالأحرى العذابات كلها، من أن تشاهد الأنفس غير مفتداة باقيةً مهملةً في حال الخسران القديم". فهذا الموضوع يمكن أن يقال عنه أنه كان هو التعزية الوحيدة التي هي شعرت بها في حين غرقها في بحر تلك الآلام العظيمة الشديدة المرائر، المسببة لها من آلام أبنها، أي ملاحظتها أنه بواسطة آلامه المقدسة قد أفتدى العالم الهالك، وفاز البشريون بالصلح مع الله بعد أن كانوا أعداءً له تعالى: (حسبما يقول سمعان الكاسياني).* فحبٌ هكذا عظيمٌ من والدة الإله نحونا يستحق منا معرفة الجميل نحوها، وقلما يكون ينبغي لنا أن نكافئ جميلها بتأملنا في أوجاعها وآلامها. وبتوجعنا من أجلها، لأن هذه السيدة قد تشكت للقديسة بريجيتا من أن قليلين جداً هم أولئك الذين يفتكرون بأوجاعها، والأكثرين يعيشون متناسين هذا الموضوع. ولذلك أوصت هي هذه القديسة بأن تتذكر أحزانها. فلكي يفهم كم هو أمرٌ مقبولٌ لدى هذه الأم الإلهية التفكر مراتٍ كثيرةً في آلامها وأوجاعها. يكفي أن يعرف هذا الحادث فقط، وهو أنها أي والدة الإله قد ظهرت سنة 1239 للسبعة الأشخاص المتعبدين لها، الذين هم مؤسسوا الجمعية الملقبة: برهبنة عبيد مريم: وكان ظهورها لهم بثوبٍ أسود، وأوضحت لهم أنه أن كانوا يريدون أن يكتسبوا رضاها ومسرتها، فيلزمهم أن يتأملوا متواتراً في أحزانها وأوجاعها. وأعلنت لهم أرادتها في أنهم تذكرةً لآلامها يتردون من ذلك الوقت فصاعداً بالثوب الأسود الذي شاهدوها متشحةً به (كما هو مدون في الرأس 14من الكتاب1 من تاريخ الرهبنة المذكورة) ثم أن مخلصنا يسوع المسيح نفسه قد أوحى للقديسة فارونيكا البيناسكية قائلاً لها هكذا: أعلمي يا أبنتي أنه مقبولٌ لدي جداً ذرف الدموع من عبيدي حين تأملهم بآلامي، ولكنني لأجل حبي والدتي حباً لا حد له. فأكثر قبولاً لدي هو التأمل في أحزانها وأوجاعها التي هي أحتملتها حين موتي، من التذكر بآلامي أنا عينها: (كما يوجد مدوناً في مجموع البولانديستي تحت اليوم الثالث عشر من كانون الثاني).* ومن ثم عظيمةٌ هي النعم والمواهب الموعود بها من فادينا يسوع، لأولئك الذين يتأملون متواتراً في أوجاع والدته، محسنين العبادة نحو هذا الموضوع. فقد كتب العلامة بالبارتوس بأنه أوحى الى القديسة أليصابات الراهبة، بأن القديس يوحنا الأنجيلي بعد أن كانت الطوباوية مريم البتول صعدت الى السماء قد كانت أشواقه متقدةً لأن يشاهدها مرةً ما، فهذه النعمة قد أعطيت له، وهكذا قد ظهرت له هذه الأم المحبوبة منه حباً عظيماً، وقد ظهر صحبتها يسوع المسيح أيضاً. وقد فهم هذا القديس أن المجيدة مريم البتول كانت تطلب من أبنها نعماً ما خصوصيةً للمتعبدين لآلامها وأوجاعها، وأنه تعالى قد وعدها بأن يهبهم أربع نعم خاصةً متقدمةً. فالأولى: هي أن من يستغيث بهذه الأم الإلهية بأستحقاقات أوجاعها. فقبل موته يكتسب نعمة أن يصنع التوبة الحقيقية على جميع خطاياه. والثانية: هي أنه عز وجل يحفظ هؤلاء العابدين في حين شدائدهم وتجاربهم التي تلم بهم، لا سيما في ساعة الموت. والثالثة: هي أنه يرسم في قلوبهم مطبوعةً تذكرة آلامه وتعد لهم المكافأة الغنية في السماء. والرابعة: هي أنه تعالى يضع هؤلاء العباد في يد مريم عينها لكي تتصرف هي بهم حسبما تشاء وتريد. وأن تستمد لهم كل النعم التي ترغبها لهم، وأثباتاً لذلك فلنلاحظ في النموذج الآتي ذكره كم تفيد للخلاص الأبدي العبادة نحو البتول المتألمة.* * نموذج * أنه يوجد مدوناً في الرأس 97 من الكتاب 6من سيرة حياة القديسة بريجيتا، أنه كان رجلٌ ما الذي بمقدار ما وجد أصله شريفاً ومولده ذا نسبٍ منيفٍ، فبمقدار ذلك كان هو شريراً رديء السيرة، حتى أنه أتصل الى أن يسلم ذاته بأشتراطٍ واضحٍ أسيراً للشيطان. وقد خدمه في هذه العبودية مدة ستين سنة بأتصالٍ. عائشاً بسيرةٍ يمكن لكل واحدٍ بسهولةٍ أن يتصور كم كانت رداوتها، بعيداً على الدوام عن أقتبال الأسرار المقدسة. فهذا الأمير قد دنا أخيراً من الموت، ولكن لكي يستعمل معه الله رحمته الغير المتناهية قد أمر تعالى القديسة بريجيتا بأن تقول لمعلم أعترافها، أن يمضي فيزور هذا الأمير في بيته، وأن يحرضه ناصحاً على الأعتراف بخطاياه، فالكاهن المشار إليه ذهب عند الأمير وتمم واجبات رسالته. الا أن الأمير أجابه بأنه لم يكن هو محتاجاً الى أعترافٍ، لأنه كان يعترف متواتراً. فذهب إليه معلم الأعتراف مرةً ثانيةً، ولكن من دون فائدةٍ، لأن ذاك التعيس أسير الجحيم أستمر مصراً على عدم أرادته أن يعترف. فمخلصنا أوحى للقديسة بريجيتا جديداً آمراً بأن يمضي الكاهن إليه مرةً أخرى. فذهب عنده خادم الله المرة الثالثة وأخبره بما أوحى به تعالى للبارة بريجيتا، وبأنه لأجل هذه الغاية هو حضر إليه ثلاثة مراتٍ، لأن الرب هكذا كان أمره مريداً أن يستعمل معه رحمته الإلهية. فلما سمع المريض هذا القول قد تخشع وبدأ يبكي، ولكنه صرخ هاتقاً: كيف يمكن أن تغفر لي خطاياي بعد أني خدمت الشيطان مدة ستين سنة أسيراً له، وحملت نفسي أوساقاً عظيمةً من الخطايا والآثام القبيحة. فأجابه الأب المرشد مشجعاً إياه بقوله: لا ترتاب يا أبني، فأن كنت أنت تندم على هذه الخطايا كلها تائباً، فأنا من قبل الله أعدك بغفرانها. فحينئذٍ أبتدأ المريض أن يثق بالله وقال للكاهن: يا أبتي أنا كنت أعتد ذاتي هالكاً بالكلية ومن ثم قطعت رجائي من الخلاص، ولكني الآن أنا أشعر بالندامة على خطاياي، وهذا يشجعني على أن أرجو غفرانها من الله، فممن حيث أنه عز وجل لم يهملني بعد، فأنا أريد أن أعترف بمآثمي. وبالحقيقة أنه في ذلك اليوم أعترف أربع مراتٍ بخشوعٍ وتوجعٍ حقيقيٍ على خطاياه. وبعد هذا تناول القربان الأقدس. وفي اليوم السادس مات بعلامات الندامة الصادقة وحسن التسليم للأرادة الإلهية ميتةً صالحةً. فبعد موته قد أوحى مخلصنا للقديسة بريجيتا مخبراً إياها بأن ذاك الخاطئ فاز بالخلاص الأبدي. ولكنه بعد لم يزل في المطهر، وأن خلاصه قد تم بواسطة شفاعة والدته المجيدة مريم البتول. لأجل أن ذاك الأمير ولئن كان عائشاً بسيرةٍ هذا عظم شرها، فمع ذلك قد حفظ عبادته نحو أوجاع هذه السيدو. وكان يتذكرها بتوجعٍ ويتأملها بغمٍ وحزنٍ.* † صلاة † يا سلطانة الشهداء أمي المحزونة بل سلطانة الأوجاع، فأنتِ قد بكيتِ بهذا المقدار على أبنكِ الذي مات لأجل خلاصي، ولكن ماذا تفيدني دموعكِ أن كنت أنا أمضي هالكاً. فبأستحقاقات أحزانكِ وأوجاعكِ اذاً أستمدي لي توجعاً حقيقياً على خطاياي، وأصلاحاً كاملاً لسيرتي. مع أنعطافٍ دائمٍ وتوجعٍ متصلٍ، بتذكري آلام أبنكِ يسوع المسيح وأحزانكِ. ومن حيث أن أبنكِ الذي هو البراءة بالذات، وأنتِ البريئة من كل زلةٍ قد احتملتما آلاماً هكذا عظيمةً من أجلي، فأمنحاني أنا المذنب المستحق جهنم أن أتألم أنا أيضاً محتملاً شيئاً ما أجلكما وحباً بكما: فيا أيتها السيدة (أني أقول نحوكِ ما قاله القديس بوناونتورا) أن كنت أنا أغظتكِ فأجرحي بالعدل قلبي. وأن كنت أنا خدمتكِ فأطلب الآن المكافأة بأن تطعنيه، لأنه شيءٌ مرذولٌ مكروهٌ هو أن يشاهد يسوع مجروحاً وأنتِ مجروحةً معه، وأنا أبقى سالماً من الجراحات. واخيراً أتوسل إليكِ يا أمي بحق الحزن والآلام التي تكبدتيها عند مشاهدتكِ أبنكِ فيما بين عذاباتٍ هكذا قاسية، محنياً رأسه ومائتاً على الصليب، أن تستمدي لي ميتةً صالحةً. فلا تهملين حينئذٍ يا شفيعة الخطأة نفسي المحزونة والمتضايقة في وقت ذاك الرحيل من الدنيا، خاليةً من معونتكِ في حين أنطلاقها نحو الأبدية. ومن حيث أنه يمكن أن يحدث لي وقتئذٍ أن أفقد الصوت والتكلم، ولا أعود أستطيع أن أستغيث بفمي بأسم أبنكِ الحبيب وبأسمكِ، مع أنه هو تعالى وأنتِ أيضاً كلاكما رجائي الوحيد. فلهذا منذ الساعة الحاضرة أنا أستغيث بأسمه عز وجل وبأسمكِ. بأن تعيناني في تلك الساعة الضيقة، وهكذا أقول: يا يسوع ويا مريم *أنني أستودعكما نفسي مسلماً.* † تنبيه (1) أننا اذ كنا في الفصل الأول المنتهي تكلمنا عن أوجاع مريم البتول وأحزانها بوجه العموم، فالآن لزم أن نتكلم عن كلٍ من أحزانها *السبعة بوجه الخصوص، في الفصول السبعة الآتية.* تنبيه (2) أن الذي تكون فيه عبادةٌ مرغوبةٌ منه في أن يتلو المسبحة المختصة بأحزان والدة الإله، فيراها مدونةً في الجزء الأول من الباب السابع من كتاب الرياضة اليومية الذي طبعناه في مطبعة مجمع أنتشار الإيمان المقدس عينها. وهي تأليف الطوباوي المصنف هذا الكتاب نفسه. إفـرحي أيتهـا السماوات والسـاكـنـون فـيهـا ويـلٌ لساكني الأرض والبحر لأن إبلـيس نزل إليكما وبـه غضب عظيم، لأنـه عـالم أنه زمناً قليلاً بقي له. (رؤيا 12/12) † الفصل الثاني * في موضوع حزن مريم العذراء الأول: الصادر عن نبؤة القديس* * سمعان الشيخ. التي سبق هو وأخبرها بها* أن كلاً من البشر يولد لكي يبكي في وادي الدموع هذا، وكلاً منهم يعيش ملتزماً بأن يحتمل الشدائد والأحزان التي تداهمه على نوعٍ ما كل يومٍ. ولكن ترى كم لكانت حياة الإنسان أشد مرارةً وأوفر حزناً، لو أمكنه أن يعرف حقيقة تلك الشرور والشدائد المقبلة العتيدة أن تلم به. فيقول سينكا الفيلسوف (في رسالته 98): أنه لتعيسٌ في الغاية هو ذاك الإنسان الذي يقدر أن يعلم بتأكيدٍ الشرور المزمعة أن تحيق به في أيام حياته الآتية: وحقاً أن الرب يصنع معنا رحمةً عظيمةً في أنه لا يظهر لنا ما هي الصلبان العتيدون نحن أن نحملها، حتى اذا كان يلزمنا أن نتألم بها، فلا يدركنا التوجع الا مرةً واحدةً حين حلول الشدة فقط. غير أن الله لم يستعمل هذه الملاحظة الرأوفة مع مريم البتول التي (لأنه عز وجل كان يريد أن يجعلها سلطانة الأوجاع، وأن تكون شبيهةً بأبنها في كل الأشياء) قد حصلت على معرفة الآلام التي كانت عتيدةً هي أن تتألم بها. وهكذا وجدت على الدوام مشاهدةً إياها أمام عينيها، ومتألمةً من دون أنقطاعٍ بملاحظتها العذابات كلها. التي كان مزمعاً أبنها الحبيب يسوع أن يحتملها ويموت بها على خشبة الصليب. على أن القديس سمعان الشيخ حينما أقتبل من هذه الأم الإلهية على ساعديه طفلها يسوع، سبق وأخبرها بالأضطهادات والمضادات العتيدة أن تلم به بقوله لها: ها هوذا هذا موضوعٌ لسقوط وقيام كثيرين في أسرائيل ولعلامة تخالفٍ. وأنه من هذا القبيل عتيدٌ أن يطعن قلبها بسيف الأحزان قائلاً: وأنتِ سيحوز سيفٌ في نفسكِ، لتظهر أفكارٌ من قلوب كثيرين: (لوقا ص2ع34).* فالبتول والدة الإله عينها أوحت للقديسة ماتيلده قائلةً لها:" أنها حالما سمعت من البار سمعان هذا التنبيه، قد أنقلبت فيها المسرات كلها الى الحزن والتوجع. لأنه، كما أوحى للقديسة تريزيا أيضاً: ولئن كانت هذه الأم الإلهية عارفةً حسناً من ذي قبل بالقربان الذي كان يلزمها أن تقدم به أبنها ذبيحةً لله أبيه. من أجل خلاص العالم. فمع ذلك قد عرفت من كلمات البار سمعان بأكثر إيضاحٍ. وبوجه الخصوص كيفية الآلام الشديدة، والميتة الكلية القساوة التي كانت تنتظر أبنها الحبيب. وفهمت جيداً كيف أن المقاومات والأضطهادات من كل ناحيةٍ كانت عتيدةً أن تقوم ضده، كما قد تم. لأنه تعالى قد أهين نظراً الى تعاليمه كأنه مجدفٌ، لأجل قوله عن نفسه أنه ابن الله، كما صرخ قيافا المنافق قائلاً: أنه قد جدف ما حاجتنا الى شهودٍ: وهكذا حكموا بأنه مستوجب الموت (متى ص26ع65) وقد أفترى على كرامته وأعتباره، لأنه قد كان شريف المولد من أصلٍ ملوكي. فأحتقر كفلاحٍ وقيل عنه: أليس هذا هو أبن النجار: (متى ص13ع55) وقد عومل كجاهل العلوم مع أنه هو الحكمة بالذات. وقيل عنه: كيف يحسن هذا الكتب ولم يتعلم: (يوحنا ص7ع15) وأهين كنبي كذاب، لأنهم غطوا وجهه ولطموه قائلين: تنبأ لنا من هو الذي لطمك: (لوقا ص22ع64) وقد عومل كمجنون اذ قالوا عنه: أن به شيطاناً وقد جن فما أستماعكم له: (يوحنا ص10ع20) وقد أحتسب كسكري وحنجراني وخليل الأشرار كما كتب: جاء أبن البشر يأكل ويشرب فقلتم هذا إنسانٌ أكولٌ شروب الخمر محب العشارين والخطأة: (لوقا ص7ع34) وقد قرف كسامري أراتيكي وكساحر بقولهم: أنه باركون الشياطين يخرج الشياطين: (متى ص9ع34) وكمعترى من الشيطان بقولهم له: ألسنا نقول حسناً أنك سامريٌ وبك شيطانٌ: (يوحنا ص8ع48) وبالأجمال قد عومل كرجلٍ شريرٍ مفضوح الصيت حتى أنه لم يكن لازماً للحكم عليه بالموت أن يقام عليه فحصٌ. كما قال اليهود لبيلاطس: أنه لولا يكون هذا فاعل رديء لما كنا أسلمناه إليك: (يوحنا ص18ع30) وقد قهرت نفسه من قبيل أنه توسل الى أبيه الأزلي بقوله: يا أبتاه أن كان يستطاع فلتعبر عني هذه الكأس الا أشربها: (متى ص26ع39) ولم يقبل الآب توسله هذا، لأنه أراد أن عدله الإلهي يستوفي ما يخصه، بل أهمله لمفاعيل الحزن والأكتئاب، ولتأثيرات الخوف والقلق. حتى أنه من شدة آلامه الباطنة وحزنه القلبي العظيم وجزعه قال: أن نفسي هي حزينةٌ حتى الموت: (متى ص26ع38) وبلغ به حده هذا التألم الباطن حتى أتصل الى أن عرق دماً. وأخيراً قد أضطهد وعذب في جسده كله عضواً فعضواً من جميع أعضاء جسمه المقدسة، لا سيما في رأسه ووجهه ويديه ورجليه. حتى أنه مات من شدة العذابات موت الخزي والعار على خشبة الصليب.* فداود الملك وهو فيما بين تنعمات المجد الملوكي كلها، والعظمات والكرامات التي بلغ إليها قد أستوعب حزناً وقلقاً. ولم يعد يجد راحةً ولا سلاماً ولا تعزيةً، عندما أخبره النبي ناتان بأن أبنه كان عتيداً أن يموت بقوله له: فالأبن الذي ولد لك موتاً يموت: (ملوك ثاني ص12ع14) ومن ثم أخذ يبكي ويصوم وينام على الأرض لربما أن الله يعفي له عن هذا الأبن. أما مريم البتول فبكل هدوءٍ وسلامٍ أقتبلت خبرية الميتة التي أبنها الحبيب كان مزمعاً أن يتكبدها، وبذاك الروح السلامي الهادئ عاشت محتملةً مرائر هذه الحكومة. ولكن أية آلامٍ باطنيةٍ شديدةٍ قد تعذبت بها جوارح قلبها على الدوام من هذا القبيل. عندما كانت تنظر بعينيها ذاك الأبن المحبوب في الغاية، وتسمع بأذنيها كلمات الحيوة التي كانت تخرج من فمه، وتلاحظ صفاته الجليلة وفضائله السامية وتصرفاته المملؤة قداسةً. فأب الآباء أبراهيم قد تكبد مرارة الحزن في مدة تلك الثلاثة الأيام. التي بها بعد أن أمر من الله بأن يذبح أبنه أسحاق قرباناً له تعالى كان سائراً به الى الجبل المكان المعين لهذه الذبيحة. ولكن أواه أن مريم قد تكبدت مرائر الحزن على أبنها لا مدة ثلاثة أيامٍ نظير أبراهيم، بل مدة ثلاثة وثلاثين سنةً. الا أني ماذا أقول نظير ابراهيم. والحال أن أوجاعها وآلامها قد كانت أعظم من حزنه بمقدار ما أن أبنها الإلهي هو موضوع الحب أكثر من أبن أبراهيم. فهذه الأم الإلهية عينها قد أوحت الى القديسة بريجيتا قائلةً: أنني حينما كنت عائشةً على الأرض، ما كنت أستمر مدة ساعةٍ واحدةٍ، بها لم يكن هذا الحزن والأوجاع الشديدة تطعن قلبي. لأني حينما كنت أنظر أبني، أم أحله من اللفائف وأرجع فأقمطه، أم أشاهد يديه ورجليه، فحينئذٍ كانت تمتلئ نفسي أوجاعاً كأنها جديدة، وتكرر في جوارحي رشق سهام الآلام. لأني كنت أتصور في عقلي بأي نوعٍ هو كان يلزمه أن يصلب: أما الأنبا روبارتوس، فاذ كان يتأمل في والدة الإله حاملةً على ذراعيها أبنها الحبيب مرضعةً إياه. فكان يقول عن لسانها كلمات نشيد الأنشاد وهي: اذ الملك في مضجعه النردين الذي لي أفاح نسيم طيبه. رباط مر حبيبي هو لي يستوطن فيما بين ثديي: (ص1ع12) ثم يجعلها أن تخاطب أبنها هكذا: آواه يا ولدي أنني أضمك الى صدري فيما بين ذراعي، لأنك محبوبٌ مني في الغاية القصوى. ولكن بمقدار ما أنت ولدي عزيزٌ على هذه الصورة، فبأكثر من ذلك أنت تضحى لدي كرباطٍ مرٍ، أي كحزمة المرائر والأوجاع كلها، عند تفكري في آلامك العتيدة: ويقول القديس برنردينوس: أن مريم البتول كانت عند مشاهدتها طفلها الإلهي تتأمل في أن قوة القديسين وبرجهم الحصين كان يلزمه أن يحصل منازعاً مدنفاً على الموت. وأن جمال الفردوس السماوي ونعيمه كان عتيداً أن ينظر لا جمال له ولا صورة، بل تشاهد صورته مهانةً. وأن سيد العالم ورب الكائنات كان مزمعاً أن يربط مقيداً كمجرمٍ. وأن خالق البرايا بأسرها كان عتيداً أن يلطم ويجلد. وأن قاضي القضاة وديان العالمين كان مزمعاً أن يحاكم ويقضى عليه بالموت. وأن مجد السماوات وزينتها كان عتيداً أن يحتقر ويهان. وأن سلطان السلاطين وملك الملوك كان مزمعاً أن يكلل بأكليلٍ من شوكٍ. وأن يعامل بالأستهزاء كأنه ملكً للسخرية.* ثم أن الأب أنجالغرافه يبرهن في أنه قد أوحى الى القديسة بريجيتا عينها، بأن العذراء المجيدة المملؤة حزناً اذ كانت تعلم جيداً كم كان عتيداً أبنها يسوع أن يحتمل في آلامه. فكل مرةٍ كانت هي تلبسه قميصه، كانت تفتكر بأنه يوماً ما كان مزمعاً أن ينزع عنه هذا القميص ليسمر هو على الصليب عارياً. وعند مشاهدتها يديه ورجليه المقدسة كانت تتصور في عقلها المسامير المعدة لثقب تلك اليدين والرجلين. ومن ثم قالت هذه الأم الإلهية للقديسة المذكورة: أنني في الأوقات المشار إليها كنت أذرف الدموع من عيني بغزارةٍ. وكان قلبي يستوعب من الأوجاع والأحزان الشديدة.* فالأنجيل المقدس يقول عن مخلصنا: أن يسوع كان ينمو في الحكمة والقامة والنعمة عند الله والناس: (لوقا ص3ع53) أي أن هذا الفتى الإلهي كان ينمو في الحكمة والنعمة عند الناس نظراً الى رأيهم به وظنهم فيه. وأما عند الله (حيث أنه كما يفسر ذلك القديس توما اللاهوتي بقوله) أن أعماله كلها لكانت وجدت ذات أستحقاقٍ ينمو متزايداً. وذات ثمنٍ تتضاعف قيمته، لولا يكون منذ الأبتداء حصل مستوعباً من ملوء النعمة الكاملة، لعلة أتحاده الأقنومي الذي به تقنم ناسوته بأقنوم لاهوته. فاذاً أن كان يسوع وجد في أعين الناس يسمو أعتباره، وتنمو كرامته، ويتزايد حبه منهم حسب مشاهدتهم إياه. فكم بأعظم من ذلك كان ينمو أعتباره وحبه عند والدته المجيدة. ولكن آواه، أنه بمقدار ما كان يتكاثر حبها نحوه وأعتبارها إياه. قد كان ينمو أضعافاً حزنها وتوجعها. من حيث أنها كانت مزمعةً أن تفقده بميتةٍ مرعبةٍ من أشد العذابات. وبمقدار ما كان يقرب زمن تلك الآلام والموت، فبأكثر من ذلك كان سيف الحزن السابق الأيعاز عنه من سمعان الشيخ. يحوز طاعناً قلب هذه الأم المغرمة بحب أبنها. ويجدد فيها الأوجاع بأوفر مرارةٍ. حسبما أوحى ملاك الرب للقديسة بريجيتا قائلاً: أنه بحسبما كان يدنو زمان آلام يسوع المسيح مقترباً، فبحسبه كان يزداد وجع أمه العذراء مرارةً وأحزانها شدةً.* فأن كان اذاً يسوع الذي هو ملكنا وأمه الكلية القداسة. لم يرفضا أن يتألما حباً بنا مدة حياتهما كلها على الأرض، ويتكبدا توجعاً وتعذيباً هذه صفة مرارتهما. فليس بالصواب نحن نشكوا متمرمرين أن كنا نتكبد شدةً ما وقتيةً. فيوماً ما ظهر في الرؤيا فادينا يسوع المسيح للراهبة مادلينا التي من قانون القديس عبد الأحد، في الوقت الذي فيه هذه البارة كانت منذ زمنٍ مديدٍ متكبدةً آلام الشدة. وقد شجعها عز وجل على أن تستمر هي معه على الصليب محتملةً ذاك التوجع الذي كان يعذبها. فهذه الراهبة عند ذلك تشكت لديه تعالى قائلةً: يا سيدي أنت أحتملت الآلام على الصليب مدة ثلاثة ساعاتٍ فقط، وأما أنا فمنذ عدةٍ من السنين أذوق الوجع متألمةً بهذا الصليب: فحينئذٍ أجابها فادينا قائلاً: مهلاً يا جاهلة ماذا تقولين، فأنا منذ الدقيقة الأولى من الحبل بي قد تكبدت في قلبي بأتصالٍ الآلام، التي ألمت بها في جسدي حين موتي على خشبة الصليب: فاذاً عندما نحن أيضاً نحتمل شدةً ما ويتفق لنا أن نشكوا من جرائها. فلنتصور بعقولنا أن يسوع المسيح ووالدته الكلية القداسة يقولان لنا الكلمات المقدم ذكرها.* * نموذج* أن الأب روفيليونه اليسوعي كتب (في الرأس4من القسم 2من كتابه الملقب بباقة الورد) مخبراً عن أحد الشبان بأنه كان من عادته أن يزور بعبادةٍ يومياً إحدى أيقونات والدة الإله، التي كانت مصورةً تحت صفة أحزانها، مطعونةً في قلبها بسبعة سهامٍ. فليلةً ما هذا الشاب سقط بتعاسةٍ بفعل خطيئةٍ مميتة، ففي الصباح المقبل اذ مضى هو ليزور الأيقونة المشار إليها، فقد شاهد السهام في قلب العذراء المجيدة لا سبعةً فقط بل ثمانيةً، فحينما هو أنذهل من ذلك وكان يتأمل ليعرف السبب، واذا بصوتٍ يقول له، أن خطيئته التي أرتكبها هو في تلك الليلة هي التي سببت السهم الثامن لقلب والدة الإله. فمن ثم قد تخشع الشاب وندم متأسفاً على ذنبه. وحالاً ذهب الى منبر الذمة فأعترف بخطاياه. وهكذا بصلوات شفيعته الرحيمة أكتسب جديداً النعمة المفقودة منه بالأثم.* † صلاة † آواه يا أمي المباركة أنه لا سهمٌ واحدٌ فقط، بل سهامٌ كثيرةٌ بعدد كثرة خطاياي قد أضيفت الى قلبكِ على سبعة سهام أحزانكِ الأصلية. فليس لكِ أيتها السيدة البارة البريئة من كل ذنب. بل لي أنا الأثيم تحق الآلام والعذابات الواجبة لكثرة ذنوبي ومآثمي. ولكن من حيث أنكِ قد أردتِ أختيارياً أن تحتملي هذا المقدار من التألم لأجلي، فأستمدي لي بأستحقاقاتكِ توجعاً شديدا ًعلى خطاياي، وصبراً جميلاً به أحتمل شدائد هذه الحيوة ومصائبها، التي هي دائماً أخف جداً مما كنت أستحق أنا الذي مراتٍ عديدةً قد أستأهلت الهلاك في جهنم الى أبد الآبدية *آمين* † الفصل الثالث * في الموضوع الثاني لحزن مريم البتول. وهو هربها بطفلها * * الإلهي يسوع الى مدينة مصر* فكما أن الغزالة المرشوقة من الصياد بسهمٍ نافدٍ في جسمها. فالى أينما هربت في الجبال والبراري يوجد السهم المجروحة هي به صحبتها. فهكذا الأم الإلهية مريم العذراء بعد النبؤة التي تنبأ بها عيلها سمعان الشيخ، ومن قلبها رشقت بالسهم المحزن الذي هو سيف الآلام في قلبها. حسبما لاحظنا في الفصل السابق. فقد أصبحت معها على الدوام هذا السيف الجارح، بتفكرها أينما مضت بآلام أبنها الحبيب العتيدة. فالعلامة هايلغرينوس في تفسيره كلمات سفر النشيد وهي: أن رأسكِ كجبل الكرمل وشعر رأسكِ كبرفير الملك مربوط في ضفائره: (ص7ع5) يقول: أن شعر رأس مريم البتول هذا المربوط. أنما هو أفكارها وتصوراتها المتصلة بآلام أبنها يسوع التي كانت على الدوام تحضر بأزاء عينيها الدم (المعبر عنه بالبرفير الأحمر اللون) الذي يوماً ما كان عتيداً أن يجري من جراحاته تعالى: فمن ثم أن هذا الأبن الإلهي عينه قد كان لوالدته نظير السهم في قلبها الذي بمقدار ما كان ينمو فيه الحب نحوه. فبأكثر من ذلك كان يخرج بالوجع والحزن على كونها مزمعةً أن تفقده بميتةٍ شديدة العذابات. فلنأتِ الآن الى التأمل بسيف الحزن الثاني الذي جرح قلب هذه السيدة من قبل الأضطهاد الذي حركه ضد أبنها هيرودس الملك. ومن جرائه ألتزمت هي بالهرب به الى مصر.* فهيرودس عندما سمع أن المسيح المنتظر أتيانه الى العالم قد كان ولد، فأستحوذ عليه الخوف بحماقةٍ من أن هذا المسيح كان عتيداً أن يأخذ منه المملكة. فلهذا اذ يوبخ القديس فولجانسيوس حماقة هيرودس يقول نحوه هكذا: أن الملك الذي قد ولد في بيت لحم لم يأتِ ليترأس ويملك بواسطة الأسلحة والمعركات، بل أنه بنوع مذهلٍ عجيبٍ أتى ليخضع الكل له بواسطة موته عنهم. فاذاً هيرودس كان ينتظر رجوع ملوك الفرس المجوس القديسين إليه، ليفهم منهم أين ولد المسيح. وهكذا يمكنه بزعمه أن يبيد حياته، ولكن اذ خاب أمله منهم، أي لما رأى سخرية المجوس به غضب جداً وأمر بقتل كل صبيان بيت لحم وكل تخومها من أبن سنتين فما دون. فلأجل ذلك: ترءى ملاك الرب للقديس يوسف في الحلم قائلاً قم فخذ الصبي وأمه وأهرب الى مصر وكن هناك حتى أقول لك، فأن هيرودس مزمع أن يطلب الصبي ليهلكه: (متى ص2ع13) فحسب رأي العلامة جرسون يورد أن القديس يوسف حالما سمع من الملاك هذه الكلمات، أخبر بها مريم العذراء من دون توقفٍ. وهي قامت معه في تلك الليلة عينها آخذةً طفلها الحبيب على ذراعيها. وهربوا كافةً في الليلة نفسها. كما يبان من كلمات الأنجيل التابعة وهي: فقام يوسف وأخذ الصبي وأمه ليلاً وذهب الى مصر: (متى ص2ع14) فالطوباوي ألبارتوس الكبير يلاحظ كأن مريم حينئذٍ هتفت صارخةً: أواه يا ربي أهل أنه يلتزم اذاً بأن يهرب من البشر ذاك الذي أتى لخلاص البشر: ووقتئذٍ عرفت هذه السيدة أن نبؤة سمعان الشيخ قد أبتدأت أن تتحقق بالعملية نظراً الى أبنها أي قوله: ها هوذا هذا موضوعٌ لعلامة تخالف: لأنها رأت أنه حالما ولد أبنها قد تحرك التخالف والأضطهاد ضده وكان يطلب ليمات. فيقول القديس يوحنا فم الذهب: ترى كم كان أليماً الحزن والتوجع الذي ألم بقلب هذه الأم الإلهية، عندما سمعت التنبيه بألتزامها بالذهاب هي وأبنها الى المنفى القاسي، وذلك حينما قيل لها أهربي من عند أقربائكِ ومعارفكِ الى بلاد الغرباء ومن هيكل أورشليم الى معابد الأصنام والشياطين. فأية شدةٍ ومصيبةٍ أعظم من هذه، وهي أن طفلاً مولوداً منذ زمنٍ وجيز متعلقاً بعنق والدته. يلتزم بالهرب مع أمه نفسها الفقيرة المعوزة من كل شيءٍ.* ثم أن كل أحدٍ يمكنه بسهولةٍ أن يتصور بعقله كم تكبدت مريم العذراء من المشقات في سفرٍ هكذا عسرٍ، فمسافة الطريق من اليهودية الى مصر هي شاسعةٌ بالكفاية. لأن الخبيرين بها عموماً مع الرجل الشهير بيرادا يرتاءون بأن هذه المسافة هي أربعماية ميلاً. ولذلك يبان أن هذه العيلة المقدسة أستمرت نحو ثلاثين يوماً معانيةً هذا السفر. ثم أن الطريق كانت. حسبما يكتب عنها القديس بوناونتورا. وعرةً متعبةً مملؤةً من الصعوبات. غير مستعملة الا من القليلين. مجهولة المسلك ذات أحراشٍ في بعض أجزائها. مهملةً من الناس. وقد كان زمن هذا السفر في فصل الشتاء وبالتالي أشد صعوبةً. ولا بد من أن تكون صادفتهم الأمطار والبرد، وربما الثلج مع الأهوية، وتعكيس الطريق والوحل. ولم يكن وقتئذٍ عمر البتول المجيدة أكثر من خمس عشرة سنةً. فتاة لطيفة الجسم غير معتادة على اسفارٍ ومشقاتٍ وأتعابٍ وأضاماتٍ هذه صفتها. ولم تكن معها أمرأةٌ تخدمها أو تساعدها. كما يقول القديس بطرس الذهبي النطق: بأن هذه السيدة مع القديس يوسف قد صنعا هذا السفر خلواً من خادمٍ أو جاريةٍ بل هما كانا السيد والسيدة. والخادم والخادمة: فيا له من منظرٍ محزنٍ أن تشاهد هذه الفتاة البتول الغضة الجسم، مع طفلها الإلهي المولود منذ زمنٍ وجيزٍ، محمولاً على ذراعيها هاربةً به في القفر. فالقديس بوناونتورا يسأل كمستفهمٍ بقوله:" ماذا كانوا يأكلون في هذه المسافة، وأين كانوا يبيتون ليلاً، ومن هو الذي كان يأويهم". فمن المعلوم أنهما كانا يقتاتان، أما من الخبز اليابس الذي ربما أخذه زوادةً القديس يوسف. وأما من الخبز الذي كانا في الطريق يحصلانه من التسول. وأين كانا يبيتان مع الطفل الحبيب في سفرٍ هذه حاله (لا سيما في مسافة المايتين ميلاً في القفر القريب من مصر الخالي من البيوت ومن المنازل. كما يخبر الأنام المختبرون الحيقية) الا تحت الجو على الرمل، أو في ستر بعض الأشجار البرية مخضعين لأنفعالات الأهوية، وتحت خطر مجيء اللصوص عليهم. أم هجوم الوحوش المفترسة المتكاثرة في أراضي مصر. أواه أن من كان يشاهد هؤلاء الثلاثة الأشخاص الذين هم أعظم ما يوجد في العالم. فترى ماذا كان يعتدهم في تلك الحال سوى ثلاثة أشخاص شحادين تائهين مرذولين.* ثم أنه على رأي بروكاردوس وجانسانيوس، أن والدة الإله مع طفلها وخطيبها قد سكنت بعد وصولها الى بلاد مصر، في أرضٍ تدعى ماطوريا. ولئن كان القديس أنسلموس يبرهن على أنها قطنت في مدينة الشمس أيليوبولى. التي كانت تسمى قبلاً مانفي، والآن تدعى القاهرة. وهنا يلزم أن يصير التأمل في حال الفقر الكلي الذي به عاشت هذه العيلة المقدسة. مدة السبع السنوات التي أستمرت فيها هناك قاطنةً، كما يرتأي القديسان أنطونينوس وتوما اللاهوتي وغيرهما. فقد كانوا في تلك البلدة مجهولين من كل أحدٍ. لا مدخول لهم ولا عندهم مالٌ، خالين من الأقرباء والأنسباء هناك. وبالجهد كانوا يقدرون أن يقيتوا ذواتهم بما كانوا يكتسبونه بأتعاب أيديهم المضنكة بحالٍ فقريةٍ في الغاية. فقد كتب القديس باسيليوس الكبير قائلاً: أنه لأمرٌ واضحٌ هو أن هذه العيلة المقدسة قد كانوا هناك يحصلون قوتهم الضروري بأعراقهم وكدهم وأتعابهم المتصلة: وقد أضاف الى ذلك العلامة لاندولفوس الساسوني قوله (الأمر المعزي للفقراء): أن البتول مريم كانت عائشةً هناك بفقرٍ كلي هذا حده. حتى أنه بعض الأحيان لم تكن توجد عندها كسرةٌ من الخبز. لتعطيها لأبنها يسوع حينما كان يطلبها منها مضطراً من شدة جوعه:* فلما مات هيرودس واذا بملاك الرب تراءى للقديس يوسف في الحلم بمصر قائلاً: قم فخذ الصبي وأمه وأذهب الى أرض أسرائيل. فقد مات طالبوا نفس الصبي: (متى ص2ع19) فالقديس بوناونتورا في تكلمه عن رجوع هذه العيلة من مصر الى اليهودية. كان يتأمل صعوباتٍ أكثر من سفرهم الأول. وأن أحزاناً وأتعاباً وأضاماتٍ أشد قد ألمت بالبتول المجيدة. وهي تكبدتها بمرارةٍ. على أن الطفل يسوع كان له حينئذٍ من العمر نحو سبع سنواتٍ. وفي هذا السن (يقول القديس المذكور) لأجل كبر جسمه لم يعد ساهلاً حمله على الذراع، ولأنه بعد حدث جداً في العمر فلم يكن يمكنه المشي في سفرٍ كذا مستطيل:* فلنتأمل اذاً في أن يسوع ومريم قد وجدا هكذا غربين جايلين في الأرض كهاربين متسولين. يعلمنا بأنه يلزمنا نحن أيضاً أن نعيش في العالم كغرباء وعابرين طريق. من دون أن تكون قلوبنا متعلقةً بمحبة خيرات هذه الأرض، وبما يقدمه لنا العالم لأنه سريعاً يلزمنا أن نترك ههنا كل شيءٍ وننطلق الى الأبدية. كما يقول الرسول الإلهي: أن ليس لنا ههنا مدينةً ثابتةً. لكننا نلتمس العتيدة: (عبرانيين ص13ع14) ويضيف الى ذلك القديس أوغوسطينوس قائلاً: أننا مسافرون غرباء، اليوم نشاهد ههنا وغداً ننتقل الى الأبدية: ثم أن التأمل المار ذكره يعلمنا أيضاً أن نعتنق الصلبان. لأنه لا يمكن أن يعيش أحدٌ في هذا العالم من دون صليبٍ. فلأجل هذه الغاية قد أختطفت بالروح الطوباوية فارونيكا التي من جيناسكو وهي أحدى راهبات قانون القديس أوغوسطينوس. لمرافقة هذه العيلة المقدسة في سفرهم الى مصر. فبعد نهاية هذا السفر قالت الأم الإلهية مريم لهذه البارة:" أرأيتِ يا أبنتي بكم من المشقات والأضامات والأتعاب بلغنا الى هذا البلد. فأعلمي الأن أنه ليس أحدٌ يفوز بنوال نعمةٍ ما من غير أن يتألم". فمن يريد اذاً أن يشعر بشدائد هذه الحياة وبمرائرها أقل أشعاراً، فعليه بأن يأخذ صحبته يسوع ومريم: قم فخذ الصبي وأمه: لأن من يحوي في قلبه هذا الأبن الإهي مع أمه فتعود لديه الآلام كلها خفيفةً بل حلوةً عزيزةً. فلنحببهما اذاً ولنعز الطوباوية مريم بحملنا داخل قلوبنا أبنها هذا الحبيب، الذي لم يزل حتى يومنا هذا مضطهداً من البشر بواسطة خطاياهم المتصلة.* * نموذج * أن البتول الكلية القداسة قد ظهرت يوماً ما للطوباوية كولاتا الراهبة، التي من قانون القديس فرنسيس مقدمةً أمامها صينية كان يوجد عليها الطفل يسوع مهشم الجسم أرباً أرباً. ثم قالت لها: هكذا تعامل الخطأة أبني على الدوام مجددين له الموت ولي الأوجاع، فصلي من أجلهم لكي يرجعوا إليه تعالى بالتوبة. ثم فلتضف الى ذلك الرؤيا الأخرى التي حصلت عليها الراهبة يونا المكرمة. التي هي أيضاً من قانون القديس فرنسيس. فهذه البارة اذ كانت يوماً ما آخذةً بالتأمل في حال الأضطهاد المحرك من هيرودس ضد الطفل يسوع. قد سمعت ضجةً وأضطراباً مزعجاً نظير هجوم جنودٍ كثيرين راكضين في أثر إنسانٍ ما بأسلحتهم. وبعد ذلك شاهدت طفلاً كلي الجمال هارباً من أيديهم عادم التنفس من شدة ركضه وخوفه. فأقبل نحوها قائلاً لها: يا يونا خاصتي ساعديني وخبيئيني عندكِ. أنا يسوع الناصري الهارب من أيدي الخطأة الذين يريدون أن يقتلوني مضطهدين إياي نظير هيرودس. فأنتِ خلصيني.* † صلاة † فاذاً بعد أن مات أبنكِ الحبيب يا مريم المجيدة بأيدي البشر الذين أضطهدوه من حين مولده الى ساعة موته، فالى الآن لم يكفوا عن أضطهادهم إياه بواسطة خطاياهم بأتصالٍ، كافرين بالجميل ومجددين لكِ الأحزان أيتها الأم المتألمة. أواه أن أحد هؤلاء هو أنا الشقي، فيا أمي الكلية الحلاوة أستمدي لي دموعاً غزيرةً لكي أبكي على عدم معروفي ونكراني الجميل لحدٍ كذا. ثم بأستحقاقات الآلام التي تكبدتيها في سفركِ الى مصر ساعديني بمعونتكِ في حال سفري الممارس مني الآن نحو الأبدية، حتى يمكنني أخيراً أن آتي الى السماء كي أحب يسوع مخلصي المضطهد، حباً دائماً * في بلدة الطوباويين آمين* † الفصل الرابع في الموضوع الثالث لحزن مريم البتول، وهو فقدانها أبنها الإلهي * في مدينة أورشليم. حينما كان له من العمر أثنتا عشرة سنةً* فقد كتب القديس يعقوب الرسول أن كمالنا يتوقف على فضيلة الصبر بقوله: يا أخوتي أحتسبوا كل فرحٍ اذا سقطتم في محنٍ متلونة. عالمين أن مختبر إيمانكم يفعل صبراً. والصبر فليكن له عملٌ كاملٌ، لتكونوا كاملين وتامين غير ناقصين في شيءٍ: (يعقوب جامعه ص1ع2) فمن حيث أن الله قد أعطانا مريم البتول نموذجاً للكمال. فلزم أنه يملأها من التألم ليمكننا أن نتأمل صبرها العظيم ونقتدي به. ففيما بين أعظم الأحزان والأوجاع التي تكبدتها هذه السيدة في مدة حياتها هو التألم الذي الآن نأخذ بالتكلم عنه. أي حينما أضاعت هي أبنها في هيكل أورشليم. فأمرٌ معلومٌ هو أن الإنسان الذي يولد من بطن أمه أعمى. فيشعر قليلاً بالغم على كونه فاقداً مشاهدة نور النهار. وأما ذاك الذي بعد أختباره مشاهدة النور قد فقد بصره، فهذا يتكبد بالحقيقة حزناً عظيماً على خسرانه إياه. فعلى هذه الصورة أن الأنفس التعيسة اللواتي هن كفيفات البصر روحياً من قبل وحل خيرات هذه الأرض، وقليلاً عرفن الله. فقليلاً أيضاً يحزنهن عدم وجودهن إياه. ولكن بضد ذلك أن من يكون أستنار ذهنه بالضياء السموي. وبأستحضاره أمام عينيه الخير الأعظم. فأواه كم يحصل عنده من الحزن والتألم عندما يرى ذاته معدوماً هذه المشاهدة الكلية اللذة. فلنتأمل الآن كم كان لدى مريم البتول قاسياً هذا السهم. أي سيفالحزن الثالث الذي جرح فؤادها، حينما فقدت يسوع في مدينة أورشليم مدة ثلاثة أيام. بعد أنها كانت أعتادت أن تشاهده دائماً. وتتمتع بلذة النظر إليه الشهي في الغاية.* فالقديس لوقا الإنجيلي يخبرنا في العدد الحادي والأربعين وما يتلوه من الأصحاح الثاني من بشارته عن هذا الحادث قائلاً: وكانت مريم ويوسف يمضيان في كل سنةٍ الى أورشليم في عيد الفصح. فلما تمت ليسوع أثنتا عشرة سنةً صعدا الى أورشليم كعادة العيد. فلما كملت الأيام ليعودوا تخلف عنهم يسوع الصبي في أورشليم. ولم يعلم يوسف وأمه. وكانا يظنان أنه مع السائرين في الطريق، فجاءا مسيرة يومٍ وكانا يطلبانه بين الأقرباء والمعارف، ولما لم يجداه رجعا الى أورشليم يطلبانه. فكان بعد ثلاثة أيامٍ وجداه في الهيكل جالساً في وسط العلماء يسمع منهم ويسألهم، وكان كل من يسمعه يبهت من فهمه وأجوبته. فلما أبصراه بهتا، فقالت له أمه يا أبني ما هذا الذي صنعت بنا هكذا، ها أبوك وأنا كنا نطلبك متوجعين. فلنتأمل اذاً في كم كان شديداً الحزن والتوجع اللذان أختبرت مفعولهما في ذاتها هذه الأم المكتئبة، في مدة تلك الثلاثة الأيام التي فيها كانت تجول في كل موضعٍ مفتشةً على أبنها الحبيب. هاتفةً مع عروسة النشيد: أرأيتم من أحبته نفسي: (نشيد ص3ع3) لأنها كانت تفحص عنه عند كل أحدٍ من دون أن تعلم عنه خبراً ما. أواه بكم من الحزن والندب والغم كانت حاصلةً هذه السيدة المتعوبة من الجري ههنا وهناك ومن الفحص والتفتيش على حبيبها ولم تجده. وبكم من التوجع الأعظم والأمر والأشد مما أحاق بروبيل بكر يعقوب، عندما رجع الى الجب ولم يرى فيه أخاه يوسف، ومن ثم خرق ثيابه ومضى الى أخوتهن قائلاً لهم: الصبي ليس هو في الجب، وأنا الى أين أذهب: (سفر التكوين ص37ع30) فكانت هي تندب ذاتها قائلةً: أن أبني يسوع هو فاقد ولا أعلم أين هو، ولا عدت أعرف ماذا أصنع لأجده. ولكن الى أين أذهب أنا من دون أن يكون معي كنزي: ولهذا كانت هي تبكي في مدة تلك الثلاثة الأيام مكررةً كلمات النبي والملك داود بقولها: صارت لي دموعي خبزاً النهار والليل اذ قيل لي كل يومٍ أين إلهيكِ: (مزمور 42ع3) ولهذا كتب بالصواب بالبارتوس بقوله: أن هذه الأم الحزينة لم تذق لذة الوسن في تلك الثلاث الليالي، ولم تعرف ما هو النوم، بل كانت دائماً تنوح باكيةً وتصلي لله متضرعةً في أن يجعلها أن تجد أبنها الحبيب المفقود منها: ومراتٍ مترادفةً كانت تكرر نحو هذا الأبن هتاف عروسة النشيد قائلةً: أخبرني يا من أحبته نفسي أين ترعى أين تضجع في وقت الظهيرة. لكيلا أطوف جايلةً وراء قطعان أصحابك: (نشيد ص1ع7) فخبرني يا أبني أين أنت حتى لا عدت أجول تائهةً في كل مكانٍ أطلبك من دون فائدةٍ:* ثم أنه وجد من قال أن هذا الحزن الذي تكبدته مريم العذراء ليس فقط يلزم أن يحصى في عدد أحزانها الشديدة التي هي ذاقت مرائرها في مدة حياتها. بل أيضاً ينبغي أن يعتبر أنه هو الحزن الأعظم والأمر من سائر أحزانها الأخرى. وهذا القول ليس هو خالياً من البراهين وهي: أولاً: أن هذه الأم الإلهية في أحزانها الأخرى كانت حاصلةً على يسوع رفيقاً لها. فأي نعم أنها تألمت عند سماعها من سمعان الشيخ في الهيكل نبؤته عن سيف الحزن المزمع أن يحوز في نفسها. وكذلك تألمت في هربها الى مصر. ولكن دائماً كان يسوع معها. وأما في هذا الحزن فكانت تتألم بعيدةً عن هذا الأبن الحبيب. غير عارفةٍ أين كان موجوداً. هاتفةً بدموعٍ: أن نور عيني لم يبقى معي: (مزمور 38ع10) أواه أن حبيبي يسوع نور مقلتي يعيش بعيداً مني ولا أعلم أين هو: فالمعلم أوريجانوس يقول: أنه لأجل شدة الحب الذي به كان قلب هذه الأم القديسة مغرماً بمحبة أبنها. قد تكبدت آلاماً عظيمةً في مدة فقدانها إياه. أمر وأشد وأعظم من الآلام التي تكبدها أحد الشهداء مهما كان حين أنفصال نفسه من جسده: فترى كم كانت تظهر لدى هذه البتول مستطيلةً مدة تلك الثلاثة الأيام. كأنها ثلاثة أجيال. مملؤةً من المرائر من دون أن يقدر أحدٌ أن يعزيها، لأنها كانت تهتف مع النبي أرميا قائلةً: لذلك أنا باكيةٌ وعيني تنبع المياه لأن المعزي أبتعد مني: (مراثي ص1ع16) وكذلك كانت تكرر كلمات طوبيا البار بقولها: من أين يكون لي الفرح وأنا قاعدة في الظلام وما أبصر ضوء السماء (طوبيا ص5ع11). ثانياً:أن البتول مريم كانت في حصولها بالأحزان الأخرى عارفةً أسبابها وغاياتها. أي عمل أفتداء الجنس البشري، ومراسيم المشيئة الإلهية. وأما في هذا الحادث فلم تكن تعلم سبب فقدانها أبنها وأبتعاده عنها. فيقول المعلم لاسبارجيوس، أن هذه الأم المحزونة كانت حينئذٍ تتوجع بمشادهتها أن يسوع كان منفصلاً عنها بعيدا، لأجل أن فضيلة أتضاعها العميق كان يجعلها أن تظن ذاتها غير مستحقةٍ أن توجد بعد قريبةً من أبنها لكي تخدمه في هذه الأرض، وتهتم في حفظ كنزٍ بهذا المقدار فائق على كل ثمنٍ". وربما كانت تفتكر في قلبها قائلةً باطناً. من يعلم أن ذلك حل بي من قبيل أني لم أكن لحد الآن خدمته تعالى حسناً وبالنوع المتوجب عليَّ. أو ربما أنه أهملني تاركاً إياي لأجل تكاسلٍ ما صدر مني في خدمته. فالمعلم أوريجانوس كتب عنهما أي عن مريم ويوسف: أنهما طلباه لخوفهما من أنه يكون اهملهما: فأمرٌ حقيقي هو أنه لا يوجد للنفس المحبة لله تألمٌ أعظم، من الخوف الذي يشتملها من أن تكون أغاظت الله. وهذا السبب الذي من أجله مريم لم تشك في حزنٍ ما من أحزانها سوى في هذا الحزن الذي به عاتبت أبنها الحبيب بعذوبةٍ بعد أن وجدته قائلةً: يا أبني ما هذا الذي صنعت بنا هكذا. ها أبوك وأنا كنا نطلبك متوجعين: (لوقا ص2ع48) فبهذه الكلمات لم تقصد هي أن توبخ يسوع، كما جدف بعص الأراتقة، بل أرادت هذا الشيء فقط وهو أن تبين له التألم الذي هي تكبدته في ذاتها من قبل أبتعاده عنها، لشدة الحب الذي هي كانت تحبه به. ولذلك يقول الطوباوي ديونيسيوس كارتوزيانوس: أن كلماتها هذه لم تكن ذات تأنيبٍ وتوبيخٍ بل ذات معاتبةٍ ناجمةٍ عن عظم الحب:* وبالأجمال أن سيف هذا الحزن قد كان جارحاً مؤلماً لقلب البتول المجيدة بمقدارٍ كذا عظيمٍ. حتى أن الطوباوية بانافانوتا اذ كانت يوماً ما متشوقةً لأن ترافق هذه الأم المحزونة مشتركةً بحزنها هذا الثالث. وملتمسةً بتضرعاتٍ أن تنال منها هذه النعمة. فعندما فازت هي بأن تظهر لها والدة الإله جملةً مع طفلها الإلهي الفائق في الجمال. وكانت هي أي بانافانوتا متمتعةً بالنظر الى هذا الطفل الكلي جماله فعلى الفور غاب عنها وفقدت النظر إليه. فمن ثم شعرت هي بحزنٍ هكذا فعالٍ حتى أنها ألتجأت الى الأم الإلهية متوسلةً بزفراتٍ وافرةٍ بالا تدعها أن تموت من شدة التألم. فالبتول القديسة ظهرت لها ثانيةً بعد ثلاثة أيامٍ وقالت لها: أعلمي يا أبنتي أن حزنكِ وتوجع قلبكِ هذا لم يكن سوى شيءٍ جزئيٍ جداً بالنسبة الى ما تألمت أنا به حينما ضاع مني أبني.* فتوجع مريم العذراء هذا يلزم أن يستخدم بالوجه الأول نموذج شجاعةً وتقويةٍ لجميع الأنفس الحاصلة في حال اليبس الروحي، عادماتٍ تلك التعزية واللذة التي كن وقتاً ما تمتعن بها بعذوبة حضور الرب معهن. فأي نعم أن هؤلاء الأنام يبكون على فقدهم تعزيةً هذه صفتها. ولكن بكاهم يكون بسلام قلبٍ وبهدوء ضميرٍ، كما كانت تبكي مريم البتول لبعد أبنها عنها. وعلى هذه الصورة ينبغي لهم أن يتشجعوا ولا يخافوا من أنهم بذلك يكونون فقدوا النعمة الإلهية. على أن الرب قد أوحى للقديسة تريزيا قائلاً: أنه لا يمكن لأحدٍ أن يمضي هالكاً من دون أن يعرف علة هلاكه. ولا يدخل على أحدٍ الغش أو الخداع ما لم يرد هو أن يغش أو يخدع: فاذا أتفق أن الرب يغيب من أمام عيني أحدى الأنفس التي تحبه تعالى، فليس لأجل ذلك يكون هو عز وجل أبتعد عن قلبها، اذ أنه جلت حكمته يختفي بعض الأحيان عن هذه النفس، لكي تفتش هي عليه بأوفر نشاطٍ وبأشد حرارةٍ في الحب. لأن من يريد أن يجد يسوع فيلزمه أن يطلبه بأجتهادٍ. ولكن لا فيما بين تنعمات العالم ومسراته بل فيما بين الصلبان والأماتات، نظير ما طلبته مريم البتول مفتشةً عليه. كما قالت له: ها أبوك وأنا كنا نطلبك متوجعين: فعلى هذه الصورة يلزمنا أن نطلب يسوع. كما كتب المعلم أوريجانوس.* وما عدا ذلك أنه يلزمنا أن لا نسعى في طلب خيرٍ آخر في هذا العالم خارجاً عن يسوع. على أن أيوب البار لم يكن تعيساً حينما فقد في هذه الأرض كل ما كان له، من المال، والموجودات، والأولاد، والكرامات، وصحة الجسم. حتى أنه أتصل الى أن ينحدر عن كرسيه الى مزبلةٍ جالساً تحت الجو. ولكن من حيث أنه كان لم يزل حاصلاً على الله معه. فكان هو في تلك الحال عينها سعيداً. ولهذا اذ يتكلم عنه القديس أوغوسطينوس فيقول: أن أيوب قد خسر ما قد كان الله أعطاه إياه، ولكنه في الوقت نفسه كان حاصلاً على الله عينه معه: غير أنهن تعيساتٌ بالحقيقة وشقياتٌ تلك الأنفس اللواتي خسرن الله بالذات، فأن كانت العذراء المجيدة قد بكت مدة ثلاثة أيامٍ على أبتعاد يسوع عنها، فبكم من الأزمنة المستطيلة يلزم الخطأة أن يبكوا على خسرانهم النعمة الإلهية. وعنهم قال الله: لا أنتم شعبي ولا أنا لكم: (هوشع ص1ع9) لأن الأثيم يفصل ذاته بالخطيئة عن الله. كقوله تعالى: أن أثامكم فرقت بينكم وبين إلهكم وخطاياكم أخفت وجهه عنكم لكيلا يسمع: (أشعيا ص59ع2) ومن هذا القبيل يصدر أنهم أي الخطأة اذا كانوا ممتلكين خيرات الأرض كلها، في الوقت الذي هم فيه فاقدون الله، وفي عينه تضحى لديهم الأشياء بأسرها على الأرض أيضاً دخاناً وعذاباتٍ، كما أعترف بذلك سليمان الحكيم بقوله: أنني عرفت في جميع الصنائع المصنوعة تحت الشمس، فاذا هي كلها باطلةٌ وعناية الروح: (جامعة ص1ع14): الا أن المصيبة العظمى لذوي الأنفس العميى. يقول القديس أوغوسطينوس: هي أنهم اذا فقدوا بقرةً ما، فأنهم يسعون في طلبها غير متغافلين عن التفتيش عليها. وأن ضلت لهم غنمةٌ ما فلا يتركون من جهدهم جهداً في الفحص عنها ليجدوها. واذا ضاع لهم بهيمةً فلا تحصل لهم راحةً ألم يصادفوها. ولكنهم حينما يخسرون الخير الأعظم الذي هو الله فيستمرون آكلين شاربين مرتاحين منشرحين: وهكذا لا يفتحون أعينهم الا في جهنم.* * نموذج * أنه يوجد مدوناً في الرسائل السنوية المختصة بالرهبنة اليسوعية عن شابٍ ما من بلاد الهند هذا الحادث. وهو أنه اذ عزم هذا الشاب على أرتكاب خطيئة مميتة، وبالعزم المذكور أخذ بالخروج من مكان سكناه، فسمع صوتاً يقول له: قف ثابتاً حيث أنت: واذ ألتفت الى ورائه قد شاهد أيقونة والدة الإله المحزونة التي كانت هناك بتمثال مجسم. واذا بها أخرجت من قلبها أحد السبعة حراب. وقالت له هكذا: خذ بيدك عاجلاً مني هذه الحربة. وأطعن بها قلبي. أحرى من أنك تجرح قلب أبني بأرتكابك هذه الخطيئة: فحالما سمع الشاب هذه الكلمات أنطرح على الأرض باكياً بشهيقٍ نادماً بتوجعٍ شديدٍ طالباً من الله ومن البتول القديسة غفران ذنبه. وقد نال ذلك.* † صلاة † أيتها العذراء المباركة لماذا تحزنين بهذا المقدار على ضيعان أبنكِ وتطلبينه بتوجعٍ هكذا شديدٍ، أفهل لأنكِ لم تكوني تعلمين أين كان موجوداً،كلا، بل كنتِ تشعرين بأنه لم يزل كائناً في قلبكِ. أما تعرفين أنه كان يرعى فيما بين السوسن والزنبق. والحال أنتِ قلتِ: أن حبيبي لي وأنا له. الذي يرعى السوسن: (نشيد ص2ع16) فأفكاركِ وعواطفكِ هذه كلها هي متواضعةٌ طاهرةٌ نقيةٌ مقدسةٌ. وهي زهور السوسن والزنبق التي تستدعي عروسكِ الإلهي ليسكن فيكِ. أواه يا مريم المجيدة أنتِ تطلبين بكل رغبةٍ أن تجدي يسوع الذي لا تحبين أحداً غيره. فأتركيني أن أطلبه أنا وغيري من الخطأة الكثير عددهم الذين لا يحبونه تعالى. وبواسطة أغاظتهم إياه قد فقدوه، فيا أمي المحبوبة جداً أن كان أبنكِ لحد الآن، لأجل ذنبي الخصوصي لم يوجد بعد في نفسي، فأنتِ أجعليني أن أجده. فأنا أعلم جيداً أنه عز وجل يوجد عند من يطلبه، لأنه مكتوبٌ: أن الرب هو طيبٌ للمتوكلين عليه للنفس التي تطلبه: (مراثي أرميا ص3ع25) ولكن أنتِ أجعليني أن أطلبه بالنوع الذي به يلزمني أن أطلبه، لأنكِ أنتِ هي الباب الذي بواسطته الجميع يجدون يسوع. فاذاً بكِ أرجو أن أجده أنا أيضاً من دون أن أفقده مرةً أخرى آمين.