منتدى الفرح المسيحى  


العودة  

الملاحظات

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  رقم المشاركة : ( 1 )  
قديم 22 - 01 - 2022, 11:27 AM
الصورة الرمزية Mary Naeem
 
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو
  Mary Naeem غير متواجد حالياً  
الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,275,577

بشارة يوحنا المعمدان: التوبة للخلاص

بشارة يوحنا المعمدان: التوبة للخلاص




النص الإنجيلي (لوقا 3: 1-6)

1 في السَّنَةِ الخامِسَةَ عَشْرَةَ مِن حُكْمِ القَيصَرِ طيباريوس، إِذ كانَ بُنطِيوس بيلاطُس حاكِمَ اليَهوديّة، وهيرودُس أَميرَ الرُّبعِ على الـجَليل، وفيلِبُّس أَخوهُ أَميرَ الرُّبعِ على ناحِيَةِ إِيطورِيَةَ وطَراخونيطِس، وليسانياس أَميرَ الرُّبعِ على أَبيلينة، 2 وحَنَّانُ وقَيافا عَظيمَي الكَهَنَة، كانت كَلِمَةُ اللهِ إلى يوحَنَّا بْنِ زَكَرِيَّا في البَرِّيَّة 3 فَجاءَ إِلى ناحِيَةِ الأُردُنِّ كُلِّها، يُنادي بِمَعمودِيَّةِ تَوبَةٍ لِغُفرانِ الخَطايا، 4 على ما كُتِبَ في سِفرِ أَقْوالِ النَّبِيِّ أَشعْيا: (( صَوتُ مُنادٍ في البرِّيَّة : أَعِدُّوا طَريقَ الرَّبّ واجعَلوا سُبُلَه قَويمَة. 5 كُلُّ وادٍ يُردَم وكُلُّ جَبَلٍ وتَلٍّ يُخفَض والطُّرُقُ الـمُنعَرِجَةُ تُقَوَّم والوَعْرَةُ تُسَهَّل 6 وكُلُّ بَشَرٍ يَرى خَلاصَ الله)).

مقدمة

يصف لوقا الإنجيلي في الأحد الثاني للمجيء بشارة يوحَنَّا المعمدان الداعية إلى التوبة وخلاص الله لجميع البشر على يد يسوع المسيح (لوقا 3: 1-6)؛ وبهذه البشارة أعدَّ يوحَنَّا المعمدان كل البشر لاستقبال الرب يسوع "فَيُؤمِنَ عن شَهادتِه جَميعُ النَّاس" (يوحَنَّا 1: 7)؛ ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص الإنجيلي وتطبيقاته.

أولاً: تحليل وقائع نص إنجيل لوقا (لوقا 3: 1-6)

1 في السَّنَةِ الخامِسَةَ عَشْرَةَ مِن حُكْمِ القَيصَرِ طيباريوس، إِذ كانَ بُنطِيوس بيلاطُس حاكِمَ اليَهوديّة، وهيرودُس أَميرَ الرُّبعِ على الـجَليل، وفيلِبُّس أَخوهُ أَميرَ الرُّبعِ على ناحِيَةِ إِيطورِيَةَ وطَراخونيطِس، وليسانياس أَميرَ الرُّبعِ على أَبيلينة،