* † الفصل الخامس في الموضوع الرابع المختص بحزن والدة الإله، وهو مقابلتها أبنها * ماضياً ليموت مصلوباً على جبل الجلجلة* أن القديس برنردينوس يقول:" أنه لكي يمكن أن يستحضر موضوع الحزن العظيم الذي شعرت به مريم البتول حين فقدانها أبنها الحبيب بالموت، فيلزم أن يصير التأمل في شدة الحب الذي كان قلب هذه الأم العذراء مغرماً به نحو أبنها". فالأمهات كلهن يشعرن بالعذابات التي يتألم بها بنوهن كأنها عذاباتهن أنفسها. ولذلك حينما تضرعت الأمرأة الكنعانية الى مخلصنا بأن ينقذ أبنتها المعذبة من الشيطان قالت له: أرحمني يا رب يا أبن داود فأن أبنتي يعذبها الشيطان: (متى ص15ع22) ولم تقل له أرحم أبنتي. ولكن ترى أية أمٍ أحبت أبناً لها بمقدار ما أحبت مريم أبنها يسوع، فهو تعالى كان ولدها الوحيد، وهي ربته بأتعابٍ وأنصابٍ ومشقاتٍ فائقة الوصف. وهو أبنٌ موضوعٌ للحب الكلي وشديد الحب نحوها. وفي الوقت الذي فيه هو أبنها ففيه عينه هو إلهها. الذي اذ كان أنما جاء الى الأرض ليشعل لهيب نار الحب المقدس. كما أعلن ذلك هو عينه بقوله: أتيت لألقي ناراً على الأرض ولا أريد الا أضطرامها: (لوقا ص12ع49) فترى كم كان لهيب هذه النار التي أضرمها بشدةٍ عظيمةٍ في قلب والدته النقي الفارغ من كل أنعطاف نحو الأشياء الأرضية. فالبتول المجيدة عينها قالت في الوحي للقديسة بريجيتا:" أن قلبي وقلب أبني بالحب كانا واحداً. فالحريق الذي أضطرم في لب هذه العذراء المباركة كان مؤلفاً من موضوعات حبها نحوه تعالى بحسب كونها له عبدةً وأماً، وبحسب كونه لها أبناً وإلهاً. وبكلٍ من هذه الموضوعات كان قلبها يلتهب حباً به. الا أن هذا الحريق قد أستحال فيها حين آلام أبنها الى بحرٍ زاخر متموجٍ بالأحزان والأوجاع الغير المدركة. ومن ثم كتب القديس برنردينوس قائلاً:" أن أوجاع العالم بأسره وأحزانه كلها، اذا أجتمعت معاً، فلا يمكنها أن تصور في ذاتها حقيقة الحزن والوجع الذي تكبدته العذراء المجيدة". وهذا هو أمرٌ صادقٌ، لأنه كما قال القديس لورانسوس يوستينياني: بمقدار عظمة الأنعطاف والحب الذي به تعلق قلب هذه الأم الإلهية بمحبة هذا الإبن فبأكثر من ذلك تألمت هي متوجعةً عند مشاهدتها إياه متألماً، خاصةً حينما صادفته حاملاً صليبه مجذوباً الى جبل الجلجلة ليمات بموجب الحكومة المبرزة ضده: وهذا هو سيف الحزن الرابع المختص الفصل الحاضر بالتأمل فيه.* فقد أوحت هذه البتول المجيدة للقديسة بريجيتا بأنه حينما كان أقترب زمن آلام الرب، لم تكن عيناها على نوعٍ ما تنشفان من الدموع المتصلة، بتذكرها في أنه قريباً كان يلزمها أن تفقد أبنها الحبيب من هذه الأرض، وأنه من قبل الخوف الذي كان يشتملها عند تفكرها بالمشهد المزمع حدوثه بموت يسوع، كان العرق البار يقطر من أعضاء جسمها كافةً. فهوذا أخيراً قد بلغ الزمن المرسوم لهذا العمل العظيم، وجاء يسوع عند والدته لكي يودعها ويمضي الى الموت. فالقديس بوناونتورا اذ كان يتأمل فيما صنعته حينئذٍ العذراء في تلك الليلة، قد خاطبها هكذا قائلاً:" أنكِ لقد أجزتِ تلك الليلة من دون رقادٍ بالكلية، وفي الوقت الذي فيه الآخرون كانوا نائمين فأنتِ أستمريتِ ساهرةً". فلما صار الصباح كان تلاميذ الرب الواحد بعد الآخر يأتون عند هذه الأم الإلهية المحزونة، وكلٌ منهم كان يخبر عما يكون شاهده أو سمع به. ولكن من المعلوم أن جميع هذه الأخبار كانت محزنةً. ووقتئذٍ قد كملت عن هذه السيدة حقيقة كلمات أرميا النبي بقوله: باكيةٌ بكت في الليل ودموعها على خديها ليس من يعزيها من جميع أحبائها: (مراثي ص1ع2) فاذاً البعص كانوا يأتون بأخبار الأهانات التي عومل بها يسوع في دار قيافا، وغيرهم بخبرية الأحتقار الذي أحتقره به هيرودس مع جنده. ثم جاء أخيراً القديس يوحنا الرسول (لأني أترك جانباً باقي الملاحظات لكي أصل من دون أسهابٍ الى الموضوع المقصود) وأعلمها بأن بيلاطس الفاقد كل عدالةٍ قد حكم على يسوع ظلماً بأن يموت مصلوباً وأنما قلت عن بيلاطس فاقد كل عدالةٍ أو بالحري كلي الظلم، لأن القديس لاون الكبير يقول عنه:" أنه أبرز الحكومة بالموت ضده وهو نفسه، أي بيلاطس أعترف مشهراً براءته، وأعلن أنه لم يجد فيه علةً تستوجب الموت". فاذاً قال لهذه السيدة القديس يوحنا الحبيب: أيتها الأم المملؤة أحزاناً أن الحكومة بالموت قد أعطيت ضد أبنكِ، وهوذا الجند قد حملوه صليبه على عاتقه وخرجوا به من دار الولاية ذاهبين نحو جبل الجلجلة ليصلبوه هناك. (كما أن هذا الإنجيلي دون ذلك هو نفسه فيما بعد بقوله: فحينئذٍ بيلاطس أسلمه إليهم ليصلبوه، فأخذوا يسوع وخرجوا به وهو حامل صليبه وجاءوا به الى موضع يسمى الجمجمة وبالعبرانية يسمى الجلجلة: (يوحنا ص19ع16) فأن كنتِ اذاً تريدين أن تنظريه وتودعيه المرة الأخيرة، تعالي لكي نذهب الى أحدى الطرقات المزمع أن يجتاز هو منها عابراً.* فخرجت مريم البتول صحبة القديس يوحنا من البيت الذي كانت مقيمةً فيه، واذ شاهدت في الطريق نقط الدم الواضحة قد أستدلت منها على أن الجند كانوا أجتازوا بيسوع من هناك الى ما قدام. فهكذا أوحت هذه السيدة للقديسة بريجيتا قائلةً:" أنني قد عرفت أن أبني قد كان مر من تلك الطريق وجاز عند نظري أثره من قبل أنصباغ الطريق بدمه". فالقديس بوناونتورا يقول: أن الأم الإلهية الموعبة حزناً، عند علمها أن يسوع كان أجتاز من تلك الطريق، فهي أسرعت من طريقٍ أخرى قليلة المسافة وسبقت ووقفت عند رأس المسلك لملاقاة أبنها الحبيب المتألم المزمع أن يمر من هناك". فيا لها من والدةٍ متوجعةٍ في لجة الأحزان، ويا له من ابنٍ غارقٍ في بحر الآلام: يقول القديس برنردوس: ففي مدة وقوفها هناك ترى كم سمعت من اليهود الذين كانوا يعرفونها، من التكلم بالأهانة والأفتراء ضد أبنها الحبيب، وربما ضدها هي أيضاً. ولكن أواه كم كان سهم الحزن جارحاً قلب هذه الأم عند مشاهدتها خدام الشريعة مارين من هناك قبل يسوع، بالمسامير والمطارق والحبال وسائر الأشياء المقتضية لأتمام حكومة الموت. وكيف صارت حالها حينما سمعت المنادي أمام أبنها الحبيب يعلن مشهراً كالعادة مضمون الحكومة المبرزة بالموت ضد يسوع. ولكن بعد أن أجتازوا بآلات الصلب ومر المنادي وخدام الشريعة هوذا أمام عيني هذه الأم المحزونة مجتازاً ذاك الشاب المكتسى جسمه من الرأس الى القدمين من الجراحات القاطرة الدماء من كل ناحيةٍ من جسده، وعلى هامته حزمةٌ من الشوك. وصليب ذو خشبتين محمولٌ على منكبيه. فنظرت إليه، أواه يا له من منظرٍ محزنٍ يفتت الأكباد، وكأنها لم تعرفه. كما قال عنه أشعيا النبي: ورأيناه ولم يكن منظرٌ ولا جمالٌ مهاناً وآخر الرجال، رجل الأوجاع مجرباً بالأمراض وكان وجهه مكتوماً ومرذولاً... ونحن أحتسبناه كأبرص ومضروباً من الله: (ص53ع2) لأن الجراحات الموجودة في جسمه. والدماء المسفوكة منها قد صيرته كأبرص مضروبٍ بالقروح. الا أن الحب أخيراً قد حقق لهذه الأم أن ذاك الإنسان هو يسوع أبنها بعينه. فوأسفاه واحسرتاه كم كان شديداً سهم الحزن الذي طعن قلبها فيما بين الحب والخوف معاً (كما يقول القديس بطرس دالكانتارا في تأملاته) لأن الحب من الجهة الواحدة كان يجتذبها لأن تتفرس في وجه حبيبها يسوع لتراه جيداً، والخوف من الجهة الثانية كان يصدها عن مشاهدة منظرٍ كافٍ لأن يميتها من شدة الحزن. ولكن أخيراً قد نزع يسوع عن عينيه الدم الجامد الذي كان يمنع نظره (كما أوحى للقديسة بريجيتا) وشاهد والدته جيداً وهي شاهدته. أواه يا لها من مشاهدةٍ قد جرحت بسهامها هاتين النفسين الجميلتين. فمرغريتا أبنه توما موروس عندما رأت أباها ماراً في الطريق مجذوباً الى القتل، فلم تقدر أن تقول له سوى هاتين الكلمتين: يا أبي يا أبي: ثم سقطت في الأرض غائبةً عن حواسها كمائتةٍ، أما مريم فحينما شاهدت أبنها في تلك الحال ذاهباً الى جبل الجلجلة ليصلب فلم تغب عن حواسها، لأنه لم يكن لائقاً بهذه الأم الإلهية أن تفقد الأنتباه والمعرفة. حسبما قال الأب سوارس، ولا ماتت من شدة الحزن، لأن الله كان يحفظها لأحتمال آلامٍ أمر، ولكن ولئن لم تمت فمع ذلك قد ألم بها حزنٌ كافٍ لأن يميتها ألف ميتةٍ.* فيقول القديس أنسلموس أن مريم حينئذٍ أقتربت من يسوع مريدةً أن تعانقه، الا أن خدام الشريعة صدوها عن ذلك بأهانةٍ وعنفٍ وأغتصبوا يسوع على المشي مجتازين به، ووقتئذٍ هذه الأم أتبعته لاحقةً. أواه أيتها البتول القديسة الى أين تذهبين، أهل الى جبل الجلجلة. ولكن أيمكنكِ أن تثقي بذاتكِ في أنكِ تقدرين أن تشاهدي معلقاً على الصليب ذاك الذي هو حياتكِ. كما قيل في تنبيه الأشتراع: وتكون حياتك كالمعلقة قدامك: (ص28ع66) فالقديس لورانسوس يوستينياني في تأملاته يخاطب هذه السيدة كأن أبنها يسوع يقول لها حينئذٍ هكذا: يا أمي لماذا تقتربين مني والى اين تريدين أن تذهبي، فأن كنتِ تأتين برفقتي الى حيث أنا ماضٍ فتتعذبين بشدة عذاباتي عينها. وأنا أتألم بآلامكِ نفسها. ولكن ولئن كانت هي عارفةً أن ذهابها معه ومشاهدتها إياه يموت على الصليب كانت مزمعةً أن تسبب لها آلاماً فائقة الوصف. فمع ذلك لم ترد أن تفارق موضوع حبها الوحيد، بل أن أبنها كان يسير أمامها وهي كانت تتبعه لتصلب معه. كما يقول عنها غوليالموس: أن مريم حملت صليبها وأتبعت يسوع لتصلب هي أيضاً معه. فقد كتب القديس يوحنا فم الذهب قائلاً: أننا نوجد متحننين على الحيوانات أيضاً، وهذا هو شيء حقيقي، لأننا اذا رأينا مثلاً أسدةً تجري وراء شبلها المأخوذ من الصيادين للقتل، فلئن كانت هي وحشاً مفترساً مبغوضاً منا فمع ذلك مشاهدتنا إياها متألمةً في تلك الحال تحركنا الى التوجع من أجلها، أفما نحزن اذاً متوجعين عند تأملنا والدة الإله النعجة الطاهرة تابعةً أبنها الحمل البريء من العيب مجذوباً للذبح: فلنشاركها بأحزانها اذاً متألمين معها، ولنجتهد في أن نتبع أبنها وإياها لاحقينهما نحن أيضاً حاملين بصبر ذاك الصليب الذي يفتقد الرب كلاً منا به. فالقديس يوحنا فم الذهب يسأل كمستفهمٍ: لماذا سيدنا يسوع المسيح في جميع آلامه الأخرى أراد أن يكون وحده من دون أن يسعفه أحدٌ بشيء، وأما في حمله الصليب شاء أن سمعان القانوي يعينه في حمله: وهو نفسه يجيب عن سؤاله قائلاً: أنما ذلك هو من كون صليب المسيح وحده لا يفيدك يا هذا من دون أن تحمل أنت أيضاً صليبك: فاذاً لا يكفينا للخلاص صليب يسوع أن كنا نحن لا نحمل الى ساعة موتنا الصلبان التي يريد الله أن نحملها بحسن تسليم الإرادة.* * نموذج * أن مخلصنا ظهر مرةً ما للبارة ديوميرا الراهبة التي من فيورنسا وقال لها:" أفتكري بي وحبيني، وأنا أفتكر بكِ وأحبكِ: وفي الوقت ذاته قدم تعالى لهذه الراهبة باقةً من الزهور جملةً مع صليبٍ، مشيراً بذلك الى أن تعزيات القديسين في هذا العالم، ينبغي أن ترافق على الدوام بالصليب، الذي من شأنه أن يتحد الأنفس بالله". ثم أن الطوباوي أيرونيموس أميليانوس الذي كان قبلاً جندياً مملؤاً من الرذائل. فهذا اذ وقع في أيدي الأعداء وقيد منهم أسيراً في أحد الأبراج، فتحرك من قبل هذه التجربة مستنيراً باطناً بالضياء السماوي الى أن يتوب عن شروره ويصلح سيرته، ومن ثم أخذ بالتضرعات الى والدة الإله الكلية القداسة في أن تعينه. وحينئذٍ بشفاعات هذه السيدة قد أبتدأ بالسير في طريق القداسة، حتى أنه أستحق فيما بعد أن يكشف له الله بالرؤيا المكان السعيد المهيئ له في السماء... وصار بعد ذلك مؤسساً للرهبنة الصوماسكية. وأخيراً رقد بالرب بميتةٍ مقدسةٍ. ومنذ مدةٍ ليست مستطيلة قد أحصي قانونياً من الكنيسة المقدسة في عدد الطوباويين.* † صلاة † يا أمي المحزونة أنني أتوسل إليكِ بحق التألم الشديد الذي تكبدتيه عند مشاهدتكِ أبنكِ يسوع الحبيب مساقاٌ الى الموت، بأن تستمدي لي من الله نعمةً، وهي أن أحتمل أنا أيضاً بتسليم الأرادة وبصبرٍ تام، كل الصلبان التي يرسلها لي الباري تعالى. فالطوبى لي أن كنت أنا كذلك أحمل صليبي وأرافقكِ حتى الموت، فأنتِ البارة وأبنكِ المنزه عن كل زلةٍ قد ارتضيتما بأن تحملا صليباً بهذا المقدار ثقيلاً، فهل أني أنا الأثيم الذي مراتٍ عديدةً أستحقيت الجحيم أرفض أن أحمل صليبي. فمنكِ أرجو أيتها البتول البريئة من العيب أن تعينيني لكي أحتمل بصبرٍ الصلبان التي يرسلها لي الله آمين.* † الفصل السادس * في الموضوع الخامس لحزن مريم البتول. وهو موت أبنها * * الحبيب يسوع المسيح أمام عينيها * فها هوذا نحن الآن نلاحظ بأنذهالٍ نوعاً جديداً من الأستشهاد، وهو أن أماً تلتزم بأن تشاهد بأزاء عينيها يموت بحكمٍ ظالم فيما بين العذابات البربرية الشديدة القساوة أبنها البار المحبوب منها فوق كل شيءٍ. فعن هذا الأستشهاد لا يلزم أن نقول شيئاً آخر سوى الكلمات التي دونها عنه القديس يوحنا الأنجيلي نفسه قائلاً: وكانت واقفةً عند صليب يسوع أمه: (19ع25) فأنظر يا هذا. البتول المجيدة واقفةً بالقرب من صليب أبنها الحبيب ملاحظةً إياه في حال النزاع مدنفاً على الموت، وبعد ذلك أفتكر أن كان يوجد وجعٌ مثل وجعها. ولهذا فلنتصور ذواتنا حاضرين في جبل الجلجلة، ولنأخذ الآن بالتأمل في سيف الحزن الخامس الذي طعن قلب هذه الأم المحزونة، وهو مشاهدتها موت أبنها يسوع على الصليب.* فحينما بلغ فادينا يسوع (في الحال التي لاحظناه بها في الفصل السابق) الى جبل الجلجلة، فالجلادون نزعوا عنه ثيابه، وسمروه عارياً على الصليب بيديه ورجليه المقدسة بمسامير لا رأس لها. أي مقطوع حدها الرفيع، كما يقول القديس برنردوس. وذلك لكي تعذبه أشد عذاباً بأنغراسها الأغتصابي في يديه ورجليه. وبهد أن رفعوا الصليب ونصبوه قائماً في الأرض، قد تركوا يسوع معلقاً عليه في تلك الحال ليموت هكذا. فالصالبون قد أهملوه على هذه الصورة وأما والدته البتول فلم تفارقه، بل أنها أقتربت أكثر قرباً من صليبه لتحضر موته. كما أخبرت هي نفسها للقديسة بريجيتا في الوحي قائلةً: أنني ما فارقت أبني يسوع، بل كنت واقفةً بالقرب من صليبه: الا أن القديس بوناونتورا يخاطب هذه السيدة بقوله: ماذا كان يفيدكِ يا سيدتي ذهابكِ الى جبل الجلجلة لتموتي أمام أبنكِ. فقد كان يلزم أن يمنعكِ عن المضي الى هناك الخجل، لأن العار والخزي الملمين بهذا الأبن فهما ملتحقان بكِ أنتِ أيضاً اذ أنكِ أمه. أو قلما يكون تصوركِ أثماً هكذا شنيعاً نفاقياً، وهو أن إلهاً متجسداً يصلب بأيدي خليقته نفسها. كان يلزم أن يمنعكِ عن مشاهدته: غير أن القديس المذكور عينه يرد الجواب عن ذلك قائلاً: أن قلبكِ لم يكن يعتبر هذا الأمر خزياً ومكروهاً، بل مؤلماً: أواه أن قلبكِ حينئذٍ لم يدعكِ أن تفتكري في وجعكِ وتألمكِ بل في أوجاع أبنكِ وآلامه وموته. ولهذا أردت أن تحضري أنتِ نفسكِ تحت صليبه. قلما يكون لكي تتوجعي من أجله: فأنتِ هي الأم الحقيقية والمحبة الصادقة (يقول نحوكِ الأنبا غوليالموس) اذ أنه ولا الخوف من أنكِ تموتين أمكنه أن يفصلكِ عن أبنكِ الحبيب: فيا له من مشهدٍ موعبٍ من الأحزان والأوجاع الباطنة، فيه كان ينظر هذا الأبن الإلهي منازعاً على الصليب، وفي الوقت عينه كانت تشاهد هذه الأم البتول تحت صليبه منازعةً هي أيضاً، لتكبدها في ذاتها الآلام عينها التي كان أبنها يتعذب بها. فقد أخبرت في الوحي للقديسة بريجيتا هذه الأم الإلهية عينها عن الحال التي شاهدت هي بها أبنها في تلك الساعة على الصليب قائلةً هكذا: فقد كان أبني الحبيب على الصليب متعوباً في الغاية مترادف التنفس بأنزعاجٍ، منازعاً مقارباً للموت، وكانت تشاهد مقلتاه غائرتين في جورتيهما، وعيناه نصف مطبوقتين، وشفتاه مرتخيتين، وفمه مفتوحاً، ووجنتاه بلونٍ أصفر. ولحمانهما ملتصقةً بأسنانه، وحنكاه يابسين، وأنفه كفي حال الموت، ووجهه مقطباً كئيباً، ورأسه كان يلاحظ منحنياً نحو صدره، وشعره أسود مصبوغاً بالدم، وبطنه لاصقاً بظهره. وذرعاه وساقاه موترةً بأشدادٍ. وسائر أعضاء جسده مملؤةً جراحاتٍ قاطرةً الدماء.* فعذابات يسوع هذه كلها قد كانت هي عذابات مريم أيضاً والدته. كقول القديس أيرونيموس: أن جميع الجراحات التي كانت في جسم يسوع فهذه وجدت في قلب مريم: ومن ثم يقول القديس يوحنا فم الذهب: أن من أمكنه أن يكون حاضراً حينئذٍ عند جبل الجلجلة فقد كان يستطيع أن يشاهد هناك مذبحين مقدماً على كل منهما القربان العظيم، فأحدهما في قلب يسوع وثانيهما في قلب مريم والدته: الا أنه يظهر لي أكثر ملائماً ما يعتبره القديس بوناونتورا مذبحاً واحداً مقدماً فوقه القربانان معاً، وهو مذبح الصليب المقدس الذي عليه جملةً مع الذبيحة التي بها قدم فوقه الأبن ذاته ضحيةً كحملٍ لا عيب فيه، قد ضحت ذاتها هذه الأم الإلهية أيضاً، ولذلك يخاطبها القديس المذكور عينه متسائلاً بقوله لها: يا سيدتي مريم أين أنتِ كائنةٌ، أهل تحت الصليب. أواه أنه بأكثر صوابٍ وعدالةٍ ينبغي أن أقول أنكِ كائنةٌ فوق الصليب عينه، لكي تقدمي ذاتكِ ذبيحةً. مصلوبةً جملةً مع أبنكِ يسوع. وهكذا يثبت ذلك القديس أوغوسطينوس بقوله: أن الصليب والمسامير كانت للأبن ولأمه معاً، لأنه اذ صلب المسيح فصلبت أمه أيضاً معه. وهذا لا ريب فيه، لأن القديس برنردوس يبرهن قائلاً: أن الشيء الذي كانت تفعله المسامير في جسد يسوع فهذا نفسه كان يفعله الحب في قلب مريم. بنوع أنه في الوقت عينه الذي فيه كان الأبن يضحي جسده محرقةً على الصليب، ففيه كانت أمه تضحي نفسها محرقةً معه: (كما كتب القديس برنردينوس).* فالأمهات أعتيادياً يهربن من الأمكنة التي فيها يكون أولادهن منازعين، لكيلا يشاهدن بأعينهن موتهم، ولكن اذا وجدت أمٌ ما مضطرةً لأن تلبث عند أبنها ساعة موته، فتهتم هي بأن تصنع له كل ما يمكنها أن تسعفه به مخففةً عنه آلام النزاع مجتهدةً في أن تصلح له سريره وفراشه ليكون مرتاحاً في أتكائه، مداومةً على أن تسقيه الأشياء المرطبة المبردة، وبهذا النوع يمكنها أن تجد هي تعزيةً ما في هذه الخدمة تسكن عنها أحزانها المرة. أواه أيتها الأم المملؤة أوجاعاً مريم الأشد تألماً وحزناً من الأمهات كلهن. فأي نعم أنه رسم عليكِ أن تحضري عند أبنكِ ساعة موته تحت صليبه، ولكن لم تعط لكِ الأستطاعة على أن تسعفيه بشيءٍ ما من الأشياء مطلقاً. لأنه قد سمعت هذه الأم المحزونة أبنها يسوع قائلاً: أنا عطشان: ولكن لم يسمح لها بأن تقدم له قليلاً من الماء ليطفئ به حرارة عطشه الشديد. بل كما يلاحظ القديس فيجانسوس فراري أنها أجابته قائلةً: ليس يوجد عندي يا ولدي من الماء سوى دموعي. ثم أنها كانت تشاهد حبيبها يسوع فوق فراش الصليب معلقاً بيديه ورجليه بثلاثة مسامير متعوباً جداً. ومن ثم كانت تشتهي أن تعانقه بين يديها ليمكنه أن يجد قليلاً من الراحة، أم أن يعطى لها أن تأخذه في حضنها ليموت على ركبتيها، ولكن لم تكن تحصل على ذلك (كما كتب القديس برنردوس) وكانت تلاحظ جيداً كيف أن يسوع الغائص في بحر الآلام والأحزان كان يطلب تعزيةً ما ولم يجد، حسبما قد كان هو تعالى سبق وقال بفم نبيه أشعيا: دست المعصرة وحدي... كما نظرت حولي ولم يكن معينٌ وطلبت فلم يكن ناصرٌ: (ص63ع3و5) ولكن ترى من كان يريد أن يعزيه من البشر الذين أضحوا كلهم أعداءً له، لأنه وهو على الصليب كان بعضهم يجدف عليه بنوعٍ، وبعضهم بنوعٍ آخر، كما كتب القديس متى الإنجيلي بقوله: وكان المجتازون به يجدفون عليه، ويحركون رؤسهم قائلين يا ناقض الهيكل وبانيه في ثلاثة أيامٍ خلص نفسك أن كنت أبن الله وأنزل عن الصليب. وهكذا رؤساء الكهنة مع الكتبة والشيوخ كانوا يهزأون به ويقولون، خلص آخرين ولم يقدر أن يخلص نفسه، أن كان هو ملك إسرائيل فلينزل الآن عن الصلييب: (متى ص27ع39ألخ) بل أن والدة الإله أخبرت القديسة بريجيتا بأكثر من ذلك قائلةً لها في الوحي: أنني سمعت البعض يقولون عن أبني أنه كان لصاً. وغيرهم أنه كان خداعاً، وآخرون قالوا أنه لم يكن أحدٌ مستحقاً للموت نظيره، وهذه الأقوال كلها قد أضحت لدي سيوفاً جديدةً تقطع قلبي:* الا أن الشيء الذي أحزن قلب هذه الأم الإلهية أشد حزناً، وأوعبها من مرارة التألم والتوجع بأبلغ نوع من كل ما سواه، هو سماعها أبنها الحبيب متشكياً من أن أباه الأزلي عينه قد كان أهمله، بنوع أن: يسوع صرخ بصوتٍ عظيمٍ قائلاً إيلي إيلي لما صافختاني: الذي تأويله إلهي إلهي لماذا تركتني: (متى ص27ع46) فهذه الكلمات قد جرحت فؤاد مريم البتول جرحاً هكذا عظيماً، حتى أنه، حسبما أوحت هي للقديسة بريجيتا لم يكن يبرح من فكرها ذكر تلك الكلمات مدة باقي أيام حياتها. فاذاً قد كانت هذه الأم السابحة في بحر الأحزان تشاهد أبنها من كل الجهات معذباً متألماً متروكاً، وكانت تجتهد في أن تسعفه بشيءٍ ما ولكن لم يكن ممكناً لها. والأبلغ من ذلك هو أنها كانت تلاحظ حسناً أن وجودها أمام عيني أبنها في تلك الحال، كان يسبب له آلاماً خصوصيةً مزادةً على آلامه. فمن ثم كتب القديس برنردوس قائلاً: أن التألم الذي كان يوعب قلب مريم مرارةً، فهذا عينه كان يفجع قلب يسوع ويطعنه بالحزن. ويقول في محلٍ آخر: أن المسيح وهو على الصليب قد تألم من قبل حزنه وتوجعه على والدته أشد تألماً من عذاباته كلها. فهكذا يتكلم هذا القديس عن لسان البتول قائلاً: أنا كنت واقفةً بالقرب من صليب أبني ناظرةً إليه، وهو كان ناظراً إليَّ، ولكنه كان يتألم من أجلي أكثر تألمه من قبل أوجاعه. وقال أيضاً عن هذه السيدة: أن مريم كانت واقفةً قربةً من صليب أبنها يسوع عادمة الصوت من شدة الحزن، وكانت عائشةً في الحياة منازعةً كمدنفةٍ على الموت، ولكنها اذ لم تقدر أن تموت فبقيت حيةً منازعةً. وقد كتب العلامة باسيوس بأن فادينا نفسه ظهر مرةً ما للطوباوية باتيسطا فارانا التي من مدينة كامارينو وقال لها:" أنه بهذا المقدار كان هو يشعر بأنفعالات الحزن والتألم من قبل مشاهدته من على الصليب والدته واقفةً بالقرب منه في تلك الحال المرثى لها، حتى أن تلك المشاهدة جعلته أن يموت فاقد التعزية". فهذه الكلمات أثرت كثيراً في قلب الطوباوية المذكورة المستنيرة من الله لأن تعرف حقيقة آلام يسوع من هذا القبيل، حتى أنها هتفت متوسلةً إليه تعالى بقولها: يا سيدي لا تعد تقول لي شيئاً عن حزنك هذا، لأني لا أستطيع بعد أحتمالاً.* أما سمعان داكاسيا فيقول:" أن الأنام الذين كانوا يشاهدون حينئذٍ مريم في تلك الحال صامتةً، فكانوا ينذهلون من سكوتها وعدم تشكيها بكلمةٍ ما في أوقات آلامها هذه الفائقة الأحتمال. ولكن اذا كانت هي وقتئذٍ ساكتةً بفمها فلم تكن صامتةً في قلبها. لأنها في تلك الأوقات ما صنعت هي شيئاً آخر سوى تقدمتها بتكرارٍ لدى العدل الإلهي حياة أبنها من أجل خلاصنا". ولهذا نحن نعلم أنها قد أكتسبت هي بأستحقاقات أوجاعها وأحزانها المشار إليها صفة: مشاركة في عمل خلاصنا: أي في أن نولد جديداً في حياة النعمة. وبالتالي نحن هم أولاد أوجاعها. ويقول لاسبارجيوس: أن المسيح اذ قد أراد أن يقيم والدته أماً لنا فجعلها أن تكون مشاركةً في عمل أفتدائنا، لأنه كان يلزمها أن تلدنا بنين لها تحت صليب يسوع. فاذاً يمكنني أن أقول أنه أن كانت هذه الأم الإلهية وهي غائصة في بحر مرائر تلك الأحزان صادفت تعزيةً ما. فهذه التعزية الوحيدة أنما كانت قائمةً في تذكرها بأنها بواسطة أحزانها وآلامها المشار إليها كانت تفيدنا في أمر خلاصنا الأبدي. كما أوحى مخلصنا عينه للقديسة بريجيتا بقوله: أن مريم والدتي أنما صارت أماً لأهل السماء والأرض لأجل توجعها وحبها. وبالحقيقة أن الكلمات الأخيرة التي قالها مخلصنا لوالدته وهو على الصليب مودعاً إياها قبل أن يموت، قد كانت تسليمه إياها أولاداً لها في شخص تلميذه القديس يوحنا، وهذا كان منه بمنزلة وصيته الأخيرة التي بها ترك لأمه تذكرةً وميراثاً أن نكون نحن أولادها وهي أمنا بقوله لها: يا أمرأة ها أبنكِ: (يوحنا ص19ع26) وهكذا منذ تلك الساعة أبتدأت مريم العذراء أن تمارس نحونا وظيفة أمٍ صالحةٍ. على أن القديس بطرس داميانوس يشهد بأن اللص الجيد أنما ندم على خطاياه، وأعترف بلاهوت فادينا قائلاً له: أذكرني يا رب اذا أتيت في ملكوتك: وهكذا فاز بالخلاص الأبدي وذلك من قبل تضرعات هذه الأم الإلهية من أجله، لأنه على موجب رأي بعض الكتبة الكنائسيين أن هذا اللص حين سفر والدة الإله مع طفلها وخطيبها الى مصر، قد كان في الطريق صنع معها معروفاً، بل أن هذه السيدة الرأوفة قد مارست دائماً وظيفة أمٍ نحو الجميع من ذلك الحين فصاعداً بدون أنقطاع، كما تمارس هذا الأمر الآن وفي المستقبل أيضاً.* * نموذج * أن شاباً ما من سكان مدينة باروجيا قد كان أتفق مع الشيطان بموجب صكٍ أمضاه بخط يده بقلمٍ مغمسٍ بدمه على أن يسلمه نفسه، أن كان الشيطان يجعله مقتدراً على أن يفعل خطيئةً مميتةً كان هو يرغب أرتكابها ولم يكن قادراً. فلما أكمل هذا الشاب التعيس تلك الخطيئة فالشيطان أراد منه أن يضع بالعمل ما وعده به في ذاك الصك، ولذلك أقتاد هو الشاب الى حافة بئرٍ عميقةٍ، وطلب منه أن يطرح ذاته فيها ليموت مختفياً وهو يأخذ نفسه، متهدداً إياه بأنه ألم يفعل ذلك من تلقاء ذاته فهو كان مزمعاً أن يجذبه الى جهنم بالنفس وبالجسد. فهذا الشاب المنكود الحظ اذ ظن بذاته أنه لا مناص له من يد إبليس، قد صعد على فم البئر ليطرح بنفسه فيها. ولكن خوفه من الموت وقفه ومن ثم قال للشيطان أنه لا شجاعة له على ذلك، بل أنه هو أي الشيطان يدفعه ليسقط في البئر أن كان يريده أن يموت. فقد كان الشاب لابساً ثوب السيدة المحزونة ولهذا قال له الشيطان: أرفع عنك هذا الثوب وأنا حينئذٍ أدفعك لتنطرح في البئر: فلما لاحظ الشاب جيداً أنه بواسطة ذاك الثوب المكرس الخاص بأحزان والدة الإله كان حاصلاً على الحماية من هذه الأم الرأوفة، الى ذاك الوقت، فلم يرد أن ينزعه من عنقه، ولهذا بعد مجادلة ومخاصمة كثيرة صدرت فيما بينه وبين الشيطان ألتزم هذا العدو الجهنمي بأن يترك الشاب ويمضي خازياً. وهكذا ذاك الخاطئ أسرع الى الكنيسة ليقدم الشكر للسيدة المحزونة على النعمة التي فاز بها بشفاعاتها. وقد تاب عن خطاياه ونذر أن يقدم لهيكلها أيقونةً حاويةً أمر نجاته. كما تمم ذلك، والأيقونة هي موجودة في كنيسة السيدة المدعوة الجديدة في مدينة باروجيا عينها تذكرةً لأحسان والدة الإله.* † صلاة † أواه أيتها الأم المتألمة أشد آلاماً وأحزاناً وأوجاعاً من الأمهات كلهن. فاذاً قد مات أبنكِ الحبيب الذي بهذا المقدار كنتِ تحبينه ويحبكِ. فأبكي بالصواب عليه لأنه يستحق ذلك، ولكن ترى من يمكنه أن يعزيكِ عن فقده، فشيءٌ واحدٌ يستطيع على تعزيتكِ وهو تفكركِ في أن يسوع بموته قد قهر الجحيم وأنتصر عليه غالباً، وفتح للبشر أبواب الفردوس السماوي الذي كان مغلقاً دونهم، وهكذا قد اكتسب نفوساً غير محصى عددها. وقد ملك وهو على الصليب مستولياً على قلوبٍ لا حد لكثرتها من أولئك الذين غلبوا من مفاعيل حبه إياهم فيخدمونه تعالى بأمانةٍ، فلا تأنفي يا مريم سيدتي من أنكِ تقبليني بالقرب منكِ لأبكي معكِ، لأن الصواب يقضي مني أن أبكي أكثر منكِ، لأجل أني أغظت إلهي مراتٍ عديدةً. فيا أم الرحمة أنا أرجو غفران خطاياي أولاً بأستحقاقات موت مخلصي يسوع المسيح، وبعد ذلك بأستحقاقات أحزانكِ التي قد تكبدتيها حين آلامه. ومعاً أرجو نوال الخلاص الأبدي آمين.* † الفصل السابع * طعن* فيما يلاحظ الموضوع السادس لحزن العذراء والدة الإله، وهو* جنب يسوع المسيح بالحربة. وتنزيله من على الصليب.* يا عابري الطريق أنظروا وتأملوا هل رأيتم وجعاً مثل وجعي، (مراثي أرميا ص1ع12) فيا أيتها الأنام المتعبدون للبتول القديسة المحزونة أسمعوا ماذا تقول هي نحوكم اليوم:" يا أبنائي الأعزاء أنا لا أريد منكم أن تهتموا في تعزيتي، كلا، لأن قلبي لم يعد بعد موضوعاً قابلاً لأن يحصل (ما دمت في الأرض) على تعزيةٍ ما، بعد موت أبني الحبيب يسوع. فأن كنتم اذاً تريدون أن ترضوني فأنا لا أريد منكم الا هذا الشيء، وهو أنكم تلتفتون نحوي وتتأملون فيَّ لتنظروا هل يوجد في العالم وجعٌ مثل وجعي، عند مشاهدتي مخطوفاً مني بعذاباتٍ كلية القساوة ذاك الذي كان هو موضوع حبي كله". ولكن أيتها السيدة أن كنتِ لا تريدين أن تتعزي، وما زلتِ متعطشةً لأقتبال أحزانٍ أخرى. فأنا أقول لكِ أنه ولا بموت ابنكِ قد انتهت أحزانكِ. لأن سيفاً آخر مزمعٌ أن يلج في نفسكِ بعد موته، وهو مشاهدتكِ واحداً من الجند يطعن جنب حبيبكِ بحربةٍ طعنةً بربريةً. ثم بعد ذلك تقتبلين بين يديكِ وفي حضنكِ جسد أبنكِ بعد تنزيله من على الصليب. وها نحن نأخذ الآن بالتأمل في الموضوع السادس لأحزان هذه الأم الإلهية. الأمر الموجب التأمل حسناً والدموع الحارة. فإلى هنا يبان أن أوجاع هذه السيدة قد جاءت رويداً رويداً واحداً فواحداً. وأما في هذا الموضوع السادس فكأن الأحزان بأسرها قد داهمتها معاً.* فأمرٌ خالٍ من الأرتياب هو أنه يكفي القول لأمٍ ما أن أبنها قد مات لأن يلتهب قلبها بنار حبه. ويطعن بسهم فقده. ولهذا قد أعتاد البعض لكي يخففوا نوعاً أحزان الأمهات الفاقدات أولادهن بالموت. أن يأتوا أمامهن بذكر تلك الأشياء التي كان بنوهن سببوا لهن بها (اذ كانوا أحياء) الغيظ أو الأهانة. ولكن اذا أردت أنا أن أتبع نحوكِ أيتها السيدة هذه الطريقة عينها لتخفيف حزنكٍ. فأي حادثٍ يمكنني أن أجده لأذكركِ في أن أبنكِ قد أغاظكِ به كلا، لأن هذا الأبن الإلهي قد أحبكِ دائماً وأطاعكِ مطلقاً وكرمكِ على الدوام. ولذلك من يستطيع أن يصف أحزانكِ وآلامكِ على فقده سواكِ أنتِ التي أختبرتِ مفعولها في ذاتكِ. فيقول أحد الكتبة العباد: أنه بعدما مات فادينا على خشبة الصليب فالعواطف الأولى التي مارستها مريم البتول قد كانت أن ترافق بالروح نفس أبنها الكلية القداسة مقدمةً إياها لدى الآب الأزلي، وكأنها كانت تقول له:" إلهي أنني أقدم لك نفس أبنك وأبني البريئة من العيب التي قد أطاعتك حتى الموت. فأنت أقبلها بين يديك. وها هوذا عدلك الإلهي قد أستوفى ما يحق له. وأرادتك المقدسة قد أكتملت. وقد أنتهت الذبيحة العظيمة المقربة لأجل مجدك الأبدي: ثم ألتفتت نحو جسد أبنها المائت هاتفةً: أيتها الجراحات ذات الحب المضطرم أنني أسجد لكِ وأهنئكِ، لأنه بواسطتكِ قد أعطى الخلاص للعالم، فأنتِ مزمعةٌ أن تبقي مفتوحةً في جسم أبني الحبيب لكي تكوني ملجأً منيعاً لجميع أولئك الذين يبادرون نحوكِ محتمين فيكِ، لأنه كم وكم من البشر هم عتيدون أن يقتبلوا بواسطتكِ غفران خطاياهم. وبكِ تلتهب قلوبهم بمحبة الخير الأعظم".* أما اليهود فاذ أرادوا الا يكدر فرح ذاك السبت العظيم الواقع في عيد الفصح. قد رغبوا تنزيل جسد يسوع من على الصليب، ولكن لأنهم لم يكونوا يستطيعوا أن ينزلوا أجساد المصلوبين قبل أن تكون أنفصلت عنها الأنفس بالموت. فلهذا جاء الجند ومعهم عصي حادة فكسروا ساقي اللص الأول وساقي اللص الآخر ليموتا سرعةً. وأما مريم البتول فكانت واقفةً هناك تبكي على موت حبيبها يسوع. وحالما شاهدت الجنود جاءوا بالأسلحة وكسروا ساقات اللصين متحهين ضد جسد أبنها أيضاً. ففي الأبتداء أستوعبت منهم خوفاً. ولكن بعد ذلك، يقول القديس بوناونتورا، قد تفوهت نحوهم هكذا قائلةً: واحسرتاه أن أبني قد مات فأعدلوا عن أن تفترئوا عليه أكثر . وتغاضوا عن أنكم تسببون لي أنا أمه المسكينة آلاماً أمر: الا أنه وفيما كانت هي تخاطبهم بهذا الكلام الصوابي. واذا بها شاهدت واحداً من الجند قد دنا من جسد يسوع. وبقوةً شديدةٍ طعنه في جنبه بالحربة التي كانت بيده. وللوقت خرج من ذاك الجنب الأقدس المفتوح على هذه الصورة بطعن الحربة دمٌ وماءٌ (يوحنا ص19ع34) ففي هذه الطعنة ومن جرائها قد أرتج جسد يسوع مع صليبه. وأنقسم قلبه المقدس. كما أوحى للقديسة بريجيتا. وأنما خرج من جنبه المطعون دمٌ وماءٌ، لأنه لم يكن باقياً في جسده تعالى شيء من دمه كله سوى تلك النقط القليلة التي أستمرت مخزونةً في قلبه. فهو أراد أن تهرق هذه أيضاً من أجلنا ويخرج في أثرها الماء ليشير إلينا بأنه لم يعد عنده دمٌ يقدمه عنا. فيقول لاسبارجيوس العابد: أن الأهانة والأفتراء الصادرين عن هذه الطعنة بالحربة قد ألحقتا بيسوع، وأما الوجع والتألم المختصان بها فألتحقا بقلب مريم. ثم أن الآباء القديسين يرتاءون بأن هذه الطعنة هي حقيقة ذاك السيف الذي قال عنه البار سمعان الشيخ لوالدة الإله متنبئاً بأنه كان عتيداً أن يحوز في نفسها. السيف الذي لم يكن من الحديد بل من مرارة الحزن الذي طعنت به نفسها المباركة الموجودة على الدوام ساكنةً بالحب داخل قلب أبنها المطعون بهذه الحربة. وفيما بين الآخرين الذين فسروا ذلك على هذه الصورة هو القديس برنردوس القائل (في مراثيه على العذراء): أن الحربة التي طعن بها جنب يسوع قد جازت في نفس مريم التي لم تستطع أن تفارق هذا القلب المطعون. كما كان سبق لها الإيعاز بذاك السيف الذي كان عتيداً أن يحوز في نفسها: بل أن العذراء المجيدة عينها قد أوحت للقديسة بريجيتا قائلةً: أنه حينما كانت الحربة تجذب خارجاً من قلب أبني كان يظهر رأسها مغموساً بالدم. ووقتئذٍ كان يبان أن قلبي أنطعن مفتوحاً عند نظري قلب أبني الحبيب مطعوناً بها:.* حتى أن الملاك أخبر القديسة بريجيتا في الوحي: بأن أوجاع مريم البتول من قبل هذه الطعنة كانت بهذا المقدار شديدةً مؤلمةً، بنوع أنها بأعجوبةٍ إلهيةٍ لم تمت هي وقتئذٍ من مرارة التوجع: ثم أنه كان يوجد لهذه السيدة في حين أوجاعها الأخرى من يخففها عنها نوعاً وهو يسوع حياً متشفقاً عليها. أما في الوجع المذكور فلم يكن معها هذا المعزي الذي قد مات:.* ومن حيث أن هذه الأم الإلهية كانت تخاف بالصواب من أن أعداء أبنها يمارسون ضد جسده الطاهر أهاناتٍ أخرى ذات أفتراءٍ نفاقي. فقد توسلت الى يوسف الرامي في أن يلتمس من بيلاطس أن ينزل هذا الجسد من على الصليب، حتى يمكنها قلما يكون بعد موت حبيبها أن تحفظ جسمه ناجياً من الأهانة والأفتراء الممكن أن يلتحقا به جديداً. فمن ثم أنطلق يوسف عند بيلاطس، وأعرض لديه حال الأحزان والأوجاع الملمة بقلب هذه الأم المتألمة على ابنها، وكيف كانت هي تشتهي أن تنال تنزيل جسده عن الصليب. وحسب رأي القديس أنسلموس أن بيلاطس حينئذٍ قد أخذته الشفقة على أمٍ هذه صفتها، ورثي لها، آذناً ليوسف بأن ينزل جسد أبنها عن الصليب. ويدفنه حيثما يشاء. وهذا الأذن قد وضع بالعمل وهكذا أنزلوا جسم المخلص من الخشبة. أواه أيتها البتول الكلية القداسة. هوذا العالم رد إليكِ أبنكِ الذي كنتِ بحبٍ هكذا عظيمٍ أعطيتيه إياه: ولكن واحسرتاه (تقول مريم للعالم) بأية حالٍ أنت ترده لي: أن حبيبي أبيض أشقر منتخب من بين ربواتٍ: (نشيد ص5ع10) فأنا سلمتك أبني كلي البياض أحمر اللون، وأنت ترجعه إليَّ الآن لا بلونه بل مسوداً مصبوغاً بالدماء معدوماً من قبل الجراحات المكتسية بها أعضاء جسده. أنا دفعته إليك قريداً في جماله وحسنه وأنت ترده لي فاقد الصورة وعديم الجمال. فهو كان يجتذب القلوب الى الغرام بحبه بمجرد النظر الى بهاء طلعته. والآن تكره العيون أن ترمقه لسوء حاله. فيقول القديس بوناونتورا: أواه كم من السهام الأليمة قد رشقت قلب هذه الأم المحزونة، وكم من السيوف أجتازت في نفسها، حينما أحضر لديها جسد يسوع منزلاً من على الصليب. فيكفي التأمل في الحزن الذي يلم أعتيادياً بكلٍ من الأمهات عندما تشاهد جسد أبنها ميتاً. فقد أوحى الى القديسة بريجيتا بأنه في حين تنزيل جسد يسوع من الصليب قد أستعملت ثلاثة سلالم. وأن التلاميذ قد صعدوا عليها فأقتلعوا أولاً المسامير من يدي الجسم الطاهر ومن رجليه، وسلموها بيد والدته (كما كتب سمعان ميتافراسته) وبعد ذلك البعض منهم كان ماسكاً الجسد من فوق وبعضهم من أسفل، وهكذا أنزلوه من الخشبة. أما برنردينوس البوسطي فيلاحظ متأملاً كيف أن هذه الأم الموعبة من مرائر الحزن أقبلت نحو التلاميذ لتعانق جسد حبيبها المحمول منهم. رافعةً يديها منتصبةً على رؤوس أصابع رجليها لمساعدتهم، وكيف أنها بعد أخذها إياه في حضنها وسندته على ركبتيها جالسةً تحت صليبه. محدقةً بنظرها في جسمه، متأملةً في فمه المفتوح، وعينيه المعتمتين، ولحمانه الممزقة المملؤة جراحاتٍ، وعظامه المجردة، ثم كيف أنها رفعت أكليل الشوك المغروس في رأسه متأملةً في الثقوبة الموجودة في هامته المقدسة من تلك الأشواك ناظرةً الى يديه ورجليه المثقوبة من المسامير وقائلةً:" واحسرتاه يا أبني ونور عيني الى أية حالٍ أوصلتك محبتك العظيمة للبشر، فترى أي شرٍ صنعت أنت معهم حتى أنهم عاملوك بهذه القساوة. فأنت كنت معي أباً لي وأخاً وعروساً، وأنت حبيبي وتنعمي ومجدي وكل شيءٍ كنت املكه. فأنظر إليَّ يا أبني بما أنا فيه من الأحزان والأوجاع وأرمقني بنظرك معزياً إياي. ولكن أواه أنت ما عدت تشاهدني، فأعطيني كلمةً يا كلمة الله وعزني بلفظةٍ واحدةٍ، وأويلاه أنت ما عدت تفه بكلمةٍ لأنك قد مت". ثم بعد ذلك يلاحظها برنردينوس المذكور ملتفتةً نحو آلات آلامه قائلةً نحوها: أيتها الأشواك القاسية، والمسامير والحربة الجارحة المؤلمة، كيف أمكنكِ أن تعذبي بهذا المقدار خالقكِ. ولكن أنتم يا معشر الخطأة أنتم هم الذين عاملتم أبني هذه المعاملة السيئة المرثى لها.* أي نعم أن مريم العذراء هكذا كانت تتشكى بالصواب منا حينئذٍ الا أنه لو أمكنها أن تكون هي الآن موضوعاً قابلاً لأن تحزن وتتألم. فترى أي شيء لكانت تتكبد منا عند مشاهدتها إيانا نحن البشر. بعد أن صلب أبنها عنا ومات من أجلنا نجدد ثانيةً صلبه وموته بفعلنا الخطايا والآثام التي هو تألم من جرائها ومات ليفي عنها. فاذاً يليق بنا ويلزمنا الا نحزن بعد قلب هذه الأم الموجوعة. واذا كنا فيما مضى نحن أيضاً سببنا لها التألم بمآثمنا، فلنصنعن الآن ما تقوله هي لنا عن لسان النبي أشعيا هاتفةً نحونا: أرجعوا أيها الفجار الى القلب: (ص46ع8) أي أرجعوا أيها الخطأة الى قلب أبني يسوع المجروح، وعودوا إليه تائبين وهو يقتبلكم محتضناً. فأهربوا منه بحسب كونه قاضياً وأرجعوا إليه بحسب كونه فادياً. أهربوا من المحكمة القضائية الى منبر الصليب: (كما يقول عن لسانها الأنبا غواريكوس) ثم أن هذه السيدة قد أوحت للقديسة بريجيتا بأنها حين أقتبالها جسد يسوع من على الصليب في حضنها، قد أغلقت هي بيدها عينيه. ولكنها لم تقدر أن تجمع ذراعيه وتضمهما الى صدره. مريداً مخلصنا أن يشير إلينا بأنه يرغب أن ذراعيه تستمراه مفتوحتين ليعتنق بهما جميع الخطأة التائبين الراجعين إليه تعالى من كل قلوبهم: فيا أيها العالم (تقول هذه السيدة المتألمة مع حزقيال النبي ص16ع8) قد مررت بك واذا حينك حين الأحباء. فهوذا أبني قد مات ليخلصك يا أيها العالم. فليس هو حينك بعد الآن حين الخوف والجزع، بل حين الحب والأنحباب، حين الأنعطاف بالحب الحقيقي نحو من أظهر لك حقائق حبه إياك بأحتماله حباً بك هذا المقدار من الآلام الشديدة: فيا أيها الخطأة، يقول القديس برنردوس، أن قلب المسيح قد جرح جرحاً حسياً ظاهراً، حتى عندما تعاينوا هذا الجرح المنظور تفطنوا بجرح المحبة الغير المنظور التي هو أحبكم بها: وهنا تختتم والدة الإله خطابها الذي عن لسانها يقوله العلامة أيديوطا بهذه الكلمات وهي: ان كان أبني قد أرتضى بأن يفتح جنبه بطعن الحربة لكي يعطيك قلبه أيها الإنسان، فعادلٌ وصوابي هو أنك تعطيه أنت قلبك واهباً إياه له: ويقول أوبارتينوس الذي من كازاله: أن كنتم يا أولاد مريم البتول تريدون أرادةً ثابتةً أن تجدوا مكاناً في قلب يسوع، فأمضوا جملةً مع هذه السيدة وهي تستمد لكم هذه النعمة:* * نموذج * قد أخبر التلميذ (في كتابه الملقب برحمة مريم البتول) عن أحد الخطأة الأشقياء الذي فيما بين مآثمه الأخرى الشنيعة كان قتل أباه وأخاه الطبيعيين. فهذا يوماً ما دخل في زمن الصيام الكبير الى أحدى الكنائس وأستمع هناك من الكاروز عظةً مختصةً بسمو المراحم الإلهية. ومن ثم تقدم من تلقاء ذاته الى منبر الأعتراف مقراً بخطاياه، فلما أستمع منه معلم الأعتراف تلك الكبائر المملؤة شناعةً ونفاقاً، قد أرسله الى أمام أحد الهياكل المختصة بوالدة الإله المتألمة، ليتوسل إليها هناك في أن تستمد له من الله تألماً قلبياً وتوجعاً حقيقياً على تلك الخطايا وتنال له نعمة غفرانها. فهذا الخاطئ أطاع الأمر وذهب أمام الهيكل االمشار إليه وأبتدأ أن يتضرع بحرارةٍ لهذه الأم الرأوفة. الا أنه في الحال سقط هو على الأرض مائتاً، ففي الصباح التالي حينما كان الكاهن يطلب من الشعب الحاضر أن يتوسلوا لله من أجل نياح نفس ذاك الإنسان المتوفي بموت الفجأة، واذا بحمامةٍ كلية البياض دخلت الى الكنيسة طائرةً وطرحت عند قدمي الكاهن المومى إليه الورقة التي كانت هي ماسكتها برجليها، فأخذ الكاهن الورقة ففتحها ورأى مكتوبةً فيها هذه الكلمات وهي: أن نفس هذا الراقد حالما خرجت من جسدها قد دخلت من دون مانع الى الملكوت السموي. وأما أنت فواظب على كرزك فيما يختص بعظم المراحم الإلهية. فيا لأقتدار العذراء المتألمة على أكتساب الندامة للخطأة.* † صلاة † أيتها البتول المتألمة يا ذات النفس العظيمة في الفضائل والشجاعة في الأوجاع أيضاً. أنه اذ كانت هذه وتلك أي الفضائل والأوجاع أنما تتولد فيكِ عن لهيب نار ذاك الحب الذي به تحبين الله. لأن قلبكِ لا يعرف أن يحب شيئاً غيره تعالى، فأرحميني يا أمي أنا الذي ما أحببت الله بل أني أغظته مراتٍ هكذا عديدةً، الا أن أحزانكِ تعطيني رجاءً عظيماً في نوال غفران خطاياي، غير أن هذا لا يكفيني. فأنا أريد أن أحب سيدي، فمن هو الذي يمكنه أن يستمد لي منه عز وجل هذه النعمة نظيركِ أنتِ التي هي أم المحبة الجميلة. آهاً لي يا مريم فأنتِ من عادتكِ أن تعزي الجميع بمنح المواهب فعزيني اذاً أنا أيضاً آمين.* † الفصل الثامن * في الموضوع السابع والأخير المختص بحزن البتول مريم. وهو دفن* * جسد أبنها الحبيب يسوع في القبر* أنه لا ريب ولا شك في أنه حينما تكون أمٌ ما حاضرةً عند أبنها الطبيعي حين نزاعه الأخير وموته، فتشعر هي في ذاتها بتلك الأوجاع عينها التي يتكبدها أبنها. الا أنه بعد أن يكون الأبن المعذب قد مات وأخذ ليدفن، وتوجد أمه المحزونة ملتزمةً بمفارقته، فيا له من ألمٍ شديدٍ يحيق بها حينئذٍ عند تفكرها بأنها ما عادت تقدر أن تشاهد ولدها مرةً اخرى. فهذا هو السيف الأخير من السبعة سهام الحزن التي جازت في نفس والدة الإله الكلية القداسة، الذي الآن نأخذ بالتأمل فيه، وهو ما تألمت به هذه البتول حينما ألتزمت. بعد أن حضرت صلب أبنها، وأحتضنته مائتاً، بأن تتركه أخيراً في القبر. وهكذا ينقطع أملها من أن تشاهده مرةً أخرى على الأرض.* الا أننا لكي نتأمل جيداً في هذا الموضوع الأخير. فلنرجع بالعقل الى جبل الجلجلة لنشاهد هناك هذه الأم المملؤة أوجاعاً لم تزل محتضنةً على ركبتيها جسد أبنها يسوع المائت. وكأنها تقول نحوه كلمات أيوب البار هاتفةً يا أبني: قد صرت لي قاسياً: (أيوب ص30ع21) أي نعم أن الأمر هو كذلك. لأن أعضاء جسدك الجميلة كلها، وحسنك، ولطافتك، ونعمتك، وفضائلك، وتصرفاتك الجليلة ذات الحب، وسائر علامات المحبة الخصوصية التي أظهرتها نحوي، والنعم والمواهب الفريدة، والأختصاصات الفائقة الشرف التي منحتنيها. فهذه كلها قد استحالت بالنسبة إليَّ سهاماً جارحةً تطعن قلبي مسببةً لي أحزاناً وأوجاعاً لا يمكن وصفها. بنوع أنها بمقدار ما ألهبت فيَّ قبلاً نيران الحب نحوك فبأكثر من ذلك الآن تصيرني أن أشعر بمرارة الحزن على كوني فقدتك. أواه يا أبني الحبيب أنني بخسراني إياك قد خسرت كل شيء: فأنت هو الإله الحقيقي المولود مني ( يقول القديس برنردوس عن لسانها في مراثيه لأحزانها) وأنت لي أبٌ، وفي الوقت عينه أنت لي أبنٌ وعروسٌ معاً. وأنت لي نفسٌ وحيوةٌ، فأنا الآن يتيمةٌ من الأب وأملةٌ من العروس وفاقدة الأبن. واذ أني خسرتك أنت يا أبني فقد خسرت بك كل شيء.* فهكذا كانت مريم تندب أوجاعها وترثي حبيبها يسوع معانقةً جسده الطاهر. الا أن التلاميذ القديسين لخوفهم الصوابي من أن هذه الأم المطعونة بسهام الحزن المفرط تموت مع أبنها الإلهي من شدة الحزن، قد أجتهدوا في أن يأخذوا جسده من حضنها بكل أسراعٍ. ويأتوا به ليدفنوه. وهكذا بأغتصابٍ أحتراميٍ أحتالوا بأخذه من بين ذراعيها. واذ حنطوه بالمر ولفوه بالسباني التي أراد تعالى أن تنطبع بها صورته، ليتركها في العالم تذكرةً لدفنه، كما تشاهد الى الآن محفوظةً في مدينة طورين، فهكذا حمل التلاميذ هذا الجسد الكلي القداسة وساروا به نحو القبر، حيث كانت طغمات الملائكة مرافقةً هذا الباعوث جملةً مع النسوة البارات ومع والدة الإله الغائصة في بحر الأحزان. ولما دنوا من المغارة المعد فيها القبر أنزلوه هناك، ولكن لقد كان أمراً محبوباً في الغاية لدى هذه السيدة أن تدفن حيةً هي أيضاً مع جسد أبنها، لو كان ذلك ممكناً لها، حسبما أوحت هي نفسها للقديسة بريجيتا. الا أن العزة الإلهية لم تكن تشاء ذلك. ثم على رأي الكردينال بارونيوس أن هذه الأم المتألمة قد دخلت معهم مغارة القبر. وبعد أن وضعوا هناك جسد المخلص وتركوا معه المسامير وأكليل الشوك، فحينئذٍ هؤلاء التلاميذ ألتفتوا نحو والدة الإله قائلين لها:" أيتها السيدة، أنه يلزمنا أن نغلق القبر، فنرجوكِ بأن يكون عندكِ أحتمالٌ وترتضي بأن تشاهدي جسد أبنكِ هذه المرة الأخيرة وتتنحي". فمن ثم يلزم أن تكون هذه الأم الحزينة تفوهت نحو أبنها قائلةً: فاذاً يا ولدي الحبيب أنا ما عدت أشاهدك مرةً أخرى، فأقبل كلمة الوداع مني أنا أمك. وأقتبل مني قلبي الذي أتركه مدفوناً معك، فقد كتب القديس فولجانسوس قائلاً: أن مريم البتول كانت تشتهي بكل عزمها وأرادتها أن تترك نفسها مدفونةً مع جسد المسيح أبنها. بل أن هذه السيدة عينها قد أوحت للقديسة بريجيتا قائلةً لها: أنه يمكن أن يقال حقاً وصدقاً أن قلبين وجدا مدفونين في قبر أبني وهما قلبه وقلبي معاً.* فأخيراً التلاميذ دحرجوا حجراً كبيراً به أغلقوا القبر على جسد يسوع الكنز الذي لا يوجد كنزٌ يعادل قيمته. لا في السماء ولا في الأرض. فقبل أن نفارق هذا القبر المقدس يليق بنا أن نكتب على حجره هذه الكلمات وهي: أن مريم تترك في هذا القبر قلبها مدفوناً مع يسوع. لأن يسوع هو كنزها الوجيد. وذلك سنداً على قوله تعالى: أنه حيثما يكون كنزكم فهناك يكون أيضاً قلبكم: (لوقا ص12ع34) أما نحن فترى أين ندع قلوبنا مدفونةً، ربما في المخلوقات في الوحل. ولكن لماذا لم تكن مدفونةً في يسوع الذي ولئن كان صعد الى السماء فمع ذلك أراد أن يبقى في القربان الأقدس، لا ميتاً بل حياً لهذه الغاية وهي لتكون فيه قلوبنا وهو يملك عليها. فلنعود نحو والدة الإله. اذ يقول القديس بوناونتورا: انها أي مريم البتول لم تشاء أن تفارق حجر القبر قبل أن تباركها قائلةً: أيتها الصخرة السعيدة التي الآن تغلقين مدفوناً داخلكِ ذاك الذي أغلق عليه في مستودعي مدة تسعة أشهرٍ، فأنا أبارككِ وأحسد سعادتكٍ، وأترككِ أن تحرسي لي أبني هذا الذي هو خيري بجملته وحبي الأعظم. ثم ألتفتت نحو الاب الأزلي وقالت: أنني أستودعك أيها الآب القدوس أبنك هذا الذي هو أبني أنا أيضاً. وهكذا ودعت القبر وما ضمنه وأنطلقت راجعةً الى بيتها. فيقول القديس برنردوس:" أن جميع الذين كانوا في الطريق يشاهدون مريم العذراء راجعةً في تلك الحال المرثى لها، فلم يكونوا يقدروا أن يمسكوا ذواتهم عن البكاء بمرارةٍ. وأن النسوة البارات والتلاميذ القديسين قد كان بكاءهم وخزنهم على مريم أشد من بكاهم وحزنهم على يسوع سيدهم".* ثم أن القديس بوناونتورا يرتأي بأن أخوات مريم العذراء أي قريباتها قد غطينها بأزارٍ أسود ورجعن بها من المقبرة. وأنه في مرورهن كافةً من عند جبل الجلجلة. حيث كان الصليب بعد مغروساً في الأرض مبتلاً بدم يسوع، فوالدته هذه المتألمة قد كانت هي أول من سجد لهذا العود الخلاصي قائلةً نحوه: أنني أقبلك أيها الصليب المقدس وأسجد لك، لأنك الآن لم تعد خشبة اللعنة بل عود الحب ومذبح الرحمة المكرس بدم الحمل الإلهي الذي قدم هو عليك ذبيحةً لأجل خلاص العالم.* وقد فارقت الصليب وعادت الى منزلها الذي لما بلغت إليه أخذت تجول بنظرها فيه ههنا وهناك من دون أن ترى حبيبها يسوع، بل عوضاً عنه كانت تتصور أمام عينيها أعمال حياته كلها المملؤة محاسن وقداسة، ومعاً أعمال آلامه جميعها التي أحتملها ومات بها. فهناك طفقت تتذكر المعانقات التي كانت تعانقه بها طفلاً في بيت لحم، والمفاوضات التي خاطبها بها وتكلمت هي معه مدة سنين هكذا عديدة في دكان النجارة في مدينة الناصرة وفي أمكنةٍ أخرى، وتتفكر بعواطف الحب المتبادلة منها إليه ومنه نحوها، وبنظراته ذات المحبة، وبكلمات الحياة التي كانت تخرج من فمه الإلهي. ثم بعد ذلك كانت تحضر بأزائها تلك الأشياء كلها التي شاهدتها في النهار عينه مما يختص بآلامه وموته وتنزيله عن الصليب ودفنه. متأملةً في آلات عذاباته من المسامير وأكليل الشوك والحربة وغيرها. وفي جراحات جسده المتخنة. وفي عظامه المجردة وفمه المفتوح وعينيه المعتمتين. أواه كم كانت تلك الليلة موعبةً من الغموم والأحزان الشديدة الملمة بهذه الأم المضنكة من التعب والتألم. وقد كانت حينا بعد حين تلتفت نحو القديس يوحنا الرسول قائلةً بحزنٍ: آهاً لي يا يوحنا أين هو معلمك. وبعده كانت تسأل المجدلية متنهدةً بقولها: أخبريني يا أبنتي مريم أين هو المحبوب منكِ: واحسرتاه من هو الذي خطفه منا. وهكذا كانت تبكي هي وكل الحاضرين بكاءً مراً. وأنتِ يا نفسي أما تبكين، تباً لكِ. فألتفتِ اذاً نحو مريم المتألمة وقولي لها مع القديس بوناونتورا: أنكِ من دون ريبٍ يا سيدتي أنتِ بريئةٌ من الذنب. وأنا هو بالحقيقة الأثيم في ذلك: ثم تضرعي إليها في أنها قلما يكون تجعلكِ أن تبكي معها، فهي تبكي من شدة الحب وأنتِ أبكي توجعاً على خطاياكِ، وأن ما بكيتِ على هذه الصورة فتستطعين أن تفوزي بحظ الآتي عنه القول في النموذج التابع.* * نموذج * أخبر الأب أنجالغرافه (في خطبته على وداع عيد الميلاد) عن أحد الرهبان. بأنه كان معذباً من سجس ضميره بقلقٍ عظيمٍ كاد مراتٍ كثيرةً أن يقضي به الى اليأس من الخلاص، ولكن من حيث أنه كان كلي العبادة نحو والدة الإله المتألمة، فلم يكن يغفل عن الألتجاء إليها دائماً في أوقات المنازعات الروحية التي بها كانت نفسه تناهز الموت بقطع الرجاء، وعندما كان يأخذ بالتأمل في أحزان هذه الأم الإلهية فكان يتقوى وينجو من تجربة الوسوسة. فأخيراً مرض هو مرض الموت، وحينئذٍ الشيطان بأبلغ نوع جعل يحاربه بالوسواس مجتذباً إياه الى قطع الرجاء من رحمة الله ومن خلاصه الأبدي. فاذ رأته والدة الإله في حالٍ يرثى لها شفقت عليه وظهرت له وخاطبته مشجعةً إياه بقولها:" يا أبني لماذا أنت تخاف وتحزن بهذا المقدار، أنت الذي مراتٍ كثيرةً قد تأملت في أحزاني وأوجاعي وبذلك عزيتني جداً. فقم مسرعاً لأن أبني الإلهي أرسلني لأعزيك، وأنهض فرحاً وهلم معي الى الفردوس السماوي". فحالما سمع الراهب العابد هذه الكلمات أستوعب فرحاً وسروراً وتعزيةً وثقةً ورجاءً عظيماً، وفي الحال، بكل هدوءٍ وسلامٍ رقد بالرب مائتاً.* † صلاة † أنني لا أريد أن أترككِ تبكين وحدكِ يا أمي المتألمة، بل أقصد أن أرافقكِ بدموعي، فأنا أطلب منكِ اليوم هذه النعمة وهي أن تستمدي لي أن أحفظ على الدوام ذكر آلام سيدي يسوع المسيح في عقلي وقلبي. وأن أكون حسن العبادة نحو هذه الآلام المقدسة، لكي أصرف الأيام الباقية من حياتي بالبكاء على أوجاعه تعالى بالجسد وأوجاعكِ! فأنا أرجو أن تكون هذه الآلام عتيدةً أن تمنحني في ساعة موتي طمأنينةً وقوةً، لكيلا اقطع رجائي عند تأملي كثرة الأهانات التي أغظت بها سيدي، وتهبني غفران خطاياي ونعمة الثبات في البر والحياة الأبدية التي أرجو أن أبلغ إليها، وهناك أفرح معكِ وأسبح مراحم إلهي الغير المتناهية.* فالقديس برنردوس يقول مخاطباً إياكِ يا أمي البتول المجيدة هكذا: أيتها السيدة يا من تختطفين قلوب البشر بعذوبة حلاوتكِ، أما أنكِ أختطفتِ قلبي أنا أيضاً. فمتى تريدينه لي يا خاطفة القلوب، ولهذا أنتِ أهتمي به ودبريه مع قلبكِ، وضعيه في جنب أبنكِ، وحينئذٍ أنا أملك الشيء الذي أبتغيه، لأنكِ أنتِ هي رجاؤنا. آمين.* † |
||||
06 - 08 - 2022, 12:38 PM | رقم المشاركة : ( 3 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب امجاد مريم البتول - القديس ألفونس دي ليكوري
المقالة الثالثة أخص فضائل والدة الإله المـقـدمـة * في موضوع هذه المقالة* أن القديس أوغوسطينوس يقول: أنه لأجل أكتساب حماية القديسين ومساعدتهم بأكثر تأكيدٍ وبأوفر سخاءٍ، يجب أن يصير الأقتداء بهم، لأنهم اذ يشاهدوننا ممارسين بالعمل الفضائل التي هم مارسوها في أزمنة حياتهم على الأرض. فحينئذٍ يتحركون بأكثر أنعطافٍ الى أن يتوسلون لله من أجلنا: فسلطانة القديسين وشفيعتنا الأولى والمتقدمة على الجميع سيدتنا والدة الإله، تريد من تلك النفس التي قد أنتشلتها هي من يد لوسيفوروس وأتحدتها بالله، أن تقتفي أثر نموذجاتها، والا فلن يمكنها أن تغنيها بالنعم والمواهب حسب مرغوبها، اذا رأتها مضادةً لها في سيرتها وأعمالها، ومن ثم هذه البتول المجيدة تعطي الطوبى لأولئك الذين يجتهدون في أن يقتدوا بفضائلها قائلةً: يا أولادي أسمعوني، طوبى للذين يحفظون طرقي: (أمثال ص8ع32) فمن يحب شخصاً ما، أما أنه يوجد شبيهاً به، وأما أنه يجتهد في أن يتشبه به. كحسب المثل الشهير الذي يقال به: أن الحب أما أنه يوجد في المماثلة، وأما أنه يجذب إليها: ولهذا يحرضنا القديس أيرونيموس قائلاً: أنه أن كنا نحب مريم العذراء فيلزمنا أن نهتم في أن نماثلها في الفضائل، لأن هذا هو التكريم الأعظم والعبادة الفضلى التي نستطيع أن نقدمها لها: ويقول ريكاردوس: أن أولئك الذين هم أولاد مريم الحقيقيون المقتدرون أن يسموا ذواتهم كذلك، فأنما هم الذين يجتهدون في أن يعيشوا حسب عيشها على الأرض: فأجتهد اذاً يا من أنت أبنٌ لمريم (يقول القديس برنردوس) في أن تقتدي بها، أن كنت ترغب أسعافها إياك. لأنها حينما ترى ذاتها مكرمةً منك كأمٍ، فتعاملك وتعينك كولدها.* فنظراً الى فضائل هذه السيدة الخصوصية فلئن كنا نقرأ عنها كلماتٍ وجيزةً مدونةً في الإنجيل المقدس. فمع ذلك اذ يقال عنها فيه أنها ممتلئةٌ نعمةٌ. فهذا يعلن لنا واضحاً أنها كانت حاصلةً على كل الفضائل بدرجاتٍ كلية السمو. بنوع أنه، كما يقول عنها القديس توما اللاهوتي (في كتيبه الثامن): أن كلاً من القديسين الآخرين قد تلألأ بفضيلةٍ ما خصوصيةٍ وبها سما على البقية وأما البتول الطوباوية فقد تلألأت في الفضائل كلها بدرجاتٍ ساميةٍ، وقد أعطيت هي لنا نموذجاً في جميع الفضائل: وكذلك يقول القديس أمبروسيوس: أن والدة الإله قد وجدت هكذا كاملةً. بنوع أن سيرة حياتها كانت تحوي الآداب والفضائل بأسرها. فلتكن مرسومةً في عقولكم بتولية مريم. وأعمال حياتها التي تلألأت فيها الفضائل، فمنها خذوا نموذج السيرة. وماذا يلزمكم أن تهذبوه فيكم وما الذي تهربون منه. وأي شيء تتبعونه: ثم من حيث أن فضيلة التواضع، حسب تعليم الآباء القديسين كافةً هي الحجر الأول في أساس الفضائل كلها، فلهذا نأخذ أولاً وبدءاً بالتأمل في كم وجدت عميقةً جداً فضيلة تواضع العذراء المجيدة.* الفصل الأول عندي الغنى والمجد والعظمة، والذين يبكرون إليَّ يجدونني (أمثال 8/17) يقول اروح القدس: يا أختي العروسة، جرحتي قلبي بإحدى عينيكِ. (نشيد4/9) * في الأتضاع العميق الذي أتصفت به والدة الإله* أن القديس برنردوس يقول: أن التواضع هو أساس أبتناء الفضائل: وهذا بكل صوابٍ. لأنه من دون التواضع لا يمكن أن توجد فضيلةٌ ما حقيقية في نفس إنسانٍ ما أصلاً. فالأتضاع اذ يمتلك فمعه تمتلك الفضائل بأسرها، واذ يهرب المرء فتهرب معه الفضائل كلها. ومن ثم كتب القديس فرنسيس سالس للطوباوية يوفانا شيناتال الراهبة قائلاً: أن الله بهذا المقدار يحب فضيلة التواضع. حتى أنه تعالى أينما يراها موجودةً يبادر نحوها بأسراع: فهذه الفضيلة الجليلة الجميلة الضرورية قد كانت فيما مضى مجهولةً في العالم. ولكن قد جاء أبن الله عينه الى الأرض لكي يوطدها ويعلم بها بواسطة نموذجه، وأراد منا أن نجتهد في أقتفاء أثره بنوع خاص في هذه الفضيلة بقوله لنا: تعلموا مني فأني وديعٌ ومتواضع القلب: (متى ص11ع29) ومن حيث أن مريم العذراء قد كانت هي التلميذة الأولى ليسوع، ووجدت هي الأكمل والأعظم فيما بين تلاميذه في الفضائل كلها. فهكذا كانت فضيلة تواضعها الأساسية عميقةً في الغاية، ومن أجل هذه الفضيلة التي تلألأت هي بها بنوعٍ فريدٍ قد استحقت أن ترفع فوق المخلوقات بأسرها. وقد أوحى الى القديسة ماتيلده: بأن الفضيلة الأولى التي وضعتها بالعمل هذه البتول المجيدة منذ طفوليتها قد كانت فضيلة الأتضاع.* فأول فعل من أفعال تواضع القلب أنما هو أن الإنسان يعتبر ذاته دنياً حقيراً، ولذلك قد أحتسبت ذاتها مريم البتول بهذا المقدار كلا شيء.كما أوحى للقديسة ماتيلده عينها، حتى أنها ولئن كانت تشاهد نفسها غنيةً بالنعم والمواهب والصفات، فمع ذلك قط لم تفضل ذاتها على أحدٍ مطلقاً: فالأنبا روبارتوس في تفسيره كلمات العدد 9من الاصحاح4 من سفر النشيد وهي هذه: أيتها العروسة أختي جرحتِ قلبي، جرحتِ قلبي بإحدى عينيكِ وبشعر عنقكِ: يقول: أن شعر عنق هذه العروسة الذي جرح قلب الله أنما هو تواضع مريم العذراء عروسته الإلهية: فأتضاع هذه السيدة لم يكن يلزمها بأن تحتسب ذاتها خاطئةً، لأن التواضع هو حقٌ كما تقول القديسة تريزيا. والحال أن والدة الإله كانت تعرف نفسها جيداً أنها قط لم تغظ الله بزلةٍ ما. فاذاً لم يكن يمكنها أن تكذب بقولها عن ذاتها أنها خاطئةٌ، بل ولا كان قائماً تواضعها في الا تعترف بأنها أقتبلت من الله نعماً أعظم من جميع النعم التي أعطيت لسائر الخلائق. لأن القلب المتواضع يعرف حسناً المواهب التي نالها من الرب بطريقةٍ أختصاصية. لكي يواضع نفسه بأبلغ نوع. وأنما كانت اذاً فضيلة أتضاعها قائمةً في أنها بمقدار ما كانت هذه الأم الإلهية حاصلةً على نورٍ أعظم في أن تعلم حقائق عظمة إلهها الغير المتناهية. وسمو غنى صلاحه الغير المدرك. فبأكثر من ذلك كانت تعرف حقيقة دناءتها وصغرها عند ذاتها، ولذلك كانت تتواضع أكثر من الجميع قائلةً مع عروسة النشيد: لا تنظروا إليَّ سوداء لأن الشمس غيرت لوني: (نشيد ص1ع6) أما القديس برنردوس فيعلن هذه الكلمات هكذا: أني أضحيت سوداء لأقتراب الشمس مني: وهذا بالصواب، لأن القديس برنردينوس يقول: أن البتول القديسة كانت حاصلةً بأتصالٍ على معرفة حالية عن عظمة العزة الإلهية، وعن دناءة ذاتها كأنها عدم وكلا شيء بالكلية: وكانت بذلك تشبه جاريةً مسكينةً متسولةً قد وهب لها ثوب أرجوان كثير الثمن، التي اذا ما تردت به أمام من أنعم به عليها فلا تتكبر مفتخرةً. بل تزداد تواضعاً بأزاء المحسن إليها كل مرةٍ تشاهده، لأنها حينئذٍ تتذكر جيداً فقرها ومسكنتها. فهكذا مريم العذراء بمقدار ما كانت ترى ذاتها غنيةً بالمواهب الممنوحة لها من الله فبأكثر من ذلك كانت تتضع في ذاتها. متذكرةً أن تلك النعم والأختصاصات كلها أنما هي مواهب الله وعطاياه: ومن ثم قالت هي نفسها في الوحي للقديسة أليصابات الراهبة التي من قانون القديس بناديكتوس: أنني كنت أحتسب ذاتي بنوع أكيد أني كلية الأحتقار والدناءة. واني لم أكن مستحقةً نعمة الله: ولهذا قال القديس برنردينوس: أنه ما وجدت خليقةٌ قط في العالم أرتفعت الى مقامٍ كلي السمو كما أرتفعت مريم، من حيث أنه لم توجد خليقةٌ ما أصلاً شبيهةً لها في التواضع العميق.* ثم ما عدا ذلك أنه لفعل أتضاعٍ حقيقي هو أن الإنسان لا يكشف للغير المواهب السماوية التي نالها. فالبتول المجيدة أرادت أن تخفي عن القديس يوسف خطيبها، حال كونها أختيرت من العزة الإلهية لأن تكون والدةً للإله. أو أنها قلما يكون لم ترد أن تكشف له ذلك مع أنها كانت محتاجةً لأن تخبره به، لكي تخلصه قلما يكون من قلق أفكاره بالأرتيابات الحاصلة عنده وقتئذٍ في أمر حبلها. وبالتالي كان يمكنه أن يشك في طهارتها، أو لترفع عنه سبب التوسوس كما كان بالحقيقة هذا القديس حاصلاً في حربٍ مع أفكاره. اذ أنه من جهةٍ أولى لم يكن يرتاب أصلاً في طهارة خطيبته المجيدة ونقاوة بتوليتها. ومن جهةٍ أخرى قد كان يجهل سر حبلها وعلته، فلهذا: هم بتخليتها سراً: (متى ص1ع19) أي أعتمد على أن يهرب عنها سراً، ولقد كان تمم أعتماده هذا بالعمل، لولا يكون ظهر له ملاك الرب بعد ذلك وأخبره بأن حبلها كان من الروح القدس.* وكذلك أن التواضع يرفض قبول المدائح التي يقرظ هو بها من الغير. ويخصص المديح والمجد لله وحده. فهوذا مريم قد أضطربت عند سماعها زعيم الملائكة جبرائيل قائلاً لها: أفرحي يا ممتلئةً نعمةً الرب معكِ مباركةٌ أنتِ في النساء: (لوقا ص1ع28) وحينما قالت لها القديسة أليصابات: مباركةٌ أنتِ في النساء، فمن أين لي مثل هذا أن تأتي أم ربي إليَّ... طوبى لتلك التي آمنت ليكون لها ما كلمت به من قبل الرب: (لوقا ص1ع42ع43ع45) أما هذه البتول فاذ كانت تنسب ذلك جميعه لله. قد أجابتها بتلك التسبحة المملؤة أتضاعاً قائلةً: تعظم نفسي للرب وتبتهج روحي بالله مخلصي لأنه نظر الى تواضع أمته: (لوقا ص1ع47ع48) وكأنها بهذا كانت تقول: أما أنتِ يا أليصابات فتمدحيني، وأما أنا فأمدح الرب الذي له وحده يجب المديح. وانتِ تتعجبين من مجيئي إليكِ، وأما أنا فأنذهل من الجودة الإلهية التي بها وحدها تبتهج روحي. أنتِ تعطيني الطوبى لأجل أني آمنت بما قيل لي من قبل الرب. وأما أنا فأسبح إلهي الذي أراد أن يرفع عدمي ويكرم دناءتي ناظراً الى تواضع أمته: ولهذا أوحت العذراء نفسها للقديسة بريجيتا بقولها لها: فلماذا اذاً أنا أتضعت بهذا المقدار وأستحقيت نعماً هكذا عظيمةً. الا من قبيل كوني قد تفكرت وعرفت أنه لم يكن لي شيءٌ من قبل ذاتي، ولم أكن عند نفسي شيئاً، فلهذا ما أردت قط مديحي أنا. بل مديح ذاك المعطي والمانح وحده: ومن ثم يقول القديس أوغوسطينوس اذ يتكلم عن أتضاع مريم البتول هكذا: يا له من تواضعٍ طوباوي بالحقيقة، لأن هذا التواضع ولد للبشر الإله متجسداً، وفتح لهم الفردوس، وخلص أنفسهم من جهنم:* وأيضاً أنها لمن حقائق الأتضاع هي خدمة المرء غيره. فهذه السيدة لم تأنف من أن تمضي عند القديسة أليصابات وتخدمها مدة ثلاثة أشهرٍ. ولذلك قال القديس برنردوس: أن أليصابات أنذهلت من مجيئ الطوباوية مريم إليها. ولكن الأنذهال الأعظم هو من كون هذه السيدة لم تأتِ لتُخدَم بل لتخدُم:* ثم أن المتواضعين يوجدون منفردين عن الكثرة. ويختارون لذواتهم أحقر الأمكنة. ولهذا اذ يتأمل القديس برنردوس في كيف أن هذه الأم الإلهية حينما أرادت أن تتكلم مع أبنها يسوع، لما كان هو يعلم في أحد الأمكنة، فلم تتقدم إليه أمام الناس داخلةً من تلقاء ذاتها الى المكان الجالس هو فيه وقتئذٍ، بل مكثت في الخارج وأرسلت تخبره برغبتها أن تراه لتخاطبه. (متى ص12ع46) فيقول هو أي القديس برنردوس:" أن مريم كانت واقفةً في الخارج، لئلا تقطع مجرى الوعظ لأجل أحترامها الوالدي، ومن غير أن تدخل الى البيت الذي فيه كان أبنها يكرز". وهكذا حينما كانت هي موجودةً في الغرفة الصهيونية بعد قيامة أبنها ممن بين الأموات قد أختارت المكان الأخير، كما كتب القديس لوقا الإنجيلي بقوله: وحين دخلوها صعدوا الى الغرفة التي كانوا بها مقيمين بطرس ويعقوب ويوحنا وأندراوس وفيلبس وتوما وبرتولماوس ومتى ويعقوب بن حلفا وسمعان الغيور ويهوذا أخو يعقوب هؤلاء كلهم كانوا مثابرين معاً على الصلاة والأبتهال مع النساء ومريم أم يسوع: (أبركسيس ص1ع13) فأحد العلماء يكتب بالصواب بأن القديس لوقا لم يكن يجهل أستحقاق والدة الإله، حتى أنه ما ذكر أسمها الا في آخر أسماء الجميع، بل لأنها كانت حقاً جالسةً في آخر الكل. وهو أي القديس لوقا كتب أسماءهم بموجب الرتبة التي بها كانوا جالسين في الغرفة فلذلك دون أسمها بعد كلهم، لأنها كانت آخذةً المكان الأخير، والا لكان من دون ريبٍ ذكر أسمها قبل الجميع لأجل أستحقاقها. ولهذا قال القديس برنردوس: أن الأستحقاق صير الأخيرة أولى. لأجل أنها صيرت ذاتها أخيرةً، مع أنه كان يخصها أن تكون هي الأولى:* ثم أن المتواضعين يحبون الأحتقار. ولهذا لم يقرأ في الإنجيل عن مريم البتول أنها ظهرت في أورشليم نهار الأحد المتقدم على آلام أبنها. الذي هو في ذلك اليوم دخل هذه المدينة تلك الدخلة الأحتفالية، وأقتبل من الشعوب الكرامات كملكٍ، بل بضد ذلك في حين موت أبنها ميتة العار. لم تأنف من أن تظهر هي حينئذٍ علانيةً على جبل الجلجلة، محتملةً خزي المعيرة في أنها كانت هي أماً لذاك المحكوم عليه بالموت كمجرمٍ مع اللصوص. ومن ثم قالت هذه السيدة عينها للقديسة بريجيتا في الوحي:" ترى أي شيءٍ أكثر أهانةً وأحتقاراً من أني أسمى حمقاء فاقدة العقل، وأن أكون محتاجةً معوزةً من كل شيءٍ، وأن أعتقد بذاتي أني فاقدة الأستحقاقات أكثر من الجميع، فتواضعي كانت هذه صفته يا أبنتي. وهذا كان نعيمي وفرحي وكل أرادتي التي بها لم أكن أفتكر بشيءٍ آخر سوى في أن أرضي أبني". ثم أن الراهبة باولا المكرمة التي من فولينو قد أختطفت مرةً ما بالروح غائصةً بالتأمل في تواضع مريم العذراء، حيث حصلت على معرفة ذلك بنورٍ سماوي. فلما أخبرت بعد هذا معلم أعترافها عنه منذهلةً من عظم أتضاع هذه البتول فكانت تقول له هكذا: كم هو عظيمٌ تواضع مريم العذراء يا أبتي فيا له من أتضاعٍ فريدٍ، لأنه لا يوجد في العالم كله أدنى درجة من التواضع بالنسبة الى أتضاع هذه السيدة المجيدة. ومرةً ما قد أظهر الرب للقديسة بريجيتا في الرؤيا أمرأتين شريفتين، فأحدهما كانت مزينةً بملابس فاخرةٍ مرتفعة العنق ذات جبروتٍ باطلٍ، وعنها قال الرب للقديسة:" أن هذه هي الكبرياء وأما الأخرى التي أنتِ تشاهدينها برأسٍ منخفضٍ، لطيفة الخطاب، عذبة الكلام مع الجميع، محترمة إياهم، وهي مع الله وحده بعقلها، وتعتبر ذاتها كلا شيء، فهذه هي الأتضاع وتسمى مريم". وبذلك أراد الرب أن يوضح لنا أن والدته الطوباوية بهذا المقدار كانت متضعةً، حتى أنها صارت هي الأتضاع نفسه.* فلا ريب ولا أشكال في أنه نظراً الى طبيعتنا الإنسانية المفسودة بالخطيئة. ربما لا توجد فضيلةٌ يعسر علينا وضعها بالعمل بأتقانٍ أكثر من فضيلة الأتضاع، كما يقول القديس غريغوريوس نيصص. ولكن لا مناص لنا منها، لأننا لا نستطيع أن نكون أولاداً حقيقيين لمريم البتول أن لم نكن متواضعين. ولذلك يقول القديس برنردوس:" فأن كنتَ يا هذا لا تقدر أن تماثل بتولية العذراء المتواضعة، فماثلن قلما يكون تواضع هذه البتول". لا سيما لأن هذه الأم الإلهية ترفض المتكبرين ولا تحب الا المتواضعين كقولها: من كان صغيراً فلينجح إليَّ: وقال ريكاردوس: أن مريم تحمينا تحت بيرق التواضع: وهذا عينه أوضحته البتول المجيدة نفسها للقديسة بريجيتا قائلةً لها: فاذاً أنتِ أيضاً يا أبنتي هلمي وأستظلي تحت ذيل برفيري الذي هو برفير تواضعي: ثم قالت لها أيضاً:" أن التأمل في أتضاعي هو وشاحٌ جليلٌ جميلٌ، ولكن من حييث أن مجرد تفكر الإنسان في الوشاح لا يدفئه، من دون أن يلتف هو بالوشاح عينه ليستدفئ، فهكذا لا يفيد مجرد التفكر في تواضعي من دون ممارسة هذه الفضيلة بالعمل، فاذاً ألبسي يا أبنتي هذا الوشاح". فبالحقيقة أن الأنفس المتواضعة هي عزيزةٌ جداً على قلب هذه السيدة، وعن ذلك كتب القديس برنردوس قائلاً: أن البتول القديسة تعرف جيداً الذين يحبونها، وهي تحبهم، مستعدةٌ لأسعاف الذين يستغيثون بها، خاصةً أولئك الذين تلاحظهم مقتدين بنموذجات فضيلتي عفتها وتواضعها العظيمتين: ولهذا يحرض القديس المذكور محبين مريم كافةً على أن يكونوا متضعين بقوله: تمسكوا بهذه الفضيلة أن كنتم تحبون مريم: فالأنبا مارينوس أو مرتينوس اليسوعي قد كان حباً بالبتول المتواضعة يكنس الدير الذي كان هو قاطناً فيه، ويغسل أمكنة الحماة من أوساخها. فلأجل ذلك ظهرت له يوماً ما هذه الأم الإلهية (كما يورد الأب نيارامبارك في كتاب حياته) وكأنها قدمت له الشكر على هذا العمل قائلةً له: أنها لعزيزةٌ لدي جداً تصرفات تواضعكَ هذه المصنوعة منكَ حباً بي:* فاذاً أنا لا يمكنني يا ملكتي أن أكون أبناً حقيقياً لكِ، ألم أكن متواضعاً. ولكن أما تنظرين أن خطاياي بعد أن صيرتني ناكر الجميل نحو سيدي، قد جعلتني متكبراً أيضاً. أواه يا أمي فأنتِ داوي سقمي، وأستمدي لي بأستحقاقات تواضعكِ النعمة في أن أصير متضعاً، وهكذا أعود أبناً لكِ آمين.* الفصل الثاني * في فضيلة محبة العذراء مريم والدة الإله نحو الله* أن القديس أنسلموس كتب قائلاً: أنه حيثما توجد طهارةٌ عظمى فهناك تصادف محبةٌ أسمى: وهكذا بمقدار ما يوجد القلب طاهراً نقياً فارغاً من حب الذات، فبأكثر من ذلك يوجد مملؤاً من المحبة لله. فمريم البتول الكلية الطهارة والقداسة، لأجل أنها كانت متضعةً بكليتها، وفارغة القلب من حب الذات، قد وجدت من هذا القبيل موعبةً من المحبة الإلهية، حتى أنها فاقت بالحب له تعالى على جميع البشر والملائكة أيضاً، كما قال القديس برنردينوس: أن حبها لأبنها قد سما على حب سائر المخلوقات له عز وجل: ولذلك بالصواب قد سماها القديس فرنسيس سالس: سلطانة الحب: فالرب قد أمر الإنسان بأن يحبه من كل قلبه بقوله: حب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك: (متى ص22 ع37) الا أن هذه الوصية ستوضع بالعمل من البشر بالتمام والكمال لا في هذه الأرض بل في السماء، حسبما يقول القديس توما اللاهوتي. غير أن الطوباوي ألبارتوس الكبير يلاحظ ذلك قائلاً: أنه لكان على نوعٍ ما أمراً غير لائقٍ بالله أنه سبحانه يضع وصيةً لا يوجد ولا واحد من البشر ههنا يمكنه أن يتممها بالكمال، لولا أن هذه الأم الإلهية تكون هي أكملت حفظ الوصية المذكورة تماماً وبكل أجزائها: وهذا القول يوطده ريكاردوس الذي من سان فيتورة هكذا: أن أم عمانوئيل مخلصنا قد كانت كاملةً بالتمام في كل الفضائل، لأنه ترى من هو ذاك الذي حفظ الوصية الأولى تماماً، وهي أن تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل قوتك الا تلك التي قد أرتسم في قلبها الحب الإلهي. وأتقد بهذا المقدار، حتى أنه لم يوجد فيها شيء بالكلية مما يثلم هذه الوصية: ويقول القديس برنردوس: أن الحب الإلهي قد جرح نفس مريم البتول نافذاً في كل قواها بهذا المقدار، حتى أنه لم يعد يوجد ولا جزءٌ من أجزاء كيانها الا وأنجرح بالحب. ومن ثم قد أكملت هي هذه الوصية الإلهية تماماً، ولذلك أمكن لعروسة النشيد هذه أن تقول: حبيبي لي وأنا له: (نشيد ص2ع16) ولهذا كتب ريكاردوس قائلاً: أن السيرافيم أنفسهم كانوا يقدرون أن ينحدروا من السماء الى الأرض لكي يتعلموا من قلب مريم العذراء الطريقة التي بها يحبون الله:* فالقديس يوحنا الرسول كتب قائلاً: أن الله محبةٌ هو: (أولى ص4ع8) فهذا الإله قد جاء الى العالم لكي يقد في الجميع لهيب نار حبه الإلهي، ولكن ولا قلبٌ من قلوب البشر كلها قد أشتعلت فيه مشاهيب هذه النار المقدسة نظير قلب والدته تعالى. لأنه من حيث أن هذا القلب البتولي كان بجملته، فارغاً بكليته من الأنعطافات نحو الأشياء الأرضية. فقد أضحى معداً مهيأ لأن يلتهب كله بنار الحب المغبوطة. كما قال القديس أيرونيموس: أن البتول المجيدة قد أتقدت كلها بنار الحب الإلهي، لأنه لم يكن يوجد في قلبها أنعطافٌ ما نحو الأشياء الزمنية، بل وجد دائماً لبها ملتهباً بعواطف هذا الحب السماوي: ولهذا صار قلبها مشتعلاً بجملته كاللهيب. وعنها قيل: أن المحبة معتزمةٌ كالموت وسرجها سرج نارٍ ولهيبٍ. مياه كثيرة لم تستطع أن تطفئ المحبة والأنهار لا تغرقها: (نشيد ص8ع7) وكما يفسر ذلك القديس أنسلموس بقوله: أن ناراً كانت تتقد في قلبها باطناً. وكانت هي من خارج تضيء كالسرج بضياء الفضائل كلها: فاذاً حينما كانت والدة الإله على الأرض حاملةً على ذراعيها طفلها الإلهي. كان يمكن حسناً وبالصواب أن تسمى: ناراً حاملةً ناراً. ولئن كان الفيلسوف أيبوقراط بمعنى آخر قال هذه الكلمات عن أمرأةٍ نظرها مجتازةً من أمامه حاملةً في يدها مجمرة النار متقدةً. على أن القديس أيدالفونسوس يقول: أن الروح القدس قد ألهب بحرارة الحب الإلهي مريم البتول بكليتها. نظير ما أن النار تحمي ضمنها الحديد. وهكذا كان يظهر فيها لهيب نار هذا الروح البارقليط حتى أنها لم تعد تشعر هي في ذاتها بشيء آخر الا بشهائب نار الحب الإلهي متقدةً في نفسها وقلبها: وقال القديس توما الفيلانوفي: أن العليقة التي رآها موسى ملتهبةً بالنار كلها من دون أن تحترق، كانت رسماً لقلب البتول والدة الإله: ولذلك هذه السيدة بالصواب شوهدت من الرسول الحبيب يوحنا في جليانه ملتحفةً بالشمس (أبوكاليبسي ص12ع1): لأنها بهذا المقدار كانت هي متحدةً بالله بشدة الحب (كما يقول القديس برنردوس مفسراً كلمات الأبوكاليبسي المومى إليها) حتى أنه يبان أن خليقةً بسيطةً لا يمكنها أن تتحد به تعالى أتحاداً أشد من هذا الأتحاد. فاذاً بالصواب مثلت هذه البتول المجيدة بالأمرأة الملتحفة بالشمس، اذ أنها تغمرت في أقصى عمق الحكمة الإلهية بأكثر مما يمكن تصديقه، بنوع أنها أستبانت غائصةً في ذاك النور الغير المقترب منه، بمقدار ما توجد الخليقة موضوعاً قابلاً لذلك. خلواً من الأتحاد الأقنومي بالله: ثم أن القديس بوناونتورا يشهد لنا بقوله: أن هذه الأم الإلهية لم تجرب قط من الأركون الجهنمي، لأنه كما أن الدبان والدبابير تهرب من لهيب نارٍ متأججةٍ عظيمة، فهكذا الشياطين كانوا مطرودين عن قلب هذه الطوباوية المتأجج بلهيب نار الحب الإلهي. ولذلك لم تجسر الأرواح النجسة حتى ولا على الأقتراب من قلبها ليجربوها: وكذلك يقول ريكاردوس: أن البتول المجيدة وجدت مخفيةً لأركون الظلام. بنوع أنه لم يمكنه أن يدنو منها بتجربةٍ ما، لأهتيابه من لهيب نار الحب نحو الله المتقدة في قلبها. بل أن والدة الإله نفسها أوحت للقديسة بريجيتا: بأنها اذ كانت هي في العالم، لم يكن لها لا فكرٌ آخر ولا شوقٌ ما، ولا لذةٌ أخرى، سوى الله: ولهذا كتب عنها الأب سوارس: أن نفسها المباركة اذ كانت دائماً في مدة حياتها على الأرض مرتفعةً الى العلاء في الثاوريا نحو الله. غائصةً بالتأمل فيه تعالى. فمن ثم أفعال الحب ونوافله وعواطفه كانت مفعولةً منها بعددٍ فائق الأحصاء ثم أنه قد أسرني ما كتبه برنردينوس البوسطي قائلاً: أن مريم البتول بأختصاصٍ مريدٍ موهوبٍ لها من الله. كانت تحبه عز وجل بفعل حبٍ واحدٍ حاليٍ فعالٍ متصلٍ، أحرى مما بأفعالٍ مترادفةٍ متكررةٍ كما يفعل القديسون الآخرون: وقال القديس بطرس داميانوس: أن العذراء المجيدة هي شبه النسر كانت عيناها محدقةً على الدوام في الشمس الإلهية بنوع أنه لا أعمالها الخصوصية المتعلقة بأحتياجات الحياة الزمنية. كانت تمنعها عن أفعال الحب لله. ولا الحب الإلهي كان يصدها عن ممارسة تلك الأعمال. ولهذا يقول القديس جرمانوس: أن مذبح الغفران الذي فيه كانت متقدةً النار الدائمة من دون أن تخمد أو تنطفئ لا نهاراً ولا ليلاً قد كان رسما لمريم العذراء.* بل أن النوم الطبيعي نفسه لم يكن يمنع هذه السيدة المجيدة عن أفعال الحب نحو الله، بمحبتها إياه تعالى حين رقادها عينه. لأنه أن كانت هذه الموهبة الأختصاصية قد أعطيت لآدم وحواء في حين خلقتهما، أي في حال البر الأصلي، كما يشهد القديس أوغوسطينوس بقوله: أن أبوينا الأولين كانا سعيدين على حدٍ سواء كما في حال يقظتهما كذلك في حين نومهما. فمن المعلوم الأكيد خلواً من أرتيابٍ لم تكن تنكر الخصوصية المذكورة على هذه الأم الإلهية. حسبما يحامي عن أختصاصها بها الأب سوارس، والأنبا روبارتوس جملةً مع القديس برنردينوس، ومع القديس أمبروسيوس القائل: أن نفس البتول مريم كانت تستمر ساهرةً متيقظةً حينما كان جسدها يأخذ الراحة بالنوم: وبهذا قد تصادق محققاً ما سبق وقاله عنها الحكيم: وذاقت جيداً أن تعمل فلا ينطفئ طول الليل سراجها: (أمثال ص31ع18) أي نعم أن الأمر هو كذلك: لأنه حينما كان جسد هذه القديسة المغبوط يأخذ بالنوم الخفيف قليلاً من الراحة الضرورية لحياتها، فكانت نفسها السعيدة (يقول القديس برنردينوس) حينئذٍ متحدةً بالله. ولهذا قد كانت هي في حين رقادها بأبلغ نوع من الكمال متأملةً فيه تعالى بأسلوبٍ أفضل من أن يمارس هذا التأمل من يكون في حال اليقظة". وهكذا كان يمكن بالصواب لهذه السيدة أن تقول مع عروسة النشيد: أنا نائمةٌ وقلبي ساهرٌ: (نشيد ص5ع2): فهكذا أنا كنت سعيدةً في حال نومي بمقدار ما كنت سعيدة في حين يقظتي: (كما يقول عنها الأب سوارس) وبالأجمال كتب القديس برنردينوس قائلاً: أن مريم العذراء في مدة حياتها على الأرض كانت بأتصالٍ من دون أنقطاعٍ تحب الله دائماً: بل أضاف الى ذلك بقوله: أنها لم تفعل قط الا تلك الأشياء التي تكون هي سبقت وعرفت أن بها كانت ترضي الله وتسره. وأنها أحبته تعالى بمقدار ما أعتبرت ذاتها ملتزمةً بحبه: بنوع أنه (كما كتب الأنبا ألبارتوس الكبير) يمكن جيداً أن يقال عنها أنها قد أمتلأت من الحب الشديد لله بهذا المقدار، حتى أنه لم يعد ممكناً على نوعٍ ما أن توجد خليقةٌ بسيطةٌ في الأرض موضوعاً قابلاً لأن تستوعب حباً أكثر من ذلك: ولهذا قال القديس توما الفيلانوفي: أن البتول المغبوطة بواسطة فضيلة محبتها لله المتقدة في الغاية. قد صيرت ذاتها بهذا المقدار جميلةً في عينيه تعالى. ومحبوبةً منه كثيراً، حتى أنه عز وجل أنجذب من حبها لأن ينحدر من السماء الى مستودعها متأنساً. ولذلك يهتف القديس برنردينوس قائلاً: هوذا أن فتاةً بتولاً قد جرحت قلب الله حباً بفضيلتها، وعطفته الى حبها الشديد:* فاذاً من حيث أن العذراء المجيدة تحب إلهها حباً هذا حده وصفته، فأمرٌ أكيدٌ هو أنها لا تطلب راغبةً من المتعبدين لها شيئاً آخر بمقدار ما تريد منهم أن يحبوه تعالى بكل ما يمكنهم. فهكذا قالت هذه السيدة للطوباوية أنجلا التي من مدينة فولينو في يومٍ ما حينما تناولت أنجلا القربان الأقدس، مخاطبةً إياها بهذه الكلمات وهي:" كوني مباركةً من أبني يا أنجلا، وأجتهدي في أن تحبينه بكل أستطاعتكِ". وقالت للقديسة بريجيتا:" أن كنتِ يا أبنتي تريدين أن تتحدي بي برباط الوحدة، فأحببي أبني". وبالأجمال أنها لا تشتهي شيئاً آخر سوى أن يكون أبنها الذي هو الله بالذات محبوباً من الجميع. وهنا العلامة نوفارينوس يسأل كمستفهمٍ: لماذا البتول القديسة تتوسل مع عروسة النشيد للمليكة بأن يخبروا سيدها عن الحب المضطرم سعيره، الذي به كانت هي تحبه قائلةً: يا بنات أورشليم أستحلفكن اذا وجدتن حبيبي فأخبرنه بأني أنا من المحبة ضعيفةٌ عليلةٌ (نشيد ص5ع8) أهل أن الله ما كان يعلم كم هي كانت تحبه: وهو نفسه يرد الجواب عن ذلك قائلاً: أن هذه الأم الإلهية قد أرادت بذلك أن تعلن لنا، لا لله، شدة حبها. حتى كما أنها كانت هي ضعيفةً مجروحةً بسهام الحب الإلهي، تقدر أن تجرحنا نحن أيضاً بهذا الحب، لأجل أنها هي مشتعلةٌ بجملتها بنار حب الله، فهكذا اذين يحبونها ويقتربون إليها هي تشركهم بحرارتها وتجعلهم متشبهين بها: ومن هذا القبيل كانت القديسة كاترينا السيانية تسمي هذه البتول: جالبة نار الحب الإلهي: فأن كنا نحن أيضاً نريد أن نلتهب بهذه النار المغبوطة، فلنجتهد دائماً في أن نقرب من أمنا مريم المجيدة بالصلوات والتوسلات وبعواطف الحب نحوها.* فيا مريم سلطانة الحب، أنتِ هي الموضوع الأعظم حباً، وأنتِ هي المحبوبة أشد حباً من الجميع، وأنتِ هي المتقدة بنار الحب أكثر من كل أحدٍ (حسبما يهتف نحوكِ القديس فرنسيس سالس) فيا أمي أنتِ كنتِ على الأرض مشتعلةً بكليتكِ دائماً بلهيب نار الحب نحو الله. فتنازلي مرتضيةً بأن تهبيني قلما يكون شرارةً واحدةً من هذه النار، فأنتِ قد تضرعتِ لدى أبنكِ يسوع من أجل العروس والعروسة اللذين في وليمة عرسهما في قانا الجليل نقص عنهما الخمر قائلةً له تعالى: أن ليس عندهم خمرٌ: أفهل لا تتضرعين لديه من أجلنا نحن الفارغين من خمر الحب نحو الله، مع أننا ملتزمون ألتزاماً هذا حد صرامته بأن نحبه عز وجل. فقولي اذاً له: أن هؤلاء ليس عندهم حبٌ: وهكذا أنتِ أستمدي لنا منه هذا الحب، ونحن لا نطلب منكِ نعمةً أخرى غير هذه. فيا أيتها الأم الإلهية بحق المحبة التي بها أحببتِ يسوع وتحبينه أستجيبي لنا وصلي من أجلنا الآن وفي ساعة موتنا آمين.* الفصل الثالث * في شأن محبة البتول والدة الإله الحارة نحو القريب أيضاً* أن المحبة لله والمحبة للقريب قد رسمت علينا من قبل الله بوصيةٍ واحدةٍ هي نفسها: لأن هذه الوصية لنا منه، أن من يحب الله، يحب أخاه أيضاً: (يوحنا أولى ص4ع21): والسبب في ذلك، يقول القديس توما اللاهوتي، هو لأن الذي يحب الله فيحب أيضاً كل الأشياء المحبوبة منه تعالى: فالقديسة كاترينا التي من مدينة جانوا كانت يوماً ما تخاطب الله قائلةً: أيها الرب أنتَ تريد مني أن أحب قريبي، وأنا لا أقدر أن أحب آخر غيركَ. فالباري جلت رأفته قد أجابها عن ذلك بقوله لها: أن من يحبني يحب كل الأشياء المحبوبة مني. فاذاً من حيث أنه ما وجد قط، ولن يوجد أصلاً من أحب الله أو يحبه أكثر من والدته المجيدة، فهكذا لم يوجد مطلقاً ولن يكون أبداً من أحب القريب أو يحبه أكثر من حبها إياه. فالأب كورنيليوس الحجري اذ يفسر كلمات سفر النشيد (ص3ع9) وهي: أن سليمان الملك عمل له عماريةً من خشب لبنان، فعمل عمدها من فضةٍ، ومتكأها من ذهبٍ، وجلالها من أرجوان، وباطنها مرصعاً، وذلك بواسطة محبة بنات أورشليم: فيقول:" أن هذه العمارية أي العرش هي رسم مستودع مريم البتول الذي عندما سكن فيه كلمة الله متجسداً، قد أوعب والدته هذه حباً وشفقةً، لكي تساعد هي مسعفةً كل من يلتجئ إليها". ولذلك قد كانت هذه الأم الإلهية في مدة حياتها على الأرض ممتلئةً من المحبة والرأفة بهذا المقدار، حتى أنها كانت تسعف المحتاجين من دون أن يلتمسوا منها ذلك. كما فعلت في عرس قانا الجليل، بطلبها من أبنها أن يصنع تلك الأعجوبة، موردةً لديه أحتياجهم بقولها: أن ليس عندهم خمرٌ: (يوحنا ص2ع3) فكم كانت هي سريعةً نشيطةً حارةً في الأعمال الملاحظة أسعاف القريب، حسبما يظهر عن أهتمامها في مساعدة القديسة أليصابات، حينما فهمت من زعيم الملائكة أنها كانت حبلى بأبنٍ على شيخوختها لأنها قامت مسرعةً وذهبت الى الجبل الى مدينة يهوذا ودخلت الى بيت زخريا: (لوقا ص1ع39) ثم أنها لم تستطع أن تظهر نحو البشر أشد حباً من أنها تقدم لله الآب من أجل خلاصهم أبنها الوحيد ضحيةً على جبل الجلجلة. كما يقول القديس بوناونتورا: أن مريم هكذا أحبت العالم، حتى أنها بذلت عنه أبنها الوحيد: والقديس أنسلموس يخاطبها قائلاً: أيتها المباركة في النساء أن طهارتكِ فاقت طهارة الملائكة، وأشفاقكِ سما على أشفاق كل القديسين. ويقول القديس بوناونتورا عينه: أن رأفة مريم ومحبتها إيانا لم تنقص فيها أصلاً بعد أرتقائها الى السماء حيث هي الآن جالسة، بل أن ذلك قد أزداد فيها هناك نامياً وأشتد حرارةً لأنها الآن بأبلغ نوع تشاهد أحوال شدائد البشر: ومن ثم كتب هذا القديس قائلاً: ان مراحم مريم نحو المساكين المضنوكين قد كانت عظيمةً حينما هي وجدت عائشةً على الأرض، ولكن هذه المراحم هي الان فيها أعظم في وجودها مالكةً في السماء ولذلك قال ملاك الرب للقديسة بريجيتا:" أن ما من أحدٍ يتوسل الى والدة الإله، ولا ينال من قبل حبها النعمة التي يطلبها". بل أن مخلصنا نفسه أوحى لهذه القديسة بقوله لها: يا لتعاسة أولئك الذين لا تتوسل من أجلهم أمي البتول:* فهذه العذراء المجيدة تقول بلسان الحكيم، مغبوطٌ هو الإنسان الذي يستمعني والذي يسهر كل يومٍ عند أبواب مداخلي: (أمثال ص8ع34) وقد كتب القديس غريغوريوس النزينزي قائلاً:" أنه لا يوجد شيءٌ يصيرنا أن نكتسب بأفضل نوعٍ أنعطافات مريم البتول بالحب نحونا بمقدار هذا الشيء، وهو ممارستنا واجبات المحبة نحو القريب". وبالتالي أنه كما أن الله يحرضنا بقوله لنا: كونوا رحومين فأن أباكم رحومٌ هو: (لوقا ص6ع36) فكذلك مريم يبان أنها تقول نحونا جميعاً نحن أولادها: يا أبنائي كونوا رحومين فأن امكم رحومةٌ هي: فأمرٌ أكيدٌ هو أنه بمقدار الرحمة والأسعاف اللذين بهما نحن نرحم قريبنا ونسعفه، فتكون رحمة الله ورأفة والدته ممارسةً نحونا. كقوله تعالى: أعطوا تعطوا بمكيالٍ صالحٍ مملؤٍ يلقون في حضنكم. (لوقا ص6ع38) وكان القديس متوديوس من عادته أن يقول: أعطِ الفقراء وخذ الملكوت: لأن الرسول الإلهي كتب قائلاً: أما العبادة الحسنة فهي نافعةٌ في كل شيء، اذ لها موعد الحيوة الحاضرة والمنتظرة (تيموتاوس أولى ص4ع8) والقديس يوحنا فم الذهب اذ يتكلم عن قول الحكيم وهو: أن من يرحم مسكيناً يقرض الرب وسيكافئه على قدر عطيته: (أمثال ص14ع17) فيقول: أن من يسعف المحتاجين يصير الله مديوناً له:* فيا أم الرحمة أنتِ مملؤةٌ أشفاقاً وترأفاً ومحبةً نحو الجميع، فلا تنسي شقاوتي ومسكنتي، لأنكِ تشاهديني وتعرفين حالي. فأوصي بي ذاك الإله الذي لا يمكن أن ينكر عليكِ شيئاً، وأستمدي لي منه النعمة في أن أقتفي نموذجكِ في فضيلة المحبة نحو الله ونحو القريب آمين.* الفصل الرابع * في فضيلة إيمان العذراء والدة الإله المجيدة * أنه كما أن البتول مريم هي أم المحبة والرجاء فهكذا هي أم الإيمان أيضاً، كقولها: أنا هي أم المحبة الجميلة والتقوى والمعرفة والرجاء المقدس: (أبن سيراخ ص24ع24): وهذا بالصواب، يقول القديس أيريناوس، لأن ذلك الضرر الذي سببته حواء بعدم إيمانها، فقد أصلحته مريم بحسن إيمانها: اذ أن حواء (يقول المعلم ترتوليانوس) لأجل أنها صدقت قول الحية ضد ما كان الله قاله. فقد أجتلبت الموت، وأما ملكتنا المجيدة فاذ صدقت كلام زعيم الملائكة، بأنها مع حفظ خواتيم بتوليتها كانت مومعةً أن تصير أماً لله متجسداً من أحشائها، فقد أجتلبت للعالم الخلاص. وهكذا يقول القديس أوغوسطينوس: أن مريم البتول بأعطائها رضاها بتجسد كلمة الله الأزلي في مستودعها، فبواسطة إيمانها قد فتحت للبشر أبواب الملكوت: وريكاردوس اذ يتكلم عن قول الرسول الإلهي: فأن الرجل الغير المؤمن يتقدس بالأمرأة المؤمنة: (قرنتيه أولى ص7ع14): يقول عن البتول مريم: هذه هي الأمرأة المؤمنة التي بها تقدس الرجل الغير المؤمن آدم وكل ذريته: ولأجل أمانة هذه العذراء الكلية القداسة قد أعطيت هي الطوبى من القديسة أليصابات القائلة لها: فطوبى لتلك التي آمنت ليكون لها ما كلمت به من قبل الرب: (لوقا ص1ع45) ويضيف الى ذلك القديس أوغوسطينوس بقوله: أن مريم قد حصلت على أعظم طوبى بأقتبالها الإيمان بما بشرها به زعيم الملائكة بسر التجسد، من الطوبى الذي هي حصلت عليه بأقتبالها المسيح متجسداً في أحشائها:* أما الأب سوارس فيقول:" أن البتول القديسة حصلت على إيمانٍ أعظم من إيمان البشر كلهم ومن إيمان الملائكة بأسرهم، فهي كانت تشاهد أبنها طفلاً في معلف البهائم في مغارة بيت لحم. وكانت مؤمنةً به أنه خالق البرايا كافةً. وكانت تراه هارباً الى مصر من يد هيرودس، ولم ترتب في أن تؤمن به أنه ملك الملوك ورب الأرباب. قد شاهدته مولوداً من مستودعها، وآمنت به أنه أزلي. قد راته مسكيناً محتاجاً الى القوت والكسوة، وأعتقدت به أنه سلطان العالمين. قد درجته باللفايف ووضعته فوق التبن في المذود. وآمنت به أنه قادرٌ على كل شيءٍ. قد لاحظته صامتاً كالأطفال، وأعتقدت به أنه الحكمة الإلهية الغير المتناهية. كانت تسمعه باكياً كالرضعان، وآمنت به أنه فرح الفردوس ونعيم الملكوت. وأخيراً رأته حين موته على الخشبة مهاناً محتقراً. وأستمرت ثابتةً على أعتقادها به أنه هو الإله، في الوقت الذي فيه كان الآخرون يرتابون ضعفاً في الأمانة". وقد كتب القديس أنطونينوس بتكلمه عن قول البشير: وكانت واقفةً عند صليب يسوع أمه: قائلاً: أن مريم كانت واقفةً تحت الصليب مرتفعة العقل بالإيمان الذي كانت حافظته بألوهية أبنها المصلوب، ولأجل ذلك قد جرت العادة في أن تحفظ شمعةٌ واحدةٌ متقدةً بعد طفي بقية الشموع حين صلاة فرض الآلام: وبهذ المعنى فسر القديس لاون الكبير كلمات سفر الأمثال وهي: فما ينطفي طول الليل سراجها: (ص31ع18) أما القديس توما اللاهوتي فعلى تفسير كلمات أشعيا النبي وهي: دست معصرةً وحدي ولم يكن معي من الأمم رجلٌ: (ص63ع3) قد كتب قائلاً: أنه أنما سمى الرجل أستثناءً عن البتول المجيدة التي قط لم ينقص إيمانها:* ولهذا قال الطوباوي ألبارتوس الكبير:" أن مريم البتول حينئذٍ قد أظهرت بالعمل أمانةً عظيمةً بدرجةٍ كلية السمو، اذ لم ترتب في ذاك الذي وقتئذٍ تلاميذه أنفسهم كانوا يرتابون فيه". ولذلك قد أستحقت مريم لأجل عظم إيمانها أن تصير نوراً للمؤمنين كلهم، كما يسميها القديس متوديوس. وأن تدعى سلطانة الإيمان الحقيقي، حسبما يلقبها بذلك القديس كيرللس الأسكندري. بل أن الكنيسة المقدسة تخصص بأستحقاقات إيمان هذه البتول العظيم أنغلاب الأرتقات كلها، اذ تقول نحوها في الأنتيفونا الأولى من السهرانة الثالثة هكذا: أفرحي أيتها البتول مريم، أنتِ التي قد لاشيتِ مستأصلةً من كل العالم الأرتقات بأسرها: على أن القديس توما الفيلانوفي اذ يفسر ما قاله الروح القدس في سفر النسيد وهو: أيتها العروسة أختي جرحتِ قلبي بإحدى عينيكِ: (ص4ع9) فيقول: أن عيني هذه العروسة هما إيمان مريم العظيم الذي سر به جداً ربها وعروسها.* وهنا القديس أيدالفونسوس يحرض الجميع بقوله:" أتبعوا نموذج أمانة مريم البتول العظيمة". ولكن كيف وبأية طريقةٍ نتبع نحن أيمان هذه السيدة العظيم، فالإيمان هو في الوقت عينه موهبةٌ وفضيلةٌ معاً، فهو موهبةٌ من الله نظراً الى النور السماوي الذي يفيضه تعالى في النفس، وهو فضيلةٌ نظراً الى أفعال الإيمان التي تمارسها النفس بذاتها. ومن ثم أن الإيمان ليس فقط يدربنا للأعتقاد بالحقائق التي يعلمناها هو ويرشدنا إليها، بل أيضاً يقودنا الى الأعمال المختصة به. ولذلك يقول القديس غريغوريوس الكبير: أن من يضيف الى الإيمان الحقيقي الأعمال الواجبة للإيمان، فذاك هو المؤمن: وكتب القديس أوغوسطينوس قائلاً: أنك يا هذا تقول أنا أؤمن. فأعمل بما تقول وهذا هو الإيمان: على أن الإيمان الحي بالحقيقة هو الحيوة بموجب واجبات الإيمان، أي أن يعيش المرء بحسبما يؤمن، كما يقول الرسول الإلهي: أن الصديق من الأمانة يحيى: (عبرانيين ص10ع38) فهكذا عاشت الطوباوية مريم البتول، خلافاً لأولئك الذين لا يحيون بموجب ما يؤمنون به. وبالتالي أن إيمانهم على هذه الصورة هو ميتٌ كقول القديس يعقوب الرسول: أن الأمانة أن لم يكن لها عملٌ فهي مائتةٌ في ذاتها: (ص2ع17) فالفيلسوف ديوجانه كان يجول في الأرض قائلاً: أني أدور مفتشاً لأصادف إنساناً: وهكذا يبان أن الله فيما بين عددٍ فائق الإحصاء من المؤمنين يجول في الأرض قائلاً: أني أدور مفتشاً لأصادف مسيحياً. من حيث أنهم قليلون جداً هم أولئك الذين يعملون أعمال الإيمان، والأكثرون يوجد عندهم من الأمانة الأسم فقط. ولكن يلزم أن يقال لهؤلاء الكثيرين ما تفوه به الملك ألكسندروس الكبير نحو ذاك الجندي الكسلان الذي هو أيضاً كان أسمه ألكسندروس قائلاً له: أنه ينبغي لك أما أن تغير أسمك، وأما أن تغير تصرفك: الا أنه لأفضل هو ما كتبه في هذا الشأن الأب العلامة أفيلا بقوله: أنه لقد كان يجب أن يوضع هؤلاء الكثيرون مسجونين في بيمارستان المجانين، لظنهم في أن سعادةً أبديةً معدةً لمن يعيش متنعماً في هذه الحياة، وأن تعاسةً سرمديةً مهيأةً لمن يعيش بالمرائر والأضامات في الدهر الحاضر. ثم لسلوكهم بسيرةٍ توضح كأنهم لم يؤمنوا بحقائق الأنجيل: ولهذا يحرضنا القديس أوغوسطينوس على أن ننظر الى الأشياء الأرضية بأعين مسيحية، أي بأعين تنظر بموجب الإيمان المسيحي. لأنه تقول القديسة تريزيا: أن من قبل نقص الإيمان تتولد الخطايا كلها: ولهذا يلزمنا أن نتوسل لدى البتول والدة الإله المثلثة القداسة في أن تستمد لنا بأستحقاقات إيمانها العظيم، أمانةً حيةً نعيش فيها قائلين نحوها: يا سيدتنا زيدينا إيماناً.* الفصل الخامس * في فضيلة الرجاء الثابت الذي كان لوالدة الإله الطوباوية * أن من فضيلة الإيمان تتولد فضيلة الرجاء لأن الله لهذه الغاية ينيرنا بالإيمان لنعرف خيرية صلاحه وصدق مواعيده. وهكذا نرتقي بواسطة الرجاء بعواطف الشوق الى أمتلاكنا إياه تعالى. فاذاً من حيث أن مريم البتول قد كانت حاصلةً على إيمان غظيم، ففازت أيضاً بفضيلة رجاءٍ ثابتٍ وطيدٍ كان يجعلها أن تقول مع النبي والملك داود: خيرٌ لي الألتصاق بالله وأن أجعل على الرب أتكالي: (مزمور73ع28) فمريم هي تلك الأبنة عروسة الروح القدس التي قيل عنها: من هي هذه الصاعدة من البرية متدللةً مستندةً على حبيبها: (نشيد ص8ع5) لأنها كانت بجملتها منزهةً عن تعلق القلب في الأشياء العالمية، بعيدةً على الدوام عن الأنعطاف نحو الموجدات الأرضية، معتبرةً العالم بأسره كبريةٍ مقفرةٍ، ولهذا اذ لم تكن تثق بشيءٍ من المخلوقات، ولم تكن تعتمد على شيءٍ من أستحقاقاتها الذاتية، فكانت بكليتها مستندةً على حبيبها، أي متكلةً بحسن الرجاء على النعمة الإلهية التي فيها فقط كانت تثق، وعليها وحدها كانت تتكل في حبها الدائم لله ربها. فهكذا يتكلم عنها المعلم أيلغرينوس في تفسيره ألفاظ سفر النشيد المقدم إيرادها، كما يوضح كورنيليوس الحجري قائلاً: أن الصاعدة من البرية تعني الصاعدة من العالم الذي هجر متروكاً منها. وأعتبرته نظير القفر، حتى أنها قد كانت لاشت منها كل أنعطافٍ نحوه، وأستندت على حبيبها فقط، وذلك لأنها لم تستند على أستحقاقاتها الذاتية، بل أعتصمت بنعمة أبنها الحبيب معطي النعم. فالبتول القديسة أظهرت جيداً وأعلنت واضحاً كم كان رجاؤها بالله وأتكالها عليه تعالى عظيماً، وذلك: أولاً:حينما لاحظت بالكفاية أن خطيبها الطاهر القديس يوسف لعدم معرفته حقائق الحبل العجيب المصنوع بقوة الروح القدس وفعله في أحشائها البتولية حصل قلقاً مرتاباً ومن ثم هم بتخليتها سراً: (متى ص1ع19) ولهذا كان يبان أنها وقتئذٍ وجدت مضطرةً لأن تخبره بسر حبلها، كما أوردنا في الفصل الأول من هذه المقالة. الا أن هذه البتول لم ترد من تلقاء ذاتها أن تكشف حقائق النعمة التي أقتبلتها، وأعتبرت أنه لأفضل لها هو أن تترك الأمر للعناية الإلهية، متكلةً عليها كل الأتكال، مترجيةً بثقةٍ في أن الله عينه لم يكن يغفل عن أن يظهر برارتها، ويحامي عنها بعدم أنثلام صيتها، فهكذا يفسر الاصحاح الأول من بشارة متى الأب كورنيليوس الحجري.