تشير عبارة "في السَّنَةِ الخامِسَةَ عَشْرَةَ مِن حُكْمِ القَيصَرِ طيباريوس" إلى سنة 26 ميلادية وكان عمر المسيح نحو 30 عاماً إذ ولد المسيح سنة 4 ق.م. (لوقا 3: 22)؛ أمَّا عبارة "القَيصَرِ" فتشير إلى لقب رسمي للأباطرة الرومانيين، وهذا اللقب أُخِذ من اسم يوليوس قيصر الشهير، وقد ورد هذا اللقب نحو 30 مرة في العهد الجديد. ولقَّب به أغسطس (لوقا 2: 1) وطيباريوس (لوقا 3: 1) وكلوديوس (أعمال الرسل 11: 28) ونيرون (أعمال الرسل 25: 8). أمَّا عبارة "طيباريوس" فتشير إلى طيباريوس يوليوس قيصر، الإمبراطور الروماني الثاني (لوقا 20: 22). ولد طيباريوس السنة الـ 42 ق.م. وكان ابنًا لأوغسطس بالتبني وصهراً، فخلفه على الحكُم. إذ حكم في القرن الأول بين أعوام 14 -37م. وكانت مدة حكم مُلك طيباريوس 23 سنة، وكان خبيثًا ظالمًا. وفي ملكه حكم منطقة اليهودية: فاليريوس كراتوس وبُنطِيوس بيلاطُس. وبدأ يوحَنَّا يكرز في السنة 15 لملكه (لوقا 3 :1). وبنى هيرودُس انتيباس طبرية على بحيرة طبرية إجلالاً له. وفي أيام طيباريوس صُلب المسيح. أمَّا عبارة "بُنطِيوس بيلاطُس حاكِمَ اليَهوديّة" فتشير إلى حكم بيلاطس من السنة 26 إلى السنة 36 على سورية. وكان حاكما بحسب الكتابة التي عُثر عليها في سنة 1961. ويُلقّب "بالبُنطي"، باللاتينية Pontius بُنطِيوس (متى 27: 2) وأقامه أغسطس حاكمًا على اليهودّية في سنة 29م. بعد أن عزل هيرودُس أرخلاوس الذي ملك عشر سنوات على اليهودية (متى 2: 22)، فكان بيلاطس الوالي السادس على سوريا وهو الذي حكم على يسوع بالموت (متى 27: 2). استمرّ حكمه بضع سنين إلى ما بعد صعود يسوع إلى السماء، وكانت قيصرية مركز ولايته. وكان يصعد بيلاطس إلى أورشليم إلى دار الولاية فيقضي للشعب هناك (يوحَنَّا 18: 28). وفضلاً عن ذلك هو الذي سلم المسيح لليهود مع أنه اعترف ببراءته (يوحَنَّا 19: 6). ويُرّجح أن إجابة بيلاطس لطلب اليهود بصلب يسوع كانت لغاية المحافظة على مركزه. لكنه رفض طلب اليهود لما أرادوا منه أن يغيّر الكتابة التي على الصليب (يوحَنَّا 19: 19-22)، وهو الذي سمح ليوسف أن يأخذ جسد يسوع بعد موته ويدفنه (متى 27: 57-61). وأخيراً وضع حرّاساً على القبر يحرسون جسد يسوع (متى 27: 62-66). وقد ابعده الإمبراطور طيباريوس لكثر شكاوى اليهود وتنفيذ أحكام الإعدام (يوحَنَّا 19 :12)، وقساوته الشديدة واهتمامه بمنافعه الشخصية فقط وقد نفاه الإمبراطور إلى فرنسا ومات هناك. ويقول بعضهم أنه مات منتحراً. أمَّا عبارة "هيرودُس أَميرَ الرُّبعِ على الـجَليل" فتشير إلى هيرودُس انتيباس الابن الثاني لهيرودُس الكبير من زوجته الرابعة السامرية ملثاكي، لذلك يُعتبر هيرودُس انتيباس نصفه آدومي ونصفه سامري من الناحية الوراثية. وتثقف في روما (14:1) ثم عاد وعُيِّن حاكماً على الجليل وعبر الأردن من السنة 4 ق.م. (بعد موت أبيه هيرودُس الكبير) إلى السنة 39م. ونال أخوه وِراثة العرش فتنافس وإياه طويلاً. وبنى عدة أماكن، أشهرها مدينة طبريا. ولما جلس على العرش اتسعت مطالبه، حتى حملته امرأته على الذهاب إلى روما لطلب منحه لقب مَلك. وهناك غضب عليه الإمبراطور كاليغولا ونفاه إلى ليون، ثم إلى إسبانيا. وهو الذي تزوج هيرودِيَّا امَرأَةِ أَخيهِ فيلِبُّس، ونال توبيخ يوحَنَّا المعمدان حتى قطع رأسه وقدَّمه هدية لسالومة ابنة هيرودِيَّا (مرقس 6: 16-28) وكان هيرودُس واحداً من القضاة الذين مَثِل يسوع أمامهم، فسخر منه هو وجنوده (لوقا 23: 7-12). وهو الذي ظنَّ أن يوحَنَّا قد قام من الأموات (مرقس 6: 16). وقد لقَّبه يسوع بالثعلب (لوقا 13: 32). أمَّا عبارة "أَميرَ الرُّبعِ" فتشير إلى انقسام مملكة هيرودُس إلى أربعة أجزاء، جاء من هنا لفظ رئيس ربع (لوقا 1: 5). أمَّا عبارة "ناحِيَةِ إِيطورِيَةَ" فتشير إلى المنطقة المحيطة بجبل حرمون أي جبل الشيخ، وسُميتإِيطورِيَةَ نسبة إلى "يَطور بن إسماعيل بن إبراهيم" (التكوين 25: 15)، وهي منطقة ومملكة عاصمتها خلقيس. سكنها الايطورِيون (التكوين 25 :15) وهم قبيلة عربية كانت تقطن في شرقي الأردن. حين تقدّمت نحو الشمال أخذت الحضارة الآرامية. وفي سنة 105 ق.م. احتلّ ارستوبولس الملك اليهودي قسما من إِيطورِيَةَ. ولكن جاء بومبيوس وحرّرها. بين سنة 85 وسنة 40 حكمها بطليموس ابن منايوس تحت مراقبة الرومان، ولكن مملكته كانت قد تقلّصت. ضمّت مملكة إِيطورِيَةَ في عزّها سهل البقاع فكانت عاصمتها الإداريّة خلقيس أي عنجر اللبنانيّة. وبعلبك عاصمتها الدينيّة. وفي عهد بطليموس ابن منايوس (85-40 ق.م.)، امتدّت حتى البحر المتوسّط، فضمّت أبيلينة وهدّدت دمشق كما قال يوسيفوس في العاديات (15 :393، 418؛ 14 :126)، وفي الحرب اليهودية (1 :103، 115، 185-186)؛ أمَّا عبارة "فيلِبُّس أَميرَ الرُّبعِ" فتشير إلى فيلِبُّس الثاني أخ، هيرودُس انتيباس، ابن هيرودُس الكبير من امرأته كليوبترا (وهي يهودية من اورشليم). تزوج فيلِبُّس سالومَة بنت فيلِبُّس الأول. ورقصت بنتها هيروديا أمام هيرودُس انتيباس فأخذت راس يوحَنَّا المعمدان أجرة مقابل رقصها وأعطته لأُمِّها. وتولى فيلِبُّسالرئاسة 35 سنة. وهو أفضل أولاد هيرودُس الكبير، بنى قيصرية فيلِبُّس (بنياس اليوم) وجدَّد بناء بيت صيدا وسمَّها يولياس. أمَّا عبارة طَراخونيطِس" فتشير إلى المنطقة التي تقع على الجنوب الشرقي من جبل الشيخ وكانت تُسمى قبلا "أَرْجوبَ" (تثنية الاشتراع 3: 13-14) واسمها اليوم اللجا وهي جزء من حوران وهي المناطق الوثنية في شمال بحيرة طبرية إلى الشرق وحكمها فيلِبُّس أَميرَ الرُّبعِمن السنة 4 ق.م. إلى سنة 34م. ولم يذكر لوقا الإنجيلي الجولان وباشان وحوران. أمَّا عبارة "ليسانياس" اسم يوناني Λυσανίας, (معناه نهاية الحزن) فتشير إلى أَميرَ الرُّبعِعلى أبيلينة وكان في السنة الخامسة عشرة من حكم طيباريوس؛ سُمي ليسانياس نسبة إلى ابن ليسانياس، ملك خلقيس،, ومَلكَ ليسانياس 60 سنة إلى أن وقتله أنطونيوس . وكان أوغسطس قيصر يريد أن يأخذ أولاد الذين عزلهم خصمه أنطونيوس وقتلهم ويلِّيهم ولايات والديهم. أمَّا عبارة "أَبيلينة" فتشير إلى مقاطعة أبيلا تسمى أحيانا (رافانا) الرومانية التي تعتبر إحدى المدن العشرة في حلف المدن العشرة (ديكابوليس) الذي أقيم أيام اليونان والرومان. وهي منطقة وثنية. وكانت هذه المنطقة أيام لوقا الإنجيلي خاضعة إلى هيرودُس أغريباس الثاني. وقويلبة (حرثا) اليوم هي امتداد لمدينة (أبيلا)، وهيبلدة أردنية تبعد عن مدينة اربد 18 كم على الحدود الأردنية السورية. وقد ظلت (أبيلا) مدينة مسكونة تاريخيا إلى اليوم. وبقيت على مر العصور الرومانية والبيزنطية والإسلامية مدينة عامرة بالسكان، وما زالت أثار حرثا أو (أبيلا) مدفونة تحت الأرض تنتظر من يستكشفها. وانطلاقا من هذا النص كان يسوع قد أتمَّ السنة التاسعة والعشرون من عمره (لوقا 3: 23). وبهذا حدَّد دنيزيوس الصغير في القرن السادس مطلع عصرنا المسيحي. يبدو أن هذا التقدير يَقصر عن الوقع بعدَّة سنوات. في هذا الآية يفتتح لوقا الإنجيلي رسالة يوحَنَّا المعمدان بتحديد موقعه من تاريخ العالم الوثني ومن تاريخ شعب الله (لوقا 1: 5/ 2: 1-2) دلالة على أن تاريخ الله يمتزج مع تاريخ الإنسان. فهناك تاريخ واحد فقط يجمع الله والإنسان، ولا يحتاج الإنسان أن يبحث عن تاريخ آخر إن أراد لقاء الله. بهذا اتضح التاريخ المدني العالمي للأحداث الخطيرة التي بها كان الخلاص للبشر.

2 وحَنَّانُ وقَيافا عَظيمَي الكَهَنَة، كانت كَلِمَةُ اللهِ إلى يوحَنَّا بْنِ زَكَرِيَّا في البَرِّيَّة