* ثانياً:أوضحت أتكالها بحسن الرجاء على الله حينما رأت ذاتها بالقرب من ساعات ولادتها مطرودةً من بيت لحم، حتى من المنازيل المشاعة. وألتزمت بأن تلتجئ الى مغارةٍ خارج المدينة لتلد هناك رب المجد، كقول البشير لوقا: فولدت أبنها البكر ولفته بلفائف ووضعته في مذودٍ. لأنه لم يكن لهما موضعٌ لينزلا: (ص2ع7) فهي لم تتفوه بكلمةٍ ما ذات تذمر، بل فوضت أمرها لله بكمال الأتكال، واثقةً بأنها في ظروفٍ هذه صفتها كانت تفوز بالأسعاف والمعونة منه تعالى.* ثالثاً: ومثل ذلك أعلنت حسن رجائها بالله حينما أخبرها القديس يوسف بالوحي الذي بواسطته أمر من قبل الله بأن يأخذها مع طفلها الإلهي، ويهربوا معاً الى مصر من رجز هيرودس. فهي حالاً في تلك الليلة عينها أخذت بالمسير مبتدئةً بسفرٍ شاسع المسافة الى بلادٍ مجهولةٍ منها، خلواً من أحتياجات السفر ومن دون مال، وخلواً من خادمةٍ أو رفقاء سوى طفلها وخطيبها، بل قاموا ليلاً وأخذوا بالمسير الى مصر (متى ص2ع14).* رابعاً: أنها أظهرت بأبلغ نوع رجاءها بالله عندما ألتمست من أبنها صنع الأعجوبة في عرس قانا الجليل، لأنها بعد أن قالت له: أن ليس عندهم خمرٌ: وهو أجابها: مالي ولكِ أيتها الأمرأة لم تأتِ ساعتي بعد: فمع ذلك أي غب أن سمعت منه تعالى هذا الجواب الذي كان يظهر منه أنه أنكر مطلوبها، فلم يضعف فيها الرجاء، بل قالت للخدام: أفعلوا كل ما يأمركم به: (يوحنا ص2ع3) كما تم بالحقيقة رجاؤها بأن يسوع أمر الخدام بأن يملأوا الست الأجلجين ماءً وأحال الماء اللا خمرٍ.* قلنتعلم اذاً من مريم العذراء أن نتكل على الله بحسن الرجاء كما ينبغي لا سيما في الأشياء الملاحظة ذاك العمل العظيم المختص بخلاصنا الأبدي، الذي ولئن كان محتاجاً الى أعمالنا نحن أيضاً، فمع ذلك يلزمنا أن نرجوا من الله وحده النعمة في أن نحصل عليه، ميؤوسين بالكلية من قوانا الذاتية. وليقل كلٌ منا مع الرسول الإلهي: أنا أقوى على كل شيءٍ بذاك الذي يقويني: (فيليبوسيوس ص4ع13):* فيا أيتها البتول أمي الكلية القداسة. أنكِ أنتِ هي أم الرجاء المقدس. كما تقولين عن لسان أبن سيراخ: أنا هي أم المحبة الجميلة والتقوى والرجاء المقدس: (ص24ع24) بل أن الكنيسة المقدسة تسميكِ الرجاء بالذات بقولها نحوكِ: السلام عليكِ يا رجانا: فاذاً أيُّ رجاءٍ أنا أطلب مفتشاً. والحال أنكِ أنتِ بعد يسوع هي رجائي بأسره. فهكذا كان يدعوكِ القديس برنردوس: وكذلك أنا أدعوكِ قائلاً: فيكِ أوطد كل رجائي: وأقول لكِ دائماً مع القديس بوناونتورا: يا خلاص المستغيثين بكِ خلصيني.* الفصل السادس * في فضيلة عفة البتول والدة الإله الكلية الطهارة * أنه اذ كان بعد سقطة الأب الأول آدم قد تمرد في الإنسان ألم الشهوة على العقل، فقد أضحت ممارسة أفعال فضيلة العفة ذات صعوبات أبلغ مما سواها من الفضائل. كما يقول القديس أوغوسطينوس:" أنه توجد داخل كل منا معركةٌ قويةٌ جداً، حيث تتحارب العفة مع الآلام محاربةً متصلةً بقليل من الأنتصار. فليكن مباركاً الرب الذي أعطانا في شخص العذراء مريم نموذجاً حياً لفضيلة العفة". فيقول الطوباوي ألبارتوس الكبير: أنه بالصواب تسمى والدة الإله عذراء العذارى. لأنها اذ كانت هي أول من قدم لله طوعاً حفظ البتولية الدائمة، خلواً من نموذجٍ سبق مثله، ومن دون مشورةٍ تقدمت لها. فهي بذلك أعطته تعالى كل البتولات اللواتي أقتدين بنموذجها، كما سبق داود النبي قائلاً: أن العذارى يبلغن الى الملك في أثرها... ويدخلن الى هيكل الملك: (مزمور45ع15) وأنما قلت أن العذراء كرست بتوليتها الدائمة خلواً من نموذج ومن دون مشورة. لأن القديس برنردوس يخاطبها هكذا:" ترى من هو الذي علمكِ أيتها العذراء بأنكِ ترصين الله بحفظكِ البتولية، وبأن تعيشي على الأرض بسيرةٍ ملائكية". فيجيب عن ذلك القديس صفرونيوس قائلاً: أنه لأجل هذه الغاية قد أختار الله أماً له بالجسد هذه البتول الكلية الطهارة. لكي تكون هي للجميع نموذجاً للعفة: ولذلك يدعوها القديس أمبروسيوس: مقدام فضيلة العفة وقائدتها:* بل أن الروح القدس نفسه خاطبها لأجل نقاوتها وعفتها هكذا: ما أشد بهاء وجنتيكِ كاليمامة: (نشيد ص1ع10) وكما يفسر العلامة أبونيوس: يمامةً كلية الطهارة: ولذلك لقبت أيضاً بالسوسن والزنبق كقوله تعالى: مثل السوسن بين الأشواك هكذا قرينتي بين البنات: (نشيد ص2ع2) وهنا ينبه القديس ديونيسيوس كارتوزيانوس بقوله: أن البتول المجيدة قد سميت سوسناً أو زنبقاً أم وردةً بين الأشواك. لأن البتولات الأخرات كلهن كن أشواكاً وقرطباً وعثراتِ أما لغيرهن، وأما لذواتهن، فأما هذه الطوباوية فلم تكن كذلك: لأنها كانت بمجرد النظر إليها تجلب في القلوب أفكار الطهارة والعفاف والميل نحو محبة النقاوة والعفة: ويثبت ذلك القديس توما اللاهوتي بقوله: أن جمال خلقة البتول المجيدة كان يحرك ناظريها الى العفة: ثم كتب القديس أيرونيموس، بأنه هو متمسكٌ برأيه في أن القديس يوسف الخطيب قد حفظ البتولية ليكون رفيقاً لهذه العذراء المجيدة، غير مفارقٍ إياها، لأنه أي القديس أيرونيموس بكتابته ضد الفيديوس الأراتكي الناكر بتولية هذه الأم الإلهية يقول له هكذا: فأنت تزعم أن مريم والدة الإله لم تستمر فيما بعد حافظةً عذريتها. وأنا بضد ذلك أقول، بل أرتأي بأكثر من هذا بأن القديس يوسف أيضاً عروسها قد حفظ البتولية لأجل هذه العروسة الدائمة بكارتها". وقد قال أحد العلماء: أن الطوباوية مريم العذراء كانت بهذا المقدار منشغفة القلب بمحبة فضيلة العفة. حتى أنها لكي تحفظ هي عذريتها دائمةً لقد كانت ترفض أن تقبل لالدعوة الكلية العظمة والسمو وهي الوالدية لله، لو كان يقترن بهذه الدعوة فقدها بتوليتها: وهذا يستنتج واضحاً مما أجابت هي به زعيم الملائكة جبرائيل قائلةً له: كيف يمكن أن يكون هذا وأنا لم أعرف رجلاً: (لوقا ص1ع34) وأيضاً مما أختتمت به خطابها معه بقولها: فليكن لي كحسب قولك: مشيرةً بهذا ومفسرةً به نيتها في أنها أنما قد أعطت رضاها بتجسد كلمة الآب من أحشائها، بالنوع الذي قاله لها رئيس الملائكة. وهو أنها كانت مزمعةً أن تصير أماً بهذه الطريقة فقط، وهي بحلول الروح القدس عليها وبتظللها بقوة العلي، أي بفعلٍ فائق الطبيعة بقوة الروح القدس.* ويقول القديس أمبروسيوس: أما الذي يحفظ عذريته فملاكٌ هو وأما الذي يخسرها فشيطانٌ: أي أن أولئك الذين يعيشون بالعفاف فيصيرون كالملائكة. كقوله تعالى: لأنهم في القيامة لا يزوجرون ولا يتزوجون، لكن يكونون كملائكة الله: (متى ص22ع30) وأما الزناة والفاسقون فيضحون مبغوضين من الله نظير الشياطين. وكان القديس راميجيوس من عادته أن يقول:" أن أكثر البالغين سن الرجولية يهلكون لأجل رذيلة الدنس". لأن الأنتصارات ضد هذه الرذيلة هي شيءٌ نادرٌ. كما أوردنا في ذلك كلمات القديس أوغوسطينوس عند بداية هذا الفصل. ولكن ما السبب في أن الأنتصارات هي نادرةٌ. فأنما السبب هو من عدم ممارسة الوسائط الضرورية لأكتساب الغلبة، فهذه الوسائط هي ثلاث حسبما يبرهن معلموا السيرة الروحية. جملةً مع بيلرمينوس وهي: الصوم، والأبتعاد عن الأسباب، والصلاة، فبالصوم الذي هو الواسطة: الأولى: تفهم أماتات الحواس، خاصةً النظر والحنجرة. فمريم البتول ولئن كانت هي ممتليئةً نعمةً إلهيةً، فمع ذلك كانت تميت حاسة نظرها محدقةً بعينيها الى الأرض دائماً. كما يقول القديسان أبيفانيوس ويوحنا الدمشقي، ويوردان عنها انها منذ طفولتها كانت متصفةً بأحتشام فريد مذهل ناظريها، ولذلك يوضح القديس لوقا كيفية مضيها لزيارة القديسة أليصابات بقوله: وذهبت مسرعةً: لكيلا تشاهد من كثيرين في مسيرها. وأما بخصوص قناعتها في المأكل، فيخبر فيليبارتوس بأنه قد اوحي الى السائح فيليكوس بأن مريم العذراء اذ كانت طفلةً رضيعةً، فلم تكن ترضع الحليب من أمها سوى مرةٍ واحدةٍ في النهار. ويشهد القديس غريغوريوس الطورنازي، بأنها في أيام حياتها كلها كانت تمارس الصوم، كما يقول القديس بوناونتورا: أنها لما كانت هي قط فازت بنعمٍ هكذا عظيمةٍ، لولا تكون كلية القناعة. وذلك لأن النعمة لن تتفق أصلاً مع الحنجرة. وبالأجمال أن هذه البتول القديسة كانت تمارس الأماتة في الأشياء كافةً، ولذلك بالصواب قيل عنها: قمت، لأفتح لحبيبي يداي قطرتا مراً، وأصابعي مملؤةٌ مراً فائقاً: (نشيد ص5ع5) أما الواسطة: الثانية:فهي الهروب من الأسباب، لأنه مكتوبٌ: أن من يحذر الفخاخ فيكون مطمأناً: (أمثال ص11ع15) ولذلك كان القديس فيلبس نيري من عادته أن يقول: أن الغالبين في معركة آلام الشهوة أنما هم الجنود الأندال الذين يولون هرباً: أي الذين يهربون من سبب الخطيئة. فمريم العذراء كانت بمقدار أمكانها تهرب من مواجهة الرجال. ولذلك في ذهابها الى الجبل الى بيت زخريا ذهبت مسرعةً كما تقدم الإيراد. ويقول أحد العلماء: أن والدة الإله قد رجعت من بيت زخريا قبل أن يبلغ زمن إيلاد القديسة أليصابات، وهذا يفهم من ألفاظ الإنجيل عينها وهي: فأقامت مريم عند أليصابات نحو من ثلاثة أشهرٍ وعادت الى منزلها. ولما تم زمان أليصابات لتلد فولدت أبناً ألخ: (لوقا ص1ع56) فلماذا لم تستمر هي ماكثةً عند أليصابات لحين ميلاد السابق يوحنا، فأنما فعلت ذلك هرباً من مخالطتها الجيران والمعارف والزوار الذين هي لحظت جيداً أنهم كانوا مزمعين أن يترددوا الى بيت زخريا في حادث فرح ميلاد أليصابان أبناً في حال شيخوختها.* وأما الواسطة الثالثة:فهي الصلاة، فيقول الحكيم: ولما عرفت أني لا أستطيع أن أكون عفيفاً أن لم يعطيني الله أن أكون، وهذا هو حكمةٌ أن أعلم ممن كانت لي هذه العطية، فذهبت الى الرب وتضرعت إليه: (سفر الحكمة ص8ع21) فالبتول الكلية النقاوة عينها قد أوحت للقديسة أليصابات الراهبة التي من قانون القديس بناديكتوس (كما يورد القديس بوناونتورا في الرأس 3من كتاب حياة المسيح) بأنها لم تمتلك هي فضيلةً ما من فضائلها من دون صلواتٍ متواترة وأتعابٍ متكاثرة. وقال عنها القديس يوحنا الدمشقي:" أن مريم كانت طاهرةً في ذاتها ومغرمةً في حب الطهارة". وبالتالي لا تحتمل هي الناس الدنسين، الا أن الذي يكون معرقلاً برذيلة الدنس ويلتجئ الى هذه العذراء الفائقة الطهر مستغيثاً بها، فمن دون ريبٍ يفوز بالنجاة من دناساته، بل ينجو من تجارب اللحم بمجرد أستدعائه برجاءٍ وحسن أتكالٍ أسم هذه الأم الإلهية مريم. كما يثبت ذلك يوحنا أفيلا المكرم بقوله: أن كثيرين جداً قد أختبروا في ذواتهم النجاة من التجارب المضادة العفة. وأنتصروا عليها بمجرد أنعطافهم نحو البتول البريئة من الدنس:* فيا أيتها الحمامة الكلية النقاوة مريم العذراء أواه كم هم كثيروا العدد أولئك الذين هلكوا في جهنم من قبل رذيلة الدنس. فأنقذينا منها أيتها السيدة. وأجعلينا أن نلتجئ إليكِ دائماً في حين التجارب التي تثب علينا ضد العفة. وأن نستغيث بكِ قائلين: يا مريم عينينا، يا مريم خلصينا آمين.* الفصل السابع * في فضيلة الفقر التي كانت البتول المجيدة متصفةً بها * أن مخلصنا الكلي الحب اذ أراد أن يعلمنا أحتقار خيرات الأرض. قد أرتضى بأن يولد في حال الفقر ويصير مسكيناً في هذا العالم. كما يقول الأنبا المصطفى (قرنتيه ثانية ص8ع9): أنكم تعرفون بنعمة ربنا يسوع المسيح أنه من أجلكم تمسكن وهو الغني، لتستغنوا أنتم بمسكنته. فمن ثم فادينا عينه يحرض كل من يريد أن يكون تابعاً إياه اذ يقول: أن كنت تريد أن تكون كاملاً أمضِ فبع كل ما لك وأعطه للمساكين... وتعال فأتبعني: (متى ص19ع21) فهوذا مريم البتول تلميذة مخلصنا الأكثر كمالاً هي التي قد أتبعت حسناً نموذج أبنها الإلهي. لأن الأب كانيسيوس يبرهن على أن هذه البتول قد كانت ورثت عن والديها وأقاربها موجوداتٍ ذات مداخيل كافيةٍ أن تعيش بكل راحةٍ. فهي أبقت لذاتها منها الشيء القليل، ووزعت الأكثر في أسعاف الفقراء وفي تقدماتٍ لهيكل الرب حتى أن كثيرين يرتأون بأنها صنعت نذر الفقر عينه. بل أنه لمعلومٌ هو أنها أوحت للقديسة بريجيتا قائلةً لها: أنني منذ البداية قد نذرت على ذاتي في قلبي أن لا أمتلك شيئاً من خيرات الأرض: ثم أن الهدايا التي قدمها لها المجوس في بيت لحم لم تكن ذات ثمنٍ قليلٍ من ذهبٍ ولبانٍ ومرٍ. ولكن هي أعطت كل شيءٍ للفقراء حسبما يشهد القديس برنردوس قائلاً:" أن الذهب الذي قدمه لها المجوس لم يكن ذا كميةٍ جزئيةٍ، بل كان وافراً بنوعٍ لائقٍ بعظمةٍ ملوكيةٍ في تقدمةٍ كذا. الا أن مريم العذراء قد فرقته بواسطة خطيبها البار يوسف على المساكين من دون أن تستبقي لذاتها منه شيئاً". وهذا يتضح من البرهان الآتي إيراده. وهو أن هذه الأم الإلهية حينما قدمت أبنها في هيكل الرب الأورشليمي عند نهاية الأربعين يوماً من ولادتها إياه، فلم تقرب عنه خاروفاً أبن سنةٍ، كالمرسوم على الجميع، ما عدا الفقراء وهذه هي ألفاظ الشريعة: أن الأمرأة اذا أكملت أيام تطهيرها، أبناً ولدت أم أبنةً، فلتأتِ بحملٍ حولىٍ للوقود، وبفرخ حمام أو يمام للخطيئة الى باب قبة الشهادة، وتدفعها الى الكاهن... وأن لم تقدر على تقدمة حملٍ. فلتأخذ زوج يمامٍ، أو فرخي حمامٍ الواحد للوقود والآخر للخطيئة: (أحبار ص12ع6) أما البتول المجيدة فقدمت فرخي حمامٍ أو يمامٍ الأمر المختص بالفقراء اذ يقول البشير: فلما كملت أيام تطهيرها كناموس موسى صعدوا به الى أورشليم ليقيموه للرب كما هو مكتوبٌ في ناموس الرب. أن كل ذكرٍ فاتح مستودعٍ يدعى قدوساً للرب. ولكي يقربوا ذبيحةً كما قيل في ناموس الرب زوج يمامٍ أو فرخي حمامٍ: (لوقا ص2ع22) بل أن هذه السيدة نفسها قد اوحت للقديسة بريجيتا بقولها: أن جميع ما كنت أملكه قد أعطيته للمحتاجين، ولم يكن عندي سوى لوازم القوت الضروري والكسوة التي لا بد منها.* ثم أن هذه الأبنة الشريفة حباً بالفقر والمسكنة قد أرتضت بأن تخطب هي عروسةً لرجلٍ فقير نجار الذي هو القديس يوسف، وأكتفت بأن تعيش معه فيما بعد من تعبها وكدها بعمل يديها، مجتنيةً سد أحتياجاتها من مكسب عزل القطن أو الصوف. أم من أجرة الخياطة، كما يشهد القديس بوناونتورا. بل أن ملاك الرب في خطابه مع القديسة بريجيتا عن هذه السيدة قال لها: أن البتول مريم كانت تحتقر الأموال والغنى الأرضي كأحتقارها الطين. وبالأجمال أن العذراء المجيدة قد عاشت مدة حياتها فقيرةً جداً، وماتت كذلك. لأنه حين نياحها لم يعرف عنها أنها تركت شيئاً من الموجودات، سوى ثوبين حقيرين من ملبوسها قد أوصت بهما، إيهاباً لأبنتين كنتا خدمتاها في حياتها. كما يورد الميتافرانسته. ونيكيفوروس.* فالقديس فيلبس نيري كان من عادته أن يقول: أن من يحب الموجودات الأرضية لا يصير قديساً: وتصيف الى ذلك القديسة تريزيا بقولها: أنه ينتج بالصواب أن من يجري وراء أشياء ضائعةٍ معدةٍ ذاتياً للفقدان، فهو أيضاً يضيع معها مفقوداً: وبالعكس تقول هذه القديسة نفسها: أن فضيلة الفقر والمسكنة هي خيرٌ يحوي ضمنه الخيرات الأخرى كلها. وأنما قلت فضيلة الفقر، لأن هذه الفضيلة التي لا تتوقف على هذا الأمر فقط وهو أن مقتنيها يكون في حال الفقر بل على أن يحبه أيضاً. كما يقول القديس برنردوس هكذا: أنه ليس الفقر بل محبة الفقر هي الفضيلة. ولذلك قال الرب: طوبى للمساكين بالروح فأن لهم ملكوت السموات: (متى ص5ع3) وأنما طوباويون هم هؤلاء من حيث أن الذين لا يريدون شيئاً غير الله ففيه تعالى يجدون كل الخيرات، وفي حال فقرهم يصادفون على الأرض ملكوتهم السماوي. كما قد صادفه القديس فرنسيس أسيزي الذي كان يقول: أن الله هو إلهي وهو كل شيءٍ لي: فلنحببن اذاً ذاك الخير الوحيد الموجودة فيه الخيرات بأسرها. حسبما يحرضنا القديس أوغوسطينوس بقوله:" أحبب يا هذا خيراً واحداً يحوي في ذاته كل خيرٍ". ولنتضرعن إليه مع القديس أغناتيوس القائل نحوه تعالى:" هبني بنعمتك حبك وحده، وبذلك أكون أنا غنياً كفاية". وحينما يقدح بنا الفقر محزناً إيانا بشدة مرائره، فلنعزين ذواتنا بتفكرنا وقتئذٍ في أن يسوع ومريم عاشا على الأرض في حال الفقر نظيرنا، حسبما يقول القديس بوناونتورا: أن المسكين يقدر أن يتعزى بتذكره فقر يسوع ومسكنة مريم.* فيا أمي الكلية القداسة أنكِ بالصواب كنتِ تقولين: تعظم نفسي للرب وتبتهج روحي بالله مخلصي: لأنكِ في هذا العالم لم تتفاخري بالمجد. ولم تحتسبي خيراً شيئاً آخر خارجاً عن الله. فأجتذبيني وراكِ أيتها السيدة مقتلعةً من قلبي محبة العالم. وأجعليني أن أحب ذاك الخير الواحد الذي هو وحده يستحق أن يحب. آمين* الفصل الثامن * في فضيلة الطاعة التي تلألأت في مريم العذراء الكلية القداسة* أن البتول المجيدة لأجل حبها فضيلة الطاعة لم ترد أن تسمي ذاتها، حينما بشرها زعيم الملائكة جبرائيل بالحبل الإلهي سوى عبدةٍ بقولها: ها أنا أمةٌ للرب: وهذا بكل صدقٍ، كما يقول القديس توما الفيلانوفي:" أن هذه الأمة الأمينة لم تقاوم أرادة سيدها الرب لا بالأعمال ولا بالأفكار أصلاً، بل اذ جردت ذاتها في كل شيء على الدوام من أرادتها الذاتية، فعاشت طائعةً في الأشياء كلها للمشيئة الإلهية". وهي نفسها قد أوضحت أن الله قد أرتضى بطاعتها هذه المتضعة بقولها: لأنه تعالى نظر الى تواضع أمته: (لوقا ص1ع48) لأن هذه هي الصفة الحقيقية في العبيد والجواري، أي الطاعة الكاملة لأرادة أسيادهم ومواليهن. فيقول القديس أوغوسطينوس:" أن هذه الأم الإلهية قد أصلحت بطاعتها، وأشفت بخضوعها ما عكسته الأم الأولى حواء بعدم طاعتها، وما سقمت به طبيعتنا بعصيانها". فطاعة مريم البتول قد كانت أكثر كمالاً جداً من طاعة جميع القديسين. على أن البشر كلهم لأجل أنهم من قبل مفاعيل الخطيئة الأصلية يميلون الى الشر. فكافةً يشعرون بالصعوبات في عمل الخير، الا أن العذراء الطوباوية لم تكن كذلك. فقد كتب القديس برنردينوس قائلاً: أنه في البتول المغبوطة لم يكن يوجد شيءٌ يعيق دوران بكرة كونها المتحركة على الدوام بموجب أرادة الروح القدس". أي من حيث أنها وجدت بريئة من تبعة الخطيئة الأصلية ومن أنفعالاتها، فلم يكن يوجد فيها مانعً ما يصد تمام طاعتها لله. بل كانت نظير كرةٍ مستعدةً للدوران بحسب حركات ألهامات الروح الإلهي كلها. ومن ثم لم تصنع هي شيئاً في هذه الأرض (كما يقول القديس برنردينوس عينه) سوى أنها كانت تلاحظ تلك الأشياء المرضية لله وتمارسها بالعمل. فعن هذه السيدة قيل: نفسي قد ذابت اذ تكلم حبيبي: (نشيد ص5ع6) ويضيف الى ذلك ريكاردوس بقوله: أن نفس العذراء وجدت نظير المعدن المذاب مستعدةً لأن تقتبل مطبوعةً فيها الصور كلها التي كان الله يريد أن يرسمها فيها:* وبالحقيقة أن هذه البتول الشريفة قد أظهرت بالعملية كم كانت هي حسنة الأستعداد للطاعة: أولاً: بخضوعها لأوامر الملك أفغسطوس فيصر بسفرها السريع من الناصرة الى بيت لحم مسافة تسعين ميلاً، في زمن فصل الشتاء وهي حبلى لتكتتب مع خطيبها. مع أنها لحال فقرها أضطرت لأن تلد هناك أبنها في مغارة البهائم. ثانياً: حالما سمعت من القديس يوسف ما أمره به الملاك في الحلم من قبل الله بالسفر الى مصر. فمن دون أعاقةٍ أخذت بالمسير ليلاً في طريقٍ شاسعة البعد ومملؤة من المشقات والأخطار. وهنا العلامة سيلفايره يسأل كمستفهمٍ، لماذا أن الوحي بالهرب الى مصر قد صار الى القديس يوسف، وليس الى والدة الإله التي كانت مزمعةً أن تتكبد به أعظم مشقةً. وكان يخصها معرفة ذلك أكثر من خطيبها، وهو نفسه أي سيلفايره يرد الجواب عن ذلك قائلاً: لكي يعطى بهذا سببٌ للعذراء المجيدة من أن تمارس أفعال الطاعة التي هي كانت كلية الأستعداد لها.* ثالثاً: وبنوع فائق على كل ما سواه أظهرت هذه الأم الإلهية طاعةً كلية السمو! وتكميلاً لأرادة الله قدمت هي أبنها بحسن خضوع تام ضحيةً للموت على خشبة الصليب. من أجل خلاص العالم بثبات عزمٍ وبشجاعةٍ فريدةٍ، حتى أنها كانت مستعدةً لتتميم المشيئة الإلهية. وطاعةً للمراسيم الأزلية لأن تصلب بيديها ذاتيهما أبنها هذا الحبيب، لو أنه لم يوجد الصالبون، كما يقول القديس أيدالفونسوس. ولذلك العلامة بيدا المكرك في ارأس40 من تفسيره بشارة لوقا عند تكلمه على الجواب الذي أعطاه مخلصنا لتلك الأمرأة التي رفعت صوتها من الجمع وقالت له: طوبى للبطن الذي حملك والثديين اللذين رضعتهما. اذ أجابها مخلصنا: أنما الطوبى للذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها: (لوقا ص11ع27) قد كتب هكذا: أن مريم البتول قد وجدت سعيدةً مغبوطةً طوباويةً لأجل طاعتها للمشيئة الإلهية أكثر مما لأجل حال كونها أختيرت والدةً للإله وحملته تعالى في بطنها وأرضعته ثدييها.* ولهذا هم مقبولون جداً عند هذه السيدة أولئك الذين يحبون فضيلة الطاعة. فيوماً ما ظهرت هي عينها للأب أكورسوس أحد رهبان القديس فرنسيس حينما كان داخل قلايته، ولكن لأنه وقتئذٍ هو دعي بأمر الطاعة ليذهب فيستمع أعتراف إنسانٍ مريضٍ، وبالتالي ترك والدة الإله المترائية له، وأنطلق متمماً أمر الطاعة. فحينما رجع الى قلايته شاهد هناك هذه السيدة لم تزل منتظرةً إياه، وقد مدحت كثيراً حسن طاعته، والنوع الذي هو تصرف به. وبضد ذلك اذ كان يوماً ما أحد الرهبان متأخراً في نهاية عملٍ ذي عبادةٍ، ولم يذهب حالاً الى المائدة حينما دق ناقوس الغداء قد وبخته العذراء على تصرفه هذا (كما يوجد مدوناً عند الأب ماركاتي في الكتاب اليومي المختص لوالدة الإله) ثم اذ كانت العذراء المجيدة تخاطب القديسة بريجيتا في شأن الطاعة لمعلم الأعتراف قالت لها: أن الطاعة تقود الجميع الى الدخول في المجد الأبدي: والقديس فيلبس نيري كان يقول أعتيادياً: أن الله لا يحاسب أحداً على الأشياء التي يكون هو صنعها بأمر الطاعة، اذ أنه تعالى هو نفسه قال: من سمع منكم فقد سمع مني ومن أهانكم فقد أهانني: (لوقا ص10ع16) بل أن هذه السيدة عينها أوحت للقديسة بريجيتا قائلةً لها: أن الله قد منحني مكافأةً لأستحقاقات طاعتي له، أن جميع الخطأة الذين يلتجئون إليَّ نادمين على مآثمهم يفوزون بالغفران.* فيا ملكتنا وأمنا الجليلة صلي من أجلنا لدى يسوع أبنكِ، وأستميحي لنا منه بأستحقاقات طاعتكِ أن نكون أمينين في طاعتنا لمشيئته الإلهية ولأوامر مرشدينا الروحيين. آمين* الفصل التاسع * في فضيلة الصبر التي بموجبها تصرفت البتول المجيدة* *في شدائدها* أنه بالعدل والصواب قد سميت هذه الأرض وادي الدموع. من حيث أنها هي مكان الأستحقاقات، لأننا قد وضعنا ههنا جميعاً لكي نتألم مكتسبين لأنفسنا بواسطة فضيلة الصبر الحيوة الأبدية المغبوطة، كما قال الله عينه: أنكم بصبركم تقتنون أنفسكم: (لوقا ص21ع19) فالحق سبحانه وتعالى قد أعطانا مريم البتول نموذجاً للفضائل كلها، ولكن بنوع خاص لفضيلة الصبر. ففيما بين الأشياء الأخرى التي يلاحظها القديس فرنسيس سالس أنه لأجل هذه الغاية نفسها قد أعطى مخلصنا والدته العذراء في عرس قانا الجليل الجواب بقوله لها: مالي ولكِ أيتها الأمرأة، لم تأتِ ساعتي بعد: مظهراً كأنه أعتبر قليلاً تضرعاتها، لكي يعطينا هذه الأم الإلهية نموذجاً للصبر: ولكن على ماذا نجول مفتشين عما نقوله عن فضيلة صبرها، في الوقت الذي فيه نرى أن حياتها كلها على الأرض كانت رياضةً متصلةً، وممارسةً دائمةً لأفعال هذه الفضيلة. لأنها قد عاشت على الدوام فيما بين الآلام، حسبما أوضح ملاك الرب للقديسة بريجيتا قائلاً:" كما أن الوردة تنبت وتنمو فيما بين الأشواك، هكذا قد عاشت هذه البتول المكرمة على الأرض فيما بين الشدائد". على أن توجعها من أجل آلام أبنها يسوع فقط قد وجد كافياً لأن يجعلها شهيدةً لفضيلة الصبر. ومن ثم يقول عنها القديس بوناونتورا:" أنها قد صلبت منذ حبلها بالمصلوب". فكم أحتملت هذه السيدة بعد ذلك في هربها الى مصر. وفي مدة أقامتها هناك، وكذلك في كل الزمان الذي عاشت هي فيه مع أبنها داخل دكان النجارة في مدينة الناصرة. فعن هذا وذاك قد أشرنا بكفايةٍ في المقالة السابقة بتكلمنا عن أحزان والدة الإله بوجه العموم والخصوص. ويكفي ما تلألأت به فضيلة صبرها في حين وجودها على جبل الجلجلة تحت صليب ابنها، ومشاهدتها آلامه وموته. وكم ظهرت بذلك شجاعتها وثباتها في الصبر، حيث أنها، كما يقول الطوباوي ألبارتوس الكبير: لأجل صبرها هذا العجيب قد أستحقت أن تصير أمنا أجمعين.* فأن كنا اذاً نرغب أن نوجد حقاً أولاداً لها، فيلزمنا أن نجتهد في أن نقتفي أثرها في فضيلة الصبر. فيقول القديس كبريانوس: ترى أي شيءٍ يمكنه أن يصيرنا أغنياء بالأستحقاقات في مدة حياتنا على الأرض، وبنوالنا المجد العظيم في الأبدية، الا أحتمالنا الآلام بصبرٍ: فقد قال الله على لسان نبيه هوشع (ص2ع6): فلأجل هذا، هأنذا أسيج طريقك بالشوك. وقد أضاف الى ذلك القديس غريغوريوس الكبير بقوله: أن طرق المنتخبين مسيجة بالشوك: على أنه كما أن الشوك يستعمل سياجاً لكروم لحفظها من الخطفة. فهكذا الباري تعالى يسيج بشوك المصائب والأحزان والآلام عبيده الأبرار، ليحفظهم بذلك من أن تتعلق قلوبهم بمحبة الأشياء الأرضية، ولهذا يختتم قوله القديس كبريانوس:" بأن الصبر هو ذاك الذي ينقذنا من الخطيئة ومن الجحيم". بل أن الصبر هو الذي يصير المتمسكين به قديسين كاملين. كما يشير الى ذلك القديس يعقوب الرسول بقوله: والصبر فليكن له عملٌ لتكونوا كاملين وتامين غير ناقصين في شيءٍ: (يعقوب جامعه ص1ع4) وهكذا تحتمل بالصبر تلك الصلبان التي يفتقدنا الله بها، أي الأمراض والفقر وباقي الشدائد، وكذلك الصلبان التي تأتينا من قبل البشر، كالأضطهادات والأهانات وأمثالها. فالرسول الحبيب يوحنا في جليانه قد أخبرنا بأنه قد شاهد القديسين كافةً حاملين بأيديهم سعف النخل التي هي علامة الأستشهاد قائلاً: ومن بعد هذا رأيت جمعاً كبيراً لا يقدر أحدٌ أن يحصي عددهم من كل أمةٍ وكل سبطٍ وكل شعبٍ وكل لسانٍ وقوفاً قدام الكرسي وأمام الخروف، وعليهم لباسٌ أبيض وبأيديهم سعف النخل: (أبوكاليبسي ص7ع9) مريداً بهذا أن يفهمنا أن جميع الذين يموتون بعد بلوغهم السن الرجولي يلزمهم أن يكونوا شهداء أما بسفك دماءهم، وأما بفضيلة الصبر. فهنا القديس غريغوريوس الكبير يهتف صارخاً: فلنفرح اذاً متهللين ولنسر مبتهجين، لأنه يمكننا أن نصير شهداء من دون سفك دمائنا وأحتمال عذابات الألات الحديدية، بل بواسطة صبرنا الثابت. فاذا نحن أحتملنا آلام هذه الحياة بصبرٍ ورضاءٍ. وبفرحٍ أيضاً. كما يقول القديس برنردوس، فترى كم تكون عظيمةً الأثمار التي نجتنيها في الفردوس السماوي عن كلٍ من الآلام التي نكون أحتملناها لأجل الله. ومن ثم يشجعنا الرسول الإلهي بقوله: خفيف ضيقنا الوقتي، في حين بمقدار أفراطه وأسرافه يصطنع لنا ثقيلاً من المجد أبدياً. اذ لا نترقب التي ترى بل التي لا ترى، لأن التي ترى وقتيةٌ والتي لا ترى أبديةٌ: (قرنتيه ثانية ص4ع17) ثم أنها لجيليةٌ هي كلمات القديسة تريزيا المقولة منها في هذا الموضوع أي:" أن الذي يعتنق الصليب برضاه لا يشعر بثقله". وقالت في محل آخر أنه حينما يقصد الإنسان معتمداً على أن يتألم فكأنه بهذا القصد تألم وأنتهت آلامه:" الا أننا حينما نحس بذواتنا متضايقين من ثقل الصليب، فعلينا بالألتجاء الى مريم البتول المدعوة من الكنيسة المقدسة: معزية الحزنى". وكما يسميها القديس يوحنا الدمشقي: دواءً قاطعاً شافياً لأوجاع القلوب كلها:* فيا سيدتي الكلية الحلاوة أنكِ أنتِ البارة البرية من كل عيبٍ وزلةٍ، قد أحتملتِ الآلام الشديدة بصبرٍ تام، فهل أرفض أنا المذنب المستحق جهنم أن أتألم. فأنا اليوم ألتمس منكِ يا أمي هذه النعمة، وهي، لا أن أنجو معتوقاً من الصلبان، بل أن أحتملها بصبرٍ، فأتوسل إليكِ بحق حبكِ ورأفتكِ أن تستمدي لي من الله هذه النعمة من دون ريبٍ. فهكذا أرجو وكذلك فليكن لي آمين.* الفصل العاشر * في فضيلة الصلاة الممارسة بنوعٍ سامٍ من والدة الإله العذراء* أنه ما وجدت قط على الأرض نفسٌ نظير مريم البتول أتبعت بدرجاتٍ ساميةٍ كاملةٍ تعليم مخلصنا العظيم: في أنه يلزم أن تصير الصلاة كل حينٍ من دون أهمالٍ: (لوقا ص18ع1) على أنه يقول القديس الفقديس بوناونتورا:" أننا لا نستطيع أن نتخذ النموذج من أحدٍ، ونفهم ألتزامنا وأحتياجاتنا الى الثبات على الصلاة، أفضل مما نتخذ ذلك من العذراء المجيدة". لأن الطوباوي ألبارتوس الكبير يشهد لنا: بأن هذه الأم الإلهية قد وجدت في فضيلة الصلاة هي الأكمل من كل ما سواها بعد يسوع المسيح، من الذين عاشوا في الأرض ومن العتيد وجودهم حتى يوم القيامة. وذلك: أولاً: لأن صلاتها كانت متواترةً بأتصالٍ وبثباتٍ. على أن هذه السيدة منذ الدقيقة الأولى التي فيها خلقت نفسها البريئة من الدنس. ومعاً قد فازت وقتئذٍ بمعرفةٍ كاملة لتمييز الخير من الشر (حسبما برهنا في بدء الجزء الثاني للفصل الثاني من المقالة الأولى من هذا القسم الثاني وجه 360) فهي منذ الدقيقة المذكورة أبتدأت بأن تمارس فضيلة الصلاة.* ثانياً: أنها لكي تتفرغ بأفضل نوعٍ وتعتني بأكمل طريقةٍ في أتقان هذه الفضيلة، قد أرادت أن تكون من حين تمام السنة الثالثة من عمرها منفردةً كحبيسةٍ في هيكل الرب الأورشليمي، حيث كانت فيما بين الأزمنة الأخرى المعينة للصلوات. أختارت لذاتها ساعة نصف الليل أيضاً، التي فيها كانت هي تنهض من رقادها، وتمضي أمام هيكل الرب مثابرةً على الصلاة، حسبما أوحت بذلك هي نفسها للبارة أليصابات الراهبة (كما هو مورد من القديس بوناونتورا في الرأس 3من كتابه على حيوة المسيح).* ثالثاً: أنها لأجل هذه الغاية كانت فيما بعد تزور بتكاثر الأماكن المقدسة المختصة بميلاد أبنها وبآلامه ودفنه لكي تمارس هناك بأفضل نوع تأملاتها في أسرار حياته تعالى وموته، كما يبرهن العلامة أوديلونه.* رابعاً: أن صلواتها كلها كانت مصنوعةً منها برصد عقلٍ تام، ناجيةً من كل أنعطافٍ غير مرتبٍ. فقد كتب القديس ديونيسيوس كارتوزيانوس: أن البتول المجيدة في حين صلواتها لم يكن يحدث لها شتات الأفكار، ولا عواطف غير ملائمةٍ، ولا أشياء باطنية أو خارجة تعيق فيها تأملاتها بأنوارٍ سماوية في الأشياء الإلهية.* ولهذا لأجل حبها الشديد نحو ممارسة الصلوات قد أحبت دائماً الأنفراد عن الناس، والأبتعاد عن ضوضاء العالم، كما أوحت للقديسة بريجيتا: بأنها حينما كانت مقيمةً في هيكل أورشليم قد أجتهدت بالا تواجه أحداً. حتى ولا والديها الا نادراً. فالقديس أيرونيموس اذ يتفلسف عن كلمات النبي أشعيا القائل (ص7ع14): ها العذراء تحبل وتلد أبناً ويدعون أسمه عمانوئيل: يقول: أن لفظة عذراء في اللغة العبرانية تفسر بالحصر عذراء منفردةً عن الناس: فاذاً حتى من النبي المذكور عينه سبق الأيعاز عن محبة مريم للأنفراد. ويقول ريكاردوس: أن زعيم الملائكة قال لهذه البتول:: أفرحي الرب معكِ: لأجل محبتها الوحدة والأبتعاد عن الناس". ولذلك كتب القديس فينجانسوس فراري:" أن البتول القديسة لم تكن تخرج من بيتها الا حينما كانت تمضي الى هيكل الرب. وحينئذٍ كانت تنطلق مملؤةً من الأحتشام، وعيناها دائماً ناظرتين الى الأرض". ومن ثم حينما مضت الى زيارة القديسة أليصابات، قد ذهبت مسرعةً، الأمر الذي كقول القديس أمبروسيوس ينبغي أن تتعلم منه البتولات الا يظهرن مشاعاً، بل يحببن الخلوة. وكتب القديس برنردوس: أن الحب الذي كان متقداً في قلب العذراء المجيدة لممارسة الصلوات والأبتعاد عن ضوضاء العالم، قد صيرها أن تجتهد على الدوام في الأمتناع عن مخاطبة الرجال. ولهذا قد سماها الروح القدس يمامةً بقوله: ما أشد بهاء وجنتيكِ كاليمامة: (نشيد ص1ع10) فيفسر ذلك فارجالوس:" بأن اليمامة لأجل أنفرادها تشير الى قوة الأتحاد العقلي". ولذلك العذراء قد عاشت أيام حياتها على الأرض معتزلةً بمقدار ما أمكنها عن الناس في الأختلاء كأنها في قفرٍ غير مسلوكٍ. ولهذا قيل عنها: من هي هذه الصاعدة من القفر كأنها غصن بخور: (نشيد ص3ع6) وعن هذه الكلمات كتب روبارتوس مخاطباً العذراء المجيدة بقوله: كذلك أنتِ قد صعدتِ من القفر اذ كنتِ حاصلةً على نفسٍ محبة الأنفراد.* أما فيلونه فيقول: أن الله لا يخاطب الأنفس الا في الأختلاء والوحدة. بل الله عينه قد أوضح ذلك بواسطة نبيه هوشع بقوله: لأجل هذا فهأنذا أتملقها وأوديها الى البرية وأتكلم الى قلبها: (ص2ع14) ولذلك كان يهتف القديس أيرونيموس قائلاً: يا أيها الأنفراد السعيد كم أنت مغبوطٌ، لأن فيك يتفاوض الله والنفس معاً متخاطبين كخليلين. وهذا بالصواب، لأن القديس برنردوس قال: أنه في الأنفراد، وفي الصمت الذي المرء يتمتع به بالتوحد. تلتزم النفس بأن تخرج بأفكارها عن هذا العالم. وتنعكف على التأمل في خيرات السماء.* فيا أيتها البتول الكلية القداسة أنتِ أستمدي لنا محبة الصلاة والأنعطافات نحوها ونحو الأنفراد والأختلاء، حتى اذا ما أنفصلت قلوبنا من محبة المخلوقات، يمكننا أن ننعطف نحو الله وحده، ونتشوق الى الفردوس السماوي، حيث نرجوا أن نشاهدكِ يوماً ما، لكي نمدحكِ على الدوام، ونحب أبنكِ يسوع ونحبكِ الى أبد الأبدين. فقد تفوه الحكيم أبن سيراخ عن لسان البتول الكلية القداسة بقوله: ميلوا إليَّ يا معشر المشتاقين وتمتعوا بغلاتي: (ص24ع26) فغلات مريم البتول أنما هي فضائلها. قال سادوليوس: أن العذراء المجيدة لم يسبقها قط أحدٌ شبيهٌ بها. ولم يأتِ بعدها إنسانٌ مماثلٌ لها. ومن ثم يخاطبها هو نفسه هكذا قائلاً: أنكِ أنتِ وحدكِ أيتها الأمرأة قد أرضيتِ المسيح بنوعٍ لا نظير له على الأطلاق.* فلنتقدم بدالة الى عرش النعمة، لنأخذ نعمة، ونجد رحمة، لمعونة نستفرصها. (عبرانيين 4/6) من كان للعذراء عبداً لا يدركه الهلاك أبداً |
||||
08 - 08 - 2022, 04:49 PM | رقم المشاركة : ( 4 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب امجاد مريم البتول - القديس ألفونس دي ليكوري
المـقـالـة الـرابـعـة عبادات مختلفة الموضوعات رتبت مائدتها، وأرسلت جواريها تنادي على ظهور أعالي المدينة: هلموا كلوا من طعامي وأشربوا الخمر التي مزجتها لكم... أتركوا الجهالات فتحيوا، وسيروا في طريق الفهم.(أمثال 9/2) طوبى لكم اذا عيروكم وأضطهدوكم وأفتروا عليكم، وقالوا لكم كلمة سوءٍ من أجل أسمي، أفرحوا وأبتهجوا فأن أجركم غظيم في السماء، أنهم هكذا أضطهدوا الأنبياء من قبلكم. (متى 5/10) الفصل الأول * فيما يلاحظ هذه العبادات بوجه العموم* أن سلطانة السماء مريم البتول هي هكذا سخيةٌ ومنعمةٌ وحافظة المعروف، حتى أنها تكافي بأشياءٍ عظيمةٍ أصغر العبادات وأوجزها المقدمة تكريماً لها من عبيدها... يقول القديس أندراوس الأقريطشي (في خطبته الثانية على نياحها):" أن هذه السيدة الكلية العظمة تجازي أقل الأشياء المقدمة لها مجازاةً عظيمةً". ولكن مع هذا يلزم الأمر شيئين ضروريين لممارسة عباداتها حسناً. فأولهما: أننا نكرم هذه الأم الإلهية بتقدمة عباداتنا لها بنفسٍ مطهرةٍ من الخطايا، والا فهي تقول نحونا ما قالته مرةً ما لذاك الجندي الرديء السيرة (كما أخبر القديس بطرس سلستينوس) الذي كان يكرم هذه السيدة يومياً ببعض عباداتٍ. فهذا الجندي يوماً ما اذ كان متألماً من شدة جوعه لعدم حصوله على شيءٍ يقتات به، قد ظهرت له والدة الإله عينها وقدمت أمامه بعض مواكيل فاخرة جداً، ولكنها موضوعةٌ ضمن وعاءٍ بهذا المقدار كريه المنظر من شدة أوساخه، حتى أن الجندي مع حال كونه جائعاً جداً لم يمكنه أن يتناول من تلك الأطعمة شيئاً، ثم قالت له: أنا هي مريم والدة الإله أتيت لآسعفك في حال جوعك، فأجابها الجندي قائلاً: لكنني لا أقدر أن آكل من الأطعمة في هذا الإناء الكريه الوسخ. فحينئذٍ قالت له هذه السيدة: فكيف اذاً أنت تريد مني أن أقتبل عبادتك لي المصنوعة منك في حال وجود نفسك ملتطخةً بحماة الرذائل: فالجندي عند سماعه هذه الكلمات رجع الى الله تائباً وأنفرد في القفر سائحاً مدة ثلاثين سنةً وساعة موته ظهرت له ثانيةً والدة الإله وأقادت نفسه الى الحياة الأبدية.* فقد قلنا في الجزء1من الفصل8 من القسم1( وجه247) من هذا الكتاب، أنه لمن المحال أدبياً أن يهلك أحدٌ من المتعبدين لمريم العذراء ولكن هذا يفهم تحت شرطٍ وهو أن المتعبد لها أما أنه يعيش من دون أفتعال الخطايا مطلقاً، وأما أن يكون حاصلاً على أستعدادٍ ورغبةٍ قلما يكون في أن يخرج من حال الأثم راجعاً الى الله بالتوبة، لآن هذه السيدة حينئذٍ تساعده على أصلاح نفسه، وبالعكس اذا وجد أحدٌ مصراً على أفتعال المآثم تحت رجاء أن والدة الإله تهتم في خلاصه، فهذا بذنبه يصير ذاته غير مستحقٍ لحمايتها ولمحاماتها عنه، بل يضحى موضوعاً غير قابلٍ لذلك.* الشيء الثاني الضروري:المثابرة بثباتٍ على العبادة لهذه السيدة. لأن القديس برنردوس يقول:" أن الثبات على البر وحده هو الذي يستحق الأكليل". فتوما الكامبيسي حينما كان في سن الشبوبية، قد كان من عادته أن يلتجئ يومياً الى البتول المجيدة تالياً في عبادتها بعض صلواتٍ، فيوماً ما قد ترك تلاوة تلك الصلوات وبعده أهملها بعض جمع، وأخيراً ما عاد مارسها بالكلية. فليلةً ما شاهد في الحلم والدة الإله كانت تأتي عند وأحدٍ فواحدٍ من رفاقه العباد وتعانقه، ولكن لما دنت منه قالت له: ماذا تنتظر ههنا أنت الذي تركت عباداتك الأولى، فأغرب من هنا لأنك لست مستحقاً أن أعانقك. ففي سماعه هذه الكلمات قد أستيقظ من النوم مملؤاً رعدةً وأرتجافاً، وحالاً رجع الى ممارسة عباداته السابقة. ولذلك يقول ريكاردوس: أن من يواظب على عبادة مريم العذراء بثباتٍ، فهذا يكون مغبوطاً في الرجاء لأنه يفوز بكل الأشياء المرغوبة. ولكن من حيث أنه لا يمكن لأحدٍ أن يثق مطمأناً بأنه حقاً هو من الثابتين على عمل البر، فهكذا لا يمكن لأحدٍ مطلقاً أن يتأكد حقيقة أمر خلاصه الا حين موته. فاذاً لشيءٌ يستحق الذكر والأعتبار العظيم هو ما تركه لأخوته الرهبان اليسوعيين يوحنا باركمانس، الذي حينما سأله هؤلاء الرهبان ساعة موته، أن يترك لهم تذكرةً في شأن العبادة لوالدة الإله بالنوع الأجود مما سواه. لأجل أكتساب حمايتها فأجابهم: أن ذلك هو كل شيءٍ مهما كان جزئياً بحيث أن يكون بثباتٍ. فلأجل هذه الغاية أنا رأيت ملائماً أن أحرر في المقالة الحاضرة بنوعٍ بسيط، ما يلاحظ بعض عباداتٍ مختلفة موضوعاتٍ نقدر أن نمارسها في تكريم أمنا الإلهية، لكي نكتسب رضوانها وأنعامها، وهذه الأشياء أنا أعتبرها الأكثر أفادةً من جميع ما كتبته في هذا المؤلف، ولكنني لا أتضرع للقارئ الحبيب بأن يمارسها كلها. بمقدار ما أتوسل إليه في أنه يمارس نوع العبادة الذي هو يختاره منها برضاه، بمواظبةٍ ثابتةٍ مع خوفٍ من أن يخسر حماية هذه الملكة المقتدرة اذا هو ترك أستعماله بعد أن يكون أبتدأ به. فكم وكم من الهالكين الآن في الجحيم لكانوا فازوا بالخلاص الأبدي، لو أنهم يكونون ثابروا مواظبين على العبادة التي مرةً ما كانوا تمسكوا بها في تكريم والدة الإله. وبعد ذلك تركوها مهملين ممارستها.* الفصل الثاني * في تكريم مريم العذراء بتلاوة السلام الملائكي* فالبتول الكلية القداسة تقتبل بالرضى وبمسرةٍ وافرةٍ تكريمها بتلاوة السلام الملائكي، لأنه يبان كأنه يتجدد في قلبها الفرح والأبتهاج اللذان كانت هي شعرت بهما حينما بشرها زعيم الملائكة جبرائيل بأنها قد أختيرت أماً لله، ونحن بهذه النية يلزمنا أن نسلم عليها بهذا السلام الملائكي مراتٍ كثيرةً، كما يقول توما الكامبيسي: حييها يا هذا بالكلمات الملائكية أي بالسلام لكِ يا مريم ألخ لأنها تستمع هي نغمة هذا السلام بكل سرورٍ ورضى: بل أن هذه الأم الإلهية نفسها قالت في الوحي للقديسة ماتيلده: أنه لا يمكن لأحد أن يكرمني بمدائح أفضل من أن يسلم عليَّ بالسلام الملائكي، فمن يحيي مريم بالسلام تحييه هي بمثله. فالقديس برنردوس يوماً ما سمع بنوعٍ واضح حسيٍ صوت والدة الإله من أحدى أيقوناتها التي كانت تمثالاً مجسماً تسلم عليه قائلةً: السلام لك يا برنردوس: ويقول القديس بوناونتورا: أن سلام مريم البتول أنما هو أيهابها نعمةً ما تكافئ هي بها دائماً من يسلم عليها: ويضيف الى ذلك ريكاردوس بقوله:" اذا تقدم إليها أحدٌ قائلاً لها السلام عليكِ يا مريم، فلا يمكن أن تنكر عليه هي النعمة التي يلتمسها". بل أن والدة الإله عينها قد وعدت القديسة جالتروده بأن تسعفها حين موتها بمعوناتٍ توازي عدد المرات التي هي في حياتها سلمت عليها بالسلام الملائكي. وكتب الطوباوي الانوس بقوله: أنه حينما يقال السلام عليكِ يا مريم، فكما أن أهل السماء يفرحون بهذه التحية، فهكذا يرتعد الشيطان ويهرب: حسبما يشهد توما الكامبيسي بأنه اذ ظهر له مرةً ما الشيطان، فحالما هتف السلام لكِ يا مريم، قد هرب إبليس من أمامه مدبراً.* أما ممارسة هذه العبادة نحو العذراء المجيدة، فلتكن على الأسلوب الآتي شرحه وهو: أولاً: أن العابد يتلو كل يومٍ صباحاً حين نهوضه من فراشه ومساءً قبل رقاده ثلاث مراتٍ: السلام لكِ يا مريم: منحنياً بوجهه الى الأرض، أو قلما يكون جاثياً على ركبتيه، مضيفاً الى هذه الصلاة الوجيزة وهي: بحق بتوليتكِ المقدسة، والحبل بكِ البريء الدنس، طهري أيتها العذراء نفسي، وقدسي جسدي آمين: ثم يلتمس منها البركة بحسبما هي أمنا جميعاً، كما كان يفعل القديس سطانيسلاوس. وبعد هذا فليصنع ذاته تحت ذيل حمايتها متوسلاً إليها بأن تحفظه من الخطيئة في ذاك النهار أم في تلك الليلة ولأجل هذه الغاية يفيد جداً أن يحوي العابد أحدى أيقونات هذه السيدة الجميلة معلقةً بالقرب من فراشه.* ثانياً: أن يواظب حسب العادة تلاوة السلام الملائكي صباحاً ونصف النهار وعند غروب الشمس وهي الصلاة المدعوة عموماً: ملاك الرب. فأول من منح غفراناً على تلاوة هذه الصلاة هو الحبر الأعظم يوحنا الثاني والعشرون، لأجل الحادث الشهير الذي يخبر عنه الأب كراسات (في البحث6من المجلد2) وهو أن إنساناً كان محكوماً عليه بالموت محروقاً لأجل ذنوبه، فهذا في بارامون عيد البشارة اذ كان وضع ضمن لهيب النار. فبمجرد أستغاثته بأسم مريم العذراء لبث غير محترقٍ حتى ولا بأثواب ملبوسه، ثم فيما بعد البابا بناديكتوس الثالث عشر قد أعطى غفران ماية يومٍ لكل من يتلوها، وفي رأس الشهر غفراناً كاملاً لمن يتلوها اذ يكون معترفاً ومتناولاً. والأب كراسات عينه يورد بأن الحبر الأعظم أكليمنضوس العاشر قد منح غفراناتٍ أخرى لمن يضيف الى تلاوة كلٍ من: السلام لكِ يا مريم: هذه الكلمات وهي: نشكر الله ومريم: ففي الأزمنة السالفة كان المؤمنون عند سماعهم دق الناقوس لملاك الرب يجثون على ركبهم تالين هذه الصلاة غير أن البعض في أزمنتنا هذه يستحون من ذلك. الا أن القديس كارلوس بوروماوس لم يكن يستحي من أن ينزل من مركبته أو من على ظهر فرسه جاثياً في الأرض ليتلوها. حتى أنه بعض الأحيان لم يكن يأنف من أن يركع فوق الطين. ثم يقال في الأخبار أن أحد الرهبان الكسالا لم يكن يجث عند قرع الجرس لتلاوة هذه الصلاة، فيوماً ما شاهد قبة الناقوس عند كل مرةٍ من ضرب الجرس تنحي الى أسفل، وسمع صوتاً يقول له:" هوذا أنت لم تشأ أن تصنع ما تصنعه المخلوقات الغير الحساسة". ويجب أن يعلم ما يفسره في هذا الشأن البابا بناديكتوس الرابع عشر. وهو أنه في الأيام الفصحية الثمانية تتلى عوض ملاك الرب الصلاة المبدوة:" يا سلطانة السماء" وأنه من حين صلاة الغروب نهار السبت مساءً الى نهاية نهار الأحد يقال ملاك الرب من دون ركوع، بل بأقدام منتصبة.* ثالثاً: أن تتلى: السلام لكِ يا مريم: من العابد كل مرةٍ يسمع قرع ناقوس الساعة. فألفونسوس رودريكوس كان معوداً ذاته على هذه العبادة بتلاوة السلام الملائكي مرةً في كل ساعةٍ. فمن ثم كان في حين رقاده ليلاً ينبه من ملاك الرب ليستيقظ ويتلوها من دون تفويت.* رابعاً:في حين خروج العابد من بيته وفي وقت دخوله إليه يتلو هذا السلام الملائكي، لكي تحفظه والدة الإله خارجاً وداخلاً من الخطيئة، مع تقبيل قدميها في أحدى أيقوناتها، كما يفعل الآباء الرهبان السكوتيون.* خامساً:أنه كل مرةٍ يشاهد أيقونتها في مكانٍ ما فيحييها بهذا السلام. وما أحسن ما يفعل من يقدر أن يضع بالقرب من بيته أحدى أيقونات هذه السيدة جميلة التصوير ليكرمها المجتازون، كما توجد في مدينة نابولي، وخاصةً في مدينة رومية في حيطان الطرقات أيقوناتٌ جليلةٌ في الغاية لهذه الأم الإلهية محركة الى عبادتها.* سادساً: أن الكنيسة المقدسة قد رسمت على الأكليروس بأن يتلوا هذا السلام الملائكي في بداية كلٍ من ساعات الفرض وفي نهايتها، فاذاً يفعل حسناً العابد اذا تلى هذه الصلاة في بداية كلٍ من أعماله وعند نهايته، سواءٌ كانت أعمالاً روحيةً كالصلوات الخصوصية أم الأعتراف بالخطايا، أو تناول القربان الأقدس، أو قراءة كتابٍ روحي، أو أستماع الوعظ وأمثال ذلك. أم أعمالاً جسديةً، كالدرس، أو أعطاء المشورة، أم عمل اليد، أو الجلوس على مائدة الغداء، وما أشبه هذه الأشياء. فسعيدةٌ هي تلك الأعمال التي توجد مقيدةً فيما بين سلامين ملائكيين، أي عند البداية بها وحين نهايتها، وكذلك في الذهاب الى الرقاد، وحين النهوض منه، وعند هجوم تجربة ما أو خطر ما، وحين هيجان روح الغضب والغيظ وأمثاله.