تشير عبارة "حَنَّانُ وقَيافا عَظيمَي الكَهَنَة " إلى إقامة الحبريين حنان وقياما كعَظيمَي الكَهَنَة التي تُعد مخالفة لشريعة موسى إذ لم تكن شريعة موسى تسمح سوى لرئيس كهنة واحد في وقت واحد. وكان حنان حما قيافا قد تولى رئاسة الكهنة قبله فعزله الرومانيون بعد أن ولُّوا غيره وعزلوه مراراً ثم ولّوا قيافا مكانه (يوحَنَّا 18: 13). وكان حنان أعظم من قيافا سناً وحكمة وتأثيراً، فلذلك اعتبره اليهود رئيس كهنة حقاً واعتبر الرومانيون قيافا كذلك شرعاً. وبقيت القوة لرئيس الكهنة حَنَّانُ، وكان له أحياناً الاسم (كما ورد هنا وفي سفر أعمال الرسل (4: 6)؛ ولم يكن لقيافا سوى الاسم وبعض القوة. أمَّا عبارة "حَنَّانُ" فتشير إلى عظيم الكهنة من عائلة صدّوقية، وكان حمو قيافا عظيم الكهنة (يوحَنَّا 18: 13). وقد تولَّى منصب عظيم الكهنة من السنة 6 إلى السنة 15. وكان له نفوذ واسع؛ يبدو أنَّ السلطات الرومانية عزلته، وأقاموا قيافا، زوج ابنه في مكانه، لكن حنَّان ظل محتفظا بلقبه (أعمال الرسل 4: 6) عند اليهود لأنهم كانوا يعتقدون أنَّ وظيفة رئيس الكهنة مدى الحياة. وهذا ما يبِّر اسمه إلى جانب قيافا (يوحَنَّا 18: 13-24). أمَّا عبارة "قَيافا" لفظة أراميه קַיָפָא‎ (معناها صخرة)فتشير إلى عظيم الكهنة الذي تولى القضاء الأعلى من السنة 18 إلى السنة 36 م. (لوقا 3: 2، وأعمال الرسل 4: 6)، وهو صهر "حنَّان عظيم الكهنة. "وقَيافا هو الَّذي أَشارَ على اليَهودِ أَنَّه خَيرٌ أَن يَموتَ رَجُلٌ واحِدٌ عَنِ الشَّعب" (يوحَنَّا 18: 14). وبها القول نقل قيافا النقاش إلى الصعيد السياسي: فأن يسوع يُثير البلبلة، أيَّا كانت دوافعه الدينية، فينبغي القضاء عليه ليسود النظام العام. يُذكر لوقا الإنجيلي عظيم الكهنة في الختام بصفة رئيس شعب الله، مقابل القيصر رئيس الأمم الوثنية. وتدل الآية على أنَّ إعلان الخلاص يسود على الوثنيين واليهود على حدٍ سواء. أمَّا عبارة "عَظيمَي الكَهَنَة" بالعبرية הַכֹּהֵן הַגָּדוֹל (معناه الكاهن العظيم أو الرئيس) في اليونانية ἀρχιερεύς فتشير إلى رئيس الكهنة بالمفرد، وكان رئيس الكهنة قيافا وذلك بحسب الشريعة لا يوجد سوى رئيس كهنة واحد. وهو الرجل الوحيد الذي يدخل إلى قدس الأقداس مرّة في السنة (خروج 29 :42). وهو الوسيط بين الله والبشر (عبرانيين 5 :1). فهو رئيس السنهدريم الذي تصل صلاحيّاته إلى جميع اليهود في العالم. وهو قيّمٌ على خزنة الهيكل، ولديه السلطة القضائيّة والإداريّة. كان هناك رئيس كهنة واحد في نظام الشريعة اليهودية، يقيمه الله من نسل هارون، ويظل في منصبه طيلة حياته، ولكن لحق هذا النظام فساد فكانت روما تعيِّن الرؤساء الكهنة الموالين لها، حتى تضمن السيطرة على اليهود. وحين يترك عظيم الكهنة وظيفته، يبقى خاضعًا لكلّ القواعد ويحافظ على جزء كبير من هيبته (مثلاً، حنان في محاكمة يسوع مع أنّ عظيم الكهنة كان قيافا، (يوحَنَّا 18 :13-14). وذكر العهد الجديد حَنَّانُ وقَيافا، يوناثان، وحنانيا الأول بأسمائهم. سنة 70 ب. م.، وتحالفوا مع الكتبة والشيوخ والفريسيّين ليهلكوا يسوع. كان عظماء الكهنة يرتبطون ارتباطًا كلّيًّا بالسلطة السياسيّة. وإن عدد الرؤساء السياسيين والدينيين المذكور أعلاه هو سبعة، وهي علامة الملء والاكتمال. أمَّا عبارة "كانت كَلِمَةُ اللهِ إلى يوحَنَّا بْنِ زَكَرِيَّا في البَرِّيَّة" فتشير إلى إلهام الروح القدس (1 ملوك 12: 22، ارميا 1: 1، وحزقيال 6: 1، وهوشع 1: 2، ويونان1: 1). وغاية كون كلمة الله إلى يوحَنَّا هي إخباره بأن يبتدئ في خدمته جهاراً (متّى ٣ 3: 1). إنها تدل على دعوة يوحَنَّا النبوية كما كانت دعوة ارميا (ارميا 1: 2، 4). فقد تلقى يوحَنَّا المعمدان هبة كلمة الله فأصغي إليها وفسح لها المجال لتغيير حياته، فتجلت فيه وأُحدِث أمرا جديداً غّير تاريخ البشرية. عندما تدخل كلمة الله حقاً في حياة الإنسان تغيِّره وتغِّيِّر محيطه. أمَّا عبارة "يوحَنَّا بْنِ زَكَرِيَّا" فتشير إلى "المعمدان" الذي عمّد يسوع، وهناك ألقاب أخرى مضافة إليه "الشهيد الأول" و"الصائم" و"أقرب صديق للمسيح" و"السابق" للمسيح. وُلد يوحَنَّا تقريباً سنة 7 ق.م. في عين كارم حسب التقليد المسيحي، وهو ابن زكريا واليصابات وكلاهما من سبط اللاويين، وهو نسيب يسوع المسيح وهو أكبر من المسيح بستة أشهر. ولم يُذكر من أمره شيء سوى ما ورد في لوقا الإنجيلي " كانَ الطِّفْلُ يَترَعَرعُ وتَشتَدُّ رُوحُه. وأَقامَ في البَراري إِلى يَومِ ظُهورِ أَمرِه لإِسرائيل" (لوقا 1: 80). ويصف لوقا الإنجيلي والدي يوحَنَّا المعمدان بقوله "كانَ في أيَّامِ هيرودُس مَلِكِ اليَهودِيَّة كاهِنٌ اسمُه زَكَرِيَّا مِن فِرقَةِ أَبِيَّـا، لَه امَرأَةٌ مِن بَناتِ هارونَ اسمُها أَليصابات، وكانَ كِلاهما بارّاً عِندَ الله، تابعاً جميعَ وَصايا الرَّبِّ وأَحكامِه، ولا لَومَ علَيه. ولَم يَكُنْ لَهما وَلَد لأَنَّ أَليصاباتَ كانَت عاقِراً، وقَد طَعَنا كِلاهُما في السِّنّ" (لوقا 1: 5-7). وكان من حق يوحَنَّا أن يصير كاهنًا بصفة أبيه كاهنا، ولكنه كُرّس منذ ولادته من أجل أن يكون سابق المسيح (لوقا 1: 5-25)، وكان ملاخي قد سبق وتنبأ عن يوحَنَّا المعمدان "هاءَنَذا مُرسِلٌ رَسولي فيُعِدُّ الطَّريقَ أَمامي،" (ملاخي3: 1أ). وقد ختم يوحنا المعمدان دعوته النبوية بشهاد الدم، فبعد أن قام بإعداد الطريق للمسيح، بكلمة الحق ودعوة الناس إلى التوبة، عانى السجن والموت الظالم، لأنه لم يخفْ أن يتحدَّى الحاكم هيرودس انتيباس، إذ وبَّخه لتعدِّيه على شريعة الله، بزواجه هيروديا وامرأة أخيه. وقد امر هيرودس بقطع رأسه إرضاء لها، ومات في قلعة مكاور الأردنية. عام 29م كما يُخبرنا المؤرخ اليهودي يوسيفوس فلافيوس (العاديات 5: 8)؛ وقد شُيدت كنيسة في سبسطية على اسم المعمدان ذكرى استشهاده. ويوحَنَّا المعمدان هو آخر الأنبياء لأنّه مكتوب: "دامَ عَهْدُ الشَّريعَةِ والأَنبِياءِ حتَّى يوحَنَّا" (لو 16: 16). أمَّا عبارة "البَرِّيَّة" في الأصل اليوناني ἔρημος (معناها منطقة غير مُزدحمة) فتشير إلى منطقة شبه صحراوية، قليلة السكان والتي تبعد نحو قرابة 32كم عن اورشليم. ولم تكن برّيّة قاحلة، إنّما كانت تضم ست مدن مع قراها (يشوع 15: 61-62)، لكنها منطقة غير مزدحمة وغير مُحاطة بالحقول والكروم كبقيّة المنطقة. وفي هذه البَرِّيَّة عاش يوحَنَّا صباه كما ورد في الإنجيل "أَقامَ في البَراري إلى يَومِ ظُهورِ أَمرِه لإِسرائيل" (لوقا 1: 80)؛ والبَرِّيَّة تحمل في الكتاب المقدس رنة عميقة. فهناك عاش الشعب العبراني بداية مسيرته مع الله، وإلى هناك أراد الرب أن يُعيد شعبه (هوشع 2: 16)؛ وقد ترك يوحَنَّا المعمدان الهيكل والكهنوت وذهب إلى البَرِّيَّة ليهيئ الطريق لربنا يسوع فاتخذ صورة إيليا الساكن في البراري والجبال وبنفس قوته. عُثر في عام 1947 على آثار ومخطوطات قمران فيها النص التالي " حينئذ نزل كثيرون إلى البَرِّيَّة، ممن يبتغون العدل والحق، ليقيموا هناك". وفي الواقع، البَرِّيَّة، وهي مكان الإصغاء بامتياز. هي المكان الذي يصمت فيه الإنسان ليُصغي إلى كلمة الله. وعندما يصمت الإنسان يتكلم الله. فلا عجب أيضا أن بيلاطس وهيرودُس وقيافا أقوى قيادات فلسطين في ذاك الوقت اهتزوا أمام نبي قادم من البَرِّيَّة صار أعظم من أي حاكم آخر في زمانه وفي كل التاريخ، لأنه أصغي إلى كلمة الله وعاشها وبشّر بها. وبين كل هؤلاء العظماء لم يوجد من استحق أن يكون سابقًا للمسيح سوى يوحَنَّا. لا تقاس العظمة بما يملك الإنسان بل بما يؤدِّيه من عمل لله. إن العظماء حقا هم الذين يِعمل الله بهم فيعملون إرادته تعالى!

3 فَجاءَ إلى ناحِيَةِ الأُردُنِّ كُلِّها، يُنادي بِمَعمودِيَّةِ تَوبَةٍ لِغُفرانِ الخَطايا،

تشير عبارة "فَجاءَ ناحِيَةِ الأُردُنِّ كُلِّها" إلى قدوم يوحَنَّا المعمدان البَرِّيَّة منفردا مناديا في ناحية الأردن، وكان فيها عدد لا بأس فيه من السكان، نتيجة للأبنية التي شيَّدها هيرودُس الكبير وهيرودُس أرخلاوس. وكانت تشكل هذه الناحية مكاناً لنشاط يوحَنَّا المعمدان، كما أنَّ الجليل واليهودية كانا يشكِّلان مكان نشاط يسوع. بدأ يوحَنَّا حياته في البَرِّيَّة ولكنه كرَز في نواحي الأردن. أمَّا عبارة "ناحِيَةِ" في الأصل اليوناني περίχωρος, (تعني منطقة مستديرة) فتشير إلى الأماكن المحيطة بالأردن. وهذا الأمر يدلُّ على أن يوحَنَّا كان يجول للكرازة في تلك المنطقة غير مقيم بمكان واحد. أمَّا عبارة "يُنادي" في الأصل اليوناني κηρύσσω وفي العبرية יִּקְרְאּ فتشير إلى المناداة باسم الملك كما هو الشأن مع يوسف في مصر "نَزَعَ فِرعَونُ خاتَمَه مِن يَدِه وجعَلَه في يَدِ يوسف، وأَلبَسَه ثِيابَ كَتَّانٍ ناعِم وجَعَلَ طَوقَ الذَّهَبِ في عُنُقِه، وأَركَبَه مَركَبَتَه الثَّانِيَة، ونادَوا أَمامَه: ((اِحذَرْ)). وهكذا أَقامَه على كُلِّ أَرضِ مِصْر"(تكوين 41: 42-43). ثم انتقل المعنى إلى الحقل الديني أي المناداة العلنية باسم الله "أُنفُخوا في البوقِ في صِهْيون وآهتِفوا (نادوا) في جَبَلِ قُدْسي ولْيَرتَعِدْ جَميعُ سُكَانِ الأَرض فإِنَّ يَومَ الرَّبِّ آتٍ وهو قَريب "(يوئيل 2: 1). ويُستعمل هنا هذا الفعل "يُنادي" للدلالة على كرازة يوحَنَّا المعمدان، ويطلقه لوقا الإنجيلي أيضا على كرازة يسوع الأولية (لوقا 4: 18-19) وعلى تبشيره العادي (لوقا 4: 44 و8: 1) وعلى كرازة الرسل (لوقا 9: 2 و12: 3) وعلى كرازة بولس الرسول (أعمال الرسل 9: 20) وسائر المُرسلين (لوقا 8: 39)، وعلى كرازة الكنيسة الأولى (أعمال الرسل 8: 5). ويجدر بالذكر أن فعلي "نادى" و"بَشَّر" هما شبه مترادفين؛ أمَّا عبارة ِ"مَعمودِيَّةِ تَوبَةٍ لِغُفرانِ الخَطايا" فتشير إلى مضمون المناداة. وفي إنجيل متى، يرد مضمون المناداة بإيجاز بعبارة " توبوا، قدِ اقتَربَ مَلكوتُ السَّموات " (متى 3: 2)، أو يُشار إليه بعبارتي "بشارة الملكوت" (متى 4: 23) أو "البشارة" (متى 26: 13). فمعمودية التوبة هي علامة التوبة. والمراد بها الإشارة إلى أن الذين اعتمدوا فتطهَّروا من الخطايا السالفة وأخذوا يحيون حياة جديدة (متّى 3: 1-11) ومرقس 1: 4-6). ولم تكن المعمودية الخارجية ذات قيمة إلا َّبما سبقها واقترن بها من التوبة الحقيقية القلبية. وكانت التوبة مقترنة بالاعتراف كما جاء في إنجيل متّى ومرقس " مُعتَرِفينَ بِخَطاياهم" (متى 3: 6، مرقس 1: 5). وكانت المعمودية علامة المغفرة بالنظر إلى الله كما أنها كانت علامة التوبة علامة المغفرة بالنظر إلى الإنسان. أمَّا عبارة "مَعمودِيَّةِ" فتشير الاغتسال الذي كان يُمارس في الدين اليهودي للأطِّهار من النجاسات الطقسية (مرقس 7: 4)؛ أمَّا معمودية يوحَنَّا فأنها تختلف عنها حيث لا تُمنح إلا مرَّة واحدة، كاستعداد أخير إلى الدينونة أي إلى معمودية آخر الأزمنة (مرقس 1: 8)، إذ جاء يوحَنَّا بمعموديَّته يُهيئ الطريق لمعموديّة السيِّد المسيح. وهي تحتوي على شرط جوهري، أي التحول الباطني (متى 3: 2). وتهدف هذه المعمودية إلى مغفرة الخطايا، التي كانوا ينتظرونها منذ ذلك الحين حيث أنها هبة من ملكوت الله المُعلن عنه كما جاء ف نبوءة أشعيا " فأغتَسِلوا وتَطَهَّروا وأَزيلوا شَرَّ أَعْمالِكم مِن أَمامِ عَينَيَّ وكُفُّوا عنِ الإِساءَة " (أشعيا 1: 16). أمَّا عبارة "تَوبَةٍ" في الأصل اليوناني μετάνοια (تغيير في العقلية) فتشير إلى تبديل في القلوب والنظر في الأمور. وهو موضوع رئيسي عالجه إرميا والأنبياء في العهد القديم، ورد بلفظة عبرية שׁוּבָה أي تغيير الطريق والعودة دون شرط إلى إله العهد. فالتوبة موقف تحوُّل من الخطيئة إلى البِّر، لذلك تقتضي التوبة تغييراً في السلوك واتخاذ اتجاهاً جديداً في أسلوب الحياة كلها، وبالتالي فهي لا تكتفي بالانتماء إلى نسل إبراهيم لنيل الخلاص، بل بتبديل عميق على مستوى السلوك، والانفتاح على ما يطلبه يوحَنَّا المعمدان. وهي من وصايا يسوع الأخيرة لرسله "تُعلَنُ بِاسمِه التَّوبَةُ وغُفرانُ الخَطايا لِجَميعِ الأُمَم، اِبتِداءً مِن أُورَشَليم" (لوقا 24: 37). الله الذي يعمل وما علينا إلاَّ أن نتجاوب مع ندائه بعمل ظاهر. فعلامة التوبة هي قبول العماد. أمَّا عبارة "غُفرانِ الخَطايا" فتشير إلى ستر الخطيئة للمؤمن فرداً كان أو شعباً وعدم حساب الله لها ومحو المعاصي والآثام وستر وجه الله عنها كما ترنَّم صاحب المزامير " طوبى لِمَن مَعصِيَته غُفِرَت وخَطيئَته سُتِرَت" (مزمور 32: 1) وعدم تذكرها (أشعيا 43: 25 وعبرانيين 8: 12). وهنا صدق قول الشاعر والكاتب الإنكليزي وِلْيَمْ شكسبير: "الإنسان يغفر والله ينسى". والغفران هو حقا صفة من صفات الله المقدسة (مرقس 2: 5ـ 12). وعطية الله للمؤمن (أعمال الرسل 13: 38) بواسطة كفارة المسيح عن بني البشر (عبرانيين 9: 9ـ 28). وإن الخطايا سيتم غفرانها تماماً على صورة الجبال التي ستُخفض وتزول كما اعلم يوحنا المنعدمان "كُلُّ وادٍ يُردَم وكُلُّ جَبَلٍ وتَلٍّ يُخفَض والطُّرُقُ الـمُنعَرِجَةُ تُقَوَّم والوَعْرَةُ تُسَهَّل" (يوحنا 3: 5).