* فضع بالعمل أيها القارئ الحبيب هذه العبادة، وستشاهد الثمرة الكلية الإفادة التي تجنيها منها، وينبغي أن تعلم بأنه ممنوح من السدة الرسولية غفران عشرين يوماً على كل مرة يتلى السلام الملائكي، غير ذلك ينبه الأب أورياما بأن والدة الإله قد وعدت القديسة ماتيلده، بأن تستمد لها ميتةً صالحةً أن كانت تواظب على تلاوة هذا السلام ثلاث مراتٍ في كل يومٍ، تكريكاً لصلاحها وحكمتها وأقتدارها وهذه الأم الإلهية عينها قالت يوماً ما للطوباوية يوفانا ده فرنسا، بأن السلام الملائكي هو كلي القبول لديها، لا سيما اذا قيل عشر مراتٍ تكريماً لفضائلها العشر، كما يورد ذلك العلامة ماراجي، حيث يبرهن عن غفراناتٍ كثيرةٍ ممنوحةٍ لمن يتلو هذه *العشر مراتٍ السلام عليكِ يا مريم.* الفصل الثالث أيتها المتلألئة بالضياء أنه لا يستطيع العدو الجهنمي، أن يأخذ من عبيدكِ أحداً، لأنكِ برجٌ مبنى بالمحاصن ومعلقٌ عليه ألف ترس، وكافة أسلحة المقتدرين.(نشيد6/10) ثم رأيت أمرأة ملتحفة بالشمس، والقمر تحت قدميها، وعلى رأسها إكليل من أثنتي عشر كوكباً.(رؤيا12/6) * في العبادة الملقبة بالتسعاوية، التي تمارس في مدة تسعة أيامٍ* * متقدمةٍ على كلٍ من أعياد والدة الإله* أن المتعبدين للعذراء المجيدة يكرمون بحسن تدينٍ الأيام المتقدمة على أعيادها المقدسة، التي فيها هذه الأم الإلهية تهب أعتيادياً لهؤلاء أنعاماً خصوصيةً غير محصاة. فالقديسة جالتروده قد شاهدت يوماً ما تحت برفير مريم البتول عدداً عظيماً من الأنفس، قد كانت هذه السيدة ترمقهن بحبٍ ورأفةٍ وأنعطافٍ، وقد فهمت هي أي جالتروده أن تلك الأنفس هي أنفس أولئك الذين يمارسون عباداتهم بأستعداداتٍ تقويةٍ لتكريم عيد نياحها المقدس، في الأيام المتقدمة على هذا العيد. أما الرياضات الروحية التي تمكن ممارستها في الأيام التسعاوية المشار إليها فهي الآتي إيرادها، أي* أولاً: صنيع الصلاة العقلية كل يومٍ صباحاً ومساءً، مع زيارة القربان المقدس في أحدى الكنائس، ثم تلاوة تسع مراتٍ: أبانا الذي: والسلام لكِ: والمجد للآب:* ثانياً:أن تعمل في مدة التسعة الأيام ثلاث مراتٍ الزيارة لهذه السيدة الجليلة أمام أحدى أيقوناتها المقدسة. مع تقدمة الشكر لله على النعم العظيمة التي وهبها تعالى إياها. وفي كل مرةٍ من هذه الزيارات تطلب من العذراء المجيدة نعمةٌ ما خصوصية. وفي أحدى الزيارات المذكورة تتلى الصلاة المعينة في آخر الفصل المختص بذاك العيد المقبل، المدونة منا في الفصول السبعة الملاحظة أعيادها السنوية السبعة، في المقالة الأولى من هذا القسم الثاني.* ثالثاً: أن تمارس في بحر هذه التسعة الأيام مراتٍ كثيرةً أفعال الحب نحو يسوع المسيح، ونحو والدته العذراء (مثلاً مئة مرةً أو قلما يكون خمسين) لأنه لا يمكننا أن نصنع شيئاً أكثر قبولاً لديها، من عواطف حبنا نحو أبنها، حسبما حققت ذلك هي نفسها للقديسة بريجيتا بقولها لها: أن كنتِ ترغبين أن تتحدي بي برباط الأتحاد الوثيق فأحبي أبني يسوع:* رابعاً: أن تصير في كل يومٍ من هذه الأيام التسعة، قراءة مقدار ربع ساعة من الزمان، في بعض الكتب المختصة بتكريم والدة الإله* خامساً: أن تعمل بعض أماتاتٍ خارجة، كلبس المسح أو ممارسة الجلد، وأمثال ذلك مع الصوم، أو الأمتناع عن بعض أشياء من المآكل المرغوبة أو من الأثمار المحبوبة قلما يكون بترك جزءٍ من ذاك الشيء المقدم على المائدة للغداء، وكذلك مضغ بعض الحشائش المرة. وأما بارامون العيد فيصير فيه الصوم على الخبز والماء فقط، غير أنه يجب أن تمارس هذه الأشياء كلها بأذن الأب المرشد الروحي. الا أن الأماتات الباطنية التي تصنع في مدة هذه التسعة الأيام هي أكثر أفادةً، كالأمتناع عن مشاهدة تلك الأشياء أو أستماع تلك الأخبار التي لا أحتياج إليها، بل بمجرد رغبة الفحص عن كل شيء، وكالأبتعاد عن ضوضاء العالم في الأنفراد بقدر الأمكان، وحفظ الصمت، وأتقان واجبات الطاعة، وعدم رد الجواب بقلة صبرٍ، وأحتمال المقاومات، وما يضاهي ذلك مما تمكن ممارسته من دون خطرٍ مبين للمجد الباطل، وبأعظم أجرٍ للنفس، ومن غير أذن المرشد الروحي. واما الرياضة الفضلى، فهي القصد الثابت من أول يومٍ من الأيام المذكورة على أستئصال ملكةٍ رديئة، أو عادةٍ مذمومةٍ، أم نقصٍ يسقط فيه العابد مراتٍ كثيرةً. ثم يفيد جداً أن يطلب الغفران من هذه السيدة في كلٍ من الثلاث الزيارات السابق ذكرها، عن النقائص التي تكون حدثت، مع تجديد القصد على عدم الرجوع إليها، وطلب العون من هذه العذراء المجيدة على الحفظ من السقوط جديداً. فالعبادة الأكثر قبولاً لدى والدة الإله هي أقتفاء أثر فضائلها. ولهذا سوى ما تقدم إيراده، يفيد كثيراً أن يصير الأجتهاد في أن تكتسب في كل تسعاويةٍ من هذه الأيام فضيلةٌ ما من فضائلها، أي أن العابد يهتم في أن يكتسب لذاته مثلاً فضيلة نقاوة النية، في الأيام المختصة بعيد الحبل بها البريء من دنس الخطيئة الأصلية. وفضيلة التجديد بالروح من فتور العبادة، في أيام عيد ميلادها. وفضيلة أحتقار الأشياء الزمنية، وأستئصال محبة ذاك الموضوع الذي هو يميل إليه بأشد أنصبابٍ، في أيام عيد تقدمتها للهيكل. وفضيلة التواضع وأحتمال الأهانات بصبرٍ في أيام عيد بشارتها بالحبل الإلهي. وفضيلة محبة القريب بعمل الصدقات وأمثالها، في أيام تذكار زيارتها عند نسيبتها القديسة أليصابات، أو قلما يكون يصلي من أجل أرتداد الخطأة الى التوبة. وفضيلة الطاعة للرؤساء في أيام عيد تطهيرها، أي تقدمتها أبنها الى الهيكل. وأخيراً فضيلة أحتقار خيرات الأرض والأستعداد يومياً الى الموت، كأن كل يومٍ هو الأخير من حياته، في أيام عيد نياحها. فعلى هذه الصورة تثمر الأيام التسعاوية الأثمار العظيمة.* سادساً:ما عدا تناول القربان المقدس في يوم العيد، فحسنٌ هو أن العابد يستمد الأذن من مرشده الأب الروحي بأن يتناول السر الأقدس مراتٍ أخرى في بحر التسعة الأيام. فكان الأب بولس السنيري من عادته أن يقول: أنه لا يمكننا أن نكرم مريم العذراء بأفضل نوعٍ، الا حينما نكون متحدين مع يسوع: بل أن هذه السيدة عينها قد أوحت الى نفسٍ من الأنفس القديسة بأنه لا توجد لديها تقدمةٌ أكثر قبولاً، من أن عبيدها يواظبون تناول جسد أبنها الإلهي. لأنه تعالى بهذه الرياضة يجمع بيديه من الأنفس أثمار آلامه المقدسة. ثم يبان كأن هذه الأم الإلهية لا تشتهي شيئاً أكثر من هذا العمل الجليل، ولذلك تهتف نحو الجميع عن لسان الحكيم قائلةً: تعالوا كلوا من خبزي وأشربوا الخمر الذي مزجته لكم.* سابعاً: وأخيراً يلزم أن العابد يقدم ذاته في يوم العيد، بعد تناوله القربان المقدس لخدمة هذه الملكة. مع ألتماسه منها نعمة تلك الفضيلة التي يكون هو في الأيام المتقدمة عزم على أكتسابها، أم أنه يطلب منها نعمةً أخرى خصوصيةً. وأمرٌ مفيدٌ هو أن يصير في كل سنة الأجتهاد، في أحد الأعياد الذي يكون للعابد تعلق قلبٍ به أشد مما سواه. في أن يجدد في هذا العيد عبوديته لهذه الأم الإلهية بأكثر حرارةٍ، وبأشد أنعطافٍ، وبأفضل نوعِ. متأهباً ليكرس ذاته من جديد لخدمتها، متخذاً إياها شفيعته ومحاميته الخصوصية. وأماً له بأحترامٍ تقويٍ خاص. وحينئذٍ يلزمنا أن نطلب من العذراء المجيدة الغفران عما صدر منا من التهاون في عبادتها في تلك السنة الماضية، وأن نعدها بالأمانة في خدمتها بكل نشاطٍ في السنة المقبلة. وأخيراً أن نلتمس منها بتضرعاتٍ حارةٍ أن تقبلنا عبيداً لها، وأن تستمد لنا نعمة الميتة الصالحة.* تـنـبـيـه أنه توجد في الجزء3 من الباب 7وجه 137 من كتاب الرياضة اليومية صلاتان، أحدهما لتكريس الإنسان ذاته لعبادة هذه السيدة، وثانيهما لتكريسه لها عيلته. فعليك أيها العابد بأستعمالهما.* في طريق العدل أتمشى، في وسط سبل الحق، فأورث محبي رزقاً واملأ خزائنهم. (أمثال8/20) الفصل الرابع * في العبادة المختصة بالمسبحة الوردية. وبفرض البتول المجيدة، أو قانونها* فأمرٌ معروفٌ من الجميع هو أن العبادة المختصة بالوردية المقدسة قد أوحى بها من والدة الإله عينها للقديس عبد الأحد، حينما كان هو ممتلئاً من الغموم، لأجل أن الأراتقة الألبيجازيين كانوا وقتئذٍ يسببون للكنيسة أضراراً عظيمةً. ولذلك أخذ هذا القديس يتشكى لسيدته الأم لإلهية من تلك الحال السيئة، فهي أجابته قائلةً له في الوحي: أن هذه الأرض ستلبث عقيمةً من الأثمار، الى حينما تنحدر عليها الأمطار: فالقديس حينئذٍ فهم أن الأمطار المومى إليها قد كانت عبادة المسبحة الوردية، التي كان يلزمه أن يشهرها هو في كل مكانٍ، الأمر الذي حالاً باشره بالعمل، منذراً في كل صقعٍ بهذه العبادة، التي أعتنقها المؤمنون الكاثوليكيون عموماً، بنوع أنه في الوقت الحاضر لا توجد عبادةٌ ممارسةٌ من المسيحيين كافةً، من كل جنسٍ وسنٍ ودعوةٍ، بمقدار هذه العبادة المقدسة، أي المسبحة الوردية. فالأراتقة المحدثون، نظير كلفينوس وبوجاروس وغيرهما، قد أجتهدوا بكل قوتهم في أن يصيروا أستعمال هذه العبادة مكروهةً عند المؤمنين. غير أنه معلومٌ لدى الجميع الخير الروحي العظيم الذي جلبته للعالم هذه العبادة الشريفة. فكم من الناس بواسطتها قد خلصوا من رذائلهم ومآثمهم: وكم هم الذين بممارستهم إياها حصلوا على سيرةٍ فاضلةٍ وحيوةٍ مقدسة، وفازوا أخيراً بميتةٍ صالحةٍ، وهم الآن في الفردوس السماوي. فلتقرأ في هذا الموضوع الكتب الكثيرة المخبرة عن هذه الأثمار العظيمة، والفوائد العمومية والخصوصية. ويكفي القول أن هذه العبادة قد تثبتت من الكنيسة المقدسة، وأن الأحبار الرومانيين قد أغنوها من الغفرانات. فقد منحوا لكل من يتلو ثلث هذه المسبحة الوردية غفران سبعين ألف سنةً. ولكل من يتلوها كلها ثمانين ألف سنةً. وأكثر من ذلك لكل من يتلوها أمام هيكل الوردية. والبابا بناديكتوس الثالث عشر أعطى أخيراً لكل من يتلو من المسبحة الوردية قلما يكون ثلثها، مستعملاً أحدى المسابح المباركة من الآباء رهبان القديس عبد الأحد. كل الغفرانات الممنوحة لمسبحة القديسة بريجيتا، أي غفران ماية يوماً عن كلٍ من: السلام لكِ يا مريم: ومثله على كلٍ من: أبانا الذي: وأن من يمارس هذه العبادة يكتسب غفراناً كاملاً في كلٍ من أعياد والدة الإله، ومن الأعياد الكنائسية المتميزة، وكذلك في أعياد القديسين الذين من قانون البار عبد الأحد، بزيارة كنائسهم بعد الأعتراف والتناول. ولكن ينبغي أن يفهم، انه يكتسب هذه الغفرانات أولئك الذين يكونون أشتركوا في عبادة الوردية، وتدونت أسماؤهم في السجلات المختصة بها. كما أن كلاً من هؤلاء المشتركين يربح غفراناً كاملاً يوم تدوين أسمه في الشركة، اذ يكون معترفاً ومتناولاً. ثم مئة سنة أن كان يحمل معه المسبحة. وأما الذي يصنع الصلاة العقلية كل يومٍ مقدار نصف ساعة فيربح غفران سبع سنواتٍ في كل مرة يمارس هذه الصلاة، وغفراناً كاملاً في كل شهرٍ.* الا أنه لأكتساب الغفرانات الممنوحة لعبادة الوردية، يلزم أن يصير التأمل في أسرارها حين تلاوة المسبحة، وهذه الأسرار هي معروفةٌ ومدونةٌ في كتبٍ كثيرةٍ. ولكن حينما لم يكن العابد يعرفها غيباً فيكفيه أن يتأمل بعض أسرار آلام مخلصنا المقدسة، مثلاً جلده، أم موته أو غيرهما. ثم يجب أن تتلى المسبحة الوردية بحسن عبادةٍ وفي هذا الشأن قالت العذراء الكلية القداسة عينها للطوباوية أفلاليا: أنها هي تقبل أفضل قبولاً تلاوة خمسة بيوت بأنتباه وعبادة، من تلاوتها كلها أي الخمسة عشر بيتاً بأسراعٍ ودمجٍ، وبعبادة فاترة. فأمرٌ جيدٌ جداً هو أن تتلى هذه المسبحة ممن يكون جاثياً على ركبتيه، وأمام أحدى أيقونات والدة الإله، وأنه عند بداية كل بيتٍ منها يمارس باطناً فعل حبٍ نحو يسوع ووالدته بعواطف قلبية، طالباً منهما نعمةً ما. ثم يفيد كثيراً أن تتلى هذه المسبحة من كثيرين معاً، أفضل من تلاوتها من شخصٍ بمفرده.* وأما بخصوص الفرض أو القانون، المختص بالبتول المجيدة، الذي يقال أنه مؤلفٌ من القديس بطرس داميانوس، فالبابا أوربانوس الثاني قد منح غفراناتٍ كثيرةً لمن يتلوه، ووالدة الإله مراتٍ عديدةً قد أوضحت بكفايةٍ كم هي مقبولةٌ لديها هذه العبادة. كما أنها تقبل بالرضى تلاوة الطلبة المختصة بها، الممنوح لكل من يتلوها غفران مايتين يوماً في كل مرةٍ تقال منه. ومثل ذلك الصلاة المبدوة: السلام عليكٍ يا مريم النجمة: حيث أن هذه البتول رسمت على القديسة بريجيتا أن تتلوها يومياً، وبأكثر من هذه وتلك التسبحة التي هي نفسها ألفتها أي: تعظم نفسي للرب، وتبتهج روحي بالله مخلصي ألخ. لأن والدة الإله بهذه التسبحة قد مجدت الله ومدحت عظائمه، ونحن بتلاوتنا إياها نمدحها بألفاظها عينها التي هي أستعملتها في تعظيم الرب.* الفصل الخامس * في عبادة والدة الإله الكلية الطوبى بواسطة الأصوام* أن كثيرين من المتعبدين لهذه الأم الإلهية قد أعتادوا أن يكرموها بصيامهم على الخبز والماء، في أيام السبوت، وفي بارامونات أعيادها. فأمرٌ واضحٌ هو أن الكنيسة المقدسة قد كرست نهار السبت لتكريم هذه السيدة الشريفة:" لأنه (كما يقول القديس برنردوس) في يوم السبت بالخصوص قد تلألأت فضيلة إيمانها الثابت في أبنها بعد موته ودفنه". ومن ثم عبيد هذه الملكة الجليلة لا يدعون أن يمر نهار السبت من دون أن يكرموها به ببعض عباداتٍ خصوصية. لا سيما أولئك الذين يصومون فيه على الخبز والماء، كما كان يصنع القديس كارلوس بوروماوس، والكردينال طولادوس وغيرهما كثيرون، بل أن أسقف بامبارغا نيطاردوس والأب يوسف أريغا اليسوعي لم يكونا يذوقان في يوم السبت شيئاً من المآكل مطلقاً. وأما أخبار النعم العظيمة التي وزعتها هذه السيدة على أولئك الذين يكرمونها بهذا الصيام، فيمكن الأطلاع عليها مفصلاً في الرأس 17من المجلد 1 من تأليف الأب أورياما، ويكفي لأيضاح مراحمها ما صنعته مع أحد رؤساء اللصوص، الذي اذ قطعت هامته وكان هو في حال الخطيئة المميتة، فأستمر رأسه حياً الى أن أعترف بخطاياه ونال الحل عنها، وبعد أن أخبر بأن هذه النعمة أعطيت له من والدة الإله، لأجل أنه كان يكرمها بصيام يوم السبت، فحالاً أنفصلت نفسه عن تلك الهامة المتكلمة من دون جثتها. فاذاً ليس هو شيئاً مستعظماً على من يدعي بأنه متعبدٌ خاص لهذه الملكة، لا سيما ذاك الذي يكون بخطاياه أستحق جهنم، أن يقدم لها صيام يوم السبت، لأني أقول أن من يمارس هذه العبادة، فأمرٌ عسرٌ جداً هو أنه يمضي هالكاً. لا كأنه اذا أدركه الموت في حال الخطيئة المميتة، فوالدة الإله تخلصه من الهلاك بواسطة أعجوبةٍ، كما صنعت مع القائد المنوه عنه آنفاً،كلا، لأن هذه هي أفعال عجائب الرحمة الإلهية الغير المتناهية التي تحدث نادراً جداً. وبالتالي أن من ينتظر أمر خلاصه بواسطة هذه العجائب فهو أحمق فاقد العقل. بل أقول أن الذي يكرم هذه السيدة بصيام السبوت، فبسهولةٍ يجعلها أن تستمد له من الله موهبة الثبات في النعمة، وميتةً صالحةً. فجميع الأخوة الموجودين في جمعيتنا الحقيرة يصومون السبوت على الخبز والماء (حينما يقدرون على ذلك) تكريماً لمريم العذراء وأنما قلت حينما يقدرون على ذلك. لأوضح أنه يتفق أحياناً أن يلتزم البعض منهم بعدم حفظ هذا الصيام لأجل عارض مرضٍ، أو بأمر الطبيب، ولكن الذين على هذه الصورة لا يستطيعون على الصيام، فلا يتغافلون عن صنيع الأماتات الممكنة لديهم. مثلاً الأكل من شكلٍ واحدٍ فقط من الأطعمة، أو الأمتناع عن الفواكهة، أم عن شيء آخر محبوبٌ منهم.* ففي أيام السبوت يلزم أن تصنع بعض عباداتٍ خصوصيةٍ تكريماً لهذه السيدة، كتناول القربان الأقدس، أو على القليل أستماع القداس، وكزيارة بعض أيقوناتها المقدسة بتقوى وحسن تعبدٍ، أو بلبس المسح، وبما يضاهي ذلك. فالمتعبد لهذه الأم الإلهية يجتهد قلما يكون في أن يكرم أعيادها السنوية السبعة بصيامه في باراموناتها على الخبز والماء، أم بأستعماله نوعاً آخر من الصيام حسبما هو ممكنٌ لديه.* الفصل السادس * في العبادة التي تكرم بها والدة الإله، بواسطة *زيارات أيقوناتها المقدسة* أن الأب بولس السنيري يقول: أن الشيطان لم يعرف أن يعزي ذاته نوعاً، عن الخسارة التي ألمت به في ملاشاة العبادات الوثنية القديمة الا بواسطة أستخدامه الأراتقة في أضطهاد الأيقونات المقدسة. ولكن كنيسة المسيح الجامعة قد حامت عن تكريم هذه الأيقونات حتى بسفك دماء شهداء كثيري العدد، وكذلك البتول الأم الإلهية قد أظهرت بواسطة عجائب عظيمةٍ وعديدةٍ. كم هو مقبولٌ لديها تكريم أيقوناتها الطاهرة!. فقد قُطعت يد القديس يوحنا الدمشقي لأجل أنه أستخدمها بتحريك قلمه الجليل في المحاماة عن أيقونات هذه السيدة، غير أن سلطانة العالمين هذه قد ردت يده صحيحةً بأعجوبةٍ شهيرة. وأخبر الأب سبينالي، بأنه في القسطنطينية قد كان في كل سنةٍ سترٌ يحجب أيقونة والدة الإله. نهار الجمعة بعد صلاة الغروب يسحب مفتوحاً من ذاته، نهار السبت بعد صلاة الغروب يغلق أمام الأيقونة بنوع فائق الطبيعة. وقد حدث نظير هذا الأمر مع القديس يوحنا ديديو، أي أنه اذ دخل هو يوماً ما الى أحدى الكنائس لزيارة أيقونة والدة الإله هناك، فقد أنسحب ستر الأيقونة مفتوحاً من ذاته، بنوع أن خادم الكنيسة ظن البار سارقاً فجاء إليه ورفسه برجله الا أن تلك الرجل قد يبست حالاً. فعباد هذه السيدة قد أعتادوا دائماً أن يكوموها بواسطة زيارتهم أيقوناتها المقدسة، والكنائس المشيدة على أسمها مراتٍ كثيرةً بحسن تدينٍ. فحسب قول القديس يوحنا الدمشقي أن هذه الأيقونات والكنائس المختصة بوالدة الإله هي مدن الملجأ والحماية، التي بهربنا إليها نجد النجاة من وثبات أعدائنا الجهنميين الذين يحاربونا بالتجارب، ثم الخلاص من العقوبات التي أستحقيناها بخطايانا المفعولة منا. فالملك القديس أنريكوس كان من عادته في حين دخوله الى كلٍ من المدن، أن يزور قبل كل شيءٍ أحدى الكنائس هناك على أسم العذراء المجيدة. والأب توما سانكس لم يكن أعتيادياً يرجع الى بيته قبل أن يكرم هذه البتول بزيارة بعض كنائسها. فلا ينبغي اذاً أن يصعب علينا أن نزور ملكتنا كل يومٍ في أحدى الكنائس أم المعابد المختصة بها، أو قلما يكون في بيوتنا ذاتها. حيث أنه يكون أمراً حسناً اذا تعين في أحد أمكنتها مخدعٌ خصوصي في محلٍ منفردٍ، وتكون فيه أيقونتها مكرمةً بزينةٍ ما، وبزهورٍ وشموعٍ، أو بقنديلٍ. وأمامها تتلى الصلوات من أهل البيت، كالطلبة ومسبحة الوردية وأمثالها. ففي شأن الزيارات التي نحن في صددها قد ألفت كتيباً (الذي قد طبع لحد الآن ثمان مراتٍ) مختصاً بزيارة القربان الأقدس وبزيارة العذراء أيضاً مقسوماً على عدد أيام الشهر، ثم أنه يستطيع بعض المتعبدين لمريم أن يصنع على مصروفه، في أحدى الكنائس أو المعابد. الأحتفال ببعض أعيادها، مع التسعة الأيام المتقدمة على العيد، بصمد القربان المقدس، وبعظاتٍ أيضاً. الأمر الجزيل القبول والفائدة.* الا أنه يليق هنا أن ننبه بما أخبر به الأب سبينالي في العدد 75من كتابه على عجائب والدة الإله، عما حدث سنة 1611 في المعبد الشهير المختص بهذه السيدة. في المكان الملقب" بحبل العذراء" وهو أنه في بارامون عيد العنصرة، حينما كان أجتمع في الأمكنة التي حول هذا المعبد جمٌ غفيرٌ من الناس، الذين ألتئموا، يسكرون ويرقصون ويبذخون، وهكذا دنسوا المعبد الإلهي، فبغتةً أضطرمت نيران الحريق في تلك الأمكنة الخشبية، حيث كانوا مجتمعين، بنوع أنه في مدة نصف ساعةٍ فقط قد أفنى اللهيب كل تلك الأمكنة، وأحالها الى رمادٍ، مع ألف وخمسماية شخصاً قد ماتوا محروقين. ما عدا خمسة أنفارٍ قد أستمروا في الحياة. وهؤلاء شهدوا تحت أقسامٍ رهيبةٍ وحلفاناتٍ أحتفاليةٍ، بأنهم شاهدوا بأعينهم والدة الإله نفسها، حاملةً بيديها مشهابين متقدين. وجايلةً تلقي بهما اللهيب في كل تلك الأمكنة. فلذلك أنا أتضرع الى عبيد مريم بقدر أستطاعتي بأنهم يمتنعون عن الذهاب الى الأعياد التي تصنع خارج المدن في بعض الكنائس، وبأن يجتهدوا في أن يصدوا الآخرين من المضي الى أعيادٍ هذه صفتها، التي يحصل منها الجحيم على أثمار أكثر مما تحصل عليه هذه الأم الإلهية من العبادة والتكريم. ومن ثم أن ذاك الذي يشعر بأنعطافٍ الى أن يزور أحد المعابد المومى إليها، تكريماً لوالدة الإله، أم لغايةٍ أخرى صالحة، فليذهب، ولكن لا في الأيام التي فيها يصير أحتفال أعياد هذه المعابد، بل في أيامٍ أخرى سابقة أو متأخرة عن يوم العيد.* الفصل السابع * في العبادة للبتول الكلية القداسة بحمل ثوبها في عنق المتعبد لها* أنه كما أن الأنام الأشراف المتقدمين في الوظائف المدنية يفتخرون في أن خدامهم يتردون بتلك الأثواب الحاوية علامات شرفهم أم وظائفهم، فهكذا والدة الإله تسر بأن عبيدها وخدامها يحملون معلقةً في أعناقهم أثوابها المكرسة، علامةً لتكريمها وللتعبد لها مشرفين في خدمتها. فالأراتقة المحدثون حسب عادتهم يستهزئون بهذه العبادة، ولكن الكنيسة المقدسة قد أثبتت عبادة ثوب السيدة بمراسيم ومناشير رسولية عديدة ذات أنعاماتٍ وغفراناتٍ سخية. فالأب كراسات، ومثله لاتسانا يخبران بتكلمهما عن ثوب سيدة الكرمل، بأنه نحو سنة 1251 قد ظهرت والدة الإله للطوباوي سمعان سطوكيوس، الذي من بلاد أنكلترا، واذ أعطته ثوبها بالصورة المصنوع بموجبها ثوب السيدة، قد قالت له أن أولئك الذين يحملون في أعناقهم هذا الثوب ستخلص أنفسهم من الهلاك الأبدي. وهذه ألفاظها عينها هي:" أقتبل مني يا أبني العزيز هذا الثوب الذي هو الأسكيم، علامة لأخويتي التي هي رهبنتك، وهو أختصاصٌ لك ولجميع الرهبان الكرمليتانيين. فكل من يموت وهو حاملٌ في عنقه هذا الثوب، فلا يحترق في النيران الأبدية". ثم أن الأب كراسات عينه يبرهن، بأن هذه السيدة المجيدة قد ظهرت مرةً أخرى للحبر الأعظم يوحنا الثاني والعشرين، وأمرته بأن يعرف أولئك الذين يحملون ثوبها المذكور، بأن أنفسهم عتيدةٌ أن تخلص من العذابات المطهرية، في نهار السبت الأول الذي يأتي بعد موتهم. حسبما أوضح ذلك هذا الحبر الروماني نفسه في منشوره الرسولي الذي أشهره بعد هذه الرؤيا، المثبت فيما بعد من الباباوات ألكسندروس الخامس، وأكليمنضوس السابع وغيرهما. ونحن قد أوردنا في الوجه265 من هذا الكتاب كيف أن الحبر الأعظم بولس الخامس يشير الى جميع ما تقدم عنه القول، وكأنه يفسر مراسيم سلفائه بشرحه الشروط التي بموجبها تكتسب الغفرانات الممنوحة لهذه العبادة، وهي حفظ العفة بقدر أستطاعة كل إنسانٍ في دعوته، وتلاوة الفرض الوجيز المختص بوالدة الإله، وأن الذي لا يمكنه أن يتلو هذا الفرض، فيحفظ قلما يكون صيامات الكنيسة، ممتنعاً عن أكل اللحم نهار الأربعاء. وأما الغفرانات الممنوحة لأولئك الذين يحملون ثوب سيدة الكرمل، ومثله ثوب أحزان العذراء، وثوب سيدة النجاة، وخاصةً ثوب الحبل بها بلا دنس. فهي غفرانات لا تحصى عدداً، كاملةً وغير كاملةٍ، يوميةً وشهريةً وسنويةً، في مدة الحياة وساعة الموت. وأنا أتعزى بأني مشتركٌ في هذه الأثواب كلها. ويلزم أن أنبه هنا، بأن الثوب المختص بالحبل بهذه السيدة البريء من الدنس، الذي يبارك من كهنة جمعية التياتيين، فما عدا الغفرانات الخصوصية الممنوحة له، توجد أيضاً معطاةً للذين يحملون هذا الثوب المبارك منهم الغفرانات الأخرى كلها، الموهوبة لجميع الرهبنات، ولسائر أمكنة التقوى، ولكل الأشخاص مجملاً ومفرداً، لا سيما اذ تلى حاملون هذه الأثواب الست مراتٍ: أبانا الذي: والسلام لك: والمجد للآب: تكريماً للثالوث الأقدس، وللحبل بالعذراء البريء من الدنس، فيكتسبون كل الغفرانات المعطاة من مدن روميه، وأسيزي، وأورشليم، وغاليتسيا. وهذه تبلغ الى أربعماية وثلاث وثلاثين غفراناً كاملاً، ما عدا الغفرانات الغير الكاملة الفائقة الإحصاء، فهذا كله أخذناه عن صكٍ مطبوع من هؤلاء الآباء التياتيين. حيث تورد فيه هذه الغفرانات بالتفصيل.* الفصل الثامن * في الأشتراك بالأخويات المختصة بعبادة والدة الإله* أنه يوجد البعص يذمون الأخويات المشتركة، أو قلما يكون لا يمدحونها، قائلين أنه مراتٍ كثيرةً توجد هي علةً للخصومات والدعاوى، وأن كثيرين يشتركون بها لغاياتٍ بشريةٍ. ولكن كما أنه لا يمكن أن تذم الكنائس والأسرار المقدسة. لأجل أن كثيرين ينافقون بها. فهكذا لا يلزم أن تذم الأخويات لأجل هذه العلة. فالأحبار الرومانيون ليس فقط لم يرذلوا هذه الأخويات بل أيضاً قد أثبتوها ومدحوها وأغنوها بالأنعامات والغفرانات والأختصاصات. والقديس فرنسيس سالس يحرض كثيراً العلمانيين على الدخول في الأخويات المثبتة. والقديس كارلوس بوروماوس قد أبذل كل عنايته الرعائية في نمو أخوياتٍ هذه صفتها، وأهتم في تأييدها، وكان بنوعٍ خاص يحتم في مجامعه الأقليمية على خوارنة الرعايا بأن يجتهدوا في أقناع تلاميذهم بالأشتراك في الأخويات. وهذا بكل صوابٍ، لأن الأخويات لا سيما المختصة بعبادة والدة الإله. هي نظير سفنٍ نوحية يجد فيها العلمانيون المساكين ملجأً ومهرباً من الغرق العرمرمي. أي من التجارب الشيطانية، ومن الخطايا التي تغرق العالم. فنحن وجمعيتنا قد عرفنا بالعملية، وأختبرنا بالتجربة بواسطة الرسالات التي باشرناها في أمكنةٍ مختلفةٍ بكم هو عظيم الإفادة الناتجة للعلمانيين من الأشتراك في الأخويات، لأننا اذا تكلمنا بوجه العموم وأعتيادياً، فنقول أنه توجد مآثم في رجلٍ علماني غير مشترك بهذه الأخويات، أكثر من خطايا عشرين رجلاً علمانيين مشتركين بها. ومن ثم يمكن أن يقال عن أخويةٍ مثبتةٍ، ما قيل عن عروسة النشيد: أن عنقكِ كبرج داود المبني بالمحاصن المعلق عليه ألف ترسٍ، وكافة أسلحة المقتدرين: (نشيد ص4ع4) وهذا هو النجاح الروحي العظيم الناتج من الأخويات. لأن المشتركين بها يكتسبون لذواتهم أسلحةً قويةً جداً ضد قوات الجحيم. وفي هذه الأجتماعات المقدسة يتروضون بممارسة الوسائط التي بها يحفظون أنفسهم في حال النعمة الإلهية، الوسائط التي خارجاً عن هذه الأخويات تمارس نادراً وبصعوباتٍ وافرة.* فأولاً: أن إحدى هذه الوسائط هو التفكر في الموت، كقول الروح القدس: أذكر عواقبك فلن تخطئ أبداً (أبن سيراخ ص7ع40) ولذلك كثيرون يهلكون لعدم تفكرهم بالموت، كقول أرميا النبي: خراباً خربت الأرض لأن ليس من يفتكر في القلب: (ص12ع11) فالذين يترددون الى الأخويات يتذكرون جيداً هذه الأشياء مراتٍ عديدةً، من قبل الصلوات العقلية التي تمارس منهم هناك، ومن قبل القراءات الروحية والمواعظ. كقوله تعالى: أن خرافي تسمع صوتي وأنا أعرفها وهي تتبعني، وأنا أعطيها حيوة الأبد: (يوحنا ص10ع27).* ثانياً: أنه لنوال الخلاص يلزم التوسل لله والطلب المتصل، كقول مخلصنا: أسألوا فتعطوا ليكون فرحكم كاملاً: (يوحنا ص16ع24) والحال أن المشتركين في الأخويات يمارسون في أجتماعاتهم هذه الطلبات بتكاثرٍ. بل بأتصالٍ! والباري تعالى يستجيب لهم كوعده الصادق بقوله: لأنه أينما أتفق أثنان منكم على الأرض في كل شيء يطلبانه، فيكون لهما من قبل أبي الذي في السموات. لأن حيثما أجتمع أثنان أو ثلاثة بأسمي فأنا أكون هناك في وسطهم: (متى ص18ع19) وفي هذا الشأن قال القديس أمبروسيوس: أن كثيرين من الصغار الضعفاء اذ يجتمعون بروحٍ واحدٍ فيصيرون أقوياء جداً. وكذلك صلوات كثيرين بتضرعاتٍ متواترة لمن المستحيل الا تقبل:* ثالثاً: أنه في الأخويات تقتبل الأسرار بأكثر سهولةٍ، وبأوفر مثابرةٍ، نظراً الى فرائض هذه الجمعيات. ونظراً الى النموذجات التي تعطى من الواحد للآخر. وبهذه الطريقة تحفظ الأنفس بأكثر سهولةٍ في حال نعمة الله، اذ أن المجمع التريدنتيني المقدس قد أوضح (في القانون 2 من الجلسة 13) أن التناول هو دواءٌ به نشفى من زلاتنا اليومية. ونحفظ من الخطايا المميتة.* رابعاً: أنه ما عدا المواظبة على تناول الأسرار، تمارس من ذوي الأخويات أماتاتٌ مختلفةٌ للتواضع، وللمحبة نحو الأخوة المرضى، ونحو الفقراء ولقد يكون أمراً جيداً أن تدرح في كلٍ من الأخويات هذه العادة المقدسة، وهي الأعتناء في مساعدة مرضى البلد الفقراء وتكون الأثمار الروحية عظيمةً جداً اذا جرت العادة في هذه الأخويات بأن تصير تكريماً للبتول والدة الإله الجمعيات السرية، المؤلفة من الأخوة الأشد حرارةً في العبادة، والأكثر نشاطاً في الأعمال الروحية. وهوذا أنا بكل أختصار أورد ما هي الرياضات التي تمارس في هذه الجمعيات السرية، وهي: 1. قراءة روحية مقدار نصف ساعة. 2. تتلى صلاة الغروب وصلاة النوم المختصتين بالروح القدس. 3. تقال الطلبة، وحينئذٍ الأخوة المعينون لعمل بعض أماتاتٍ، كحمل الصليب على عاتقهم. وما أشبه ذلك فيمارسونها. 4. تصير صلاةٌ عقلية بالتأمل مدة ربع ساعةٍ في آلام مخلصنا المقدسة. 5. كل واحدٍ من الأخوة يعترف حينئذٍ بالنقائص التي صنعها ضد فرائض الأخوية. ويقبل عنها قانون من الأب المرشد. 6. تقرأ علانيةً من الأخ المعين لذلك أعمال الأماتات التي تكون تمارست مشتهراً من الأخوة في السنة الماضية، وتعلن الأيام التسعاوية التي تبتدئ في السنة المقبلة. 7. وأخيراً تصير رياضة الجلد على تلاوة المزمور الخمسين: والسلام عليكٍ أيتها الملكة أم الرحمة: وهكذا كلٌ من الأخوة يمضي فيقبل قدمي المصلوب المقدس الموضوع على درجة الهيكل. وأما فرائض هذه الجمعيات السرية، فهي: 1. أن كلاً من الأخوة يمارس يومياً الصلاة العقلية. 2. أن يزور كل يومٍ القربان الأقدس، وأحدى أيقونات والدة الإله. 3. أن يفحص ضميره كل ليلةٍ قبل الرقاد. 4. الا يهمل يومياً القراءة الروحية. 5. أن يمتنع عن اللعب بالورق وغيره ويهرب من الأجتماعات العالمية. 6. أن يواظب على أقتبال الأسرار المقدسة، وعلى بعض أماتاتٍ ممكنةٍ لديه، كحمل زنار الحديد، أو عمل الجلد وأمثالهما. 7. أن يتوسل لله كل يوم من أجل الأنفس التي في المطهر، ومن أجل أرتداد الخطأة الى التوبة. 8. اذا كان أحد الأخوة مريضاً فتلتزم الأخوة كلهم بزيارته. وبهذا كفاية. فلنرجع الى موضوعنا الأول.* خامساً:قد قلنا فيما سلف كم هو أمرٌ مفيدٌ للخلاص الأبدي التعبد لمريم العذراء وخدمتها كالواجب. فالأخوة في جمعياتهم ماذا يصنعون الا واجبات عبادتها وخدمتها، فكم يمدحونها هناك، وكم يتضرعون إليها. اذ أنهم منذ أشتراكهم بهذه الأخويات يكرسون ذواتهم لخدمتها وعبادتها. مختارينها بنوعٍ خاص سيدةً وأماً لهم. وبالتالي كما أنهم عبيدٌ لها وأبناءٌ، أخصاء. فهكذا هي بنوع متميز تعضدهم وتحامي عنهم في مدة حياتهم وفي ساعة موتهم. فاذاً يمكن القول عن كل أحدٍ من المشتركين بأخويات هذه الأم الإلهية أنه مع الأخوية قد أقتبل كل خيرٍ، كقول الحكيم: جاءتني الخيرات كلها معها، والثروة التي لا تحصى في يديها: (سفر الحكمة ص7ع11).* الا أن كل واحدٍ من المشتركين بهذه الأخويات يلزمه أن يجتهد في أمرين: أحدهما: هو الغاية، أي في أن يكون تردده الى الأخوية لا لغايةٍ أخرى الا لعبادة الله وخدمته، وللتعبد لوالدته المجيدة. ولكي يهتم في خلاص نفسه. ثانيهما: أن لا يهمل لأجل أعمالٍ عالميةٍ الذهاب الى الأخوية في الأيام المعينة للأجتماع، لأن تردده الى الأخوية أنما هو لممارسة العمل الأهم والأصر والأخص من جميع أعمال العالم، وهو عمل خلاصه الأبدي. ثم أن يجتهد بقدر مكنته في أن يجتذب الآخرين أيضاً الى هذا الأجتماع، لا سيما في أن يصير أولئك الأخوة الذين تركوا التردد الى الأخوية أن يرجعوا الى حالهم الأولى. لأنه كم وكم عاقب الله بقصاصاتٍ ظاهرةٍ مهيلةٍ، أولئك الذين اذ كانوا مرةً ما مشتركين في إحدى الأخويات المختصة بعبادة مريم العذراء قد أهملوها بعد ذلك بالكلية. ففي مدينة نابولي قد كان أحد الأخوة ترك الأخوية مطلقاً واذ حرضه البعض على الرجوع إليها، قد أجابهم التعيس قائلاً: أني سأرجع إليها حينما تكسر قصبتا رجلي وتقطع هامتي: فقد صار هو نبياً على ذاته بهذا القول، لأنه لم يمضِ على ذلك الا زمنٌ وجيزٌ. واذا بأعداءٍ كانوا لهذا الإنسان قد وثبوا عليه بغتةً، فكسروا ساقيه، وقطعوا رأسه. وبالعكس أن عبيد مريم البتول المثابرين على الأجتماعات بهذه الأخويات فهم مسعفون منها ومنعم عليهم من قلبها بخيراتٍ روحيةٍ وزمنيةٍ أيضاً. وعنهم قيل: أن أهل بيتها جميعهم لابسون ثياباً مضعفةً: (أمثال ص31ع21).* ففي الرأس4 من المجلد 2من تأليف الأب أورياما توجد مدونةً حوادثٌ كثيرةٌ في أثبات النعم العظيمة الممنوحة من والدة الإله للمشتركين في أخوياتها، ليس في مدة حياتهم فقط، بل في حين موتهم أيضاً. فيخبر الأب كراسات (في القسم 5من المجلد 2) بأنه في سنة 1586 اذ كان أحد الشبان مناهزاً للموت قد نام ثم أستيقظ وأعلم معلم أعترافه قائلاً: أواه يا أبتي أنني قد حصلت في خطرٍ عظيمٍ للهلاك، ولكن أمي الإلهية قد خلصتني، لأن الشياطين قدموا ضدي في ديوان الله جميع خطاياي. وكانوا مستعدين لأن يأخذوني متكردساً الى جهنم. ولكن قد جاءت حينئذٍ السيدة والدة الإله، وقالت لهؤلاء الأبالسة: الى أين آخذين معكم هذا الشاب، وأي حقٍ يوجد لكم على أحد عبيدي، الذي خدمني زمناً مديداً في الأخوية المختصة بالعبادة لي: فهكذا هربت الشياطين وأنا خلصت من أيديهم:* ثم أن الأب المذكور عينه يخبر هناك عن حادثٍ آخر، وهو أن رجلاً من المشتركين بأخوية العذراء، قد حصل في ساعة موته على معركةٍ قوية جداً من قوات الجحيم، ولكن اذ أنتصر عليهم أخيراً، قد هتف صارخاً: يا له من خيرٍ عظيمٍ هو خدمة مريم البتول في أخويةٍ مختصةٍ بعبادتها: وهكذا مات ممتلئاً من التعزية السماوية. ويضيف الى ذلك، أنه في مدينة نابولي اذ كان الرجل الشريف "دوكا" بوبولي مدنفاً على الموت قال لأبنه هكذا: أعلم يا ولدي أن الخير الوجيز الذي أنا عملته في حياتي، فأنا أعترف به أنه ناتجٌ عن أشتراكي بأخوية العذراء، فاذاً لا يوجد عندي خيرٌ أعظم أتركه لك بعد موتي من هذه الأخوية، التي أعتبر ذاتي شريفاً بالأشتراك فيها، أكثر من شرفي بأني دوكا بوبولي:* الفصل التاسع * في أعطاء الصدقة عبادةً لوالدة الإله وتكريماً لها* أن المتعبدين لمريم البتول الكلية القداسة من عادتهم أن يوزعوا بعض صداقاتٍ، لا سيما في يوم السبت أكراماً لهذه السيدة. فالقديس غريغوريوس الكبير يخبر في أدابياته عن ذاك الرجل البار القديس عطا الله، الذي كانت صنعته عمل الأحذية، فهذا كان يوزع على الفقراء والمساكين تكريماً لهذه الأم الإلهية في نهار السبت، جميع ما كان يربحه في أيام السبت من تعب يديه، فالباري تعالى أظهر في الرؤيا لأحد أبراره داراً عظيمةً ذات قصورٍ ملوكيةٍ في السماء كانت مهيأةً لهذا الرجل عبد مريم البتول عطا الله، وأنها لم تكن تتشيد وتتزين الا في أيام السبوت. والقديس جاراردوس في مدة حياته كلها لم يكن ينكر قط على أحدٍ تتميم ما كان يسأله إياه أكراماً للعذراء المجيدة، متى كان يطلب منه بأسمها. ومثل ذلك كان يصنع الأب مرتينوس غوتيازاز اليسوعي، الذي أعترف فيما بعد بأنه قط لم يكن هو ألتمس من هذه السيدة نعمةً ما، الا ونالها منها. ومن حيث أن الأوغونوتيين وثبوا يوماً ما على عبد مريم هذا البار فقتلوه، وتركوا جثته في الأرض. فحينئذٍ ظهرت ملكة السماء هذه وبرفقتها عددٌ من العذارى، اللواتي بأمرها قد لفين جسده بسباني نقيةِ، وأخذنه. وكذلك القديس أباراردوس أسقف ساليسبورك كان يتصرف على هذه الصورة. ولذلك قد شاهده في الرؤيا أحد الرهبان الأبرار، محمولاً من والدة الإله على ذراعيها نظير طفلٍ، وقالت هي عنه هكذا:" هذا هو أبني أباراردوس الذي قط ما نكر عليَّ شيئاً مما طلبته منه". وبمثله كان يسلك ألكسندروس ألاس الذي اذ طلب منه يوماً ما بأسم مريم العذراء أحد الرهبان الفرنسيسكانيين أن يترهب في قانونهم، فحالاً هو ترك العالم ودخل في الرهبنة المذكورة. فلا يصعب اذاً على عبيد مريم أن يعطوا كل يومٍ صدقةً ما تكريماً لها. وأن يصنعوا ذلك بأوفر سخاءٍ في يوم السبت. واذا لم يكن للبعض منهم أعطاء الصدقة، فقلما يكون يمارس تكريماً لهذه السيدة المجيدة بعض أعمالٍ تلائم محبة القريب، مثلاً خدمة المرضى، أو التوسل لله من أجل أرتداد الخطأة الى التوبة، والتضرع من أجل الأنفس التي في المطهر، وما يضاهي ذلك. لأن أعمال الرحمة هي كلية القبول لدى ملكة الرحمة هذه.* الفصل العاشر * في الألتجاء المتواتر الى والدة الإله بطلب معونتها وأسعافها.* * وفي بعض عباداتٍ أخرى* فأنا أقول أنه فيما بين جميع العبادات والتكريمات التي خدام هذه الأم الإلهية وعبيدها يكرمونها بها، لا توجد لديها عبادةٌ أكثر قبولاً من ألتجائهم إليها، وأستمدادهم منها النعم والمعونات في جميع أحتياجاتهم الخصوصية، نظير طلب المشورة في أعمالهم. أو حينما يلتزمون بأعطاء المشورة لقريبهم، أم في حين أحزانهم وضياقاتهم، أو في وقت توارد التجارب الشيطانية عليهم، لا سيما المضادة الطهارة. فمن دون ريبٍ، بل بكل تأكيدٍ هي حينئذٍ تسعفنا وتنقذنا، متى بادرنا الى حمايتها وألتجأنا الى شفاعتها، وطلبنا معونتها قائلين نحوها: تحت ذيل حمايتكِ نلتجئ يا والدة الإله القديسة.أو: السلام لكِ يا مريم: أم أننا نستغيث بمجرد أسمها الكلي القداسة مريم الذي فيه قوةٌ عظيمةٌ خصوصيةٌ ضد الشياطين. فالطوباوي سانتي الراهب الفرنسيسكاني، اذ تجرب يوماً ما بتجربةٍ قويةٍ ضد العفة، وأستغاث بأسم هذه الأم الإلهية، فحالاً ظهرت هي له، ووضعت يدها على صدره فأنقذته من التجربة. ولهذا يفيد كثيراً في وقت التجارب أن المجرب ضد العفة أو غيرها من الفضائل، ينظر الى إحدى أيقونات والدة الإله، أم يقبل المسبحة الوردية، أو يضمها الى صدره، أم يقبل ثوب السيدة. وليعلم أن من يذكر أسم يسوع ومريم فيربح غفران خمسين يوماً ممنوحاً من الحبر الأعظم بناديكتوس الثالث عشر.* ثم أنني أضيف الآن أخيراً بعض عباداتٍ أخرى تمكن ممارستها تكريماً لوالدة الإله، وهي: أولاً: تقدمة الذبيحة الإلهية، أو طلب تقدمتها من الغير، أم قلما يكون حضورها، أكراماً لهذه السيدة. فلا ينكر أن الذبيحة الكلية القداسة لا تتقدم سوى لله الذي تقرب له أولوياً وبدءاً، أعترافاً بسلطانه المطلق، ولكن يقول المجمع التريدنتيني المقدس (في القانون 3من الجلسة 22) أن هذا لا يمنع أن تتقدم الذبيحة الغير الدموية لله شكراً له على النعم التي وهبها لقديسيه، وللكلية الطوبى والدته، وأننا اذ نذكرهم على هذه الصورة فهم يتضرعون لله من أجلنا. ولهذا يقال في القداس:" أن تقدمتنا، كما هي لتكريمهم، فكذلك تفيدنا خلاصاً". فالعذراء المجيدة نفسها قد أوحت لأحد عبيدها، بأن تقدمة القداس على النوع السابق ذكره، وهكذا تلاوة ثلاث مراتٍ: أبانا الذي: والسلام لكِ: والمجد للآب: للثالوث الأقدس شكراً له على النعم العظيمة التي وهبها إياها. فهو شيءٌ كلي القبول لديها. لأنه اذ لم تستطع هذه السيدة أن تشكره عز وجل بكفايةٍ عن جميع النعم والأختصاصات والمواهب التي شرفها هو بها، فتسر هي جداً بأن عبيدها وأولادها يساعدونها في تقدمة الشكر عن ذلك لديه تعالى. ثانياً: تكريم أولئك القديسين أقرباء هذه الملكة الجليلة الأكثر نسبةً لها، نظير القديس يوسف خطيبها، والقديسيواكيم والدها، والقديسة حنه أمها. بل أن هذه العذراء المجيدة نفسها يوماً ما قد أوصت أحد الأنام الشرفاء، بأن يكون متعبداً لوالدتها القديسة حنه. وكذلك تكرمة القديسين الذين في حياتهم كانوا بنوع متميز عن الآخرين مستحرين في عبادتهم لها، نظير القديس يوحنا الإنجيلي، والطوباوي يوحنا المعمدان، والقديس يوحنا الدمشقي المحامي عن أيقوناتها المقدسة، والطوباوي برنردوس. والقديس أبدالفونسوس المناضل عن دوام بتوليتها، وما يضاهي هؤلاء. ثالثاً: قراءة بعض أوراقٍ يومياً في أحد الكتب المتكلمة عن أمجادها وعظائمها، والوعظ والأنذار، أو قلما يكون التعليم بقدر الأمكان، خاصةً للأقرباء والخصيصين بالعبادة لها. كما قالت يوماً ما هذه السيدة للقديسة بريجيتا:" أجتهدي في أن تصيري أولادكِ بنيناً لي". ثم التضرع كل يومٍ من أجل أولئك المستحرين في عبادتها، أحياءً وأمواتاً.* وهنا نورد بعض العبادات التي منحت لأجلها من ألحبار الرومانيين غفراناتٌ خصوصية لتكريم البتول الكلية القداسة. فأولاً:" يكتسب غفران مئة سنةً كل من يتلو أحدٌ هذه الكلمات وهي:" فليكن مسبحاً على الدوام من كل البريئة، الحبل بمريم البريء من دنس الخطيئة الأصلية". ويقول الأب كراسات أن من يضيف الى لفظة البريء من الدنس كلمة: "الكلي الطهر". فيربح غفراناً آخر أسعافاً للأنفس المطهرية. ثانياً:ممنوحٌ على تلاوة: السلام عليكِ أيتها الملكة أم الرحمة: غفران أربعين يوماً. ثالثا: على تلاوة الطلبة معطى غفران مايتين يوماً. رابعاً:كل من يحني رأسه عند ذكر أسم يسوع وأسم مريم يربح غفران عشرين يوماً. خامساً:كل من يصلي خمس مراتٍ: أبانا الذي: والسلام لكِ: أكراماً لآلام المسيح ولأحزان والدته. فيكتسب غفران عشرة آلاف سنة.* ثم أني أفادةً للأنفس أريد أن أنبه هنا عن غفراناتٍ أخرى معطاة من الأحبار الرومانيين وهي: أولاً: غفران 3800 سنةً لكل من يستمع القداس في أي يومٍ كان. ثانياً:أن البابا بناديكتوس الرابع عشر قد منح غفران سبع سنواتٍ لكل من يتلو أفعال الديانة بنية أن يتناول الأسرار المقدسة في حياته وحين موته، وأن من يداوم تلاوتها مدة شهرٍ يومياً فيربح غفراناً كاملاً أسعافاً لأنفس الموتى، وأيضاً لذاته في ساعة موته. ثالثا: كل من يصلي خمس عشرة مرةً: أبانا الذي: والسلام لكِ: من أجل أرتداد الخطأة الى التوبة فيربح غفران ثلث القصاصات المستحقتها خطاياه. رابعاً: ثم أن البابا بناديكتوس 14 عينه قد منح غفراناتٍ مختلفةً مع غفرانٍ كاملٍ مرةً في الشهر، بشرط الأعتراف والتناول لكل من يمارس الصلاة العقلية يومياً مقدار نصف أو ربع ساعة. خامساً:كل من يتلو الصلاة المبدوة "نفس المسيح" قد منح غفران ثلاثماية يوماً. سادساً: من يرافق القربان الأقدس لمناولة المرضى يكتسب غفران خمس سنواتٍ، وأن رافقه بمصباحٍ فيربح غفران سبع سنين، ومن لا يقدر أن يرافقه بل يصلي مرةً: ابانا الذي: والسلام لكِ: فيربح غفران مئة يومٍ. سابعاً: كل من يجثو أمام القربان الأقدس يكتسب غفران مايتي يومٍ. ثامناً: لكل من يقبل الصليب منح غفران سنةً واربعين يوماً. تاسعاً: كل من يحني رأسه عند تلاوة: المجد للآب: يربح غفران ثلاثين يوماً. عاشراً: قد منح للكهنة الذين قبل القداس يتلون الصلاة المبدوة:" أنا أريد أن أقدم الذبيحة:" غفران خمسين يوماً. حادي عشر: كل من يقبل الثوب الرهباني يكتسب غفران خمس سنواتٍ. ثم من يريد الأطلاع على غفراناتٍ أخرى كثيرةٍ ممنوحةٍ على عباداتٍ مختلفةٍ، فيمكنه أن يراها في تأليف الأب فيفا. وأمرٌ معلومٌ هو أنه ينبغي أن المسيحي يجتهد في أن يبرز فعل الأنسحاق عند أكتسابه الغفرانات المقدم إيرادها، ليكون بذلك متأهباً لربحها.* هذا وأترك التكلم عن عباداتٍ أخرى مختصةٍ بتكريم والدة الإله موجودة في كتبٍ مختلفةٍ، نظير العبادات التي لأفراحها السبعة، والتي لأختصاصاتها الأثني عشر وأمثال ذلك. فأنا أنهي التأليف الحاضر بكلمات القديس برنردينوس الجليلة، الموردة منه في العظة الحادية والستين وهي قوله نحو والدة الإله هكذا: أيتها الأمرأة المباركة في النساء كلهن، فأنتِ هي شرف الجنس البشري، وأنتِ هي خلاص شعبنا. يا من أنتِ حاصلةٌ على أستحقاقٍ لا حدود له، وعلى سلطانٍ كاملٍ فوق الخلائق بأسرها. فأنتِ هي والدة الإله، وسيدة العالم، وملكة السماء وأنتِ هي موزعة النعم كلها، وزينة كنيسة المسيح المقدسة. وأنتِ هي النموذج الحي الأبرار، وتعزية القديسين وبهجتهم. وأصل تخليصنا وأفتدائنا، بل أنتِ هي فرح سكان الملكوت وسرورهم، وباب السماء ومجد الله. فهوذا أننا قد أذعنا مدائحكِ، ومن ثم نتوسل إليكِ يا أم الصلاح بأن تتممي نقصنا وضعفنا، وتعذري جرأتنا وتجاسرنا، وبأن تقبلي عبوديتنا وخدمتنا، وبأن تباركي على أتعابنا بواسطة رسمكِ في قلوب الجميع حبكِ مطبوعاً، حتى بعد أن نكون كافةً أحببنا على الأرض في مدة حياتنا أبنكِ الإلهي، وخدمناه وكرمناه، فنستطيع أن نسبحه ونباركه في السموات الى أبد الآبدين ودهر الداهرين آمين.* فها أنني أودعك، ثم أستودعك أيها الأخ القارئ العزيز والمحب الصادق لأمنا الإلهية مريم البتول، وهكذا أفارقك قائلاً لك، واظب سالكاً في أن تحب هذه السيدة الشريفة وتكرمها، وأجتهد في أن تصيرها محبوبةً من جميع الذين بكل أستطاعتك تحثهم وتحرضهم على حبها، ولا يكن عندك أرتيابٌ أصلاً. بل أحسن رجاك بطمأنينةٍ في أنك اذا ثبت مواظباً على عبادتك للبتول والدة الإله الى حين موتك، فخلاصك يكون أكيداً خالياً من الأرتياب. فأنا أنهي خطابي ليس كأنه لم يعد لي شيءٌ آخر أقوله فيما يخص تماجيد هذه الملكة العظيمة، بل لكيلا أسبب لك الملل من الأطالة. لأن الشيء الوجيز الذي كتبته الى ههنا يكفي لأن يجعلك مغرماً في محبة هذا الكنز الفائق الأثمان، وهو العبادة لهذه الأم الإلهية التي هي تهتم بنموها بواسطة حمايتها المقتدرة، فأقتبل مني أيها الأخ الحبيب عواطف أشواقي المتقدة، التي قصدت بها بواسطة تأليفي هذا أن أراك مستفيداً منه لذاتك خلاصاً، وأن تصير قديساً، بمشاهدتي إياك قد حصلت أبناً محباً بل مغرماً بعشق هذه السلطانة التي هي موضوعٌ كلي للمحبة. واذا كنت تعلم أنني بكتابي هذا قد أفدتك أفادة ما ولو قليلةً للغاية المذكورة، فأتوسل إليك بحق المحبة بأن تصلي من أجلي لدى مريم البتول طالباً لي منها هذه النعمة، كما أنني أنا أيضاً أطلبها لك من مراحمها، وهي أن يشاهد أحدنا الآخر معاً يوماً ما في الفردوس السماوي عند قدمي هذه السيدة، ملتئمين جملةً مع سائر أولادها الآخرين الأعزاء.* ثم أني أخيراً أتجه نحوكِ يا أم إلهي وأمي مريم الكلية القداسة، متضرعاً إليكِ بأن تقبلي مني هذه الأتعاب القليلة، مع أشواقي الى أن أراكِ محبوبةً ومكرمةً وممدوحةً من الجميع، فأنتِ تعلمين جيداً كم أنني رغبت بحرارةٍ في أن أتمم تأليفي هذا المختص بأمجادكِ، قبل أن تنتهي أيام حياتي التي ناهزت الأضمحلال ودنت من النهاية. فالآن يمكنني القول أنني أموت راضياً مسروراً تاركاً في الأرض كتابي هذا، الذي يستمر حاوياً على الدوام مدائحكِ وأذاعة مجدكِ، نظير ما أجتهدت بأتصالٍ في أن أصنع ذلك في جميع سني توبتي التي نلتها من الله بواسطتكِ، فأنا أتوسل إليكِ يا مريم البريئة من العيب والدنس من أجل كل الذين يحبونكِ، خاصةً من أجل أولئك الذين يقرأون كتابي هذا، وبأبلغ نوعٍ من أجل أولئك الذين يصنعون معي رحمةً في أن يصلوا لديكِ من أجلي، فإمنحيهم كافةً أيتها السيدة نعمة الثبات، وقدسيهم جميعاً، لكي تقودينا هكذا كلنا الى أن نمجدكِ ونمدحكِ في السماء. فأي نعم أيتها الكلية الحلاوة أمي أني أنما أنا خاطٍ شقي، ولكنني أفتخر في أني أحبكِ، وأنا أرجو منكِ أشياء عظيمةً. وفيما بينها هو أن أموت في محبتكِ، وأرجو أن في حال نزاعي عند موتي، حينما يضع الشيطان أمام عيني جميع خطاياي. فآلام مخلصي يسوع المسيح أولاً، ثم شفاعاتكِ عتيدةٌ أن تشجعني وتقويني لأن أخرج من هذه الحياة في حال نعمة الله. لكي آتي الى السماء حيث أحبه تعالى، وأشكركِ أنتِ يا أمي الى جيل الأجيال * آمين، هكذا أؤمل وكذلك فليكن لي* ( يقول القديس برنردوس أو من تنسب له العظة 4 على تفسير: *السلام عليكِ أيتها الملكة أم الرحمة:* أيتها السيدة قولي من أجلنا لدى أبنكِ، أن ليسعندهم خمرٌ، فيا لكأس خمر الحب الإلهي الصرفة كم هي رايقةٌ طافحةٌ، لأن خمرة حب الله تسكر شاربيها، وتجعلهم محتقرين العالم، ومستحقرين وأقوياء وتصيرهم في الأمور الزمنية متهاونين متناعسين، وفي الأمور الروحية نشيطين مستيقظين، فأنتِ هي الأرض الصالحة المخصبة الممتلئة نعمةً، والموعبة فضائل، وأنتِ هي نجمة الصبح المشرقة متلألئةً بالضياء ومزينةً بالجمال فأنتِ قد سموتِ متعاليةً نظير مطلع الصبح مشرقةً ومخضبةً بالأحمرار، لأنكِ بعد أن أنتصرتِ على الخطيئة الأصلية بحلولكِ في مستودع أمكِ. قد ولدتِ مستنيرةً بنور معرفة الحقائق الأزلية. مخضبةً بأحمرار حب الفضيلة. ولم يمكن للعدو أن يغتنم منكِ أفادةً لذاته، لأنكِ برجٌ مبني بالمحاصن ومعلقٌ عليه ألف ترسٍ وكافة أسلحة المقتدرين، وليس في الوجود فضيلةٌ ما الا وتلألأتِ مشرقةً فيكِ بنوعٍ كاملٍ سامٍ، وكل ما حصل عليه القديسون أجمعون من الفضائل والأختصاصات الفريدة، التي كلٌ منهم تلألأ بواحدةٍ منها فأنتِ وحدكِ جمعتيها كلها فيكِ، فيا سيدتنا ووسيطتنا وشفيعتنا تضرعي من أجلنا لدى أبنكِ، وبأستحقاق تلك النعمة التي أنتِ أيتها المباركة نلتيها منه تعالى صيري هذا الإله الذي بواسطتكِ تنازل الى أن يشترك بضعفنا وشقائنا، أن يجعلنا بشفاعاتكِ مشتركين في غبطته ومجده آمين* |