4 على ما كُتِبَ في سِفرِ أَقْوالِ النَّبِيِّ أَشعْيا: ((صَوتُ مُنادٍ في البرِّيَّة: أَعِدُّوا طَريقَ الرَّبّ واجعَلوا سُبُلَه قَويمَة

تشير عبارة "صَوتُ مُنادٍ في البرِّيَّة "إلى كرازة يوحَنَّا المعمدان المُكلَّف برسالة من الله من اجل الشعب كله متممّا بذلك نبوءة أشعيا (أشعيا 40: 3). وهنا يقف يوحَنَّا في خط الأنبياء الذين نادوا بالتوبة (هوشع 3: 4-5). أمَّا عبارة "أَعِدُّوا طَريقَ الرَّبّ واجعَلوا سُبُلَه قَويمَة" فتشير إلى نبوءة أشعيا "صَوتُ مُنادٍ في البَرِّيَّة: أَعِدُّوا طَريقَ الرَّبّ وآجعَلوا سُبُلَ إِلهِنا في الصَّحْراءِ قَويمة" (أشعيا 40: 3). وقد استبدل لوقا الإنجيلي " سُبُلَ إِلهِنا " ب " سُبُلَه " مطبِّقاً هذه النبوءة على مجيء المسيح نفسه. كانت تُهيَّا الطريق لوصول الملك؛ وأما التهيئة لوصول المسيح فهي تهيئة خلقية روحية بواسطة خدمة يوحَنَّا المعمدان التي شدَّدت على التوبة وغفران الخطايا والحاجة إلى المُخلص. قام يوحَنَّا بمناداته لليهود أن ينزعوا من قلوبهم المعاصي والكبرياء والعناد والكفر. إن كان السيِّد المسيح هو "كلمة الله"، فإن يوحَنَّا مجرَّد الصوت الذي يعد الطريق للكلمة. أمَّا عبارة "الرَّبّ" في الأصل اليونانية κύριος (معناها السيد) فتشير إلى الله في العهد القديم، وهنا تشير يسوع المسيح الذي يُهيئ يوحَنَّا له الطريق. أمَّا عبارة "أَعِدُّوا طَريقَ الرَّبّ" فتشير إلى صورة مألوفة في ذاك الزمان، وهي قبل أن يقوم الملك بأي رحلة، يُرسل رسلا يُخبرون بزيارته حتى يتم إعداد الطريق أمامه. وبالمثل كان يوحَنَّا يقول لسامعيه أن يّعدُّوا حياتهم لمجيء الرب إليهم. هل هناك أي عبارة أفضل من هذه، يمكنها وصف تحضيرنا لملاقاة مسيح الرب مُخلصا في عيد الميلاد وملكا ديانا في نهاية الأزمنة؟ ويعلق القدّيس مكسيمُس الطورينيّ "لم يَكْرِز يوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ فقط فِي زمانه مُعلِنًا مجيء الربّ للفريسيين قَائِلاً: "أَعِدُّوا طَريقَ الرَّبّ وٱجعَلوا سُبُلَه قويمة". بل ها هو يصرخ اليوم أيضًا في داخِلنا ورَعْدُ صوتِه يَهُزُّ صحراء خطايانا. هو يطلب منَّا أن نُعِدَّ طريقَ الرَّبِّ ليس بشقّ طريقٍ بل من خلال نقاوة إيمانِنا. إنَّ الرَّبَّ لا يسلك طُرُقَ الأرض بل يدخل أسرار القلب" (العظة 88). أمَّا عبارة "طَريقَ الرَّبّ " فتشير إلى شريعة مشيئة الله. يُطبّقها المسيح الربّ على نفسه بقوله " أَنا الطَّريقُ " (يوحَنَّا 14، 6)، إذ بواسطته، تتوفّر لنا، إمكانيّة الوصول إلى الآب؛ وكما أن السيّد المسيح مقبول لدى الآب، فهكذا نحن أيضاً، مقبولون لدى الربّ أبينا. ولا عجب أن يتبنّى المسيحيّون الأوّلون الّذين ساروا على خطى المسيح لقب "الطريق "(أعمال الرسل 9: 2). لقد كان طريقهم خدمة الربّ. أمَّا عبارة " اجعَلوا سُبُلَه قَويمَة " فتشير إلى طلب يوحَنَّا من المؤمنين أن يسلكوا السبل مستقيمة، دون التواء أو اعوجاج. إنّ الطريق الّتي يقترحها يوحَنَّا المعمدان هي طريق التوبة. ويُعلق القديس أمبروسيوس"ظهر الصوت (المعمدان) يهيئ الطريق للكلمة (يسوع)". هل سنعيش زمن المجيء بكل أبعاده، لنُعد طريق الرب ونجعل سبله قويمة؟ إن زمن المجيء يُحتِّم علينا أن نكون ساهرين متيقِّظين، وحذرين ومسارعين إلى التوبة وعمل البر، وعيش حياة المصالحة ومحبة القريب استعدادا لعودة ربنا ومخلصنا يسوع.

5 كُلُّ وادٍ يُردَم وكُلُّ جَبَلٍ وتَلٍّ يُخفَض والطُّرُقُ الـمُنعَرِجَةُ تُقَوَّم والوَعْرَةُ تُسَهَّل

تشير عبارة "كُلُّ وادٍ يُردَم وكُلُّ جَبَلٍ وتَلٍّ يُخفَض" إلى إذلال عظماء هذه الدنيا وذلك بناء على نبوءة أشعيا "عُيونُ البَشَرِ المُتَشامِخَةُ تُخفَض وتَرَفُّعُ الإِنْسانِ يوضَع " (أشعيا 2: 11). أمَّا عبارة "كُلُّ جَبَلٍ وتَلٍّ يُخفَض" فتشير إلى كل عظمة بشرية تنحني أمام المسيح الآتي كما يترنم صاحب المزامير " أَيَّتُها الجبالُ الشَّامِخات لِماذا تَحسُدينَ الجَبَلَ الَّذي اْبتَغاه اللهُ لِسُكْناه؟ فالرَّب يَسَكُنُه على الدَّوام" (مزمور 68: 17).

6وكُلُّ بَشَرٍ يَرى خَلاصَ الله

تشير عبارة "وكُلُّ بَشَرٍ يَرى خَلاصَ الله" إلى آية مقتبسة من نبوءة أشعيا " يَتَجَلَّى مَجدُ الرَبِّ ويُعايِنُه كُلُّ بَشَر لِأَنَّ فَمَ الرَّبِّ قد تَكَلَّم" (أشعيا 40: 5)، ورأى الربيون أن آية أشعيا هذه تتكلم عن عودة الشعب من السبي، أما الإنجيليون فرأوها واضحة كإعلان عن خلاص المسيح للبشر. ويُبيِّن لوقا الإنجيلي من خلال هذه الآية أنَّ الخلاص الذي يأتي به يسوع يَخصُّ جميع الناس، اليهود والوثنيين معا كما جاء في نشيد سمعان الشيخ " فقَد رَأَت عَينايَ خلاصَكَ الَّذي أَعدَدَته في سبيلِ الشُّعوبِ كُلِّها (لوقا 2: 30-31)، لان الخلاص يصل إلى البشرية كلها كما يوكِّد ذلك بولس الرسول "إنَّ خَلاصَ اللهِ هذا أَرسِلَ إلى الوَثَنِيِّين وَهُم سيَستَمِعونَ إِلَيه " (أعمال الرسل 28: 28). أمَّا عبارة" يَرى " فتشير إلى رؤية ما وراء التاريخ وهي رؤية الخلاص وما تستطيع أعين الجميع أن تراه، إذ يرى الإنسان ما يجري وما يقوم به يسوع المسيح من خلاص مما يُغيِّر تاريخ البشرية حيث يرى الإنسان الله ويعرفه ويختبر خلاصه. أمَّا عبارة "كُلُّ بَشَر" فتشير في الأصل اليوناني σὰρξ (تعني جسد) فتشير إلى كل إنسان، ويُعلق القديس أوغسطينوس "اعتاد الكتاب المقدَّس أن يصف الطبيعة البشريّة بقوله "كل جسد" ولا يعني جسدًا بدون نفس ولا عقل، بل "كل جسد" تعني "كل إنسان". تدل هذه العبارة إلى جميع شعوب العالم بأسره، فلا يراد بها شعب بني إسرائيل فحسب، بل جميع الناس في أقاصي الأرض قاطبة. لأن رحمة المخلِّص غير محدودة، فلم تخلِّص أُمَّة دون أخرى بل اِفتدى المسيح جميع الأمم. ويعلِّق القديس كيرلس الكبير، قائلًا: "كل إنسان أبصر خلاص الله الآب، لأنه أرسل ابنه فاديًا ومخلِّصًا، ولم يقتصر الأمر على قومٍ دون آخرين". أمَّا عبارة "خَلاصَ الله" فتشير في العهد القديم إلى النجاة من الشر أو الخطر (خروج 14: 13 ومزمور 106: 8 -10)، أمَّا في العهد الجديد فتدل عبارة على إنقاذ الخطأة بالإيمان بيسوع المسيح (2 قورنتس6: 2)، ويشمل الخلاص غفران الخطيئة وقيودها ونتائجها وتطهير النفس وفرح أزلي كما أعلن ملاك الرب ليوسف "ستَلِدُ ابناً فسَمِّهِ يسوع، لأَنَّه هوَ الَّذي يُخَلِّصُ شَعبَه مِن خَطاياهم " (متى 1: 21)، ويؤكد ذلك بولس الرسول بقوله" ولَمَّا بُلِغَ بِه إلى الكَمال، صارَ لِجَميعِ الَّذينَ يُطيعوَنه سَبَبَ خَلاصٍ أَبَدِيّ" (العبرانيين 5: 9)

ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (لوقا 3: 1-6)

بعد دراسة وقائع النص الإنجيلي وتحليله (لوقا 3: 1-6) نستنتج أن النص يتمحور حول إعداد يوحَنَّا المعمدان طريق الرب يسوع المسيح من خلال بشارة معمودية التي تدل على تَوبَةٍ لِغُفرانِ الخَطايا وخلاص لجميع الناس".

1) بشارة تَوبَةٍ لِغُفرانِ الخَطايا

جاءَ يوحَنَّا إلى ناحِيَةِ الأُردُنِّ كُلِّها، يُنادي بِمَعمودِيَّةِ تَوبَةٍ لِغُفرانِ الخَطايا (لوقا 3: 3). وبناء على دعوة الله له اخذ يدعو الناس إلى التوبة (متى 3: 2) في منطقة الأردن مستخدما المعمودية علامة التوبة.وكان هدف بشارته هو إعداد الشعب لقبول يسوع المسيح مخلصاً. لذلك طلب يوحَنَّا من الشعب أن يعترفوا انهم بحاجة إلى الغفران. لذلك يجب إن يتوبوا عن الخطايا لكي يكونوا متأهبين لقبول المسيح. ومن هنا نتناول مفهوم التوبة ومسيرتها.

ا) ما هو مفهوم التوبة؟

إن الله يدعو البشر ليدخلوا في شركة معه. إلا أن الأمر يتعلق ببشر خطأة، خطأة بالولادة (مزمور 51: 7)؛ فبمعصية آدم، أبيهم الأول، دخلت الخطيئة العالم كما يقول بولس الرسول (رومة 5: 12)، ومنذ ذاك وهي تسكن فيهم داخل عمق أعماق الـ "أنا" الإنسانية كما اختبر بولس الرسول" فإِذا كُنتُ أَفعَلُ ما لا أُريد، فلَستُ أَنا أَفعَلُ ذلِك، بلِ الخَطيئَةُ السَّاكِنةُ فِيَّ" (رومة 7: 20).

نحن جميعا أيضا خطأة بذنب شخصي، لأن كل واحد منَّا "بِيعَ لِيَكونَ لِلخَطيئَة" (رومة 7: 14)، إذ قبل برضاه نير الشهوات الخاطئة (رومة 7: 5)؛ ومن ثمة فإن تلبية نداء الله سيتطلب منا، بادئ ذي بدء، اهتداء على امتداد الحياة، استعدادا للتوبة. فمن أجل ذلك يحتل الاهتداء والتوبة مكاناً بارزاً في وحي الكتاب.