||||
15 - 08 - 2022, 10:54 AM | رقم المشاركة : ( 5 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب امجاد مريم البتول - القديس ألفونس دي ليكوري
† خاتمة الكتاب † من يجدني يجد الحياة ويستقي الخلاص من عند الرب. (أمثال8/5) سوف تطوبني جميع الأجيال، لأن القدير صنع بي العظائم، وإسمه قدوس، ورحمته إلى جيل الأجيال للذين يتقونه. (لوقا 1/46) * وهي نبذةٌ مضافةٌ منا الى تأليفنا هذا، حاويةٌ تسعين خبراً ذات* * آياتٍ، مصنوعة بشفاعات والدة الإله الكلية القداسة،* * مأخوذة من كتب علماء مدققين معتبرين جداً.* الخبر الأول: أن الأب أورياما قد أخبر بأنه في بلاد جرمانيا قد كان سقط أحد الرجال في خطيئةٍ ثقيلةٍ، واذ لم يشاء من جهةٍ أولى أن يعترف بها لشدة خجله منها، ومن جهةٍ أخرى لأنه لم يقدر أن يحتمل توبيخ ضميره من قبلها، وليأسه مضى ليطرح ذاته في النهر فيموت! غير أنه بعد ذلك توقف عن هذا الفعل، وشرع يبكي طالباً من الله بدموعٍ أن يغفرها له من دون أعترافه بها لأحد الكهنة. فليلةً ما وهو نائم شعر بلامسٍ يهز أحد كتفيه مع صوتٍ يقول له: أذهب فأعترف بخطيئتك: فقام ومضى الى الكنيسة، ولكنه ما أعترف بذنبه. واذ سمع في ليلةٍ أخرى الصوت عينه، فأنطلق ثانيةً الى الكنيسة الا أنه عند وصوله إليها قال أنه كان يريد بالأحرى أن يموت من أن يورد للكاهن تلك الخطيئة، ولكنه قبل أن يرجع الى بيته أراد أن يأتي أمام أيقونة والدة الإله الكلية القداسة. الموجودة في تلك الكنيسة ويتوسل إليها في أن تسعفه، فحالما جثا أمامها مصلياً قد شعر في ذاته أنه تغير بكليته عما كان قبلاً، ومن ثم نهض مسرعاً، وطلب معلم الأعتراف باكياً بدموعٍ غزيرةٍ من قبل النعمة التي فاز بها من البتول المجيدة، وهكذا أعترف بخطاياه كلها، وبعد ذلك قال، أنه قد كان مسروراً بأبتهاجٍ قلبي بنوعٍ أفضل وأعظم مما لو يكون أمتلك جميع الذهب الموجود في العالم كله.* الخبر الثاني: أنه مدون في التاريخ المريمي تحت سنة 1505 أن أحد الشبان اذ كان مسافراً بحراً، قد كان يقرأ كتابٍ دنسٍ محبوبٍ منه جداً. فأحد رفاقه الركاب الذي كان راهباً قد دنا منه وسأله قائلاً: أتريد أن تهب والدة الإله شيئاً واحداً: واذ أجابه الشاب: أي نعم أني أريد ذلك: فقال له الراهب: أني أشتهي منك أن تترك حباً بمريم البتول هذا الكتاب، وانك تطرحه في البحر: فأجابه الشاب: هوذا الكتاب فخذه أيها الأب: الا أن الراهب قال له: كلا، أنا لا آخذه بل أرغب منك بأنك أنت ذاتك تصنع هذا الأيهاب لمريم العذراء، فقام الشاب ورمى الكتاب في البحر، فوالدة الإله حينئذٍ قد أضرمت في قلبه نار حبٍ شديد بهذا المقدار نحو الله، ونحو فضيلة العفة، حتى أنه حالما بلغ المركب الى جانوا مكان مولد الشاب، قد ترك هو العالم من دون تأخيرٍ، وتمسك بالعيشة الرهبانية.* الخبر الثالث: أنه يذكر في الرأس 6 من تاريخ بونيفاسيوس المختص بالعذراء، أن أحد النساك في جبل الزيتون في أورشليم كان حاوياً في قلايته أيقونة والدة الإله خشوعية جداً، وكان من عادته أن يصلي أمامها متواثراً. فاذ لم يحتمل الشيطان مشاهدة عبادةٍ هكذا حارة نحو هذه السيدة، شرع يجرب ذاك الناسك بتجاربٍ قوية جداً ضد العفة، بنوع أن الشيخ المتوحد لنظره ذاته متعوباً بهذا المقدار من التجارب، وأنه لم يكن ينجو منها بعد صلواتٍ حارةٍ ومتواثرة، فقال هو يوماً ما للشيطان: ترى ماذا صنعت معك أنا من الشر حتى أنك تعذبني ولا تدعني أن أعيش بسلامٍ: فحينئذٍ ظهر له الشيطان، وأجابه قائلاً له: أن العذاب الذي أنت تذيقني إياه هو أشد مرارةً جداً مما أنا أعذبك به. فالآن أحلف لي بقسمٍ بأن تحفظ سراً ما أقوله لك عما أريد منك أن تترك صنيعه، وأنا أعدك بألا أعود أقلقك مجرباً. فالنساك حلف له كمرغوبه، ووقتئذٍ قال له إبليس: أني أريد منك الا تعود تنظر الى تلك الأيقونة التي أنت حاويها في قلايتك: فالناسك قد أضطرب جداً. ومضى الى الأنبا ثاودوروس ليأخذ أرشاده فيما كان يلزمه أن يصنعه، فهذا الأب البار أجابه بأن الحلف الذي هو صنعه للشيطان كان باطلاً لا يلزمه بالوقوف عنده، وحرضه على أن لا يتغافل عن أن يلتجئ الى والدة الإله، بواسطة تلك الأيقونة الموجودة في قلايته، بل يواظب على تصرفه السابق. فالناسك أطاع الأمر وسلك بموجبه. وهكذا بقي إبليس مخزياً ومغلوباً.* الخبر الرابع: أنه يوجد مسطراً في العدد 2 من الرأس 22 من سيرة حياة الأب انطونيوس ده كولاليوس، عن أمرأةٍ جاءت يوماً ما عند الأب أنوفريوس آنا الذي من الجمعية الملقبة بالأكارين الأتقياء في مملكة نابولي لتعترف لديه بخطاياها وهي مملؤة رعدةً وخيفةً، لأجل أنها كانت معاشرة عشرةً دنسةً أثنين من الشبان، اللذين أحدهما بحركة الغيرة الدنسة قتل الآخر. ثم أخبرت هذا الأب بأنها في الساعة عينها التي فيها مات مقتولاً ذاك الشاب الشقي، قد ظهر هو لها متردياً بالسواد، مزنراً بالسلاسل، باعثاً من كل جهات جسده شهائب نارٍ متقدة، حاملاً بيده آلة حديدية. وأنه دنا منها ورفع ذراعه بذاك الحديد ليقطع به عنقها ذابحاً، وأنها هي حينئذٍ قالت له: أواه يا فلان (داعيةً إياه بأسمه) ما الذي صنعته بك، حتى أنك تريد أن تميتني: فأجابها الهالك وهو موعبٌ رجزاً وغضباً قائلاً لها: ويحكِ يا كلبة، أتقولين لي ماذا صنعتِ بي، فأنتِ قد خسرتيني الله. فحينئذٍ الأمرأة أستغاثت بأسم مريم البتول الكلية القداسة، وحالما سمع ذاك الخيال الجهنمي أسم مريم الموقر من السماويين والأرضيين، غاب عن الأمرأة ولم يعد يظهر لها، ولذلك هي بادرت الى عمل التوبة.* الخبر الخامس: كتب باجيوكالي بأنه حينما كان القديس عبد الأحد يعظ في مدينة كاركاسونا من بلاد فرنسا، قد أُحضر إليه أحد الأراتقة الألبيجازيين الذي لأجل أزدرايه وتكلمه مشتهراً ضد عبادة المسبحة الوردية، قد أعترته الشياطين معذبين إياه. فحينئذٍ القديس المذكور أمر الأبالسة بأسم الإله الحي، بأن يعترفوا جهاراً، في هل أن كرزه هو وتعليمه بخصوص الوردية المقدسة، كان صادقاً حقيقياً أم لا. فالأبالسة قد صرحوا بصوتٍ مرجفٍ عظيمٍ قائلين: أصغوا يا مسيحيين وأعرفوا أن جميع ما قاله عدونا هذا عن مريم، وعن الوردية الكلية قداستهما، فهو حقٌ صادقٌ خالٍ من الأرتياب: ثم أضافوا الى ذلك بقولهم: أنه لا توجد لهم أستطاعة ضد عبيد مريم ولا قوة بالكلية، وأن كثيرين في ساعة موتهم من غير أستحقاقٍ منهم يستغيثون بأسم مريم ويفوزون بالخلاص: وأخيراً قالوا: أننا لمضطرون بأن نشهر علانيةً، أنه ولا واحدٌ من أولئك الذين يثبتون على عبادة مريم العذراء وورديتها يمضي هالكاً، لأن هذه البتول تستمد للخطأة منهم قبل موتهم نعمة الندامة الندامة الحقيقية وهكذا يخلصون: فبعد هذا صير القديس عبد الأحد الشعب المسيحي الحاضر أن يتلو المسبحة الوردية. فيا له من عجبٍ، وهو أنه على كلٍ من: السلام لكِ يا مريم: كان يخرج من ذلك المعترى عددٌ وافرٌ من الشياطين بصورة جمرات نارٍ متقدة، وحينما أكمل الشعب تلاوة المسبحة الوردية قد برأ الرجل ونجا بالكلية من الأرواح النجسة. فلأجل حدوث هذه الأعجوبة كثيرون من الأراتقة قد أرتدوا الى الإيمان الكاثوليكي.* الخبر السادس: قال بونيفاسيوس في الرأس 4 من كتابه 4، عما أخذه عن الطوباوي ألانوس. مخبراً عن أبنة أحد الأمراء، بأنها كانت عائشةً ضمن أحد ديورة الراهبات، ومع أن هذه الأبنة كانت حسنة الديانة والنشاط في العبادة، فمع ذلك من حيث أن الروح الرهباني كان فاتراً في ذاك المكان، فهي من ثم لم تكن تتقدم في الفضيلة، ولكن لأجل أنها تعلمت فيما بعد من أحد معلمي الأعتراف الغيورين، كيفية تلاوة المسبحة الوردية مع التأمل في أسرارها. وبدأت تمارس ذلك بالعمل، فحصلت على تغييرٍ عظيم بنوع أنها أضحت نموذج الفضائل لجميع الراهبات. ولذلك اذ صعب عليهن روح أنفرادها قد حركن ضدها أضطهاداً قاسياً جداً. فيوماً ما اذ كانت هي تتلو الوردة متوسلةً لوالدة الإله في أن تسعفها في حال ضيقها، وفي الأضطهاد الثائر عليها منهن، قد رأت واذا برسالةٍ هابطة فوقها من السماء، محررٌ عنوانها هكذا:" من مريم والدة الإله، الى أبنتها يوفانا السلام". وكان داخلها مكتوباً بهذه الألفاظ وهي:" واظبي يا أبنتي العزيزة على تلاوة ورديتي، وأبتعدي عن المعاطاه مع أولئك الذين لا يفيدونكٍ أن تعيشي بالصلاح، أحترسي لذاتكِ من البطالة، ومن روح الفخفخة والمجد الباطل، وأرفعي من قلايتكِ الأشياء الغير الضرورية، وأنا أحامي عنكِ أمام الله". فبعد ذلك قد جاء رئيس عام الرهبنة ليفتقد ذاك الدير. ويجدد فيه الروح الرهباني، ولكن لم يستفد شيئاً، وقد شاهد يوماً ما هذا الرئيس العام أن الشياطين كانوا يدخلون الى قلالي الراهبات كلهن. ما عدا قلاية يوفانا، لأن والدة الإله التي رأى هو أمامها يوفانا جاثيةً مصليةً، كانت تطرد عنها هؤلاء الأرواح الشريرة، فلهذا اذ فحص هو عنها عرف أمر مثابرتها على تلاوة الوردية، ثم قضية الرسالة السابق ذكرها، فرسم على الجميع أن يمارسوا تلاوة الوردية، وفي زمنٍ قليل أضحى ذاك الدير كأنه فردوسٌ سماوي. لأجل التغيير العظيم الذي حصل عند الجميع.* الخبر السابع:قد أخبر ديوتالوس في عظته على الأحد الأول من الصوم الكبير، بأنه كانت في مدينة روميه أمرأةٌ دنسة السيرة أسمها كاترينا الجميلة. فهذه اذ سمعت يوماً ما القديس عبد الأحد متكلماً في وعظه عن عبادة المسبحة الوردية المقدسة، قد أكتتبت هي مشتركةً فيما بين أخوات هذه الشركة. وأبتدأت أن تتلو الوردية، ولكن من دون أن تترك أفعالها الدنسة، فليلةً ما قد جاء إليها شابٌ ما كان يظهر عليه أنه شريف الأصل جداً، فهي أقتبلته بكل كرامةٍ، واذ جلس معها على مائدة العشاء وأخذ يكسر الخبز، فشاهدت هي متساقطةً من يديه على المائدة نقطٌ كثيرة من الدم. كما أنها لاحظت أن جميع الأشياء التي هو كان يأكل منها وجدت مصبوغةً بالدم. فحينئذٍ هي سألته ماذا كان ذاك الدم، فأجابها الشاب، بأن الإنسان المسيحي يلزمه أن لا يأكل شيئاً من القوت الا أن يكون مخضباً بدم المسيح، ومملحاً بتذكرة آلامه تعالى المقدسة، فلما أنذهلت هي من هذا الجواب، قد طلبت إليه أن يعرفها عن ذاته من كان هو، فأجابها قائلاً: أني سأعرفكِ من أنا فيما بعد: ففي نهاية العشاء قد ذهبت هي وإياه الى محلٍ آخر من بيتها، الا أنها عندما كانت معه هناك قد شاهدته تغير عن حاله الأولى، وظهر مكللاً على هامته بأكليل من شوكٍ، ولحمانه كلها مهشمةٌ تسيل منها الدماء. ووقتئذٍ قال هو لها:" أتريدين أن تفهمي من هو أنا، أما تعرفيني، فأنا هو مخلصكِ، فاذاً يا كاترينا متى تنهي إهاناتكِ إياي، فأنظري وتأملي كم أنا أحتملت من الآلام لأجلكِ، يكفي ما قد أحزنتيني به، وجددتِ آلامي لحد الآن، فكفي عن ذلك وغيري سيرتكِ". فكاترينا عند سماعها هذا الخطاب بدأت تبكي بمرارةٍ وشهيقٍ، أما يسوع فأخذ يشجعها قائلاً: فاذاً الآن أحببيني بمقدار ما أغظتيني، وأعلمي أنكِ قد فزتِ مني بهذه النعمة لأجل تلاوتكِ وردية أمي:. وهكذا غاب عنها. فكاترينا مضت في الصباح التالي لتعترف بخطاياها عند القديس عبد الأحد عينه، وبعد أعترافها قد وزعت على الفقراء جميع ما كان لها، وأخذت تستسير سيرةً بهذا المقدار مقدسةً، حتى أنها بلغت الى درجاتٍ ساميةٍ من الكمال المسيحي. وقد ظهرت لها والدة الإله مراتٍ كثيرةً، بل أن مخلصنا يسوع المسيح نفسه قد أوحى للقديس عبد الأحد، بأن هذه التائبة قد أضحت لديه عزيزةً محبوبةً في الغاية.* الخبر الثامن:قد كتب الأب أورياما في الرأس 11 من المجلد 2 من تأليفه عما أخبر به الطوباوي ألانوس، عن أمرأةٍ شريفةٍ أسمها عبدة الأحد، التي في الأول كانت مثابرةً على تلاووة الوردية المقدسة، الا أنها اذ أهملت فيما بعد تلاوتها بالكلية فأحاق بها الفقر من كل ناحيةٍ بهذا المقدار، حتى أونها يوماً ما لأجل يأسها من الحياة قد ضربت ذاتها بالسكين ثلاث ضرباتٍ، وأنطرحت في الأرض مدنفةً على الموت، ولكن اذ كانت في حال النزاع والشياطين منتظرين موتها ليأخذوا نفسها، قد ظهرت لها البتول الكلية القداسة وقالت لها:" أنكِ قد نسيتيني يا أبنتي، ولكنني أنا ما نسيتكِ لأجل مسبحة الوردية التي حيناً ما كنتِ تصلين بها تكريماً لي، فاذاً أن كنتِ تعودين الى تلاوتها فأنا أرد لكِ الحياة الجسدية، والموجودات الزمنية معاً التي فقدتيها". فعبدة الأحد نهضت حينئذٍ من الأرض سالمةً، وأخذت تواظب تلاوة الوردية بكل عبادةٍ، وحصلت على موجوداتها الفاقدة، وعند موتها قد زارتها من جديد هذه الأم الإلهية، ومدحتها على أمانتها، وهكذا تنيحت بقداسةٍ.* الخبر التاسع:قد أخبر كارتاجينوس، بأنه كان في مدينة ساراغوتسا رجلٌ شريف الأصل أسمه بطرس، مفسود السيرة بنوعٍ فائق في الشرور والمآثم، وكان نسيباً للقديس عبد الأحد، فلما كان هذا القديس يوماً ما يكرز هناك في إحدى الكنائس، قد شاهد نسيبه هذا بطرس داخلاً إليها، ولذلك توسل هو باطناً أي القديس لدى الرب، في أن بيظهر تعالى للشعب كم كانت سيئةً حال نفس ذاك الإنسان التعيس، فطلبته أستجيبت، لأن بطرس قد أستحال على الفور الى صورةٍ بشعةٍ مريعةٍ كأنه مسخ جهنمي مسحوباً من عددٍ كبير من الشياطين، ومحاطاً منهم. فالشعب عند نظرهم إياه بهذه الحال المخيفة خرجوا من الكنيسة هاربين، حتى أمرأته نفسها التي كانت هناك وخدامه أعينهم تركوه وحده، فحينئذٍ القديس عبد الأحد أرسل إليه أحد رفاقه يقول له أن يلتجئ الى والدة الإله مستغيثاً بها، ويبتدئ بتلاوة المسبحة الوردية التي أرسلها إليه مع الشخص عينه. فاذ فهم ذلك بطرس أقتبله بأتضاعٍ، وشكر فضل البار، ووقتئذٍ حصل على النعمة في أنه هو نفسه شاهد الشياطين محيطين به، فمن ثم تقدم الى منبر التوبة وأعترف بخطاياه بدموعٍ سخية عند القديس المذكور عينه، الذي طمأنه مؤكداً لديه أن الله قد غفر له مآثمه. ومنذ ذلك الوقت ثابر على تلاوة الوردية نامياً في القداسة والكمال. حتى أن الرب قد أرتضى بأن يظهره في الكنيسة مكللاً بثلاثة أكاليل من ورد. فمن يريد الأطلاع على أخبار أخرى مختصة بالوردية فليقرأ ما هو مشروحٌ عن ذلك في تأليف كارتاجينوس.* الخبر 10: قد سطر في الرأس 15 من كتاب ثاوفانوس رايندوس، بأنه كان موجوداً في جبال مدينة تريدنتوس. أو بالحري ترنتوس أحد اللصوص الذائع الصيت في القتل والسلب، فهذا اللص اذ صودف يوماً ما من أحد الرهبان الذي أخذ ينصحه في أن يغير سيرته. فأجابه بأنه لم يعد عنده رجاءٌ في أصلاح ذاته، لأنه لا دواء لأمراضه الروحية، فحينئذٍ قال له الراهب: لا يا أخي تشجع وأصنع ما أقوله لك، وهو أن تصوم نهار السبت أكراماً للعذراء والدة الإله، وفي اليوم المذكور لا تضر أحداً، وهي تستمد لك من الله أن لا تموت خالياً من نعمته تعالى: فاللص أقتبل هذه المشورة الصالحة، ووضعها بالعمل، ملزماً ذاته بها بنذرٍ أبرزه في هذا الشأن. ولكيلا يخالف نذره المذكور بدأ يجول نهار السبت من دون سلاحٍ. فأتفق له أنه اذ كان في يوم سبتٍ في محلٍ ما، وهناك جاءت عليه جنود الوالي. فكيلا يقطع هو نذره قد ترك الجنود يقبضون عليه من دون أن يحامي عن ذاته ممانعاً. فحينما مثل مقيداً أمام القاضي، وهذا رآه شيخاً شائب الشعر متضعاً أراد أن يعفي عن موته. الا أن اللص بنعمة والدة الإله طلب إليه بخشوعٍ أن يجري عليه صرامة العدل، لأنه كان يريد أن يقتبل الموت غفارةً عن خطاياه، وهناك في ديوان الشريعة عينها شرع يعترف جهاراً بمآثمه واحداً فواحداً، عن جميع ما صنعه في مدة حياته، مذرفاً الدموع الغزيرة، حتى أن الحضار كلهم طفقوا يبكون متخشعين. فبعد ذلك قطعت هامته ودفن جسده في حفرةٍ بقلة كرامةٍ. الا أنه عقيب دفنه قد شوهدت والدة الإله، وبرفقتها أربع عذارى قديسات، قد دنون من جثة الميت، وأخرجنها من تلك الحفرة، ولفينها بسباني نقيةٍ منسوجةٍ بالذهب، وحملنها وأتين بها برفقة العذراء المجيدة الى باب المدينة، وسلمنها للجنود الحرس. وحينئذٍ أمرت هذه السيدة أولئك الجنود بأن يذهبوا عند أسقف الأبرشية، ويقولوا له عن لسانها هكذا:" أحتفل بكرامةٍ في دفن جسد هذا المتنيح في الكنيسة الفلانية، لأنه كان عبداً أميناً لي". فالأمر قد وضع بالعمل، وقد تقاطرت الشعوب الى هناك، وكلهم شاهدوا بأعينهم جثة الميت مدروجةٍ بتلك السباني المنسوجة ذهباً، وبعد دفنه الأحتفالي. يقول كيساريوس أن رهبان تلك الجمعية كلهم تمسكوا بصيام يوم السبت.* الخبر 11:قد كان في بلاد البورتوغال أحد المتعبدين للبتول الطوباوية، يمارس تكريماً لهذه السيدة صوم يوم السبت على الخبز والماء فقط، وكان أتخذ محاميين وشفيعيين من أجله لديها القديسين ميخائيل زعيم الملائكة، ويوحنا الإنجيلي. فلما دنت ساعة موته، قد ظهرت له هذه الملكة وصحبتها القديسان المذكوران، واذ تفرست هي فيه بوجهٍ باشٍ قالت لهما، أجابةٍ لتوسلهما من أجله:" أني لا أنطلق من هنا ألم أصحب معي نفس عبدي هذا الى السعادة الأبدية".* الخبر 12: أنه في أحد أعمال رسالة آباء جمعيتنا المنسوبة للفادي، قد أتفق أنه بعد نهاية العظة المختصة بوالدة الإله، التي أعتيادياً تصنعها آباء جمعيتنا في كلٍ من أعمال الرسالات. قد جاء أحد الآباء رجلٌ شيخٌ مملؤٌ من السنين ليعترف لديه بخطاياه، وكان موعباً من البهجة والتعزية، ثم قال للكاهن: أعلم يا أبتي أن والدة الإله قد صنعت معي النعمة. واذ سأله الأب بقوله: أية نعمةٍ صنعت معك: فأجابه المعترف قائلاً: فليكن معلوماً عندك يا أبتي أني منذ مدة خمسة وثلاثين سنةً قد كنت مارست سر التوبة بأعترافٍ نفاقي، لأني حياءً قد أخفيت في الأعتراف تقصداً خطيئةً مميتةً كنت سقطت بها، وقد حصلت فيما بعد في بحر هذه السنين مراتٍ كثيرةً في خطر الموت، وبلا شك لو مت لهلكت مؤبداً. أما الآن فالبتول المجيدة قد أستمدت لي النعمة، ومست قلبي بالتوبة فحضرت لأعترف بخطاياي كلها. وكان يتفوه بهذه الكلمات مع هطل الدموع السخية من عينيه، بنوع يحرك الى الخشوع الكلي. فبعد أن تمم الكاهن أستماع أعترافه قد سأله أية عبادةٍ كان هو يمارس تكريماً لوالدة الإله، فأجابه بأنه دائماً كان يمتنع في أيام السبوت، تكرمةً لهذه السيدة عن أكل البياض مكتفياً بالطبائخ المعمولة بزيتٍ، وأنه لأجل ذلك قد عاملته أم الرحمة هذه بمراحمها، في أنه قبل موته يفوز بنعمة التوبة. وقد سمح لمعلم أعترافه المومى بأن يشهر هذا الحادث.* الخبر 13:أنه يوجد مدوناً في الرأس 10من الكتاب 3 المدعو التسابيح، عن أحد اللصوص في بلاد نورمانديا، أنه اذ قطعت هامته من أعدائه، وطرحت في أحد الوديان، فكان يسمع صوتٌ تصرخ به تلك الهامة: يا مريم أمنحيني أن أعترف بخطاياي: فلما بلغ هذا القول لأحد الكهنة قد أسرع الى الوادي وأستمع أعتراف ذاك الرأس المقطوع. وبعد أن منحه الحل قد سأله أية عبادة كان يمارس نحو والدة الإله، فأجابه اللص بأنه كان في كل سبتٍ يصوم يوماً واحداً تكريماً لهذه السيدة، وأنها لأجل ذلك أنقذته هي من الهلاك الأبدي. وحفظته في الحياة الى أن أعترف بمآثمه.* الخبر 14:قد كتب العلامة بوفيوس في النموذج التاسع من المجلد 3 من أخبار عجائب والدة الإله. عن أثنين من الشبان الأشراف كانا في مدينة مادريد عاصمة مملكة أسبانيا. يساعد أحدهما الآخر على صنيع القبائح الدنسة. وعلى التمرغ في حماة الرذائل، فأحد هذين الرجسين قد شاهد ليلةً ما في الحلم أن رفيقه أخذ من رجالٍ سودٍ، وطرح في بحرٍ هائج. وأن هؤلاء السود، جاءوا إليه ليصنعوا به نظير رفيقه، الا أنه ألتجأ هو الى والدة الإله، ونذر على ذاته التمسك بالعيشة الرهبانية، ومن ثم نجا من أولئك الرجال السود. وأنه قد شاهد أيضاً يسوع المسيح جالساً في ديوان عدله، ممتلئماً غيظاً ضده وأن العذراء المجيدة كانت تتوسل لديه تعالى من أجله. فلما أستيقظ من النوم، وجاء عنده رفيقه الشاب، فهو أخبره بالحلم الذي رآه كما تقدم القول. فذاك الشاب عند سماعه ذلك أخذ يستهزء به ضاحكاً منه بسخريةٍ، الا أنه في الوقت عينه قد رشق بسهمٍ من يدٍ غير منظورة. وسقط في الأرض مائتاً، فلما رأى الشاب الذي شاهد الحلم أن الرؤيا قد تحققت في رفيقه. بادر حالاً الى منبر التوبة وأعترف بخطاياه تائباً، وعزم على أن يضع بالعمل وعده بالدخول في أحدى الرهبنات. ولهذا قد باع كل ما كان له، ولكنه عوضاً عن أن يوزع أثمانه على الفقراء والمحتاجين، قد جذبته ملكاته الرديئة السابقة الى السقوط من جديد في القبائح، حيث أصرف أثمان أملاكه في البذخ والسكر والمآثم. وبعد ذلك أنطرح مريضاً. فشاهد في الحلم رؤيا أخرى وهي أنه نظر أمامه الجحيم مفتوحاً. والديان الإلهي كان يبرز ضده حكومة الهلاك، فألتجأ هو من جديد الى العذراء أم الرحمة وهي تقدمت أمام أبنها وبتوسلاتها لديه من أجله قد خلصته، فنهض من المرض معافى، ولكن عوضاً عن أن يتوب رجع الى أفتعال قبائح أشد شناعةً. ثم أنطلق الى مدينة ليما في بلاد الهند الشرقي حيث سقط في مرضه عينه، وأخذ الى البيمارستان. وهناك قد مس الله قلبه جديداً للتوبة، فأعترف بخطاياه عند الأب فرنسيس بارلينوس اليسوعي، واعداً إياه بأن يغير سيرته. الا أنه ولا في هذه المرة أيضاً أكمل وعده بالعمل. فأخيراً اذ دخل فيما بعد هذا الأب الى بيمارستان آخر بعيدٍ عن "ليما"، قد رأى هناك ذاك الشاب التعيس مطروحاً في الأرض، فالشاب حينما شاهده عج صارخاً:" أواه يا لتعاستي أنا المقطوع الرجاء أن هذا الأب قد حضر الى ههنا لأزدياد عذابي، ولكي يشاهد الأنتقام مني، فأنا قد جئت من مدينة ليما الى هذا المكان، الذي فيه لأجل خطاياي قد بلغت الى هذه الحال الشقية بالعذبات، وهوذا أنا ماضٍ الى الهلاك". واذ كان يتفوه بهذه الكلمات أسلم روحه الأثيمة، من دون أن يحصل ذاك الأب على دقيقةٍ من الزمان ليساعده قبل موته.* الخبر 15: أنه يوجد محرراً تحت سنة 1618 من التاريخ المريمي، عن إنسانٍ مجرمٍ كان حكم عليه في بلاد جرمانيا بالموت، الا أن هذا المخصوم قد صر على عناده بعدم أرادته أن يعترف بخطاياه، قبل أن تجرى عليه بالعمل حكومة الموت. فأحد الآباء اليسوعيين لم يترك من جهده جهداً في أقناعه بالأعتراف، حتى أنه كان يتململ على قدميه باكياً بتوسلاتٍ حارة، ولكن من دون فائدةٍ. فاذ رأى أنه بذلك يضيع الزمن سداً لأصرار المذنب على رفضه التوبة. فأخيراً قال له: أرجوك اذاً بأن تتلو معي مرةً واحدةً:" السلام لكِ يا مريم". فالخاطئ قبل توسله وتلى معه السلام الملائكي. واذا به على الفور طفق يبكي بشهيقٍ، وحالاً أعترف بمآثمه نادماً بأنسحاقٍ قلبي عظيم. وأراد أن يموت معانقاً أيقونة والدة الإله المقدسة كما تم.* الخبر 16:قد أخبر الأب أورياما في الرأس 7 من المجلد الأول بأنه كان في إحدى مدن بلاد أسبانيا إنسانٌ أثيمٌ منافقٌ، قد كان أسلم ذاته بجملتها للشيطان، ولم يكن قط أعترف بخطاياه، بل جميع الخير الذي كان هو يصنعه لم يكن شيئاً آخر سوى تلاوته كل يومٍ مرةً واحدةً السلام الملائكي، تكريماً لوالدة الإله. فيخبر الأب أوسابيوس نيارامبارك: بأنه حينما دنا الإنسان المومى إليه من ساعة الموت، قد ظهرت له في الحلم العذراء المجيدة، وحدقت فيه نظرها، فهذه الرمقة بعيني أم الرحمة المملؤتين رأفةً، قد فعلت في قلبه تغييراً عجيباً بنوع أنه حالاً طلب أحد الكهنة ليعترف بمآثمه، واذ جاء الكاهن فهو أقر لديه بخطاياه كلها بندامةٍ شديدةٍ، مذرفاً من عينيه تياراتٍ من الدموع. ونذر على ذاته الدخول في أحدى الرهبنات أن بقي هو في الحياة وهكذا مات.* الخبر 17: قد كتب بوفيوس في الخبر السابع من المجلد الخامس من تأليفه، عن إحدى النساء المتعبدات لمريم البتول. بأنها كانت دائماً تأمر أبنتها بتلاوة السلام الملائكي، لا سيما في حصولها تحت خطرٍ ما. فأتفق أن هذه الأبنة يوماً ما اذ خرجت من مكان الرقص، وأتكأت لتستريح، فحالاً أستحوذ عليه الشيطان الذي ظهر لها بنوع حسي منظور، وشرع يقيدها بالسلاسل ليأخذها الى جهنم، الا أنها في حال شدتها هذه القصوى صلت السلام الملائكي، فالشيطان غاب عنها هارباً. وهكذا نجت هي منه.* الخبر 18:أن العلامة كيساريوس في الرأس 33 من الكتاب 3 قد أخبر عن أمرأةٍ من أقليم كولونيا، كانت معاشرةً أحد القسس عشرةً رديئةً. يوماً ما دخلت الى مخدعه فرأته معلقاً مشنوقاً، فبعد ذلك هي تركت العالم ودخلت الى أحد أديرة الراهبات. الا أن الشيطان كان يظهر لها حسياً ويعذبها، واذ لم تعد تعلم ماذا تصنع لتنجو منه، فإحدى الراهبات علمتها أن تقول: السلام لكِ يا مريم: ولما هي صلت بهذا السلام الملائكي، فالشيطان هتف صارخاً: فلتكن ملعونةً التي علمتكِ أن تقولي هذه الصلاة. وهكذا أضمحل من أمامها ولم يعد يظهر لها فيما بعد.* الخبر 19: قد كتب الأب كراسات، بأنه اذ كان أحد قواد العساكر عائشاً بسيرةٍ رديةٍ في قلعته. قد مضى الى هناك بطريق الصدفة أحد الرهبان الأتقياء الذي قد ألهم من الله متنوراً فتوسل الى ذلك القائد بأن يستدعي إليه خدامه كلهم، فحضروا جميعاً الى المكان الجالس فيه هو والقائد، ما عدا ذاك المتوكل على خدمة مخدعه لم يكن يشاء الحضور، الا أنه أضطر من قبل أمر القائد فجاء أخيراً أغتصاباً. فحينئذٍ ذاك الراهب قال لهذا الوكيل: أني آمرك من قبل يسوع المسيح بأن تقول عن نفسك من أنت: فأجابه قائلاً: أني أنا هو أحد شياطين جهنم، الذي منذ أربع عشرة سنةً أخدم هذا القائد الأثيم، منتظراً إياه لأن يترك يوماً ما تلاوة السبع مرات: السلام لكِ يا مريم: الذي هو أعتاد أن يصلي بها يومياً، لكي أخنقه في ذاك اليوم الذي فيه يهمل تلاوتها، وآخذ نفسه الى الجحيم. فالراهب حتم على الشيطان بأن يغرب من ذاك المكان، فغاب حالاً من أمامهم. وحينئذٍ القائد ممتلئاً خوفاً جثا على قدمي الراهب نادماً على حطاياه، ثم غير سيرته وعاش عيشةً مسيحيةً مملؤةً من الفضيلة.* الخبر 20:أن الآباء العلماء اليسوعيين مؤلفي مجموع البولانديستي الجليل يخبرون تحت اليوم الثالث عشر من شهر أيار، عن الطوباوي فرنسيس باطريتسي. بأنه بهذا المقدار كان جزيل التعبد نحو السلام الملائكي، حتى أنه كان يتلوه في كل يومٍ خمسماية مرةً. فوالدة الإله من ثم قد أعلمته عن ساعة موته، وهكذا رقد بالرب قديساً. وبعد أربعين سنةً قد شوهدت صاعدةً من فمه نصبة زهر زنبقٍ جميلة في الغاية (التي فيما بعد نقلت الى مملكة فرنسا) وكان مكتوباً على أوراق هذه النصبة *السرم الملائكي، بأحرفٍ من ماء الذهب.* الخبر22:أنه يوجد مسطراً في الخبر السابع من المجلد الأول من التأليف الملقب: بكنز الوردية: عن ثلاث عذارى أخواتٍ متعبداتٍ لوالدة الإله، قد تلين بمشورة معلم أعترافهن مسبحة الوردية كلها يومياً، في مدة أربعين يوماً، استعداداً لعيد تطهير العذراء أي تقدمة المسيح الى الهيكل. فليلة العيد المذكور ظهرت هذه الأم الإلهية للأخت الأولى من الثلاث الأخوات لابسةً ثوباً ثميناً منسوجاً بالذهب، شاكرةً فضيلتها ومباركةً إياها. ثم ظهرت للأخت الثانية لابسةً ثوباً بسيطاً، وكذلك شكرت عبادتها. الا أن هذه الأخت قالت لها: أيتها السيدة أنكِ ظهرتِ لأختي لابسةً ثوباً أثمن من هذا: فأجابتها البتول المجيدة قائلةً:" لأن أختكِ ألبستني أثواباً غنيةً أكثر منكِ". ثم بعد ذلك ظهرت هي للأخت الثالثة لابسةً ثوباً من خيش، فمن ثم هذه الأخت ألتمست من العذراء الصفح والغفران عن كونها خدمتها بفتورٍ. ففي السنة الثانية قد أستعدت الثلاث العذارى أستعداداً حسناً لهذا العيد، بتلاوتهن الوردية كالسنة السابقة، لكن بكل حرارةٍ وعبادةٍ. ففي الليلة المتقدمة على العيد ظهرت لهن هذه السيدة المجيدة مزينةً بأثوابٍ ملوكية مبهرة النظر، وقالت لهن:" تحضرن متأهباتٍ لأنكن نهار غداً مزمعاتٌ أن تأتين الى الفردوس السماوي". فقد تم القول فعلاً، لأنهن أخبرن بذلك معلم أعترافهن. وفي اليوم الثاني الذي هو نهار العيد تناولن القربان الأقدس في الكنيسة، ورجعن الى البيت حيث مكثن الى حين صلاة النوم، واذا بوالدة الإله ظهرت لهن جديداً، اذ جاءت لتأخذهن. وهكذا فيما بين تراتيل الملائكة الواحدة بعد الأخرى قد تنحين بسلام.* الخبر 23: أن الأب كراسات يخبر بأنه سمع هو شفاهاً من أحد قواد العساكر ما يأتي ذكره. وهو أن هذا القائد قد شاهد أحد الجنود في معركة الحرب التي حدثت مع عسكر العدو، ضابطاً في يده أكليلاً مع ثوب السيدة، وكان يطلب معلم أعترافٍ. لأنه كان ضرب في المعركة برصاصٍ دخل في جبهته وخرج من قفا جمجمته، حيث كان يخرج من الجرح نخاع رأسه. وبالتالي لم يكن ممكناً له أن يحيى وهو في تلك الحال. فمن ثم جاء إليه خوري العسكر فأقتبل أعترافه الذي هو صنعه بأنتباهٍ كاملٍ وندامةٍ قلبيةٍ، وبعد أن نال الحل قد أسلم روحه بكل هدوٍ وسلام.* الخبر 24: قد أخبر الأب كراسات نفسه عما سمعه من القائد المشار إليه آنفاً، بأنه أي القائد قد كان حاضراً يوماً ما فيما بين العسكر، واذا بأحدهم أعطى النار لبندقيته ضد الضارب بالبوق، فالرصاص دخل في أثوابه نافذاً الى صدره، فالقائد حالاً مضى إليه لينظر كيف كان جرحه القتال، فعندما خلع عنه اثوابه قد رأى الرصاص باقياً فوق ثوب السيدة، الذي كان البواق حاملاً إياه معلقاً في عنقه، بنوع أن الرصاص ليس فقط لم يدخل في قلب البواق بل ولا حرق ثوب السيدة أم لمسه بشيء، لكنه بقي ثابتاً فوقه، فحينئذٍ القائد رفع الرصاصوثوب السيدة معاً وأراهما لجميع الحاضرين الذين أضحوا شهوداً عيانيين على هذا العجب.* الخبر 25: قد كتب في الخبر السادس من المجلد الخامس عما هو مدون تحت سنة 1151 عن شاب شريف النسب أسمه أسكيلوس، قد كان أرسل من أبيه الأمير الى أيدالازميو، المدينة الكائنة في بلاد ساسونيا ليدرس هناك العلوم، الا أن هذا الشاب قد أستسار في تلك المدينة سيرةً رديئة. ثم بعد ذلك أنطرح مريضاً بمرضٍ عضال دنا به الى ابواب الموت، حييث أُعطيت له الأسرار الأخيرة، وبقي منازعاً. ففي هذه الحال قد حصل هو على رؤيا، وهي أنه شاهد ذاته أُخذ موضع داخل أتون نار متوقدة، وغُلق عليه بنوع أنه ظن بنفسه أنه داخل جهنم عينها. الا أنه قد رأى له نافذةً فهرب منها الى خارج ذلك التون، ودخل ملتجأً في قصرٍ عظيم، فشاهد في قاعته والدة الإله الكلية القداسة جالسةً، فقالت له:" أهل يمكنك أيها الشقي أن تتجاسر على الحضور أمامي، أخرج من هنا حالاً. وأذهب الى النار التي أنت أستحقيتها بآثامك". فحينئذٍ الشاب شرع يتوسل إليها طالباً الرحمة والرأفة، ثم التفت الى أولئك الأشخاص الذين رآهم واقفين بحضرتها، متضرعاً إليهم في أن يتشفعوا به لديها، فهم قدموا التوسل أمامها من أجله وهي أجابتهم قائلةً لهم: أنتم لا تعرفون حقائق سيرة هذا الشاب الدنسة القبيحة. ومع ذلك لم يكن يستليق أن يصلي أمامي ولا مرةً واحدةً السلام الملائكي: فأولئك الشفعاء قالوا لها: أيتها السيدة أن هذا الشاب يتوب ويغير تصرفه: وهو حالاً قال: أي نعم أي نعم أني تائبٌ، وأعد بأن أصلح سيرتي حقيقةً، وسأكون منذ الآن فصاعداً متعبداً لكِ يا سيدتي. فحينئذٍ البتول المجيدة قد أرقت من غيظها عليه، وقالت له:" حسناً. فأنا أقبل وعدك، فكن أميناً به، وهكذا بواسطة بركتي إياك كن ناجياً من الموت ومعتوقاً من جهنم". فلما قالت هذا زالت الرؤيا، فاذ رجع أسكيلوس الى ذاته أخذ يقدم الشكر لوالدة الإله، وأخبر الناس بالنعمة التي نالها من مراحم هذه الأم الإلهية، وعاش بسيرةٍ مملؤةٍ من الصلاح حافظاً نحو سيدته عواطف حبٍ متقدٍ. ثم أنتخب فيما بعد ورسم رئيس أساقفةٍ لمدينة لود، في أقليم دانيا حيث أجتذب عدداً وافراً من الكفرة الى الأعتقاد بالإيمان المسيحي. وعندما تقدم كثيراً في السنين والشيخوخة قد تناول عن الأبرشية. ولبس الثوب الرهباني قانونياً في دير كيارافاله الذي فيه عاش أربع سنين، ورقد بالرب بميتةٍ مقدسةٍ ومن ثم قد أحصي من الكتبة الكنائسيين في عدد قديسي رهبنة جيستالو.* الخبر 26:أنه يوجد مدوناً في الرأس 6 من المجلد 2 عند الأب أورياما. عن أحد المشتركين بأخوية العذراء أنه قد كان مريضاً في مدينة دولا سنة 1604 مرضاً ثقيلاً جداً، فهذا يوماً ما قال هكذا: أهاً لي أن أخوتي الآن في هذا العيد هم ملتئمون في الخورص ليسبحوا مريم البتول، وأنا أبقى ههنا: قال هذا ونهض قائماً ومضى الى جمعية الأخوية وحالاً تركته الحمى وشفي معافى بالتمام كأنه لم يكن مريضاً. الأمر الذي أذهل الجميع.* الخبر 27: قد سطر عند الأب أورياما نفسه، عن رجلٍ آخر من أخوية العذراء كان صياداً في مدينة نابولي. فهذا الرجل أنه قد كان في أحدى رياضات الأخوية جلد ذاته مع الآخرين بشدةٍ فقد أضيم في جسده، وأنطرح مريضاً مدة أيامٍ ليست بقليلةٍ، فحالما أمكنه أن يقوم من المرض ناهضاً، فلأجل كونه فقيراً وذا عيلةٍ كبيرة قد أغتصب ذاته وأخذ الشبكة ومضى الى الشط ليصطاد، حيث خاطب والدة الإله قائلاً: أيتها السيدة أنني بسببكِ قد تكبدت أنا هذا الضرر فعينيني: أما هذه الأم الرأوفة فقد جعلته حينئذٍ أن يصطاد بسهولةٍ من الأسماك في ذاك النهار بأكثر مما لكان أخذه في مدة كل تلك الأيام السابقة التي هو بقي فيها مريضاً.* الخبر 28:قد كتب الأب أورياما عينه عن رجلٍ آخر من أخوية البتول الكلية القداسة، أنه قد دعي يوماً ما من أحد أصدقائه ليتغدى عنده. فهو أقتبل الدعوة ووعد بالذهاب الى الضيافة ولكنه أراد قبلاً أن يمضي الى جمعية الأخوية، ففي خروجه منها بعد الرياضة الروحية قد برح من فكره الوعد الذي أعطاه لصديقه ولم يذهب إليه، فالرجل الصديق الأحمق أحتمى غيظاً منه بهذا المقدار، حتى أنه مضى إليه في شدة رجزه، واذ رآه وثب عليه ليقتله. ولكنه بأحكام الله الغامضة قد قتل ذاته وأنطرح ميتاً. فبلغ الخبر للقاضي وجاءت خدام الشريعة فقبضوا على الأخ المومى إليه كأنه هو القاتل. ومن ثم أُبرزت ضده حكومة الموت. أما هو فألتجأ الى والدة الإله بأن تسعفه، وهي ألهمته بأنه أنطلق برفقة خدام الشريعة الى أمام جثة المقتول وسأله قائلاً: أخبر بالحق كيف تم موتك، ومن هو الذي قتلك: فالميت أجاب علانيةً معترفاً بأنه هو نفسه قتل ذاته، وعلى هذه الصورة نجا الأخ معتوقاً من الحكومة.* الخبر 29: أنه يوجد مدوناً في كتاب تاريخ الأخويات تحت سنة 1598 عن رجلٍ آخر من أخوية العذراء كان أخذ ليطرح في السجن، لأجل عدم مقدرته أن يفي لأصحاب الديون ما كان لهم عليه. فأستغاث هو بوالدة الإله، وهي ألهمت الستة الأشخاص الذين كان لهم عليه المال، بأنهم جميعاً قد تركوا له الدين مجاناً. وهكذا أعفى هو من الذهاب الى السجن وخلص ناجياً.* الخبر 30: قد أخبر لاوناروس في الرأس 3 من كتابه 3 عن أحد الشبان أنه كان في الأبتداء يتردد الى اخوية البتول المجيدة المشترك هو فيها ولكنه فيما بعد قد أهمل الذهاب إليها مطلقاً. وأفسد سيرته بمآثم شنيعة. فليلةً ما ظهر له الشيطان بصورةٍ مرعبةٍ جداً، أما هو فقد أستغاث بوالدة الإله، غير أن العدو الجهنمي أجابه قائلاً: أنك من دون فائدةٍ تستغيث الأن بتلك التي أنت تركتها معرضاً عنها، وأنت الأن لأجل خطاياك تحت ولايتي وخاصتي، فالشاب أبتدأ يرتجف خوفاً. وجثا على ركبتيه، وأخذ يتلو صورة أشتراكه بالأخوية قائلاً: أيتها البتول الكلية القداسة والدة الإله ألخ: واذا بهذه السيدة المجيدة قد ظهرت له. وفي الحال هرب الشيطان من أمامها تاركاً في المكان رائحة منتنة جداً، وفي هربه قد فتح الحائط نافذاً منه، وترك بعده الثغرة مفوحةً، فالعذراء الرأوفة قد ألتفتت نحو الشاب قائلةً له: أنك لم تكن بالحقيقة مستحقاً أن أسعفك معينةً إياك، ولكنني أنا أردت أن أعاملك بالرحمة، لكي تغير سيرتك وترجع الى جمعية الأخوية. فالشاب حالما بلغ الى الصباح قد مضى فأعترف بخطاياه بدموعٍ سخية. ورجع عن مآثمه. وأصلح سيرته، وشرع يتردد الى الأخوية بأشد حرارةٍ وبأكثر عبادةٍ ونشاطٍ من المدة القديمة.* الخبر 31:أنه حدث في سنة 1550 أنه كان في مدينة براغانتسا شابٌ من ذوي أخوية العذراء الذي اذ ترك هذه العبادة فتمرغ في كل نوع من حماة الرذائل، حتى أنه ليأسه من ذاته وحاله السيئة مضى يوماً ما ليطرح بنفسه في النهر فيموت، غير أنه قبل أن يرمي ذاته أتجه نحو والدة الإله قائلاً: عينيني يا مريم أنا الذي خدمتكِ في الأخوية. فظهرت له هذه البتول الكلية القداسة وقالت له: ماذا تريد أن تصنع الآن أتشاء أن تخسر نفسك وجسدك معاً، فأنطلق من هنا وأعترف بخطاياك وأرجع الى أخويتي: فالشاب من ثم حالاً رجع الى الله بالتوبة وأصلح سيرته شاكراً أنعام هذه السيدة.* الخبر 32:قال الأب أورياما في الرأس 7 من المجلد 2 مخبراً بأن أحد الرهبان في بلاد أسبانيا، لحنقه ورجزه ضد رئيسه قد وثب عليه بحماقةٍ فقتله، وهرب الى بلاد بربريا، وهناك نكر الإيمان بالمسيح، وتزوج بأمرأةٍ. وأستسار بسيرةٍ مملؤة من المآثم، خاليةً من كل صلاحٍ. الا أنه حفظ تلاوته يومياً الصلاة المبدوة: السلام عليكِ أيتها الملكة أم الرحمة: ففي أحد الأيام اذ كان هو منفرداً عن الناس مصلياً الصلاة المذكورة، قد ظهرت له والدة الإله، فوبخته مؤنبةً، ثم حرضته مشجعةً على تغيير سيرته موعدة إياه بالمعونة، فحينئذٍ رجع هو الى بيته، ولما رأته أمرأته كائباً محزوناً قد سألته عن السبب، وهو أخبرها بأحواله مفصلاً، وبالرؤيا التي شاهدها، باكياً بدموعٍ غزيرةٍ على شقاوته، فهذه الأمرأة قد أشفقت عليه متوجعةً، وأعطته جانباً من الماال لمصروفه في رجوعه الى أسبانيا، كما أنها أرتضت معه بأن يأخذ صحبته أحد بنيه الذين أتلدوا له منها. فرجع اذاً الى ديره، ولأجل توسلاته ودموع عينيه السخية، قد قبلته من جديد رهبان جمعيته جملةً مع أبنه، حيث عاش بتوبةٍ شاقة ثابتاً على عمل البر وأخيراً مات برائحة القداسة.* الخبر 33:قد أخبر الأب أورياما عينه في المكان السابق ذكره عن أحد الشبان الدارسين الذي أرتشد من معلمه بأن يسلم على العذراء المجيدة بهذه الكلمات وهي: السلام عليكِ من الله يا مريم أم الرحمة: فاذ مارس ذلك مدة حياته، ودنا أخيراً من ساعة الموت، قد ظهرت له والدة الإله قائلةً: اما تعرفني أنا يا أبني العزير فأنا هي أم الرحمة تلك التي أنت سلمت عليها مراتٍ كثيرةً بهذه الكلمات: فحينئذٍ ذاك العابد مد يديه مهماً على أن ينهض فيتبعها. وفي الحال أسلم روحه بهدوٍ وسلام راقداً بالرب.* الخبر 34:لقد سطر عن أحد الخطأة أنه كان عائشاً في المآثم من دون عمل صلاحٍ ما سوى تلاوته اليومية الصلاة المبدوة: تحت ذيل حمايتكِ نلتجئ يا والدة الله القديسة: فيوماً ما قد فاز هذا الخاطئ بأنوارٍ سماوية من قبل والدة الإله لمعرفة حاله الشقية، وللرجوع الى الله بالتوبة. حتى أنه ترك العالم وصار راهباً، حيث عاش بحفظ القانون مدة خمسين سنةً، بسيرةٍ مملؤة من القداسة. قد أعقبتها ميتةٌ صالحةٌ حيث أضحى نموذجاً حياً للرهبان بفضائل حياته وبصلاح موته.* الخبر 35: قد كتب العلامة باري عن رجلٍ أراتيكي كان في مدينة طورين مصراً على ضلاله. فهذا سنة 1610 مرض مرض الموت، ولذلك قد جاء إليه كثيرون من الكهنة الغيورين، وأبذلوا نحوه كل أجتهادهم في أجتذابه الى الإيمان الكاثوليكي المقدس. ولكن من دون فائدة، لأن أتعابهم معه ذهبت سدىً لأصراره الشيطاني على ضلاله. فأخيراً أحد هؤلاء الكهنة توسل إليه بدموعٍ في أن ترتضي قلما يكون بأن يقول هذه الكلمات وهي: يا أم يسوع عينيني: فالأراتيكي قبل توسله وقال هذه الكلمات، الا أنه حالما تلفظ بها، فعلى الفور كإنسانٍ أستيقظ من رقاده هتف صارخاً: أنا أريد أن أموت كاثوليكياً: كما تم بالحقيقة، وهو أنه أقر بحقائق الإيمان، وأقتبل الحل من الأرتقة ومن خطاياه، وبعد ساعتين مات.* الخبر 36:أنه يوجد مدوناً تحت اليوم الثامن عشر من شهر أيلول في المينولوجيون، عن إنسانٍ آخر كان غير مؤمن في بلاد الهند. فهذا اذ بلغ الى ساعة موته، ودنا من أنفاسه الأخيرة حيث تركه الجميع. فلسماعه في مدة حياته من المسيحيين المدائح عن مريم العذراء وعن أقتدارها العظيم، أخذ بالألتجاء إليها مستغيثاً بأسمها، ففي الحال ظهرت له هذه السيدة الرؤوفة وقالت له: هوذا أنا التي أنت تستغيث بي قد حضرت لمعونتك، فقم وصر مسيحياً: فعند سماعه هذه الكلمات، نهض حالاً صحيحاً معافى من مرضه. فآمن بالمسيح وأصطبغ. كما أن كثيرين من الغير المؤمنين عند مشاهدتهم هذه الأعجوبة قد صاروا مسيحيين.* الخبر 37:قد سطر عن إنسانٍ كان في مدينة مادريد، كلي التعبد لمريم البتول، خاصةً نحو أحدى أيقوناتها المقدسة التي كانت تسمى: الأيقونة الأنطاكية: فهذا الرجل قد أقترن بالزواج الناموسي سنة 1610 مع أبنةٍ، الا أنه بعد زواجه لم يكن يجد مع هذه الأمرأة راحةً قط، لأجل غيرتها وشكوكها في أنه كان يحب غيرها من النساء، فقد كان من عادة هذا المتعبد لمريم أن يمضي في كل يوم سبتٍ خلسةً، الى زيارة الأيقونة المار ذكرها حافياً. غير أن أمرأته كانت تظن به أنه في ذهابه هكذا باكراً كان يمضي عند بعض النساء ولذلك كانت تفتري عليه بالشتائم والأهانات. الأمر الذي اذ صنعته هي بزيادةٍ، فهو من شدة غمه وغيظه وقلة صبره من هذا الأفتراء أخذ حبلةً وربطها في عنقه فشنق نفسه داخل البيت بعد أن غلق الباب، الا أنه وهو في آخر أنفاسه قد أستغاث بوالدة الإله بأن تأتي لمعونته. واذا بهذه السيدة قد ظهرت له بشكلٍ فائق في البهاء والجمال، ودنت منه فقطعت الحبل وخلصته، في الوقت الذي فيه كان الناس ملتئمين خارج الباب، ومشاهدين الحادث من الشباك من دون مقدرتهم على الدخول الى البيت. فحينئذٍ هو فتح الباب وأخبرهم بالحادث، ومنذ ذاك الوقت قد غيرت أمرأته سلوكها معه تائبةً عن أفترائها عليه، وعاشا معاً بسلام وحبٍ مستحرين في عبادتهما نحو هذه السيدة الكلية القداسة.* الخبر 38: قال الأب أورياما أنه حدث في سنة 1613 أنه كان إنسانٌ في مدينة فلانصا قد تورط في فعل خطيئةٍ قبيحةٍ. وجعله الحياء أن يخفي إيرادها فيما بعد كل مرةٍ كان يعترف، وبالتالي أضحى منافقاً بالأسرار في كل تلك المدة. الا أنه اذ لم يعد يمكنه أحتمال توبيخ ضميره قد أنطلق في أحد الأيام لزيارة أيقونة والدة الإله الملقبة بها له، لكي يتوسل إليها فيأن تساعده. فلما بلغ الى باب الكنيسة، وأراد الدخول إليها، قد شعر بقوةٍ غير منظورةٍ كانت تدفعه الى الوراء، مانعةً إياه عن الدخول، فحينئذٍ هو عزم عزماً ثابتاً على أن يعترف بتلك الخطيئة. وبعد هذا العزم تقدم الى باب الكنيسة فلم يجد مانعاً، بل دخل إليها بسهولةٍ. ومن ثم أعترف أعترافاً عاماً بخطاياه كلها. وهكذا رجع الى بيته مملؤاً من السرور والتعزية.* الخبر 39: أنه يوجد مدوناً في تاريخ الرهبنة الجيستارجيازية. عن الطوباوي آدم أحد آباء هذه الرهبنة، أنه اذ مضى يوماً ما ليزور مريم البتول في إحدى كنائسها، ورأى أبواب تلك الكنيسة مغلقةً، فجثا أمام الباب مصلياً مسلماً على هذه الأم الإلهية. ولكن حالما ركع هناك واذا بأبواب الكنيسة قد أنفتحت من ذاتها. فدخل إليها البار وشاهد والدة افله مشعشعةً بأنوارٍ سماوية لا يمكن التحدق بها، قائلةً له: يا آدم هلم الى ههنا، أتراك تعرفني من أنا: فأجاب الطوباوي: كلا، يا سيدتي فمن أنتِ: فقالت له: أنا هي والدة الإله. فأعلم أني لأجل العبودية والخدمة التي أنت تقدمها لي، فأنا سأهتم بك دائماً: قالت هذا ووضعت يدها على هامة البار فأشفته من الوجع الذي منذ أزمنةٍ مديدةٍ كان يتكبده في رأسه بألمٍ شديدٍ.* الخبر 40: قد سطر في الرأس 73 من الكتاب 5 من تاريخ الرهبان الأصاغر، عن أمرأةٍ كانت حسنة العبادة لوالدة الإله. فهذه يوماً ما ذهبت من دون أن يعرف رجلها، لكي تزور إحدى كنائس العذراء المجيدة البعيدة عن مكان سكناها، ومن حيث أنه حدثت في ذلك النهار أمطاراً غزيرة، وعواصف شديدة، فلم تعد هذه الأمرأة تقدر أن ترجع الى بيتها، بل أضطرت لأن تبيت خارجاً. لكنها قد أستوعبت غماً وخوفاً من أن رجلها كان مزمعاً بدون ريبٍ أن يظهر غيظه ضدها. فمن ثم ألتجأت الى البتول القديسة في أن تسعفها. ففي اليوم التالي قد رجعت الى بيتها، وشاهدت رجلها مملؤاً من العذوبة والرواقة، ولم يقل لها كلمةً ما البتة عن غيابها. فأخذت هي تستفحص وتستدل، فعرفت يقيناً أن العذراء المجيدة قد جاءت في اليوم السابق الى البيت بصورة تلك الأمرأة، وصنعت جميع لوازم خدمة البيت بكل نشاطٍ، بنوع أن الرجل لم يدر أن أمرأته بقيت خارجاً،، فحينئذٍ هي أخبرت رجلها بالحادث، ومعاً أزدادا حرارةً في عبادة هذه الأم الرأوفة. التي شرفت منزلهما كخادمةٍ في كل تلك الليلة.