تنوّه بعض الصيغ في الكتاب المقدس بموقف الإنسان الذي يُعدّ ذاته طواعية إلى التوبة عن طريق السير مع الله: وبالتحديد "البحث عن الرب" (عاموس 5: 4، هوشع 10: 12)، "البحث عن وجهه" (هوشع 5: 15)، "الاتضاع أمامه" (1 ملوك 21: 29)، "توطيد القلب فيه" (1 صموئيل 7: 3).

أكثر المفردات استعمالاً للتعبير عن التوبة في العهد القديم هي فعل "שׁוּבָה"، الذي يُعبِّر عن فكرة تغيير الطريق، والعودة، والتراجع كما هي الحال في اللغة الآرامية טובו أي "ارجعوا". وهذا الفعل يعني، في الإطار الديني، أننا نحيد عما هو شرير ونتجه نحو الله ونعود دون شرط إلى إله العهد. فهذا تعريف جوهر الاهتداء، الذي يقتضي تغييراً في السلوك، واتجاهاً جديداً في أسلوب الحياة. وفي حقبة متأخرة، أخذ التمييز يتضح وضوحاً متزايداً بين وجه التوبة الباطني، وبين الأفعال الخارجية التي تفرضها.

استخدم العهد الجديد لتعبير عن التوبة اللفظة اليونانية μετάνοια (معناها تغيير في العقلية أي الندامة). التوبة تعني تبديل في القلوب والنظر في الأمور. وتستهدف الرجوع الذاتي في الباطن وتحوّل من الخطيئة إلى البر؛ وهي تقتضي بالتالي تغييراً في السلوك واتخاذ اتجاها جديدا في أسلوب التصرف بالحياة كله. الله الذي يعمل وما علينا إلاَّ أنْ نتجاوب مع ندائه بعمل ظاهر. فالتوبة تقتضي أن نقيم اعتباراً لهذين الوجهين الخارجي والباطني المتميزين، مع كونهما متكاملين أوثق تكامل.

ركّزت كرازة يوحَنَّا المعمدان على موضوع الدعوة إلى التوبة " يُنادي بِمَعمودِيَّةِ تَوبَةٍ لِغُفرانِ الخَطايا" (لوقا 3: 3). كانت الدعوة متَّجهة إلى التوبة العمليّة والسلوك:تقويم الطُّرُقُ الـمُنعَرِجَةُ وتسهيل والوَعْرَةُ"(لوقا 3: 5)، دعوة لترك كل طريق معْوج أو مُلتو، فإنه لن يُبصر أحد الخلاص وهو قابع في شرِّه واعوجاج حياته. ولذلك تتطلب التوبة أنَّ نحوّل وجوهنا إلى الجهة المقابلة، أن نتحوّل 180 درجة من جهة التركيز على الذات، الذي يؤدي إلى تصرفات خاطئة مثل الكذب، والخداع، والسرقة، والنميمة، والانتقام، والفساد، وخطاي الجنس، إلى إتباع طريق الله ووصاياه. والتوبة تعني إذن التطهّر من الخطيئة، وتقويم اعوجاج القلب والعقل، وردم وِديان النزوات المُنحرفة، وهدم الادعاءات والكبرياء، ومقاومة الأنانيّة الّتي تُدمّر وتُفسد علاقاتنا مع القريب والتغلَب عليها. ومن هذا المنطلق فأن التوبة تُعِدُّ الناس لعطيَّة الملكوت كما جاء في نبوءة أشعيا "فأغتَسِلوا وتَطَهَّروا وأَزيلوا شَرَّ أَعْمالِكم مِن أَمامِ عَينَيَّ وكُفُّوا عنِ الإِساءَة"(أشعيا 1: 16).وقد استخدم يوحَنَّا المعمودية كعلامة التوبة ومغفرة الخطايا. وكان اليهود قد استخدموا المعمودية علامة لقبول كل من يعتنق اليهودية.

بادر يسوع وأرسل خلال حياته الأرضية الرسل ليكرزوا بالتوبة ويُبشروا بإنجيل الملكوت (مرقس 6: 12). ثم بعد قيامته جدَّد لهم هذا التكليف بالرسالة. ولذا فإنهم سينطلقون للدعوة باسمه بين جميع الأمم، إلى التوبة لغفران الخطايا كما جاء في إنجيل لوقا "تُعلَنُ بِاسمِه التَّوبَةُ وغُفرانُ الخَطايا لِجَميعِ الأُمَم، اِبتِداءً مِن أُورَشَليم"(لوقا 24: 47)، لأن الخطايا ستغفر لكل من يَغفر كهنة الرب لهم كما أوصى يسوع "مَن غَفَرتُم لَهم خَطاياهم تُغفَرُ لَهم، ومَن أَمسَكتُم عليهمِ الغُفْران يُمسَكُ علَيهم " (يوحَنَّا 20: 23).

التوبة تتطلب الاهتداء أخلاقياً أولا، وقد كان يسوع قد سبق فدعاهم إليه. ويردّ الله على هذه التوبة بمنح غفران الخطايا أعمال الرسل 2: 38، 3: 19، 5: 31) ثم بقبول العماد وهبة الروح القدس (أعمال الرسل 2: 38). ومع ذلك فإنه فضلاً عن التحوّل الأدبي، ينبغي أن يتضمن الاهتداء ثانيا فعل إيمان إيجابي بالمسيح، "راعي نُفوس وحارِسِها" (1 بطرس 2: 25)، ويقول إقليمنضس "إن كل الأبواب مفتوحة لمن يتوب توبة قلبية صادقة، وان الآب يقبل بفرح الابن الذي يتوب حقا" (39: 2؛ 42).

ب) ما هي مسيرة التوبة؟

للتوبة جانبان: البعد عن الخطيئة والاقتراب من الله. لذلك تتطلب التوبة الداخلية توبة خارجية لها كما جاء في نبوءة "مَزِّقوا قُلوَبَكم لا ثِيابَكم ورجعوا إلى الرَّبِّ إِلهكم" (يوئيل 2: 12-13). ولنيل المغفرة يجب التوبة داخليا وخارجيا لتجديد الحياة، وهذا الجهد يتطلب مسيرة على الصعيد الماضي والحاضر والمستقبل

التوبة على الصعيد الماضي:

تقوم التوبة على الصعيد الماضي على فحص الضمير والندامة حيث أنَّ الله لا يغفر خطايانا قبل أن نأتي إليه بفحص الضمير والندامة. ويقوم فحص الضمير عن طريق العودة إلى الذات وبحث الإنسان عن خطاياه الشخصية التي يكون قد ارتكبها سواء أكان بالفكر أو القول أو بالفعل أو بالإهمال ضد وصايا الله ووصايا الكنيسة ووجباته الشخصية.

وتقوم الندامة على ملاقاة الإنسان من أخطأ إليه، والذي هو الله والقريب والذات والتأسف على ما ارتكب من الخطايا. لولا الندامة لما حصلت المرأة الخاطئة على المغفرة من يسوع (لوقا 7: 27) ولا ابن الشاطر (لوقا 15: 12) ولا العشار (لوقا 18: 10). ولكي تكون الندامة مقبولة لدى الرب يجب أن تكون باطنية أي أن تكون صادرة من قلبٍ مستحقٍ متواضعٍ كما يقول الرب "إِرجعوا إِلَيَّ بكُلِّ قُلوبِكم" (يوئيل 2: 12). ويردّ الله على هذه الندامة بمنح غفران الخطايا كما جاء في عظة بطرس الرسول الأولى " فقالَ لَهم بُطرُس: ((توبوا، وَلْيَعتَمِدْ كُلٌّ مِنكُم بِاسمِ يسوعَ المَسيح، لِغُفْرانِ خَطاياكم، فتَنالوا عَطِيَّةَ الرُّوحِ القُدُس." (أعمال الرسل 2: 38، 3).