* الخبر 41: قد كتب العلامة لاباوس في المجلد الأول من تاريخه السنوي عن مدينة ضؤول. أنه كان في هذه المدينة (الكائنة في بلاد فرنسا) رجلٌ شريفٌ أسمه أنسالدوس متقدم في الوظائف العسكرية. فهذا الرجل اذ كان يوماً ما في معركة الحرب قد شق بسهمٍ دخل في حنكه بقوةٍ، بنوع أن الجراحين لم يقدروا أن يجدوا طريقةً بها يخرجون حديد السهم المكسور من حنكه، بدون قطع لحمانه. فأستمر هذا المسكين مدة أربع سنواتٍ يتكبد الأوجاع، ولكنه أخيراً اذ لم يعد يحتمل الآلام، وحصل في حال العدم من قبل المرض أيضاً، فأرتأى حينئذٍ الجراحون أن يفتحوا لحمان حنكه. ويخرجوا الحديد. الا أنه قبل ممارسة ذلك قد ألتجأ هو الى والدة الإله، ونذر على ذاته أن يزور أيقونتها المقدسة المكرمة في ذلك المكان، مقدماً لها كل سنةٍ كمية من المال أن حصل على الشفاء فحالما صنع هذا النذر قد شعر بأن الحديد من ذاته خرج من حنكه، وبقي في فمه. وهكذا أخرجه من دون وجعٍ بالكلية، ففي اليوم التالي أغتصب ذاته وهو في حال مرضه الشديد، وقام فذهب لزيارة تلك الأيقونة مقدماً النذر الذي صنعه. وحالما تمم ذلك فاز هناك بالشفاء من مرضة أيضاً، ورجع الى بيته صحيحاً معافى.* الخبر 42: قد سطر عن رجلٍ في بلاد أسبانيا كان معاشراً واحدة من النساء قريباته عشرةً دنسةً. فيوماً ما اذ كانت هناك إحدى البتولات المتعبدات لمريم تصلي، قد رأت مخلصنا يسوع المسيح في منبر عدله، مهماً على أن يرسل ذاك الشاب المفسود الى جهنم. الا أن والدته الكلية القداسة اذ قالت له أن الشاب كان وقتاً ما متعبداً لها، فأستمدت له منه تعالى مهلةً ثلاثين يوماً لأصلاح سيرته تائباً. فمن ثم تلك الأبنة قد أُمِرت من والدة الإله نفسها، بأن تخبر بهذا جميعه معلم أعترافها، الذي اذ فهم الرؤيا قد أعلنها لذاك الشاب، الذي عند سماعه ذلك قد ندم على مآثمه وأعترف بها بدموعٍ سخية، موعداً بعدم سقوطه من جديد بالخطيئة مع تلك الأمرأة، ولكن لأنه لم يقطع السبب القريب من بيته، قد رجع نظير الكلب الى قيه، فبعد سقوطه جاء من جديد وأعترف بمآثمه مكرراً وعده السابق، غير أنه قد رجع أيضاً الى الخطيئة، فمعلم أعترافه اذ لم يعد يراه، مضى إليه ليزوره في بيته، الا أن الشاب التعيس قد أصرفه من عنده ليس من دون غيظٍ، فلما بلغ اليوم الأخير من الثلاثين يوماً، قد رجع الكاهن الى بيت الشاب. ولكن من دون فائدةٍ، لأن الأثم أعمى قلب هذا الشقي. فالكاهن حينئذٍ توسل الى خدام البيت بأن يخبروه فيما يحدث. وأنه كان مستعداً للحضور متى دعوه، فما أنتصف الليل التابع ذاك اليوم، الا والشاب حصل في أوجاعٍ باطنة شديدة في الغاية. فالخدام أسرعوا وأخبروا معلم الأعتراف، الذي جاء وشكاً إليه لكي يساعده، ولكن المنكود الحظ صرخ صوتاً عظيماً قائلاً: أواه أنا أموت مطعوناً بحربةٍ في قلبي: وهكذا خرجت نفسه مع ذاك الصراخ.* الخبر 43: قد أورد الأب روهوس بأنه كان في مدينة مديولان شابٌ أسمه مازاكيوس، متولعاً في لعب الورق بهذا المقدار، حتى أنه يوماً ما قد لعب على أثوابه التي كان يلبسها، ولأجل الخسارة التي ألمت به قام برجزٍ نفاقي كمقطوع الرجاء، وضرب بالسكين أيقونة والدة الإله، الا أنه قد خرج من جرح الأيقونة دم نظير الفصادة، فغسل وجه مازاكيوس الذي حينئذٍ أستوعب خوفاً وخشوعاً معاً، وطفق يبكي تائباً. وهكذا قدم الشكر لهذه الأم الرأوفة على كونها أستمدت له زمناً لصنيع التوبة. ثم خرج من العالم ودخل في الرهبنة الجيستارجيازية، حيث أستمر مدة أربعين سنةً يعيش بالقداسة والفضائل، حتى أنه حصل على موهبة النبؤة. وهكذا مات موت الأبرار الذي هو كريمٌ لدى الرب.* الخبر44:أنه قد سطر عن أحد الخطأة المتفاقم شرهم جداً، أنه اذ رجع الى الله بالتوبة، قد أخذ يوماً ما يبكي بمرارةٍ أمام الصليب طالباً من فادينا علامة ظاهرة يؤكد له بها أنه تعالى غفر له خطاياه. ولكن بعد توسلاتٍ كثيرة ودموعٍ غزيرة اذ أنه لم يفز بعلامةٍ ما فأتجه نحو والدة الإله المحزونة بتضرعاتٍ متضعة في أن تلتمس له من ابنها هذه النعمة، فحينئذٍ شاهد في الرؤيا هذه الأم الإلهية متوسلةً لدى أبنها بقولها له: يا أبني هل أن دموع هذا التائب تمضي ضائعةً: وحينئذٍ سمع هو أن مخلصنا قال لها أنه غفر له، وهكذا عاش هو باقي زمن حياته بسيرةٍ مقدسة.* الخبر 45:أنه في أحد أعمال رسالات آباء جمعيتنا، قد جاء إنسانٌ شيخٌ مملؤٌ من السنين ليعترف عند أحد آباء هذه الرسالة، وهو الأب كيساريوس سبورتالي (الذي منذ زمن ليس بمستطيل قد رقد بالرب برائحة القداسة، وجسده بعد أشهرٍ عديدة من نياحه وجد غير فاسد) وكان مجيء هذا الإنسان الشيخ لطلب الأعتراف، بعد أستماعه عظتنا على سمو أقتدار شفاعة مريم البتول الكلية القداسة، العظة التي من عادتنا أن نصنعها دائماً في كل بلدةٍ ومكان نمارس فيه أعمال الرسالة. فلما تقدم الشيخ المومى إليه أمام منبر الأعتراف قال للأب كيساريوس: أن العذراء المجيدة يا أبتي قد صنعت معي عظائم نعمتها: فأجابه الأب المذكور:" هذه هي صنعتها الخصوصية". غير أن الشيخ أردف كلامه بقوله:" انك أنت أيها الأب لا تقدر أن تمنحني الحل عن مآثمي، لأني في مدة حياتي كلها قط ما أعترفت". وبالحقيقة كان الأمر كذلك، أي ولئن كان هذا الشيخ كاثوليكياً فلم يكن حتى ذاك الوقت أعترف قط. فالأب حينئذٍ أخذ يشجعه ويرشده، ثم عرفه أعترفاً كاملاً، ومنحه الحل بحسب الواجبات بتعزيةٍ لا توصف للجهتين للمعرف وللمعترف.* الخبر 46:أنه يوجد مدونا في سيرة حياة الطوباوي برنردوس طولوماى مؤسس جمعية الآباء المدعوين أوليفاتيين، أن هذا البار الذي منذ نعومة أظفاره كان حسن التعبد لوالدة الإله بحرارةٍ. قد صودف يوماً ما هو داخل مكان نسكه الكائن في أكونا في الجبل الملقب باوليفاتوس، موعباً غماً وحزناً من أن لا يكون هو من عدد المخلصين. ومن أن لا يكون لحد ذاك الوقت الباري تعالى غفر له خطاياه. فاذ هو في هذه الحال، قد ظهرت له البتول الكلية القداسة قائلةً له:" من أي شيءٍ أنت خائفٌ يا أبني، كن مسروراً فرحاً، لأن الله قد غفر لك كل مآثمك، وهو عز وجل راضٍ من نوع العيشة المتمسك أنت بها، فداوم مواظباً عليها، وأنا أعينك وهكذا أنت تخلص". فهذا الطوباوي ثبت دائماً يعيش بالبراءة والقداسة الى أن حصل أخيراً على ميتةٍ صالحةٍ سعيدة مسلماً نفسه بين يدي والدة الإله.* الخبر 47: أنه سطر عن أبنةٍ من بلاد جرمانيا قد كانت تورطت بفعل الدنس مع والدها نفسه، واذ ظهرت حبلى منه، هربت الى القفر ومكثت منفردةً عن الناس الى أن ولدت، فحينئذٍ ظهر لها الشيطان بصورة إنسانٍ راهبٍ، وأقنعها بأن ترمي الطفل الذي ولدته في بحيرة ماءٍ هناك. ولما تممت مشورته فعلاً، أخذ هو يرشدها الى ان تطرح هي أيضاً ذاتها في تلك البحيرة، فوقتئذٍ هتفت الأمرأة قائلةً: يا مريم عينيني. وفي الحال غاب عنها الشيطان مدبراً.* الخبر 48:أن أحد الجنود كان أتفق مع الشيطان، على أن يعطيه هذا الروح النجس كميةً من المال، تحت شرط أن يأخذ له أمرأته عينها الى أحد الأحراش، فتتميماً للأتفاق أخذ الجندي أمرأته منطلقاً بها نحو ذاك الحرش، واذ مرا في الطريق من على كنيسةٍ مختصةٍ بالدائمة بكارتها مريم، قد طلبت الأمرأة من رجلها بتوسلٍ أن يسمح لها بأن تزور العذراء في تلك الكنيسة، فسمح لها بذلك وجلس هو خارجاً ينتظرها، فاذ دخلت الأمرأة الكنيسة. قد خرجت بدلاً منها والدة الإله عينها متشكلةً بصورتها وملبوسها، ودنت من الجندي كأنها أمرأته، ثم ركبت الفرس وسارت معه، فلما وصلا الى الحرش، واذا بالشيطان لاقى الجندي قائلاً له: أيها الخائن الغشاش كيف أنك عوضاً من أمرأتك أتيتني بوالدة الإله التي هي عدوتي: فحينئذٍ أجابته العذراء بقولها: وكيف أنت تجاسرت على أن تقصد أن تضر من هي متعبدة لي، فأغرب هارباً الى جهنم: ثم ألتفتت نحو الجندي وقالت له: أمضِ فأصلح سيرتك تائباً وأنا أعينك: وهكذا غابت عنه، فعلى هذه الصورة رجع الرجل وغير عوائده الرديئة وعاش عيشةً مسيحيةً.* الخبر 49: أنه يوجد مدونا في المينولوجيون تحت اليوم الثامن من تموز هذا الخبر، وهو أنه كانت في بلاد الماسيكوس أمرأةٌ زانية التي اذ أنطرحت في مرضٍ عضال، فقد تابت عن خطاياها عازمةً على عدم الرجوع إليها، ونذرت بأن تقص شعر رأسها وتقدمه هديةً لوالدة الإله المجيدة، فشفيت من المرض وتممت نذرها، مقدمةً شعرها للعذراء في إحدى الكنائس التي كان يوجد فيها تمثال هذه السيدة مجسماً. فخادم الكنيسة أخذ الشعر ورتبه حسناً. وزين به رأس تمثال البتول. الا أن تلك الأمرأة الخاطئة لم تستمر مدةً مستطيلةً في توبتها، بل رجعت الى حالها الأولى القبيحة. ثم مرضت وماتت غير تائبة، فبعد ذلك خاطبت والدة الإله من ذلك التمثال الأب يوحنا ماريا سالفاتارا اليسوعي علانيةً بحضور جمعٍ غفير قائلةً له: أرفع عن رأس أيقونتي المجسمة الشعر الموضوع عليه، لأنه هو شعر نفسٍ فاجرة زانية هالكة في جهنم، لا يليق أن يوجد شعرها فوق رأس من هي أم العفة والطهارة. فالأب المذكور حالاً رفع بيده ذاك الشعر وطرحه في النار فأحترق.* الخبر 50: قد سطر أحد الهجريين السودان أسمه بدران. أنه قد كان في بلاد أسبانيا أستأسر عبيداً له كثيرين من المسيحيين. الذين اذ ألتجأوا الى والدة الإله بأن تنقذهم من تلك الحال السيئة في عبوديتهم لهذا الرجل البربري، فالبتول أم الرحمة ظهرت لذاك السركسي وقالت له: كيف أنت يا بدران تتجاسر على أن تحوي عندك أسارى وعبيداً، أولئك الذين هم خاصتي ومتعبدون لي، فطع اذاً، وأتركهم معتقاً إياهم أحراراً. فأجابها بدران بقوله: ومن هي أنتِ حتى أطيعكِ أنا: فقالت له: أنا هي والدة الإله. ومن حيث أن هؤلاء المسيحيين قد أستغاثوا بي، فأنا أريد أن تعطى لهم الحرية ليكونوا ناجين من الأسر: فبدران حينئذٍ قد شعر في ذاته بأنه تغير عما كان عليه، وبالحقيقة أنه قام فأطلق كل أولئك المسيحيين معتقاً إياهم، وبعد ذلك قدم ذاته للبتول الكلية القداسة التي هي نفسها أرشدته في عقائد الديانة وحقائق الإيمان، وعمدته في حوضٍ كبير قد تعمرت فيه بعد هذا الحادث كنيسةٌ مع ديرٍ من الرهبان تابعين قانون القديس بناديكتوس.* الخبر 51:قال أيدولفوس كيكتونيوس مخبراً عن أحد الكنائسيين القانونيين بأنه اذ كان يوماً ما يتلو مدائح مختصةً بالعذراء المجيدة وهو على حافة نهر سانا، فأتفق له أنه سقط في النهر المذكور فأختنق، ولأنه كان هو وقتئذٍ حاصلاً في حال خطيئةٍ مميتةٍ، فجاءت الشياطين ليأخذوا نفسه الى الجحيم، الا أنه حالاً ظهرت والدة الإله وقالت لهم: كيف تجسرون على أن تأخذوا نفس ذاك الذي مات حينما كان يتلو مدائحي: ثم ألتفتت نحو القانوني وقالت له: أنهض حياً وأصلح ذاتك وكن حسن العبادة نحو الحبل بي البريء من الدنس". فقام ذاك المائت حياً ودخل بعد ذلك في سيرة النسك راهباً، وعاش باقي زمن حياته الجديدة بأداء الشكر نحو المحسنة إليه، كارزاً بمدائح الحبل بها البريء من تبعة الخطيئة الأصلية، ومجتهداً في أكتساب القلوب لهذه العبادة.* الخبر 52:أنه حينما كان رهبان دير كيارافاله يحصدون الحبوب في المزرعة، كانوا في الوقت عينه يرتلون مدائح لوالدة الإله، فقد شوهدت هذه الملكة السماوية تجول فيما بينهم كأمٍ تملق أطفالها، وشوهدت برفقتها أثتنان من القديسات تمسحان بمناديل نقية عرق أولئك الرهبان.* الخبر 53:أنه قد أخبر عن شقيق سلطان هونكريا بأنه كان يومياً يتلو الفرض المختص بوالدة الإله، فهذا اذ حدث له مرضٌ ثقيل، قد نذر للعذراء الفائقة الطهارة حفظ البتولية الدائمة، أن شفي من مرضه. فحالما صنع هذا النذر برأ من علته. ولكن بعد مدةٍ وجيزة مات أخوه السلطان. وهو أعتمد على أن يتزوج بمن كانت تليق به، ولكنه قبل أن يتمم الزواج قد أنفرد في مخدعه ليتلو كعادته فرض العذراء فلما بلغ به الى هذه الكلمات وهي: كم أنتِ جميلةٌ وبهيةٌ أيتها البتول. قد ظهرت له والدة الإله قائلةً:" فأن كنت أنا جميلةً كما تقول فلماذا الآن تتركني لتأخذ لك عروسةً أخرى، فأعلم أن كنت تترك هذه التي أنت أعتمدت على الأقتران بها، فسأكون أنا عروسةً لك بدلاً منها، وعوضاً عن مملكة هونكريا سأعطيك ملك السموات". فهذا السلطان بعد ذلك هرب من هونكريا الى قفرٍ بالقرب من مدينة أكويليا. حيث أنهى حياته بقداسة سامية منتقلاً الى الملك السماوي.* الخبر 54:قد أخبر القديس يوحنا كاتب سلم الفضائل عن واحدٍ من الرهبان الحسني العبادة أسمه كاركاريوس، انه كان من عادته مراتٍ كثيرةً أن يرتل قصائد وأشعاراً في مديح والدة الإله. وكل مرةٍ كان يشاهد أيقونةً ما خاصةً بها، فدائماً كان يسلم عليها بتلاوة السلام الملائكي. فهذا الراهب قد سقط فيما بعد طريحاً بمرضٍ ثقيل ذي ألمٍ شديد. حتى أنه من عظم أوجاعه كان يقرض شفتيه ولسانه بأسنانه، ولذلك ما عاد يقدر على النطق، وحصل في أنفاسه الأخيرة منازعاً. ولكن حينا كان الحضار يتوسلون من أجله منتظرين أنفصال نفسه من جسده، قد ظهرت له البتول المثلثة الغبطة وقالت له: أني أنما قد جئت إليك لكي أشفيك، لأني ما عدت أحتمل أن أراك معذباً بذاك الفم الذي به مدحتني كثيراً، فقم معافى وكن صحيحاً من مرضك، وداوم على مديحك إياي. قالت هذا ورشقته ببعض نقطٍ من حليبها. فحالاً برأ ونهض معافى. ولم يكف قد سائراً أيام حياته من مديحها. وأخيراً بكل سلامٍ وهدوٍ وعذوبةٍ عند موته سلم نفسه بيد سيدته سلطانة السماء.* الخبر 55:أن بوفيوس في الخبر الخامس من المجلد الرابع من تأليفه ومثله آخرون يوردون ما يأتي ذكره، وهو أنه اذ كان موجوداً في مدينة روميه القديس فرنسيس بورجيا، قد جاء أحد الأكليروس ليخاطبه عن قضيةٍ، ولكن من حيث أن القديس كان وقتئذٍ مهتماً في أشغالٍ ضرورية، قد أرسل عوضه الأب أكوسطا. فالكاهن المومى إليه حينئذٍ أخذ يخاطب الأب أكوسطا قائلاً: أعلم يا أبتي أني أنا رجلٌ كاهن واعظ، ولكني عائشٌ في حال الخطيئة، وميؤوس من أمر خلاصي بقطع رجائي من الرحمة الإلهية، فيوماً ما بعد أن أنهيت وعظي بخطبةٍ صنعتها ضد الخطأة المصرين على آثامهم، والميؤوسين بعد ذلك من الرجاء بنوال الغفران، قد جاء إليَّ إنسانٌ ليعترف عندي، وهذا قد أورد لدي في منبر الذمة خطاياي كلها. وأخيراً قال لي أنه كان هو ميؤوساً من المراحم الإلهية. فأنا لكي أتمم وقتئذٍ واجبات وظيفتي قلت له أن يغير سيرته ويتكل على الله مترجياً غفران ذنوبه، فحينئذٍ نهض هو على قدميه وشرع يوبخني بصرامةٍ قائلاً:" فأنت الذي تكرز على الآخرين هكذا، لماذا لا تصلح ذاتك وترجع عن مآثمك، ولأي سبب تقطع رجاك، فأعلم أني أنا هو ملاك الرب قد جئت لأعانتك، فأصلح طريقك وهكذا تنال الغفران من الله". واذ قال هذا غاب هو من أمامي. فأنا قد أمتنعت مدة بعض أيامٍ عن رذائلي، ولكن اذ حصلت في السبب قد سقطت من جديد في مآثمي. فيوماً ما عندما كنت أقدس، فقبل تناولي القربان المقدس قد خاطبني يسوع نفسه تحت أعراض السر بألفاظٍ حسيةٍ مسموعةٍ قائلاً لي:" لماذا أنت تعاملني هذه المعاملة السيئة، في الوقت الذي أنا فيه أعاملك بهذا المقدار من الشفقة والرأفة". فبعد ذلك أنا عزمت على تغيير سيرتي، ولكن حالما وجدت في سبب الخطيئة قد تكردست من جديد في القبائح. ففي هذا اليوم منذ بعض ساعاتٍ اذ كنت أنا موجوداً في مخدعي، قد دخل شابٌ، وأخرج من تحت وشاحه كأساً وفيها القربان الأقدس قائلاً لي:" أتعرف أنت هذا الإله السيد الذي أنا ماسكه بيدي، وهل أنك تفطن بالنعم العظيمة التي صنعها هو معك، فالآن هوذا عقابك قد بلغ أوانه للأنتقام من خيانتك وكفرانك بالجميل". واذ قال هذا قد أستل سيفاً مرهفاً ورفع يده ليضربني به مميتاً إياي، فأنا حينئذٍ صرخت بصوتٍ عظيمٍ قائلاً: أني أستحلفك حباً بمريم العذراء الا تقتلني، لأني أريد حقاً وصدقاً أن أغير سيرتي: فوقتئذٍ هو قال لي:" أن هذه الواسطة وحدها قد خلصتك، فأعرف كيف يلزمك أن تراعي هذه النعمة، لأنها هي الرحمة الأخيرة نحوك". واذ قال هذا تركني. فمن ثم أنا أتيت حالاً أتوسل إليك بأن تقبلني في جمعيتكم. فالأي أكوسطا بعد سماعه منه هذا الخطاب جميعه، أخذ يشجعه ويعزيه. وبمشورة القديس فرنسيس بورجيا نفسه قد أرسل هذا الكاهن الى جمعية رهبان آخرين قانونيين حيث دخل إليها وعاش باقي أيام حياته بتوبةٍ صادقة حتى الموت.* الخبر 56:قد أخبر العلامة كيساريوس في الرأس 24 من الكتاب 7 من مسائله الأدبية، بأنه اذ كان واحدٌ من الكهنة مقدماً الذبيحة الإلهية سنة 1228 في يوم السبت تكريماً لوالدة الإله، فجاء الى هناك البعض من الأراتقة الألبيجازيين، ووثبوا على هذا الكاهن فقطعوا لسانه، ففي هذه الحال قد ذهب هو الى دير كلوتي، حيث قبله رهبان الدير المذكور بحبٍ وافر، متوجعين له عن العذاب الذي كان هو يشعر به في قرمة لسانه المقطوع. غير أن الشيء الذي كان هذا الكاهن العابد يتألم منه بالأكثر، هو عدم أستطاعته على أن يقدس ويصلي الفرض الإلهي، لا سيما قانون العذراء المجيدة حسب عادته السابقة. فلما جاء يوم عيد الغطاس قد صير الرهبان أن يأخذوه معهم الى الكنيسة، حيث جثا أمام هيكل والدة الإله، متوسلاً إليها في أن ترد له لسانه الذي قطع لأجل حبه إياها، حينما كان هو يقدم الذبيحة تكريماً لها، لكي يقدر أن يرجع فيستعمله في مديحها كالأول. واذا بالبتول الكلية القداسة قد ظهرت له وبيدها لسانٌ، وقالت له:" أنه لأجل أنك حباً بالإيمان، وتكريماً لي قد فقدت لسانك، فأنا الآن أرد لك لساناً جديداً". قالت هذا وهي نفسها قد وضعت بيدها ذاك اللسان في فمه. فمن ثم الكاهن حالاً رفع صوته ورتل: السلام لكِ يا مريم: فالرهبان قد ألتئموا حوله منذهلين من العجب. أما هو فأراد الأقامة معهم في ذلك الدير، فلبس ثوبهم وترهب عندهم، ليمكنه هناك أن يشكر على الدوام السيدة المحسنة إليه ويسبحها. وقد كان الجميع ينظرون علامة أتحاد لسانه الجديد بالقرمة القديمة، ويمجدون الله ويعظمون أقتدار والدته.* الخبر 57:قد كتب ديوتالوس قائلاً، أنه اذ كان حادثاً في مدينة روميه سنة 588 ذلك الطاعون الشهير الصيت، الذي فيه كان الناس بمجرد عطاسهم يسقطون في الأرض موتى. فالقديس غريغوريوس الكبير الحبر الروماني صنع حينئذٍ باعوثاً أحتفالياً، فيه زيح داخل طرقات المدينة أيقونة والدة الإله المقدسة، التي في كنيسة مريم العذراء الكبرى، فلما وصلت الدورة بهذه الأيقونة الجليلة الى أمام البرج المسمى قلعة الملاك، فقد شاهد الحبر المذكور في الفضاء ملاكاً كان بيده السيف مستلاً، يسيل منه الدم، وحالاً قد رده الى غمده، ثم سمع الملائكة يرتلون قائلين: أفرحي يا سلطانة السماء ألليلويا، لأن الذي أنتِ أستحقيتِ أن تحبلي به ألليلويل قد قام من الموت ناهضاً كما قال ألليلويا: فالحبر القديس قد أضاف الى ذلك قائلاً:" صلي من أجلنا لدى الله ألليلويا". أما الطاعون فمنذ تلك الساعة قد تلاشى من مدينة روميه، وحينئذٍ أبتدأت أن تصير الطلبات الكبرى كل سنةٍ في اليوم الخامس والعشرين من شهر نيسان.* الخبر 58:أنه يوجد مسطراً عن مدينةٍ صغيرةٍ في مملكة فرنسا تدعى أفنون، قد كانت مرةً ما حوصرت من عساكر الأعداء. فسكان هذه المدينة قد ألتجأوا الى والدة الإله، متوسلين إليها في أن تحامي عنهم، حيث أخذوا من إحدى الكنائس أيقونتها المقدسة العجائبية ووضعوها فوق باب المدينة، فاذ شاهد أحد عساكر العدو رجلاً من أهل المدينة مختفياً وراء الأيقونة قد أوثر قوسه وأستحكم النيشان ورماه بالسهم قائلاً له: أن هذه الصورة لا تقدر أن تنجيك من الموت: الا أنه قد شاهد واذا بالصورة قد مدت رجلها الى خارجٍ، حيث جاء السهم ووقف بها من دون أن ينفذ الى الإنسان المحتمي وراءها (وحتى الآن هذه الصورة تنظر في المدينة المذكورة. والسهم على فخذها معلقاً) وبهذا النوع حفظت حياة ذلك الإنسان المتعبد لمريم، فالأعداء اذ رأوا حدوث هذه الأعجوبة، قد رفعوا الحصار عن المدينة وسافروا.* االخبر 59: أخبر الأب ألوتسا في الرأس 3 من كتابه 3 بأنه كان في مدينة نابولي إنسانٌ من السودان أسيراً عند الرجل الشريف أوطافيوس موناكوس، مصراً على تمسكه بمذهبه الهجري، من دون أن تؤثر فيه شيئاً جميع النصائح والتحريضات المقدمة له من كثيرين، غير أنه كان متمسكاً بعبادةٍ ممارسة منه تكريماً لمريم العذراء وهي أنه كل ليلةٍ من دون تفويتٍ كان يقد على مصروفه الذاتي قنديلاً، أمام تلك الأيقونة التي كانت لوالدة الإله في بيت سيده المذكور. وكان من عادته أن يقول: أن هذه السيدة عتيدةٌ أن تصنع معي نعمةً عظيمةً. فليلةً ما قد ظهرت له هذه الأم الإلهية، وقالت له أن يصير مسيحياً. أما هو فأستمر يرفض طلبتها هذه، ولكنها اذ وضعت هي يدها على كتفه قائلةً له: يا هابيل لا تصر على عنادك أكثر، بل أصطبغ وادع ذاتك يوسف: ففي الصباح التالي حالاً ذاك العبد أشهر رضاه بأعتناق الإيمان بالمسيح، وأرتشد بقواعد الإيمان، وأصطبغ في اليوم العاشر من شهر آب سنة 1648 جملةً مع أحد عشر هجرياً آخرين. ثم يلزم أن ننبه هنا عن هذه القضية أيضاً، وهي أن العذراء الكلية القداسة حينما ظهرت لهابيل المذكور بالنوع المقدم إيراده، فبعد أن أجتذبته الى الأعتقاد بالمسيح، وأرادت مفارقته فهو مسك يدها متوسلاً إليها بقوله: أيتها السيدة أرجوكِ بأن تجعليني أن أراكِ عندما أوجد محزوناً من حادثٍ ما. فهي قد وعدته بذلك، كما تممت وعدها. لأنه اذ كان هو فيما بعد مرةً ما حاصلاً في الغم لمصيبةٍ. فقد أستدعى إليه هذه السيدة، وهي ظهرت له، وبمجرد قولها: يا يوسف أحسن صبرك، قد أمتلأ هو تعزيةً وسروراً.* الخبر 60: أن الأب أورياما في الرأس 6 من المجلد 2 قد أخبر عن أحد خوارنة أسالا أسمه بالدوينوس، أنه قد كان تنازل عن خدمة الخورنة، وصار راهباً في قانون القديس عبد الأحد. غير أنه اذ كان هو بعد في رتبة المبتدئين. قد تجرب في الندامة على ما فعله بالدخول في الرهبنة، متصوراً بعقله أنه لكان يفعل خيراً أعظم، وأفادةً أكثر للقريب، لو يكون أستمر في خدمة خورنته. ومن ثم عزم على ترك ثوب الأبتداء، وعلى الخروج من الدير، وبهذه النية دخل أمام هيكل الوردية ليودعها ويخرج، الا أن والدة الإله قد ظهرت له حاملةً بيديها إنائين مملوئين خمراً، فسلمته الإناء الواحد لكي يشرب منه، فلما ذاقه لوى وجهه عنه، لأنه ولئن كان الخمر جيداً فمع ذلك كان مملؤاً من العكر، واذ أعطته الثاني فرآه جيداً من دون شيء آخر، فحينئذٍ قالت له هذه السيدة:" أن هذا هو الفرق الكائن فيما بين العيشة في العالم، وبين عيشتك في الرهبنة تحت الطاعة". فلهذا رجع بالدوينوس، وتمم زمان الأبتداء، وعاش باقي زمن حياته راهباً مملؤاً من الفضائل.* الخبر 61: قد أخبر الأب أورياما عينه في المكان السابق ذكره، عن واحدٍ آخر من المبتدئين قد أنتصرت عليه التجربة في الرجوع الى العالم، ولذلك ذهب من قلايته ليخرج من الدير، ولكنه قبل خروجه صلى مرةً واحدةً السلام الملائكي أمام أيقونة والدة الإله. فعندما نهض لينطلق رأى ذاته مسمراً في مكانه غير قادر على الحركة والمشي، فحينئذٍ أنتبه على غلطه، ونذر أن يستمر في الدير. وهكذا أنطلق من دون مانعٍ عند معلم المبتدئين طالباً منه الغفران، ولبث مثابراً على ما كان أبتدأ به الى الموت.* الخبر 62:قد كتب الأب أورياما نفسه في الرأس 4 من المجلد 1 عن الطوباوي أكليمضوس الراهب الفرنسيسكاني، أنه يوماً ما لم يرد أن يذهب الى مائدة الغداء المشاعة، لكي يستمر تالياً بعض صلوات ذات عبادةٍ لوالدة الإله، غير أن هذه البتول الكلية القداسة قد خاطبته من ايقونتها المقدسة قائلةً له: أذهب مع أخوتك الى المائدة، لأنه يرضيني أن تكمل الطاعة الواجبة عليك، أكثر مما ترضيني العبادات الأخرى كلها التي أنت تصنعها نحوي.* الخبر 63:قد أخبر الأب روهوس بأنه حينما كانت أنجلا أبنة سلطان بوهاميا في دير الراهبات، قد ظهرت لها البتول الكلية القداسة، وبرفقتها أحد الملائكة، الذي تقدم الى أنجلا قائلاً لها: أنهضي الآن يا أنجلا وأهربي مسرعةً الى أورشليم، لأن السلطان أباكِ أعتمد على أن يدفعكِ زوجةً لسلطان بلاد هنغاريا: فالأبنة الحسنة العبادة قد سافرت حالاً متجهةً نحو مدينة أورشليم، وقد ظهرت لها والدة الإله مرةً ثانيةً في مسافة الطريق، مشجعةً إياها على تتميم السفر. فلما بلغت الى أورشليم قد قبلت فيما بين الراهبات الكرمليتانيات. وأستمرت هناك الى أن أعلنت لها البتول المجيدة عينها أرادتها في الرجوع الى وطنها، كما أكملت ذلك. وعاشت باقي زمن حياتها في بلاد بوهاميا بقداسةٍ حتى الموت.* الخبر 64: قد كتب القديس غريغوريوس الكبير في الرأس17 من كتاب أدابياته الرابع، عن أبنةٍ أسمها موزا. قد كانت كلية التعبد للأم الإلهية، ومن حيث أنها لأجل نموذجات بعض البنات الأثمة حصلت هي في خطر أن تخسر طهارتها، فظهرت لها والدة الإله، مرافقةً من عددٍ وافرٍ من القديسات، وقالت لها: أتريدين ياموزا أن تأتي أنتِ أيضاً صحبة هؤلاء البارات: واذ أجابت الأبنة: أي نعم أني أريد ذلك: فحينئذٍ قالت لها العذراء:" اذاً أبتعدي عن رفقة البنات الأخريات، وأستعدي حسناً، لأنكِ من الآن الى مدة شهر كامل عتيدةٌ أن تأتي إليًّ". فموزا قد أبتعدت حالاً عن أولئك البنات، وأخبرت الغير عن الرؤيا التي شاهدتها هي. واذ بلغ اليوم الثلاثون فجاءت ساعة موتها، وحينئذٍ قد ظهرت لها ملكة السماء ودعتها إليها، وهي اذ أجابت حالاً: هوذا أنا يا سيدتي آتيةٌ إليكِ. قد سلمت روحها بكل عذوبةٍ وسلام.* الخبر 65:أنه يوجد مدوناً في سيرة حياة البارة: حنه غونزاغا. كانت زوجة لفرديناندوس الأول ملك النمسا من عليلة أوستريا، وأن هذه الشريفة حينما ترملت بوفاة رجلها المذكور، قد دخلت في جمعية راهبات عبيد مريم العذراء، وقد صنعت لذاتها تاجاً مرسومةً عليه صور سبعة أحزان البتول الكلية القداسة، قائلةً أنها بواسطة هذا التاج تنازلت هي عن تيجان مملكات الأرض كلها. وبالحقيقة أنها رفضت الزواج مع الملك رودولفوس الثاني. وحينما أخبروها فيما بعد بأن أختها الصغرى قد تكللت بالأحتفالات العظيمة ملكةٌ، قد أجابت هي قائلةً: فلتتمتع أختي بتاجها الملوكي، وأما أنا فعزيزٌ هو لدي هذا الثوب الذي به توجتني ملكتي مريم، وأفضل عندي ألف مرةٍ من ذاك التاج الملوكي. فوالدة الإله قد ظهرت مراتٍ كثيرةً لهذه البارة في مدة حياتها وعند ساعة موتها التي بها أنتقلت الى الأخدار السماوية بميتةٍ مقدسة.* خبر 66:قد كتب في الخبر الثالث من الكتاب المسمى: نموذجات العذراء الطوباوية: عن أحد الكنائسيين المرتسم بالدرجات الصغار. أنه كان هذا يوماً ما يلعب مع شبانٍ آخرين في لعب الكرة، ومن حيث أنه خاف من أن حركته في اللعب تسبب له ضيعان الخاتم الذي كان في أحد أصابعه غزيزاً لديه، لأنه كان موهوباً له من إحدى النساء المكرمات منه، فخلعه من أصبعه، ليضعه في أصبع يد تمثال والدة الإله المجسم الكائن هناك، الا أنه حينئذٍ قد جاءه فكرٌ في أن يرفض العالم ويحفظ البتولية، متخذاً بواسطة ذاك الخاتم عروسةً له البتول المجيدة نفسها. فاذ شعر في قلبه بأرادةٍ فعالةٍ لأن يعد العذراء هذا الوعد، قد صنعه بكل طيبة خاطرٍ، ووضع بهذه النية ذاك الخاتم في أصبع يد تمثالها المقدس. فالبتول الطوباوية علامةً لقبولها منه هذا الوعد، قد أطبقت يدها على يده حين تلبيسه إياها الخاتم، ثم فتحتها. ولكن بعد مدةٍ من الزمان أراد الشاب المذكور أن يقترن بالزواج مع إحدى البنات، غير ملتفتٍ الى ذاك الوعد. فالعذراء المغبوطة قد ظهرت له حينئذٍ، ووبخته على عدم أمانته، وهو حالاً ندم على فعله. ولكي يحفظ وعده بأكثر أمانٍ مع هذه العروسة السماوية، هرب من العالم سائحاً في أحد القفار، حيث عاش جميع أيام حياته بقداسةٍ حتى الموت.* الخبر 67:أنه يوجد مسطراً في تاريخ مدينة فاردون عند الأب روهوس، أنه نحو سنة 850 اذ كان بارانغاريوس أسقف أبرشية فاردون في أقليم لورانا، ذاهباً يوماً ما الى الكنيسة حيث دخل مجتازاً الى الخورص. فكان وقتئذٍ هناك جالساً عند مدخل الخورص أحد الكهنة وأسمه بارناريوس، يتلو قانون والدة الإله، ومن كون رجل الأسقف المذكور حين دخوله الخورص أنصدمت في جسد هذا الكاهن، فلغيظه منه في جلوسه هناك، ولعدم نهوضه حالاً، قد رفسه برجله بقلة صبرٍ. ففي تلك الليلة ظهرت هذه الأم الإلهية للأسقف قائلةً له:" كيف تحسن عندك أن ترفس برجلك عبدي بارناريوس حينما كان يتلو مدائحي، فأنا من أجل أني أحبك، أريد أنك تفي القصاص عن ذنبك في هذه الحياة". وحالاً قد يبست رجله، فالأسقف عاش باقي زمن حياته بقداسةٍ، ومات كذلك. وبعد سنين كثيرةٍ قد صودف جسده غير فاسدٍ ولا مثلومٍ، ما عدا رجله التي كان رفس بها ذاك الكاهن كما تقدم الشرح قد بليت.* الخبر 68: أنه قد كتب عن أحد الشبان أنه اذ ورث عن والديه أموالاً غنيةً جداً، فهو شرع يبددها في اللعب والمسكرات والولائم والرذائل والبذخ مع أصحابه. حتى أنه نفذ منه كل شيءٍ كان له، ولكن كان يحفظ ذاته بتولاً غير مدنسٍ بفعلٍ ضد العفة. فلما رآه عمه حاصلاً في الفقر لأجل ما تقدم ذكره، قد حرضه على أن يتلو كل يومٍ قسماً من مسبحة الوردية، موعداً إياه بأنه اذا واظب على ذلك، فهو كان مزمعاً أن يهتم في أن يزوجه زيجةً شريفةً. فالشاب قبل المشورة ومارسها بالعمل وأصلح سيرته، وكذلك عمه أكمل وعده في أمر الزيجة. فلما بلغت ليلة العرس، فالشاب أنفرد عن الناس ليصلي قسم الوردية كعادته، فعند نهاية صلاته، ظهرت له والدة الإله قائلةً:" أني أريد الآن أن أعطيك المكافأة الواجبة عما كرمتني به، فأنا لا أريد أنك تخسر بتوليتك بالزواج، ولذلك بعد ثلاثة أيامٍ أنت تموت وتأتي عندي في الفردوس السماوي". وهكذا صار لأنه حالاً قد أعترت الحمى هذا الشاب، الذي هو أخبر بالرؤيا. وفي اليوم الثالث رقد بالرب مملؤاً من السرور والتعزية.* الخبر 69:قد أخبر المؤرخ الجليل الملقب بالحسن العبادة في كتابه المسمى: سر كل نعمةٍ: عن القديس فينخانسوس فراري. أنه اذ كان يسأل أحد المرضى المدنفين على الموت، الذي كان قاطعاً رجاه من الخلاص هكذا: لماذا أنت تريد أن تهلك ذاتك، في الوقت الذي فيه يريد يسوع المسيح أن تخلص نفسك. فأجابه ذاك الشقي بأنه أهانةً وبغضةً في المسيح يريد أن يمضي الى الهلاك. فقال له القديس:" أنه قهراً عن رداوتك يلزمك أن تخلص". وهكذا أبتدأ القديس في تلاوة المسبحة الوردية، محتماً على الحضار بأن يصلوها معه، واذا بالمنازع قد تغير، وطلب أن يعترف بدموعٍ حارةٍ. كما تم بعد أن أعترف بخطاياه باكياً بمرارةٍ قد رقد بسلام.* الخبر 70:قد أخبر المؤرخ المذكور عن أمرأةٍ وجدت تحت ردم بيتها الذي سقط عليها من قبل الزلزلة. فأحد الكهنة أحضر فعلةً، وكشف الحجارة والردم الى أن وصلوا عند الأمرأة. فرأوها معانقةً أولادها. وهي وهم أحياء من دون ضررٍ. واذ سألوها أية عبادةٍ كانت هي معتادةً على ممارستها، فأجابتهم بأنها قط ما تركت يومياً لا تلاوة المسبحة الوردية، ولا زيارة هيكل العذراء.* الخبر 71:قد كتب هذا المؤرخ نفسه. أنه كانت إحدى النساء معاشرةً أحد الرجال عشرةً دنسةً لأفتكارها في أنها بدون ذلك ما كان يمكنها لفقرها أن تعيش. فوجد من قدم لها المشورة في أن تلتجئ الى والدة الإله، مواظبة على تلاوة ورديتها، فمارست ذلك بحسن عبادةٍ. واذا بهذه الأم الإلهية ظهرت لها في إحدى الليالي قائلةً: " أتركي الخطيئة. وأهتمي في أن تحصلي قوتكِ بتعبكِ وأتكلي عليَّ أنا أعينكِ". فالأمرأة نهضت صباحاً ومضت فأعترفت بخطاياها، وأبتعدت عن ذاك الرجل تائبةً ففازت من العذراء بمعوناتٍ عظيمة.* الخبر 72:وكذلك أخبر عن أحد الخطأة المنغمسين في الرذائل، أنه لم يكن يستطيع بسهولةٍ أن يترك ملكاته الدنسة. فهذا عندما أبتدأ أن يتلو يومياً المسبحة الوردية، فبنوعٍ عجيبٍ قد رجع الى الله بالتوبة وأصلح سيرته أصلاحاً كلياً.* الخبر 73:وأيضاً أخبر عن شخصٍ آخر كان أسيراً لألم المحبة الدنسة، مع أمرأةٍ شريكةٍ له في القباحة. فلأنه تمسك بتلاوة المسبحة الوردية، قد شعر في ذاته بكرهٍ كلي من الأثم. فأي نعم أنه سقط من جديد في الدنس ولكن لأجل مثابرته على تلاوة الوردية قد نجا من تلك العشرة الرديئة بالكلية مستسيراً سيرةً مسيحيةً.* الخبر 74:وكتب هو عينه عن أمرأةٍ ما قد دنت من ساعة موتها، وهي حاقدةٌ في قلبها على رجلها ببغضةٍ قتالة. فأحد الكهنة الصلحاء الذي كان يساعدها في تلك الساعة، اذ لم يعد يعلم بأية طريقةٍ يكتسبها لأن تصفح وتسامح وتصطلح مع رجلها قبل موتها، لأنها كانت ترفض ذلك، قد أنفرد يصلي من أجلها المسبحة الوردية. فحينما أنتهى الى البيت الأخير منها، واذا بالأمرأة تغيرت عما كانت عليه، وندمت على مآثمها معترفةً، وصفحت من كل قلبها لرجلها.* الخبر 75: ثمأن الكتاب المشار إليه يورد أخيراً. أنه اذ مارس هو رياضات الرسالة مرةً ما نحو الأشخاص المخصومين في مدينة نابولي تحت عقاب الشغل في مراكب المملكة. فقد وجد فيما بين هؤلاء أناسٌ الذين صروا على عنادهم في أن لا يقتبلوا سر التوبة، فضلاً عن غيره من الأسرار المقدسة، فهذا الأب قد علم هؤلاء بأنهم قلما يكون يرتضون بأن تتحرر أسماؤهم في شركة الوردية المقدسة، وأنهم يبدئون بتلاوة مسبحتها. فأقتبلوا المشورة وحرروا أسماءهم، وأخذوا يصلون الوردية جملةً، فما تمموا تلاوتها الا وشعروا كلهم بأرداةٍ فعالةٍ الأعتراف حالاً بخطاياهم، فطلبوا ذلك وتمموه بكل ندامةٍ وخشوعٍ، بعد أن كان لهم سنون كثيرة ما تقدموا فيها قط الى منبر التوبة. فهذه النموذجات التي حدث في زماننا كثرةٌ منها، يجب أن تحرك فينا حسن الرجاء في مفعول شفاعات والدة الإله المقتدرة، عند تأملنا في أنها هي في الزمن الحاضر لم تتغير عما كانت عليه قبلاً، وعلى الدوام في أسعاف من يلتجئ إليها.* الخبر 76:قد أخبر القديس غريغوريوس الكبير في الرأس9 من كتاب أدابياته الأول. عن أسقف مدينة فارانتوس البار، أنه قد كان كلي الأنعطاف والسخاء في إعطاء الصدقة منذ نعومة أظفاره، فأتفق له يوماً ما بعد أن صار أسقفاً، أنه جاء إليه كثيرون من الفقراء ليطلبوا صدقةً منه. فاذ لم يكن بعد باقياً عند شيءٌ يعطيهموه، قد دخل الى المخدع وأخذ علبةً كانت خاصة أحد الكهنة أبن أخيه، الذي كان باع فرسه بعشر قطع ذهباً، وحفظها في تلك العلبة، فهو كسر العلبة ووزع على أولئك الفقراء العشر القطع الذهب. الا أنه حينما جاء القس المومى إليه، وعرف ما صنعه عمه، قد أحتمى غيظاً من ذلك، وطلب المال بكل لجاجةٍ وصراخٍ. فالأسقف البار ما عاد يعلم كيف يرضيه، ومن أين يفيه ماله، فذهب الى الكنيسة أمام تمثال والدة الإله لتسعفه، واذ به ينظر على طرف ثوب التمثال المقدس عشر قطع ذهباً نظير تلك. فأخذها ودفعها بيد الكاهن مسروراً. الخبر77:أنه يوجد مدوناً في الرأس 6 من المجلد 2 من الحوادث السنوية عن أمرأةٍ آراتقية في مدينة أفغوسطا التي في جرمانيا، أنها كانت كلية الأصرار والعناد في مذهبها اللوتراني، فهذه اذ كانت يوماً ما في سنة 1656 مارةً من أمام إحدى كنائس الكاثوليكيين قد أنجذبت من روح البحث الباطل الى أن تدخل إليها، فعند أجتيازها الى الكنيسة ومشاهدتها هناك أيقونة والدة الإله حاملةً على ذراعيها طفلها الإلهي، قد شعرت هي باطناً بأنعطافٍ كلي الى أن تهب تلك الأيقونة أو بالحري للعذراء المجيدة هديةً ما. فرجعت الى بيتها، وأخذت ثوباً من الحرير، وجاءت به وقدمته لتلك الأيقونة المقدسة وأنصرفت. فعما وصلت الى منزلها قد أستنارت من نعمة الله التي أستمدتها لها العذراء الرحومة، وعرفت فساد معتقدها الآراتيكي التي كانت هي عنيدةً بالتمسك فيه. فخرجت حالاً وذهبت عند البعض من الكاثوليكيين وكشفت لهم إرادتها في رفض ضلالها ورجوعها الى الإيمان المستقيم، كما تم. حيث أنها نالت الحل من الأرتقية وتمسكت بالديانة الكاثوليكية المقدسة.* الخبر 78:قد جاء في الأخبار أنه كان في مدينة جازانا رجلان من الخطأة متحدان أحدهما مع الآخر بصداقةٍ كلية. فالواحد منهما الذي كان يسمى برتولوماوس. ففيما بين راذئله وفي حاله الأثيمة لم يكن أهمل العبادة التي كانت فيه نحو والدة الإله، بل أستمر يتلو يومياً تكريماً لأحززانها التسبحة المبدوة:" وكانت واقفةً عند صليب يسوع أمه". فيوما ما حينما كان برتولوماوس يتلو هذه التسبحة، قد حصل على رؤيا، وهي أنه شاهد ذاته كائناً في بحيرةٍ من نارٍ جميلةً مع صديقه الأثيم، ثم نظر واذا بالبتول الكلية القداسة قد حضرت إليه متشفقةً عليه، ومدت يدها فأنتشلته من تلك البحيرة خارجاً، وأرشدته الى أن يطلب الغفران من يسوع المسيح أبنها، الذي أظهر أرادته في أنه غفر له أكراماً لتوسلات والدته من أجله. فلما غابت الرؤيا عن برتولوماوس ورجع الى ذاته. ففي الحال ورد إليه خبرٌ بأن صديقه قد مات مقتولاً بالرصاص من أحد أعدائه، فحينئذٍ هو عرف حقيقة الرؤيا، ولذلك أهمل هو العالم، ودخل في رهبنة الكبوجيين، حيث أصرف باقي زمن حياته بعيشةٍ كلية الصرامة بالتقشفات والأماتات وأفعال التوبة، وأخيراً مات في رائحة القداسة.* الخبر 79:أنه يوجد محرراً في سيرة حياة الطوباوي أيرونيموس مؤسس جمعية الآباء السوماسكيين، انه حينما كان هو يعد في الوظائف المدنية والياً في إحدى ألأمكنة، قد وثبت عليه الأعداء وأخذوه فطرحوه مقيداً في مغارةٍ ضمن أحد الأبراج. فحينئذٍ هو ألتجأ الى والدة الإله في أن تعينه في حال ضيقته هذه القصوى، ونذر بأن يمضي فيزور كنيستها التي في ترافيجي. واذا بالعذراء السريعة الإجابة قد ظهرت له متلألئةً بأنوارٍ سماوية لا يمكن التحدق بها، فدنت منه وفكت له قيوده، ودفعت بيده مفتاح الحبس. فقام وخرج من المغارة ومن البرج سائراً نحو ترافيجي لتكميل نذره. الا أنه بعد أن أجتاز مسافةً قليلةً من الطريق، قد سقط من جديد فيما بين الأعداء ولهذا أستغاث بالسيدة منقذته. فظهرت له ثانيةً، وأخذته بيده وأجتازت به في وسط الأعداء وأوصلته الى حد أبواب مدينة ترافيجي، ثم غابت عنه. فدخل المدينة، وزار كنيسة والدة الإله، وترك أمام هيكلها القيود الحديد التي فكتها هي له. ومنذ ذلك اليوم الى نهاية حياته أستسار سيرةً مملؤة من القداسة والفضائل السامية، التي لأجلها أستحق بعد نياحه منذ أزمنةٍ قليلة أن يدون أسمه قانونياً من الكنيسة المقدسة في عداد الطوباويين.* الخبر 80:أن الأب سينيسكوس في الرأس 9 من كتابه يخبر عن أحد الكهنة الكلي التعبد للعذراء المتألمة المثلثة القداسة، بأنه كان يمضي متواثراً الى إحدى الكنائس منفرداً ليتأمل في آلام هذه السيدة متوجعاً لها. وكان من عادته أن يدنو من تمثال هذه الأم الإلهية المجسم الموجود في تلك الكنيسة، ويمسح بمنديلٍ كأنه معزٍ لها وجهها ودموعها. فقد حصل فيما بعد هذا الكاهن في مرضٍ عضال قد يئست الأطباء من شفائه. ولكنه عندما دنا هو من أبواب المنون، وناهز أن تفارق نفسه جسده، قد شاهد واذا حضرت بإزائه سيدةٌ كلية الجمال، فأقتربت منه، وطفقت تعزيه بألفاظٍ جزيلة العذوبة وتمسح عرق موته عنه بمنديلٍ كان بيدها. وبذلك قد شفي هو حالاً من مرضه. فعندما رأى هو ذاته قد برأ هكذا، هتف نحوها قائلاً: لكن من هي أنتِ أيتها السيدة التي تصنعين معي رأفةً، بهذا المقدار عظيمةً: فأجابته هي " أني أنا تلك التي أنت مراتٍ كثيرةً قد مسحت عن عيني الدموع بمنديلك". واذ قالت هذا غابت عنه وهو نهض من فراشه صحيحاً معافى.* الخبر 81:قد كتب الأب تهاوسك في الرأس 26 من كتابه 1 عن إحدى النساء الشريفات التي كان لها أبنٌ وحيدٌ. فهذه يوماً ما قد أخبرت بأن أبنها وجد مقتولاً مطروحاً في الأرض. الا أن القاتل قد كان بطريق العرض من دون معرفةٍ، هرب الى دار تلك السيدة محتمياً تحت كنفها. فهي حينئذٍ اذ أخذت تتأمل في أن مريم البتول قد غفرت لصالبي أبنها يسوع، فأرادت هي أيضاً حباً بهذه العذراء المحزونة وتكريماً لها أن تغفر لقاتل أبنها. ومن ثم ليس فقط صفحت له عن ذنبه، بل أيضاً قد أمرت بأن يعطى أثواباً لملبوسه، ومالاً لمصروف طريقه، وفرساً لمركوبه، ليمكنه أن يفر هارباً من أيدي خدام الشريعة ويفوز بالنجاة. فبعد ذلك ظهر أبن هذه الأمرأة لها في الرؤيا، وأخبرها بأن والدة الإله قد خلصته من عذابات المطهر التي كان يلزمه أن يتكبدها أزمنةً مديدةً، وذلك مكافأةً عن فعلها الفاضل الذي به تصرفت هي بسخاءٍ مع قاتله. وأنه هو منطلق الى السعادة الأبدية ليتمتع بها سرمداً.* الخبر 82:أنه يوجد مسطراً في الرأس 13 من الكتاب 4 من تاريخ رهبنة عبيد مريم، عن حادث شبيه بالمتقدم إيراده، قد تم مع الطوباوية بيوندا. وهو أن هذه البارة كان لها أبنٌ وحيدٌ، فأعداء رجلها المتوفي بغضةً بوالده قد قتلوه، وأخرجوا قلبه من جوفه. وبأفتراءٍ بربري صيروا أمه المسكينة أن تأكله من دون أن تعرف الأمر الا فيما بعد. فهذه الأم عند معرفتها ذلك جميعه أرادت أن تقتدي بصبر والدة الإله المحزونة على موت أبنها، نظيرها أن تغفر لهؤلاء القتلة. وأن تحسن إليهم أيضاً بمقدار أستطاعتها، فهذا الفعل قد أرضى قلب والدة الإله التي أستمدت لهذه الأمرأة الأرملة النعمة. في أنها تركت العالم ودخلت في قانون الرهبنة الثالثة المختصة بجمعية عبيد مريم، وأجتازت أزمنة حياتها بقداسةٍ وبفضائل عظيمة. حتى أنها أستحقت أن تصنع عجائب كثيرةً في مدة حياتها وحين موتها أيضاً الكريم لدى الرب.* الخبر 83:قد أخبر الأب بوفيوس في الحادث 39 من المجلد 4 من تأليفه عن القديس توما كانطواريانزه، أنه اذ كان في زمن صبوته موجوداً مرةً ما فيما بين جمعية شبان علمانيين، الذين ربما كلٌ منهم كان يفتخر في جنون محبته لبعض البنات أو النساء. فهذا الشاب البار قال لهم واضحاً أنه هو أيضاً مغرماً بمحبة سيدةٍ شريفةٍ فائقةٍ في الجمال، وعظيمة الشأن، وأنها هي أيضاً تحبه كثيراً، وأعنى هو بذلك عن والدة الإله. غير أنه بعد قوله هذا قد قلق ضميره كيلا يكون أخطأ بروح المجد الباطل، ففيما هو مغمومٌ جداً من هذا القبيل، قد ظهرت له هذه السيدة المجيدة وقالت له بعذوبةٍ هكذا:" من أي شيء أنت تخاف يا توما، فأنت بالصدق والصواب قد قلت أنك تحبني جداً وأني أنا أحبك، فأعلن هذا لأصحابك الشبان وأكده لهم. وعلامةً لحبي الوافر إياك خذ لهم هذه الهدية التي الآن أنا أهبك إياها لينظروها ويتحققوا صدق قولك لهم". قالت هذا ودفعت بيديه علبةً حاويةً بدلة كهنوتية بلون الدم، اشارةً الى أن هذه الأم الإلهية قد أستمدت لتوما من أبنها النعمة في أن يصير هو كاهناً ثم شهيداً، كما تم بالحقيقة. لأن هذا الشاب البار قد أختير فيما بعد وأرتسم كاهناً، ثم أسقفاً لمدينة كونطوربيا في بلاد أنكلتيرا.ظ حيث أنه بعد ذلك أضطهد من السلطان وهرب الى بلاد فرنسا في دير بونتينياكوس خاصة الرهبان الجيستارجيازيين. فهناك اذ أتفق له أن القميص الخيش الذي كان هو يلبسه على لحمانه قد تخزق، وأخذ هو يصلحه في قلايته بقلة معرفته في الخيطان. فظهرت له ملكته المحبوبة منه مريم البتول، وأخذت من يده القميص بعذوبةٍ، وأصلحته له بخياطتةٍ شريفةٍ. ثم اذ رجع فيما بعد الى أبرشيته كونطوربيا فهناك مات شهيداً، لأنه قتل من أعدائه بغضةً في غيرته على حقوق كنيسته.* الخبر 84: قد جاء في الأخبار عما حدث من أحد زعيم اللصوص الذي كان في بلاد أيطاليا تحت الحكم الباباوي. بأن إحدى البنات المتعبدات لمريم العذراء، اذ أنها يوماً ما كانت في الطريق خارج المدينة وحدها. قد وقعت في يد زعيمهم المومى إليه، فلخوفها على عفتها، قد توسلت إليه وأستحلفته حباً بوالدة الإله الكلية القداسة الا يفتري عليها بشيءٍ ضد الطهارة، أما هو فأجابها بقوله: لا تخافي لأنكِ اذ قد تضرعتِ إليَّ بأسم تلك التي هي أم الله، فلا أريد منكِ شيئاً آخر سوى أن تصلي لديها من أجلي: وقد رافقها الى أن وصلت حيث لم يعد عليها خطرٌ من أحد اللصوص الآخرين. ففي الليلة التابعة قد ظهرت العذراء المجيدة لهذا اللص في الحلم، وشكرته على فعله الجيد، ووعدته بأن تفتكر به، وأنها في وقتٍ ما كانت عتيدةً هي أن تكافئه عن جميله. ففيما بعد وقع هذا اللص في أيدي جنود الشريعة، وأُخذ مقيداً وحُكم عليه بالموت، ففي الليلة السابقة على وضع الحكومة بالعمل. قد ظهرت من جديد الأم الإلهية لهذا المخصوم، وسألته أن كان هو يعرفها، فأجابها بقوله: أنه يبان لي أني رأيتكِ مرةً ما: فقالت له: "أنا هي مريم العذراء وقد أتيت لكي أكافئك عما صنعته لأجلي سابقاً، فأنت نهار غداً تموت، ولكن يتم موتك بندامةٍ وتوجعٍ هذا حدهما، حتى أنهما يجعلانك أن تأتي الى الملكوت السماوي حالاً". فالرجل قد أنتبه من النوم وكان يشعر بندامةٍ وتأسفٍ كليين على خطاياه، بنوع أنه بدأ يبكي بمرارةٍ ودموعٍ سخينة، وشكر والدة الإله بأعلى صوته، وحالاً طلب معلم الأعتراف، وأقر لديه بمآثمه كلها بتياراتٍ من الدموع، وأخبره بالرؤيا التي شاهدها. وتوسل إليه بأن يشهر على الجميع هذه النعمة التي صنعتها معه مريم البتول. ثم ذهب الى مكان القتل بفرح عظيم. وبعد قتله يقال أن وجهه كان يظهر نظير أوجه الطوباويين. بنوع أن الجميع أعتقدوا في أنه كملت معه المواعيد التي نالها من والدة الإله.* الخبر 85:أنه يورد في سيرة حياة الطوباوي يواكيم بيكولوميني الكلي العبادة نحو والدة الإله. أنه منذ حداثته كان يزور ثلاث مراتٍ في كل يومٍ أيقونتها المقدسة ذات أحزانها السبعة في إحدى الكنائس. وفي كل يوم سبتٍ ساعة نصف الليل كان ينهض ويصنع الصلاة العقلية متأملاً في أحزانها. فلننظر كيف أن هذه الأم الإلهية قد كافأته عن عباداته المومى إليها: فأولاً:أنها ظهرت له في زمن صبوته، وقالت له أن يترك العالم ويدخل في جمعية الرهبان عبيد مريم كما فعل. ثانياً:في سني حياته الأخيرة قد ظهرت له من جديد حاملةً في يدها أكليلين، أحدهما من روبين الحجر الكريم مكافأةً لتأملاته في أحزانها وآلامها. والثاني: من لؤلؤ مكافأةً لنقاوته وعذريته المكرسة منه في تكريمها. ثالثاً:قد ظهرت له أخيراً حين نياحه. وهذا الطوباوي حينئذٍ ألتمس منها النعمة في أن يموت هو في اليوم الذي مات مخلصنا يسوع المسيح. فالبتول الكلية القداسة قد عزته بقولها له:" أستعد وتهيأ لأنك نهار غداً الذي هو يوم الجمعة تموت حالاً. كما أنت ترغب، وهكذا غداةً تكون معي في الفردوس". وهذا جميعه قد تم. لأنه في اليوم التالي الذي كان نهار الجمعة العظيم، حينما كان يرتل في الكنيسة أنجيل الآلام من بشارة القديس يوحنا، فعندما وصل المرتل الى هذه الكلمات وهي: وكانت واقفةً عند صليب يسوع أمه: ألخ قد حصل الطوباوي في آخر نفس. وحينما قال المرتل عن يسوع أنه أحنى هامته وأسلم الروح. فالطوباوي لوى عنقه وأسلم الروح، وفي الوقت عينه قد تلألأت الكنيسة من أشراق ضياءٍ عظيم، وعبق فيها نشر رائحة كلية الزكاوة.* الخبر 86:أنه يذكر عن الأب ألفونسوس سالمارونه اليسوعي، في كتاب سيرة حياته. أنه اذ كان هو كلي التعبد لوالدة الإله فلما دنا من ساعة موته هتف صارخاً: الى الملكوت الى الملكوت، فلتكن مباركةً الساعة التي فيها خدمت أنا مريم البتول، ومباركةً هي المواعظ، والأتعاب، والأفكار التي مارستها أنا من أجلكِ يا سيدتي، فالى الملكوت الى الملكوت: وهكذا أسلم روحه البارة.* الخبر 87: أنه يوجد مدوناً من فرنسيس لالي كاتب سيرة حياة القديس روموالدوس مؤسس الرهبنة الكامالدولازية، أن الأمير فارنولفوس قد أحضر يوماً ما أبنه غويدوس الى هذا القديس، طالباً منه أن يقبله فيما بين رهبانه تحت قانونه، لأن هذا الشاب كانت أشواقه كلها متجهةً نحو ذاك. فالقديس أقتبله بحسن الرضا. ورتبه في الدير، ومن حيث أن الفتى غويدوس كان متعبداً لوالدة الإله. فيوماً ما ظهرت له هذه السيدة حاملةً على ذراعيها طفلها الإلهي، فالشاب لأعتداد ذاته أنه غير مستحقٍ أصلاً لهذه الرؤيا، قد حصل خائفاً جداً، اما البتول المجيدة، فقد دنت منه قائلةً له: " لماذا ترتاب، ومن أي شيءٍ تخاف يا غويدوس، فأنا هي أم الله، وهذا هو أبني الحبيب يسوع الذي يريد أن يأتي إليك". واذ قالت هذا قد دفعت طفلها بين ذراعي غويدوس. ثم في أواخر السنة الثالثة من دخول هذا الشاب في الرهبنة المذكورة، قد دنت منه ساعة موته، فالقديس روموالدوس الذي كان حاضراً عنده، قد شاهده يرتجف بكليته خائفاً وقائلاً: يا أبتي أما تنظر كم يوجد في هذه القلاية من السود، البشعي الصور: فقال له القديس: أفتكر يا أبني لعلك تكون أهملت أن تورد في أعترافك قضيةً ما: فأجابه الشاب: أي نعم يا أبي أنا الآن أفتكر بأني ما أكملت الطاعة الى رئيس الدير حينما أمرني بجمع الوسخ المكنوس، وبرفعه من الأرض. فأنا الآن أعترف بهذا تائباً ونادماً: فحينئذٍ القديس حله من هذه الزلة، وفي الحال حصل الفتى على تغيير عظيم، اذ أن الشياطين هربوا، وظهرت والدة الإله مع يسوع المسيح. وهكذا غويدوس مملؤاً من الفرح والتعزية فارق هذه الحياة.* الخبر 88:قد سطر في المينولوجيون فيما بين قديسي شهر آب المختصين بالرهبنة الكامالدولازية، عن راهبةٍ من تابعات هذا القانون أسمها مريم، كانت في مدينة طولادوس. أنها في ساعة موتها حصلت على مشاهدة والدة الإله بالقرب من سريرها. وحينئذٍ هي خاطبت هذه الأم الإلهية قائلةً: ان النعمة التي فزت أنا بها منكِ أيتها السيدة، وهي زيارتكِ إياي تعطيني الجسارة على أن ألتمس منكِ نعمةً أخرى، وهي أني أموت في مثل الساعة عينها التي أنتِ فيها رقدتِ وأنتقلتِ الى السماء. فأجابتها البتول الكلية القداسة: أي نعم. وانا أريد أن أتنازل معكِ وأهبكِ طلبتكِ، فأنتِ مزمعةٌ أن تموتي في الساعة عينها التي مثلها أنا مت، وتسمعي نغمات التراتيل ذاتها التي بها كان الطوباويون يعظمون دخولي الى السماء، فأستعدي اذاً مهيأةً: قالت هذا وغابت عنها. فالراهبات الكائنات عند مريم المذكورة اذ سمعنها تتكلم في ذاتها ظنينها ساهيةً خارجةً عن الوعي. الا أنها قد أخبرتهن بالرؤيا، وبالنعمة التي نالت هي الوعد بها. فاذا لبثت هذه البارة منتظرةً تلك الساعة المرغوبة منها. فلما بلغت (ولئن لم يكن الكاتب يعين أية ساعةٍ كانت) فحالما هي سمعت ناقوس الساعة يقرع قالت: هواذا الساعة السابق الإيعاز عنها حسبما قيل لي، وهوذا أني أسمع نغمات تراتيل الملائكة. ففي مثل هذه الساعة صعدت ملكتي الى السماء، وأنا الآن منطلقةٌ لأشاهدها، فالبثن أنتن يا أخواتي بسلام: وحين تلفظت بهذه الكلمات سلمت نفسها مائتةً. وفي الحال ظهرت عيناها نظير مصباحين تنبعثان أنواراً عظيمةً، ووجهها كان يلمع بلونٍ بهي.* الخبر 89:قد كتب سوريوس المؤرخ تحت اليوم الثاني والعشرين من شهر نيسان، بأنه قد كانت في مدينة سانس من بلاد فرنسا عائشةً نحو الجيل الثامن القديسة أوبورتونا الأبنة المولودة من دمٍ ملوكي. فهذه البتول البارة قد ترهبت في ديرٍ قريب من المدينة المذكورة وكانت هي كلية التعبد لوالدة الإله، فلما جاءت ساعة موتها، قد ظهرت لها القديستان كيليكيا ولوكيا، فقالت هي لهما: فليكن قدومكما خيراً يا أختي. فأخبراني ما الذي أرسلت تقوله لي بواسطتكما ملكتي العظيمة: فأجابتها القديستان قائلين: أنها هي تنتظركِ في السماء لتمضي إليها. فبعد ذلك قد ظهر لها الشيطان، الا أن القديسة المتشجعة قد طردته من أمامها قائلةً: أيها الوحش الشنيع ماذا لك عندي، وما هو عملك نحوي أنا التي هي عبدة ليسوع: واذ بلغت أخيراً الساعة التي هي نفسها كانت أخبرت عن موتها فيها، قد تناولت القربان الأقدس زوادةً أخيرةً، وألتفتت نحو باب قلايتها قائلةً: هوذا والدة الإله هي آتيةٌ لتأخذني معها. فأنا أتوسل لديها في شأنكن يا أخوتي، وأستودعكن كافةً الله، لأني ما عدت بعد أشاهدكن في هذا العالم. ولما قالت هذا رفعت ذراعيها لتعانق سيدتها المجيدة، وحالاً أسلمت الروح بفرحٍ وسلام.* الخبر 90: والأخير أننا أوردنا في آخر كتابنا الملقب: بطريق الخلاص: عن الأب بولس كافارو (الذي كتبنا هناك مختصر سيرة حياته) أنه كان منذ حداثته منشغف القلب نحو والدة الإله، بنوع أن السامعين مواعظه المشتهرة، والمعترفين عنده في منبر الذمة كانوا من كيفية تكلمه عن هذه الأم الإلهي، يفهمون جيداً شدة غرامه في محبتها. فحينما حصل هو في مرضه الأخير سنة 1753 قد وجدت بهجته وتعزيته الوافرتان في نظره المتكررة وتفرسه التقوي في أيقونة هذه السيدة المجيدة الموضوعة بقرب سريره ولعظم ثقته في مراحمها، وشدة أشواقه الى مشاهدتها في السماء قبل يوم عيد نياحها. قال للحضار عنده في أول شهر آب هكذا: أن كنت أنا لا أموت قبل اليوم 15 من هذا الشهر فلن أموت أبداً: فرجاؤه بهذه السيدة المحبوبة منه في الغاية قد تم فعلاً، لأنه في 13 من الشهر المذكور رقد بسلامٍ رقود الأبرار الكريم لدى الرب.* † الدائمة بكارتها الكلية القداسة. الذي كان النجاز من طبعه في شهر نيسان سنة 1828* ونحن قد أضفنا إليه مختصر سيرة حياة مؤلفه الطوباوي *الآتي إيرادها.* |
||||
15 - 08 - 2022, 11:00 AM | رقم المشاركة : ( 6 ) | ||||
† Admin Woman †
|
† ملحق من المستخرج † في سيرة حياة الطوباوي ألفونسوس ليكوري المؤلف هذا الكتاب فهذا البار قد ولد في 27 أيلول سنة 1696 بكراً من أبيه البطريق يوسف ليكوري السامي شرفه فيما بين عظماء مدينة نابولي. ومن أمه حنه كافاليري إحدى شريفات مدينة برينديسي. ومن حيث أن القديسين يعرف بعضهم بعضاً. فالطوباوي فرنسيس ده أيرونيموس اليسوعي اذ جاء الى بيت هذا البطريق. وقدم إليه ألفونسوس الرضيع ليباركه، فهو تفرس فيه وتنبأ عنه بأنه كان عتيداً أن يصير أسقفاً، ويصنع أشياء عظيمةً مقدسةً في بيعة الله، وأنه يعيش لحد السنة التسعين من عمره. كما تحققت هذه النبؤة فيما بعد بالتمام. على أن ألفونسوس أظهر منذ طفوليته وحداثته تعلق قلبٍ كلي بعشق الفضائل. مجاوباً على حسن عناية أقربائه به. خاصةً والدته التي أقامت لأرشاده وتعليمه نسيبها الكاهن الجليل توما باغانوس أحد كهنة جمعية المصلى. فكان ألفونسوس منعكفاً على ممارسة العبادات، باغضاً الخطيئة العرضية فضلاً عن المميتة بغضاً كلياً، مثابراً على أقتبال الأسرار المقدسة أكثر من مرةٍ واحدةٍ في كل سبتٍ. متجنباً في أحاديثه كل ما لم يكن مختصاً بالله وبالفضيلة. محباً للصمت والأنفراد ليتحد مع الله بالروح أشد أتحاداً، صائراً نموذجاً مقدساً لأخوته الأصغر منه، ولخدام العيلة، ولسائر الشبان قرناء جنسه بأنذهال كل من كان يشاهده. مصرفاً الزمن الباقي له خارجاً عن أوقات درس العلوم (عند المعلمين المرتبين له من والده في داره عينها) في الصلوات وزيارة الكنائس، لا سيما المكرسة على أسم والدة الإله الكلية القداسة.* وأما كم كانت جودة عقله عظيمةً، وحذاقة فهمه فريدةً، ونجاحه في العلوم البشرية والشرائع المدنية والفصاحة وعروض الشعر والموسيقى كلياً. فهذا يعرف من برهان حصوله في اسنة السادسة عشرة من عمره. بفحص جمعية علماء مدنية نابولي وحكمهم، على خلعة ختام الدرس بنوعٍ أذهل الجميع. وبعد سنتين أخرتين أكتتب هو في جمعية العلماء المذكورة. التي اذ كان من عادة أفرادها، فيما بين الرياضات الروحية الأخرى، أن يخدموا المرضى. فهو في أتقان هذه الفضيلة أيضاً قد فاق على الجميع. ومع أنه نظراً الى طبعه قد كان حاراً مائلاً الى سرعة الغضب، فمع ذلك قط لم يسلم ذاته لأنفعال هذا الألم. كما أن عيشته في حال كبر مقام أهله بين عظماء الدهر، لم تصده عن التقدم يوماً فيوماً في كمال الفضائل السامية. حتى أن العبد الذي وضعه له أبوه خادماً خصوصياً، وكان هو أمَمِياً، فلأنذهاله من سيرة سيده هذا الشاب المقدسة قد آمن بالمسيح، وأصطبغ وعاش بطهارةٍ، ومات بصلاحٍ.* فلما بلغ ألفونسوس الى السنة 26 من عمره، قد أعتمد الأعتماد الأخير، بعد الأمتحانات وأخذ رأي مرشده الروحي، على أعتناق الدعوة الأكليريكية، من دون أن تقدر على تغيير عزمه ممانعات والده الكلية. ومن ثم تنازل هو تنازلاً مدنياً شرعياً عن حق بكوريته (المرتبط معها ميراث كل غنى والديه الواسع) وفك خطبته مع عروسته الأميرة براسيكيو. ورفض آمال الوظائف الشريفة الملوكية المهيأة له. وتردى بالأثواب الكنائسية، وأرتسم بالدرجات لحد الدياكونسية من الكردينال بينياتالي رئيس أساقفة نابولي. وحينئذٍ شرع في درس علم اللاهوت، والكتاب المقدس، وتأليفات الآباء القديسين اليونانيين واللاتينيين. مهتماً بنوعٍ خاص في البحث عن الطرائق التي بها كان يمكنه أن يجتذب الخطأة الى التوبة، ولذلك شرع يمارس الوعظ في الكنيسة. الأمر الذي اذ كانت مرافقته نموذجات فضائله السامية. فالأثمار الروحية التي حصل عليها شعب هذه المدينة المتقاطر لأستماعه كانت عظيمةً جداً. ولذلك الكردينال المذكور اذ رسمه كاهناً سنة 1726 وهي الثلاثون من عمره. قد أقامه بوظيفة مرشدٍ عام لعمل الرياضات الروحية للأكليروس. الذين بالأمتحان قد أختبروا فيه بأنذهاشٍ، سمو العلم، وحرارة الغيرة، وعظم الفطنة، مع سائر صفات المرشدين الفريدة المقترنة مع سيرةٍ ملائكية، وعنايةٍ عادمة الملل. الا أن أتعابه هذه الشديدة التي صدرت عنها فوائد فائقة الوصف للأكليروس والشعب، بأرتداد الخطأة الى طريق الرب، وبتمسك الكثيرين بالسيرة الروحية الفاضلة، حتى أن عددا ليس بقليل من البنات قد فسخن عهود الخطبات مع عرسانهن، ودخلن في أديرة الراهبات مكرساتٍ بتوليتهن لله، قد أوصلته الى أن ينطرح مريضاً بخطرٍ مبين على فقد حياته.* فلما برأ ألفونسوس من المرض، ومارس صحبة البعض من رفاقه آباء جمعية الرسالة الرسولية الرياضات الروحية لسكان مدينة سكالا، أجابةً لتوسلات راعيهم. فهناك أتضحت لديه أرادة الله، بواسطة إحدى راهبات دير المخلص الكائن في المدينة المذكورة، الشائعة الذكر وقتئذٍ بالقداسة، في أنه يؤسس جمعيةً قانونيةً، تكون غايتها الأخص العناية في تعليم واجبات الإيمان والديانة والسيرة المسيحية للفلاحين القاطنين في القرى والمزارع. الأمر الذي في الأول لم يقبله ألفونسوس لعمق تواضعه، ولأعترافه بذاته غير كفوءٍ له، الا أنه أخيراً أعتمد عليه تبعاً لمشورة الأبوين الجليلين توما باغانوس ولودوفيكوس فيوريلو، وثقةً بمساعدة السيدين أسقفي كاستالاماره وسكالا. وهكذا أسس هو الجمعية المذكورة ملقباً إياها: بجمعية الفادي الكلي القداسة. التي بمقدار ما لحظ العدو الجهنمي عظم الخير العتيد أن يحصل للأنفس من قبلها، فبأكثر من ذلك حرك ضد البار مؤسسها الأضطهادات والممانعات، حتى من أبيه البطريق عينه، ومن الكردينال بينياتالي نفسه. ولكن الطوباوي قد أنتصر بعناية الله على كل الموانع، والجميع أقتنعوا أخيراً ورجعوا عن مقاومته. ثم أبتدأ بهذا العمل المقدس سنة 1732 وهي 36 من عمره، وبعد أن حصل على كهنةٍ كثيرين علماء أفاضل غيورين قد دخلوا في هذه الجمعية. وصدرت عنها فوائد كلية، فالبابا بناديكتوس 14 قد أثبتها بسلطانه الرسولي في 25 شباط سنة 1749 بمديحٍ عظيم لمؤسسها. ومن ثم في أزمنةٍ غير مستطيلةٍ قد أمتدت بأديرةٍ وأناطيش في بلادٍ كثيرةٍ من ممالك نابولي وسيسيليا وإيطاليا وجرمانيا.* فقد كان هذا البار يطوف مع الآباء رفاقه لعمل الرسالة، تبعاً لتوسلات رؤساء الأماكن إليه من كل ناحيةٍ، مستخدماً لمركوبه في أسفاره جحش حقير. وكانت الشعوب تزدحم لأستماع مواعظه بالبكاء والنحيب مستوعبين خشوعاً من خطبه وأرشاداته وتعاليمه وقداسة سيرته المرافقة مراتٍ كثيرةً من جرائح فائقة الطبيعة. وكان بعد أتعابه وأعرقه الغزيرة في الوعظ ينحدر من المنبر الى كرسي الأعتراف، مقتبلاً بكل بشاشةٍ جميع المتقاطرين ليعترفوا عنده بخطاياهم، وقط لم يكن يظهر تقنطاً من هؤلاء ولو أتوه في ساعة أغتدائه أو رقاده. وأما الأوقات الباقية لذاته خارجاً عن خدمة الرسالة، فكان يصرفها في تأليف الكتب، وفي رد الأجوبة على الرسائل العديدة التي كانت تأتيه من كل جهةٍ، في طلب المشورات وحل المشاكل، ليس من العلمانيين والكهنة فقط، بل من الأساقفة أيضاً، غير مسرفٍ من الزمن برهةً ما أصلاً، لأنه كان أبرز نذراً خصوصياً في أن لا يدع ذاته عاطلاً من العمل المختص بمجد الله وخير القريب ولا حصةً ما من الزمان. بل أنه لكي يصير آباء جمعيته بعيدين عن أدنى أملٍ بالمكافأة في هذا العالم، بالتقدم في المراتب والوظائف الكنائسية، ما عدا نذوراتهم البسيطة بالفقر والطاعة والعفة والكرازة، مع قسمٍ بالثبات في الجمعية حتى الموت. قد كان أضاف الى ذلك سنة 1742 هذا النذر أيضاً، وهو أنهم لا يقبلون درجةً، أم وظيفةً، أو مرتبةً ما خارجاً عن تلك المختصة بالجمعية عينها بعيشةٍ مشاعة.* ثم أن كثرة أهتماماته وأتعابه لم تكن تميل عزمه عن أن يصرف ساعاتٍ بجملتها يومياً في الصلوات العقلية، وقد تبجن في مخيلته أستحضار الله أمامه بهذا المقدار، حتى أنه أحتراماً للحضرة الإلهية المسجود لها كان يمارس السجود له تعالى حين مشيه أيضاً، سائراً في الطرقات برأسٍ مكشوف، أو على الكثير مغطى بمنديلٍ في شدة البرد وهطل الأمطار، وبالأجمال يمكن القول عنه أنه عاش دائماً مصلياً ومتحداً بالله بعواطف الحب الشديد، حتى في أوقات أشغاله وخدمته الرسولية عينها. كما كان يظهر من رفعه عينيه بتكاثر الى السماء، ومن تنهداته المقترنة بشهائب نار الحب الإلهي. ومن مخاطباته عن الله بحرارةٍ تؤثر في قلوب سامعيه مهما كانت باردةً. ولم يكن يسمح لذاته بالنوم سوى بخمس ساعاتٍ فقط من الأربعة والعشرين ساعةً، برقاده فوق كيسٍ معبأ تبناً مرصوصاً كالصخرة، مخبأة فيه بعض حجارة، وقط لم يكن يصطلي على النار في شدة البرد، بل لكي يقوم أصابع يديه المجلدة بعض الأحيان من الزمهرير ليقدر أن يكتب، فكان يدفئها بحديد محمى في النار. وأما أكله الأعتيادي فكان الخبز مع مرقةٍ مسلوقة بها حشائش مرة بهذا المقدار، حتى أن الذي كان يفضل عنه منها لم تكن تأكله لا الفقراء بل ولا الكلاب. من شدة المرارة. ثم كان يضيف الى ذلك بعض الأثمار من الفواكهة. ممتنعاً عن أكل اللحوم والأسماك. وفي أيام السبوت كان يصوم على الخبز والماء بأكلةٍ واحدةٍ فقط. وكان يشد كتفيه على اللحم بخيشٍ، وذراعيه بسلاسل رفيعةٍ، وحقويه بزنار حديد ذي أشواكٍ حادة. هذه ما عدا آلاتٍ أخرى مستعملة منه لتعذيب جسده. ومن جملة ذلك كان يجلد ذاته يومياً لحد أهراقه الدم (مداوماً على هذه الرياضة الى أن منع عنها بحتمٍ في زمن شيخوخته) واذا أتفق بعض الأحيان أن ملابسه البيضاء تنصبغ بدمه المهرق من قبل الجلد فكان يدهن أمكنة الدم بكلسٍ مطفى لكيلا تشاهد من الغير، بل أنه مرةً ما قد جلد ذاته بقساوةٍ كلية لينجو من تجربة المجد الباطل المسببة له من مجيء الكردينال أورسيني إليه ليزوره، حتى أن أحد أعصاب فخده قد خمع بنوع أنه أستمر هو مدةً طويلةً يعرج في مشيه.* فكارلوس الثالث سلطان نابولي قد أجتهد في أن يقيم هذا الطوباوي رئيس أساقفةٍ لمدينة سالارنو، الا أنه لتواضعه رفض ذلك، وعرف أن يجد حججاً يعفي بها ذاته. غير أن الأمر لم يجر معه هذا المجرى حينما البابا أكليمنضوس 13 قد انتخبه أسقفاً لمدينة القديس أغاثي ده كوتي. اذ أن هذا الحبر الأعظم ليس فقط لم يقبل توسلاته بطلب الأعفاء، ولم يصغ الى تضرعات آباء جمعيته (لا سيما حينما البار قد أنطرح مريضاً من شدة القلق الذي أستحوذ عليه من هذا الأنتخاب) بل أنه قد حتم عليه بأمر الطاعة المقدسة بقبوله، ومن ثم ألتزم هو بان يرتسم أسقفاً على المدينة المذكورة 1762 ولكن آباء جمعيته بتفسيحٍ باباوي قد أستمروا تحت طاعته رئيساً عاماً عليهم نظير السابق، مدبراً إياهم بواسطة نائبٍ خصوصي عنه. واما كم كان عظيماً الأعتبار الذي حصل عليه هو من السدة الرسولية حينما ذهب الى روميه ليرتسم أسقفاً، فكيفي لمفهوميته أن البابا المذكور ( الذي كان يختلي معه ساعاتٍ بجملتها، ويستشيره عن قضايا باهظة) قال في أحد الأيام للسيد ماستريلي مطران الناصرة هذه الكلمات وهي: أننا بعد وفاة السيد ألفونسوس ليكوري سنحصل على قديسٍ آخر فيما بين قديسي كنيسة يسوع المسيح.* ثم انطلق هذا المغبوط بعد أرتسامه الى أبرشيته التي أقتبلته سكانها بفرحٍ عظيمٍ واحترامٍ وسيمٍ لا يمكن وصفهما. وقد حصلت هذه الأبرشية في زمن سياسته إياها على أثمارٍ روحية كلية، وتغييراتٍ عجيبة في الأكليروس والشعب، من قبل مواعظه وتدابيره وأرشاداته، ونموذجات فضائله السامية. واماتاته الشاقة. خاصةً عيشته الفقرية في القوت والكسوة والسكنى وكذلك ترجيعه الى أديرة القانونيين الصرامة القديمة. وملاشاته العوائد الرديئة وأسباب الشكوك، ساهراً على تصرفات الأكليريكيين، وعلى درس العلوم، وتأييد المدارس، وأبادة الكتب المضرة، وعلى حسن تربية المتقدمين الى الدرجات المقدسة. مجتهداً في تشييد أمكنة التقوى والأديرة والكنائس. مواظباً على صنيع الأفتقاد الأسقفي مراتٍ كثيرةً بصرامةٍ وتدقيق. جايلاً في القرى والمزارع للكرز والتعليم والأرشاد. مستعملاً في أسفاره مركوبه الأعتيادي الجحش. وبالأجمال مبيحاً كل أستطاعته في تقديس رعيته جميعها. صائراً كلاً للكل ليربح الكل. بنوع أننا لو أردنا أن نشرح مفصلاً كل ما هو مدون في كتاب سيرة حياته. عن أعماله بأسرها الممارسة منه في مدة ثلاث عشرة سنةً في سياسته هذه الأبرشية، لكان يطول بنا الخطاب. ولكن لا يليق بنا أن نضرب صفحاً عن أن نشير الى محبته بنوعٍ خاص أسعاف الفقراء والمساكين.* على أنه قد أراد أن يكون بيته مفتوحاً على الدوام لقبول أخوة المسيح هؤلاء الصغار. مقدماً لهم أحتياجاتهم من دراهم وكساوى وقوت بكل مقدرته. وفي أجتيازه الطرقات كانت الفقراء تزدحم عليه أجواقاً مقتبلين من يده الصدقات. وكان حاوياً عنده دفتر محررة فيه أسماء جميع العيلات الفقراء المستحيين أن يتسولوا، ليرسل إليهم سراً الأسعافات شهراً بعد شهرٍ بكل عنايةٍ، ملزماً خوارنة الرعية بأن يخبروه دائماً عن الناس الذين هذه صفتهم. بل أنه مراتٍ كثيرةً كان يستحضر إليه أصحاب الديون، ويتفق معهم على أن يفيهم هو نفسه شيئاً فشيئاً مالهم ديناً على تلك العيلات. ولم يكن يتغافل عن أن يزور مرتين في كل سنةٍ أمكنة المسجونين والمخصومين. ويفي بقدر أستطاعته ديونهم، ويسعف أعيالهم، مهتماً في تجهيز البنات للزيجة، وفي الوفاء للمدارس عن الشبان الفقراء ما كانوا يلتزمون به من الشهرية. وأما في الغلاء الذي حدث سنة 1764 فقد باع هو مركبته القديمة مع بغالها الموهوبة له من شقيقه، ثم صليب الصدر الأسقفي وخاتمين حبرويين أحدهما كان ثميناً جداً موهوباً له من أحد عظماء المملكة، وأيضاً أمتعة سكناه، ما عدا ما لا بد منه، ووزع أثمان الجميع على المحتاجين، مضيفاً على ذاته بالمصروف، مكتفياً بأن يقتات في كل زمن الغلاء بالخبز والمرقة لا غير. وحينما لم يكن عنده شيءٌ يسعف بع المحتاجين كانت عيناه تذرف الدموع بحرارةٍ. وكان على الدوام يحرض الجميع، ويعرفهم ألتزماتهم بأعطاء الصدقة، موبخاً بحفاوةٍ المتغاضين عن تتميم هذه الوصية حسب أستطاعتهم، وهكذا بأنعطافٍ قلبي كان يزور المرضى ويعزيهم.* الا أن الأمراض كانت تعتريه حيناً بعد حينٍ، ولكن أشدها آلاماً كان ذاك المرض الذي حدث له، من قبل يبس عرقه على جسده، في إحدى عظاته التي صنعها في كنيسة القديسة مريم فيكو المشيدة منه على أسم القديس نيقولاوس العجائبي، بنوع أنها تسع أربعة آلاف شخصاً، فقد تكبد هو أوجاع التشنج في أعضائه كلها مدة أشهرٍ عديدة بصبرٍ عجيب ووجهٍ باش مغتدياً يومياً بالقربان الأقدس من أيدي الكهنة. واذ ألتزم أخيراً بأن يسلم ذاته لفحص الأطباء الذين أحضروهم إليه من مدينة نابولي. فهؤلاء بأنذهالٍ عظيمٍ وجدوا تحت عنقه دملةً كبيرةً كادت تستحيل الى الناصور. مقذفةً موادٍ رديئة مفسودة. مع أن الحاضرين حققوا لهم أن البار لم يكن في مدة تلك الأشهر أعطى أدنى علامة توجعٍ أم تنهدٍ. من قبل ما كانت تؤلمه هذه الجمرة ألماً فائق الأحتمال. فالأطباء حكموا بأنها غير قابلة الشفاء ولكنهم شرعوا بعلاجها، والباري تعالى أشفاه منها ومن التشنج. الا أن عروق رقبته قد قصرت، بنوع أن رأسه لبث منحياً الى صدره بدون أنتصابٍ بتةً. حتى أنه حينما كان يوجد جالساً على الكرسي فكان يظهر من وراية أنه جثةٌ بلا رأس لشدة أنحناء هامته. ولذلك حينما رجع هو الى تقدمة الذبيحة الإلهية فلم يكن يقدر أن يتناول من الكأس المقدسة الا بيد أحد الكهنة، ولكنه عاد الى ممارسة الوعظ والأرشادات، من دون أن يستطيع على عمل الأفتقاد الأسقفي. الأمر الذي حركه الى أن يتوسل لدى الحبر الأعظم أكليمنضوس 14، في أن يقبل تنزله عن الأبرشية، غير أن هذا البابا قد رد الجواب برسالته له قائلاً: أن صلاةً واحدةً مقدمةً منك وأنت على فراشك من أجل رعيتك، هي أفود لها من ألف أفتقادٍ أسقفي تصنعه فيها.* فبعد أن أستمر هو مدة خمس سنواتٍ أخرى يسوس أبرشيته في تلك الحال، قد جدد التوسل لدى البابا بيوس السادس حال جلوسه في السدة الرسولية سنة 1775 في أن يقبل تنازله، الأمر الذي منحه إياه هذا الحبر إجابةً لتضرعاته، بعد أن تحقق عجزه الطبيعي، لا سيما ضعف نظره وسمعه من قبل الشيخوخة، اذ كان له وقتئذٍ من العمر ثمانون سنةً. فقد سلم هو على هذه الصورة الأبرشية. وكل ما هو مختص بها للوكلاء وودع رعيته ببكاء الجميع على فقدهم إياه، وقد أستماح لذاته على سبيل الصدقة من أمتعة الأسقفية مفرشه المعبأ تبناً، وسراجاً من نحاس، وغلاية من دون أن يطلب ميرةً سنويةً من مدخول الأبرشية كما كان يحق له. ورجع الى دير القديس ميخائيل كرسي جمعيته، في مدينة باغاني. ولكن عوضاً عن أن يستريح من أتعابه السابقة الفائقة الوصف قد أشتد حرارةً في تأليف الكتب، وممارسة الأماتات والصلوات العقلية. ولبث يمارس الوعظ في كنيسة الدير المذكور أيام الأعياد والسبوت، ويشرح التعليم المسيحي، وأستمر هكذا الى أن فقد الأستطاعة على المشي. وحينئذٍ أبتدأ أن يتناول القربان المقدس من أيدي الكهنة يومياً، ويغوص في الثاوريا مخطوفاً عن حواسه أحياناً مدة ثمان ساعات وأكثر. وقد صير أن يعمل له كرسي من خشب ببكراتٍ نظير المقعدين، ليقدر به أن يخرج من قلايته بعض الأحيان الى أورقة الدير.* فمما أوردناه حتى ههنا يمكن للقارئ أن يفهم بسهولة كم كانت عظيمةً قداسة سيرة هذا الطوباوي وسمو فضائله. فنظراً الى قداسة حياته، فقد يبان واضحاً من دلائل راهنةٍ. ومن براهين عديدةٍ مقدمة لدى ديوان مجمع الطقوس المقدس، أن هذا المغبوط قد حفظ بر المعمودية في مدة التسعين سنةً التي عاشها، من دون أن يفقده بخطيئةٍ مميتةٍ، حتى ولا ثبت عليه أرتكاب خطيئةٍ عرضيةٍ بأنتباهٍ وتقصد. واما نظراً الى سمو فضائله. فبعد أن أستمر المجمع المقدس المذكور يفحصها قانونياً عدة سنواتٍ، قد أبرز الحبر الأعظم بيوس السابع مرسومه الرسولي في 7أيار سنة 1807 في تأييد أتفاق رأي آباء هذا المجمع، وحكم بأثباتاتٍ قانونية بأن الفضائل الإلهية الإيمان والرجاء والمحبة، والفضائل الأخرى قد وجدت في هذا البار بدرجاتٍ سامية جداً، من دون أن يثبت عليه أنه خالف أحداها. أو لم يتمم واجباتها. لأنه: أولاً:من يمكنه أن يصف بكفايةٍ حرارة إيمانه المستقيم، وغيرته في المحاماة عن حقائق الأمانة الكاثوليكية بشجاعةٍ، وأستعداده الى سفك دمه من أجلها لو أحتاج الأمر، وأجتهاده في أن يبجن قواعدها في عقول الجميع كباراً وصغاراً. وفحصه البليغ على الكتب المحرمة ليستأصلها. وتأليفاته في أثبات قضايا الإيمان ودحض الأضاليل.* ثانياً:لقد كان رجاؤه بالله وطيداً ثابتاً، وثقته به عظيمةً. ولحسن أتكاله عليه تعالى قد أنتصر على جميع الصعوبات التي داهمته في تأسيس جمعيته، وعلى سائر المضادات. ولوفور ثقته بالعناية الإلهية كان يحتم بأن أديرة الجمعية تكون مفتوحةً على الدوام لكل المقبلين إليها، ولسد عوز المحتاجين، بل بهذا الرجاء الوطيد كان يستمد من الله النعم لتوبة الخطأة، ولتعزية الحزانى، ولشفاء المرضى.* ثالثاً: بأية ألفاظٍ يمكن أن تشرح حقيقة حبه العظيم لله فوق كل شيءٍ، وأتحاده الشديد به تعالى، وغيرته المتقدة من أجله، وحرارته في كل ما يختص بمجده الأعظم، وألتهاب قلبه بشهب هذه النار المقدسة في أوقات صلواته وأملاته. اذ أنه كان ينخطف غائباً عن حواسه ساعاتٍ بجملتها، بل أنه أعتيادياً كان يوجد نظير المعتريتهم الحمى، ولذلك لم يكن يطيق من الملابس الا أخفها، حتى في أزمنة شيخوخته عينها. ومن ثم حسب رأي كثيرين أنه حدث له ما كان حدث للقديس فيلبس نيري بأتقاد حرارة حب الله فيه بنوعٍ حسي فائق الطبيعة.* رابعاً:من هو كفؤٌ لأن يصف عظم غرامه في محبة القربان الأقدس، الذي منذ حداثته أعتاد على أن يتناوله بتكاثرٍ، بأستعداداتٍ كلية، وبتقدمة الشكر المرافق بسكب الدموع، مثابراً على زياراته في الكنائس ساعاتٍ عديدةً. حتى أنه ألف كتاباً خصوصياً في شأن كيفية زيارة هذا السر المسجود له، الذي لما كانت الأمراض تصده عن تقديسه فكان يومياً يتناوله من أيدي الكهنة.* خامساً: من يستطيع أن يصف حبه الشديد لوالدة الإله الكلي قدسها بعد حبه لله حباً فائقاً على كل شيءٍ، لأنه كان مغرماً كعاشقٍ بمحبة هذه السيدة العظيمة، مكرساً ذاته تكريساً خصوصياً لخدمتها وعبادتها بدالةٍ أبنيةٍ، ملتجئاً إليها في أحتياجاته كلها، فائزاً بجميع النعم التي كان يلتمسها من الله بواسطتها، ولم يكن يشبع من مدائحها وتماجيدها في مواعظه وتأليفاته وقصائده وخطباته، أو يمل من تحرضاته للناس على التعبد لها، مواظباً منذ نعومة أظفاره على زيارة أيقوناتها المقدسة يومياً، مشتركاً في أخوياتها وعباداتها، ممارساً تكريماً لها صياماتٍ عديدة، مجتهداً في أن يخترع طرائق جديدةً تجذب القلوب لمحبتها، ومن ثم لأجل أنشغافه الكلي بغرام حبها قد كني بالصواب: برنردينوس الثاني: ثم لكي يربط ذاته بأِشد صرامةٍ في عبادتها قد ألزم نفسه تحت ثقل نذوراتٍ خصوصية بأنه في كل يوم سبتٍ يصوم على الخبز والماء، وفيه يعترف بزلاته تحت حمايتها، وبه يعظ بأمجادها وينلو ورديتها. وقد شرفته هذه الأم الإلهية، بأنها ظهرت له مراتٍ كثيرةً ليس فقط بنوعٍ سري فيه أرشدته الى أمورٍ عديدة، بل أيضاً مشتهراً كما حدث له في مدينة مالفي اذ كان يعظ وأتجه بالتضرعات نحو أيقونتها المقدسة. فأنخطف عن حواسه وأرتفع بجسمه كله عن الأرض علواً، وأشرقت من أيقونة العذراء أشعةٌ عظيمة كالشمس منبعثةً منها الى وجهه، وأستمر هذا العجب أمام الشعب الغفير في الكنيسة برهة ست دقائق.* سادساً:أما عظم محبته للقريب فتظهر بكفايةٍ من الأعمال السامية التي مارسها في خير الأنفس مدة نحو ستين سنةً، بعد أرتسامه كاهناً ثم أسقفاً مما أشرنا إليه آنفاً، بالأتعاب الرسولية، والغيرة المتقدة، والأسفار المضنكة، والصدقات السخية، والأعتناء بالأيتام والأرامل والبيمارستانات وأمكنة التوقى وبزيجة البنات، لا سيما الموجودات في خطرٍ على عفتهن. ثم تتضح من حال كونه مؤسساً في بيعة الله جمعيته الكلية الأفادة للمسيحيين، خاصةً لسكان القرى والمزارع. ولكن محبته خير الأنفس قد تلألأت بأفضل نوعٍ في تألفاته الجليلة والكثيرة العدد، والمختلفة الموضوعات. والمفيدة الجميع من كل جنسٍ ونوعٍ وسنٍ ودعوةٍ ووظيفةٍ، أي للأكليروس العلماني والقانوني، وللملوك والولاة والشعب، للدارسين والأحداث والشيوخ، للعلماء والجهلاء للأبرار والخطأة، من علم اللهوت النظري والعملي، والأداب، والحق القانوني، والسيرة الصالحة، والرياضات الروحية، والصلوات العقلية واللفظية، بنوع أن عدد مجموعات هذه التأليفات قد أتصل الى تسع وثلاثين مصنفاً. مقسمةً الى نحو ماية مجلدٍ. فهذه المصنافات كلها قد فحصت من السدة الرسولية بكل تدقيقٍ وأهتمام، وأعطى عنها الحكم القانوني الأحتفالي من الصالح الذكر الحبر الأعظم البابا بيوس السابع في اليوم 14 من حزيران سنة 1803 بأثباتها ومديحها وبأنها خاليةٌ من أدنى قضيةٍ تستحق الشجب. فقد أنتشرت هذه التأليفات في الممالك والأقاليم والمدن، وأنطبعت مراتٍ عديدةً، بل أستخرج منها كتبٌ كثيرةٌ الى ألسنةٍ مختلفة، كالفرنسي، والنمساوي والأسبانيولي والتركي والأرمني (وأنا قد أستخرجت من تأليفاته هذه حتى الآن سبع مجلداتٍ الى لغتنا العربية، وهي المجلد الحاضر الذي هو أمجاد مريم البتول، وكتاب الرياضة اليومية في الحقائق الأبدية الذي طبعته مثل هذا، وكتاب التهيئ والأستعداد الى الموت، وثلاث مجلداتٍ عن: أنتصار الكنيسة الجامعة، محتوية على تاريخ الأرتقات ودحضها، ثم مجلدٌ في خدمة سر التوبة من التأليف الملقب: بأرشاد معلمي الأعترفات وبالأختصار نقول أن الفوائد التي حصلت عليها الشعوب من تأليفات هذا الطوباوي والعتيدة أن تجتنيها منها الناس في الأحقاب المقبلة، فالله وحده يعرف عظم مقدارها.* سابعاً:وأما الفطنة التي تصرف بها هذا المغبوط في أقواله وأفعاله. نظراً الى ذاته والى الذين كانوا تحت تدبيره. سواءٌ كان ينصح أو يحتم، يعفي أم يلزم، يرشد أو يحرض، يرسم أم يفسح، يحل المشاكل أو يقدم المشورات، يرتب العلاجات أم يستمد الرأي، يمنع الأعمال أو يوبخ، يعلم أم يدحض. وذلك في تصرفاته كلها مع العظماء أو الأدنياء، مع الرؤساء أم المرؤوسين، فقد كانت فطنةً ساميةً جداً بكل صفاتها، ويكفي القول أنه من أجلها لقب صواباً وعدلاً:" بمرشد المرشدين":* ثامناً: كم قد تلألأت فضيلة العدل في هذا المعلم الجليل الذي كان يعرف كل أحدٍ ألتزاماته، معتنياً في أن يحفظ لكل ذي حقٍ حقه، ساهراً على استقامة توزيع الوظائف لمستحقيها. غيوراً على ملاشاة الظلم والتعدي، وعلى حفظ كلما يتعلق بالعدل البدلي والتوزيعي والشرعي.* تاسعاً: من يلاحظ حسناً كم كانت فضيلة شجاعته ساميةً، في الوقت الذي فيه عاش بهذا المقدار باغضاً الخطيئة، حتى أنه كان يرتضي بأن يقطع أرباً أرباً أحرى من أن يرتكب خطيئةً عرضيةً بأنتباهٍ وتقصد. وكان يوضح لكل أحدٍ ألتزاماته من دون مراياةٍ، أو أخذ بالوجوه.* عاشراً:بأية ألفاظٍ يمكننا بنوع أبلغ مما أشرنا إليه حتى الآن أن نصف قناعته بأصوامه وتقشفاته وأماتاته ونسكه وفقر معيشته وأسهاره وسائر ما تصرف به في هذا الشأن، الأمر الذي فاق به على كثيرين من السواح والنساك أنفسهم، حتى في زمن شيخوخته عينها.* ثم ماذا يستطاع أن يقال عن سمو فضيلة طهارته أكثر من القول أنه قد حفظ زنبق البتولية مدة حياته كلها من دون أنثلامٍ بتةً، كما ثبت ذلك من براهين كلية، وقد كان شديد الأحتراس على حفظ هذا الكنز الفائق كل ثمنٍ من أدنى خطرٍ، حتى أنه قط لم يكن يحدق بنظره في وجه أمرأةٍ ما، وفي كل مدة الستين سنةً التي عاشها كاهناً وأسقفاً ما سمح أصلاً لإمرأةٍ بأن تقبل يده. ثم أنه بهذا المقدار كان تواضعه عميقاً، وبغضه المجد الباطل، والرفعة الى المراتب شديداً، حتى أنه أنطرح مريضاً من زيادة الغم حينما أنتخبه البابا أسقفاً. وأما فضيلة صبره، وأحتماله الأهانات والأفتراء وأحسانه الى من أساء إليه، ووداعته القلبية، وليونة أطباعه، وحسن تسليمه التام للمشيئة الإلهية وطاعته الكاملة للرؤساء والمرشدين، وشقفته وحنوه، وثباته الدائم على عمل الخير، وأشتهاة التألم من أجل المسيح. فهذه كلها هي مبرهنةٌ بأسهابٍ في كتاب سيرة حياته. وبالأجمال أن هذا الراعي الجليل قد وجد مزيناً بالفضائل كلها بدرجاتٍ ساميةٍ، كما تقدم القول عن أحكام الكرسي الرسولي في هذا الشأن. بل أن هذه الفضائل العظيمة قد عطفت الباري تعالى الى أن يهب عبده هذا الأمين أختصاصاتٍ فائقة الطبيعة غير أعتيادية، نظير صنع العجائب، وروح النبؤة بمعرفة العتيدات.* فنظراً الى العجائب التي صنعها الله بواسطته في مدة حياته بأنواعٍ مختلفة، مما تقدمت عنها الأثباتات الى مجمع الطقوس المقدس فرداً فرداً، بظروفها النوعية والشخصية والزمانية والمكانية، المشهود بحقائقها من أناس يوجد بعضهم حتى الآن أحياء (وأنا نفسي في مدينة نابولي وغيرها قد سمعت ذلك من فم أناسٍ كملت فيهم بعض هذه العجائب) فهي ما ينيف عن مئة أعجوبةٍ. هذا ما عدا الجرائح الأخرى العديدة جداً الموردة عمومياً. المصنوعة من الجود الإلهي بواسطته في سنين هكذا عديدة، ليس فقط مع اولئك الذين كانوا يتقدمون إليه لأخذ بركته ولنوال الشفاء من أمراضهم، في أجتيازه الطرقات والكنائس، بل أيضاً مع الذين كانوا يأتون بهم الى قلايته في أزمنة شيخوخته. فمن جملة العجائب المومى إليها هو منحه النطق للأخرس أبن أخ الكاهن كارلوس برونو. وتصحيحه ثوبه الذي قص منه جزاءاً كبيراً، ليأخذه بركةً لذاته واحدٌ من الشبان، حينما كان هو يستمع الأعترفات في كنيسة مالفي، فالجزء المقصوص بقي في يد هذا الشاب مع أن ثوب البار لبث صحيحاً بالتمام. وأخماد بمجرد رسمه أشارة الصليب المقدس لهيب نار الجبل البركاني الشهير الأسم بالقرب من مدينة نابولي، الذي وقتئذٍ قد أرتفع لسان لهيبه علواً مقدار ميلين، وأوعب قلوب الشعوب البعيدين فضلاً عن القريبين هلعاً عظيماً. وأعطاؤه من يده عينها، في كنيسة القديس ميخائيل في مدينة بغاني، الصدقة الشهرية لأحدى النساء التائبات بواسطته عن فواحشهن، في الساعة نفسها التي فيها كان هو موجوداً في مدينة نابولي. وأستماعه أعتراف أحد تلاميذه وهو متى كالافولبه في منبر الذمة ضمن بيت الرسالة، في الدقيقة عينها التي فيها كان هو يعظ في كنيسة البلد، هذا العجب قد حدث مراتٍ عديدةً مع كثيرين من تلاميذه الذين كانوا يعترفون عنده في بيوت الرسالة، وفي خروجهم حالاً وذهابهم الى الكنائس كانوا يجدونه يعظ على المنبر.* وأما نظراً الى معرفة العتيدات بروح النبؤة فقد ثبت ذلك ببراهين وشهودٍ صادقين في حوادث جزيلة العدد. فمنها هو أرساله ليلاً سنة 1764 من داره الأسقفية الى مدينة أريانوس الكاهن فابريتسيوس متقدم أكليروسها، ليخلص واليها من أيدي الشعب الذين أرادوا قتله بسبب نقص القوت من المدينة، مع أن مؤامرة الشعب على ذلك حدثت بغتةً بعد سفر الكاهن المذكور من عنده. ومنها تخبيره في مدينة مالفي إحدى النساء (التي قدمت إليه طفلها أبن ثلاث سنين ليشفيه من داء الصرع) بقوله لها بعد شفائه أبنها: أن هذا الطفل كان عتيداً أن يعيش سالماً، ويرتسم كاهناً ويكون غيوراً يكتسب للرب نفوساً كثيرة: وهذا جميعه قد كمل فيما بعد حرفياً. وكذلك تنبيهه الشعب في آخر يومٍ من صنعه الرسالة في مدينة مالفي عينها، بأنه بعد ذهابه من عندهم في اليوم التالي كان عتيداً أن يحدث لهم بحركة الشيطان سببٌ يرجعون فيه الى الخطايا، ولكن مزمعٌ أن يحل بهم الأنتقام سريعاً في اليوم نفسه بزلزلةٍ مهولةٍ، وهذا كله قد تم حقاً في اليوم المشار إليه. ثم أنه كان حين زيارته المرضى يعرف كيفية نهاية المرض سواءٌ كان بالشفاء منه، أو بالموت، مخبراً عن هذا لمن يخصه، وجميع تخبيره كان يصدق، ولئن كانت أحوال المرضى تشاهد ظاهراً بضد قوله، ولكن نحن خوفاً من الأسهاب نعدل عن إيراد حوادث أخرى كثيرة، ونأتي الى التخبير عن نهاية حياة هذا الطوباوي.* ففي 18 تموز 1787 قد أعترت هذا المغبوط حمى محرقة، ووجع البطن وحصار البول، أضافةً لأمراض الشيخوخة الموجودة فيه، هذا بعد أن كان الباري تعالى، لأزدياد أستحقاق عبده البار قد سمح بأن تلم به معركة التجارب المختلفة الأنواع، حتى بتصوراتٍ قويةٍ جداً ضد العفة، ثم باليبس الروحي، ولكن نعظم أتكاله على الله، وبأستغاثاته المتواثرة بأسمه القدوس، وبتكرار كشف ضميره لمعلم أعترافه، ثم بأقتباله القربان المقدس، قد أنتصر على ذلك جميعه، وفاز بالراحة الباطنية والتعزية العظيمة. فقد تزايدت عليه الأمراض المذكورة الى حد اليوم الأخير من تموز الذي فيه يعتقد بالصواب أنه قد تشرف بزيارة من والدة الإله الكلية القداسة، لأنه بعد أن كان هو فاقد حركات حواسه الظاهرة، فاذ قدموا إليه أيقونة هذه السيدة بالقرب من فراشه، قد فتح عينيه حالاً وتفرس فيها، وأستحال لون وجهه الى اللهيب مشعاً بأنوارٍ ظاهرة، وهكذا بعد أن كان يومياً يتناول القربان المقدس عبادةً، قد أقتبله من ذاك اليوم زوادةً أخيرةً بكل أحترامٍ وبحرارة الحب. وفي اليوم الأول من شهر آب سنة 1787 نفسها. اذ كان هو ضابطاً بيده فوق صدره الصليب المقدس مع أيقونةٍ صغيرة لوالدة الإله، فنحو نصف النهار قد جال بنظره الى السماء وأسلم الروح بكل هدوٍ وعذوبة كأنه نائمٌ. فقد كان تقاطر الشعوب من أكليروس وأرخندوس الى دير القديس ميخائيل في مدينة بغاني حيث تنيح هذا الطوباوي، وافراً بمقدار كذا، حتى أن والي المدينة في اليوم المقبل أضطر الى أن يأمر بغلق الأبواب بعد امتلأ المدينة، ليمنع الآتين من كل الجهات القريبة، والجميع كانوا يتوسلون لعلهم يحصلون على أجزاء من ملابس المغبوط، أو من الأشياء المستعملة منه، كذخائر لأحتياجاتهم، وقد كمل أخيراً أحتفال دفنه تحت الهيكل الملوكي في الكنيسة المذكورة.* ولكن قبل دفنه قد شرفه الله بصنيع عدة عجائب نكتفي هنا بإيراد واحدةٍ فقط منها، وهي شفاؤه بالتمام على الفور عندما لمس جسده، الطفل يوسف فوسكو أبن سنةٍ وبعض أيامٍ كان مدنفاً على الموت بحمى محرقة وبمرض السهال، بنوع أن الأطباء كانوا حكموا بأنه عديم الشفاء مطلقاً. الا أن العجب لم يقف عند هذا الحد، بل أن الكاهن غايطانوس فوسكو عم الطفل، اذ جاء في اليوم الثاني فرحاً ليشاهد أبن أخيه المعافى صحيحاً كمن قام من الموت، فقد دنا من هذا الطفل ورأى بيده صورةً صغيرةً كانت مرسومة فيها هيئة الأسقف المغبوط، فالطفل حالما رآها أخذها بيده وقبلها واضعاً إياها على رأسه، وغاب عن الوعي ثم رجع الى ذاته وصرخ بألفاظٍ مفسرة واضحة: أن ألفونسوس هو في السماء. مكرراً ذلك مراتٍ، مع أنه لم يكن قبلاً يفه بكلمةٍ لصغر سنه، بل أن أهل البيت أختبروا الأمر مراراً بأخذهم الصورة أغتصاباً من يد الطفل، ويبدلها بما يماثلها، فكان يستمر هو صارخاً بالبكاء الى حين أرجاع الصورة عينها، وحينئذٍ كان يبتهج ويكرر كلماته بقوله:" القديس ألفونسوس هو في السماء". ثم أن الجود الإلهي صنع بعد ذلك بواسطة صفيه هذا الطوباوي عجائب أخرى كثيرة. فمنها هو أن كارلوس فاكيو أحد المبتدئين في جمعيته قد شفي من مرض الصدر وأستفراغ الدم القتال، بمجرد وضعه في شهر آذار سنة 1787 على صدره صورة هذا المبغبوط. وكذلك يوحنا كاتولو من أرض جبل الأسد قد شفي بمسه قطعةً من أثواب البار بعد أن كان هو في حال الموت. وبمثله برأ من داء الفالج الكاهن فينجانسوس ماسارو، وغيره كثيرون، الذين نعدل عن ذكرهم حباً بالأختصار، ونكتفي بشرحٍ وجيز عن الأعجوبتين المحكوم على حقيقتهما حكماً قانونياً خصوصياً من السدة الرسولية بعد الفحص العظيم.* فالأعجوبة الأولى منهما قد كملت في شخص الأمرأة مادلينا نونتسيو من أبرشية بانافانتو القريبة من مدينة نابولي. فهذه الأمرأة اذ كانت تنتظر الموت ساعةً فساعةً، من قبيل نزلٍ دموي أحتقن في ثديها الشمال في اليوم الخامس عشر من إيلادها طفلها، فأفسد الثدي بنوع أن الجراح العلامة يوحنا أورلاندي ألتزم بأن يقطع نصف الثدي ويرسل اللحم المنتن فيدفنه في التراب. الا أن الفساد أمتد الى باقي الثدي وحصلت مادلينا من شدة الأوجاع مدنفةً على الموت بعد أقتبالها الأسرار الأخيرة، فإحدى النساء المحبات جاءت إليها بجزءٍ صغير من أثواب هذا الطوباوي، وحرضتها على أن تبلعه مع الماء وأن تضع فوق ثديها المقطوع صورته، فاذ تممت هي ذلك قد أستحوذ عليها حالاً النوم الذي لم تكن تذوق لذته في كل تلك الأيام. ثم أستيقظت في نصف الليل فرأت ذاتها معافاةً، والثدي صحيحاً تاماً يقطر منه الحليب كالثدي الآخر، بنوع أنها أخذت طفلها وبدأت ترضعه منه، الأمر الذي حينما شاع خبره في اليوم الثاني، تقاطرت الناس جملةً مع يوحنا الجراح الى مشاهدة الثدي الجديد. منذهلين وممجدين الله صانع العجائب بواسطة صفيه العظيم.* وأما الأعجوبة الثانية، فقد كملت مع القس فرنسيس أوطايانو أحد الرهبان الأصغرين. الذي منذ 18ت2، سنة 1786 كان مسقوماً بداءٍ الحمى الرديئة، وقد زاد عليه في 9أيار 1787 سعالٌ شديدٌ مدة ست ساعاتٍ وقد أستفرغ من حلقه بعد ذلك كميةً وافرةً من الدم المفسود المنتن، الذي دام يومياً يخرج من فمه بنحو أربعماية درهماً، بنوع أن الأطباء بعد علاجاتٍ كثيرة وثمينة لم تفده شيئاً، حكموا بأنه لا بد من موته في هذا الداء. فالرهبان لخوفهم من أن هذا القس يعديهم، أبتعدوا عنه سامحين بأخذه الى دار عمةٍ له متقدمة في السن، حيث بقي مطروحاً منتفخ الجسم منتن الرائحة كجيفةٍ، الى نهاية الشهر العاشر منذ أبتدأ به المرض. بنوع أنه أدنف على الموت. حتى أنه في الليل أستدعوا إليه معلم ذمته فأعترف. وأنطلقوا ليأتوه بالقربان الأقدس خلساً. فهو وقتئذٍ شعر باطناً بحركةٍ في أن يلتجئ الى الطوباوي ألفونسوس، الذي كان مضى تسع وعشرون يوماً في نياحه، فمن ثم أخذ بيده الجزء الذي كان عند عمته من قميص هذا البار، ومس به كل جهات جسده، وشرع يتضرع إليه بدموعٍ قائلاً: أيها السيد العزيز ألفونسوس، أنني الآن أريد أن أعرف أن كنت أنت بالحقيقة عزيزاً لدى الله. وأنك الآن تتمتع به في السماء، فأنا لا أريد ان أموت بهذا المرض المستكره، والمرذول أنا من أجله من الجميع، فأنت أجعلني أن أموت بأي نوعٍ آخر كان وأنا راضٍ، وأفعل هذه النعمة ليس من أجلي أنا الخاطئ، بل لأجل الحب العظيم الذي أنت أتصفت به نحو القربان المقدس، والذي به أنت أحببت مريم البتول الكلية الطوبى. وأنا أعدك أيها السيد المحبوب مني بأني متى شفيت بواسطتك، أمضي فأذيع بقداستك لدى الجميع بحسبما أنت مقبولٌ لدى الرب. وبأن أجمع الصدقات. وأشتري بها شمعاً، وأزور ضريحك في كل سنةٍ مقدماً نذري الشمع المذكور. قال هذا واخذ قليلاً من القوت ورقد مدة خمس ساعاتٍ براحةٍ، ثم أستيقظ غارقاً بعرقٍ قد نفذ حتى أسفل مفرشه. فغير ملبوسه قائلاً لعمته: أن الطوباوي قد أشفاني: ورجع فنام الى الصباح الذي هو 30 آب سنة 1787 عينها، ونهض من فراشه صحيحاً معافى، الأمر الذي أوعب قلوب الجميع أنذهالاً وفرحاً معاً، وذاع خبر ذلك في كل مكان.* فهذه العجائب وأمثالها قد صيرت الحبر الأعظم بيوس السابع أن يقتبل الألتماسات. في أنه بمرسومٍ باباوي معطى منه في 25 حزيران سنة 1803 فسح من مراسيم البابا أوربانوس الثامن، المانع تقدمة الدعاوى المختصة بتطويب أحد الأبرار قبل مرور خمسين سنةً من نياحه، وهكذا سمح بأدخال دعوى هذا المغبوط للفحص، بعد أن كان في 14 من الشهر المذكور أثبت تأليفاته كلها، كما أوردنا في محله. فلما أنتهى فحص هذه الدعوى قانونياً وأحتفالياً في مدة نحو أربع سنواتٍ، قد أبرز الحبر منشوره الرسولي في 7 أيار سنة 1807 بأن فضائل هذا البار كلها وجدت بدرجاتٍ سامية جداً، حسبما ذكرنا قبلاً، وتبعاً لهذا المنشور الباباوي أقيم الفحص على حقائق العجائب التي صنعها المغبوط بعد نياحه. الا أن الدعوى توقفت بسبب الحروب والتغييرات الزمنية، الى أن رجع الحبر الأعظم من فرنسا سنة 1814 الى روميه، وحينئذٍ آباء مجمع الطقوس المقدس بعد الفحص الكلي أعلنوا حقيقة الأعجوبتين السابق شرحهما، المطلوبتين لقانونية التطويب. والبابا بمرسومه المصدر في 17 أيلول سنة 1815 قد حكم أحتفالياً بحقيقة هاتين الأعجوبتين. وهكذا بعد أتمام رسم الفرائض الرسولية لتطويب الأبرار، قد أبرز هذا الحبر الأعظم منشوره الباباوي في 6أيلول سنة 1816 الذي بقوته قد أحصي هذا المغبوط قانونياً في عدد الطوباويين، معيناً عيده السنوي في 2آب، وراسماً لتكريمه الصلوات المدونة في الوجه التابع. وقد تمت أحتفالات التطويب بقراءة المنشور الباباوي في كنيسة القديس بطرس، في القداس الحبروي حسب الرسوم، بعظمةٍ ملوكية، وبهجةٍ عامة. وأنا حصلت على التعزية بوجودي في هذا الأحتفال العظيم.* ثم أن العجائب التي أجترحتها العزة الضابطة الكل بواسطة الطوباوي المذكور بعد الأحتفال القانوني المقدم ذكره، بأنواعٍ مختلفة حتى الآن، قد صيرت الكرسي الرسولي أن يمارس ما يختص بإحصاء هذا المغبوط قانونياً في عدد القديسين المعظمين، الأمر المباشرة الآن في شأنه الرسوم الواجبة، لأجل أصدار الحكم الباباوي الكلي الأحتفال.* فليكن هذا الشرح كافياً لأفادة القارئين ليمجدوا صلاح الله الذي أوجد دائماً في كنيسته الجامعة رجالاً هذه صفتهم، مزيناً إياهم لخير شعبه بمواهب هكذا سامية، وليكونوا نموذحاً حياً للجميع في سيرة الكمال الإنجيلي، مظهراً فيهم مفاعيل قدرته الضابطة الكل، ومبكماً بذلك أفواه المنافقين الناكرين حقائق العجائب المصنوعة منه كل حين بواسطة قديسيه. فله العزة والمجد والجبروت الى أبد الدهور آمين.* * الثلاث الصلوات التي تقال في القداس في اليوم الثاني من آب* * بموجب المرسوم الباباوي المبرز في 27 آب 1816* † الأولى تتلى بأعلانٍ قبل قراءةة الإنجيل † الذي يحيى معك، ويملك مع الروح القدس الى أبد الآبدين آمين.* † † الثانية تقال بعد ذلك سراً. † † † الثالثة تتلى جهراً بعد التناول † * ومع الروح الكلي قدسه الى أبد الدهور آمين* |
||||
15 - 08 - 2022, 11:03 AM | رقم المشاركة : ( 7 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب امجاد مريم البتول - القديس ألفونس دي ليكوري
صلاة
للعزّة الإلهية ساعدنا لكي نُدرك إرادتك القدوّسة ونعمل بها، بشفاعة أمّنا مريم الكلّيّة الحنان، وصفيّك البار مار يوسف البتول، وجميع الملائكة والقديسين. وأن نهرُب من كل أسباب الخطيئة، لنتناولك باستحقاق وننجو من العذابات الجهنميّة والمطهريّة. فنتمتّع مع العذراء مريم الفائق قدسها وجميع القديسين بمشاهدة وجهك العذب في الحياة الأبدية. آميــن |
||||
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|