إنَّ فضيلة التوبة التي يحضُّ عليها العهد القديم والجديد (حزقيال 18: 30 11) والعهد الجديد (متى 3: 2)، كانت في كل وقت شرطا أساسيا لمغفرة الخطايا (لوقا 24: 47). إن الخطايا سيتم غفرانها تماماً على صورة "وادٍ يُردَم وجَبَلٍ وتَلٍّ يُخفَض وطريق مُنعَرِجَةُ تُقَوَّم والوَعْرَةُ تُسَهَّل" (لوقا 6: 6).

التوبة على الصعيد الحاضر:

تقوم التوبة على الصعيد الحاضر على الاعتراف بالخطايا والحلة والتعويض. يقوم التائب باعتراف عن خطاياه ضد الله والقريب والذات للكاهن المفوَّض من قبل الكنيسة التي قلَّدها السيد المسيح سلطته الروحية. وفي هذا الصدد يقول مجمع ترانت: "أن الكاهن صاحب السلطة لمغفرة الخطايا لا يمكنه ممارستها كما يقتضي إلاَّ إذا كان له أن يعرف خطايا التائب واستعداده. وهذا ما لا يستطيع الخاطئ إلاّ باعترافه نفسه، كما ولا يستطيع فرض العقوبة (التعويض) المناسبة بدونه" (D. 899). ويُعلق العلامة أوريجانوس " ينبغي ألاَّ يخجل التائب من الاعتراف بخطاياه بين يدي كاهن الرب طالبا الدواء (في تفسيره لسفر الأحبار العظة 2: 4). ويقول البابا بندكتس الحادي عشر "إن عادة الاعتراف هو فعل تواضع وبالتالي فعل تكفير" (D. 470).

وبعد الاعتراف بالخطايا تأني الحلة، وهي الحكم الذي به يُعلن الكاهن باسم المسيح وسلطته مغفرة خطايا التائب. وهذه المغفرة هي الدافع الأساسي لمسيرة التوبة لكي يعود المرء ابنا حراً وشريكاً في حياة الله الآب. والحل من الخطايا ليس إعلان غفران الخطايا يقوم به الكاهن فقط بل حلها بالفعل أيضا. وكما يسوع المسيح غفر خطايا المقعد في كفرناحوم (لوقا 5: 20 شفاء المقعد) وغفر خطايا المرأة الخاطئة (لوقا 7: 47)، كذلك قلد أيضا رسله سلطان مغفرة الخطايا. وذلك عندما ظهر يسوع لرسله مساء قيامته، قالَ لَهم ((السَّلامُ علَيكم! كما أَرسَلَني الآب أُرسِلُكم أَنا أَيضاً. قالَ هذا ونَفَخَ فيهم وقالَ لَهم: ((خُذوا الرُّوحَ القُدُس. مَن غَفَرتُم لَهم خَطاياهم تُغفَرُ لَهم، ومَن أَمسَكتُم عليهمِ الغُفْران يُمسَكُ علَيهم"(يوحَنَّا 19: 19-23). بهذا الكلام وكَّل يسوع إلى رسله الرسالة التي أخذها من أبيه وبشَّرها على الأرض. وهذه الرسالة تقوم بطلب وخلاص ما قد هلك، "لِأَنَّ ابْنَ الإِنسانِ جاءَ لِيَبحَثَ عن الهالِكِ فيُخَلِّصَه (لوقا 19: 10). ويُعلق القديس أمبروسيوس: "ليس عند الله محاباة، فلقد وعد برحمته جميع البشر، وقلَّد رسله سلطان المغفرة، دون أي استثناء" (في التوبة 1/3: 10).

وبعد الحلة لا بدَّ من التكفير أو التعويض عن الخطايا، وهو ما يفرضه الكاهن على الخاطئ تعويضا عن خطاياه. والتعويض في سر الاعتراف يقوم على أعمال الرسل التوبة المفروضة على التائب تكفيرا عما يتأتى عن الخطيئة من عقوبات زمنية ما زالت باقية حتى بعد إن غفرت الخطيئة ورُفع العقاب الأبدي. لذلك يجب على الخاطئ، بعد مغفرة خطيئته، إن يكفر أيضا عنها، كما ورد مع آدم وحواء أبوينا الأولين (التكوين 3: 16) ومريم أخت موسى (العدد 12: 14-15)؛ وداود (2 صموئيل 12: 13-14). وقد طلب المسيح من تلاميذه أن يحملوا الصليب معه (متى 16: 24؛ 10: 38) أي أن يقوموا بأعمال التوبة.

على الصعيد المستقبل:

تقوم التوبة على الصعيد المستقبل على القصد. والقصد هو عزم الإرادة الصادق على عدم الرجوع إلى الخطيئة وأسبابها، وذلك بالتخلي عن مغريات العالم والتجارب الخاطئة التي تؤدي إلى الموت الأبدي، والابتعاد عن كل ما يعوقه عن سماع كلام الله والعمل به. فلا يمكن أقول إننا نؤمن بالله ونادمين على خطايانا ثم بعد ذلك نحيا كما نشاء (لوقا 3: 7-8)، بل ينبغي إن نثبت بالإيمان بيسوع المسيح ولا ندع مغريات الحياة وصعوباتها تُبعدنا عنه مرة ثانية.

وإذ نحن ندنو من نهاية عام ونستعد لعيد الميلاد والسنة الجديدة، لننظر إلى الوراء، كي نرى كيف عشنا طرق الحياة هذه، وأن نقّر لأنفسنا إذا كنّا قد سلكنا الطريق المستقيمة الضيّقة الّتي تقود إلى الخلاص. فإذا كان الجواب لا، فهذا هو الوقت المقبول لتغيير اتّجاه مسارنا فنندم ونعترف بخطايانا فنحصل على الغفران وننال الخلاص. وقدّد الله الخلاص ليس لليهود فقط بل للجميع دون استثناء (لوقا 3: 6).

2) ما معنى بشارة خلاص لجميع الناس

جاءَ يوحَنَّا إلى ناحِيَةِ الأُردُنِّ كُلِّها يُنادي " بِمَعمودِيَّةِ تَوبَةٍ لِغُفرانِ الخَطايا" فحسب، إنما نادى أيضا بان " كُلُّ بَشَرٍ يَرى خَلاصَ الله" (لوقا 3: 6). وهكذا قد دعا يوحَنَّا المعمدان كل البشر للاستعداد للقاء الرب يسوع. وبناء على دعوة الله اخذ يدعو الناس إلى برنامج حياة (لوقا 3: 7-12؛ 5: 1). فمن هنا نسأل ما معنى بشارة الخلاص؟

الخلاص فكرة مشتركة بين كل الديانات. وخلاص البشر له دور رئيسي في الكتاب المقدس. ففي أسفار العهد الجديد وردت اللفظة اليونانية σώζω"الرب يُخلص" (متى 1: 21)، " σωτηρالمُخلّص" (لوقا 2: 11) 110 مرة لتشير إلى فكرة الخلاص.

في أسفار العهد القديم وردت اللفظة العبرية: ישע "يشع" (وَسِع بالعربية) (أشعيا 62: 11)، وישועה و"هوشعنا" הֹושִׁ֘יעָ֥ה تعني "امنح الخلاص!" (مزمور 118: 25)، ومنها اشتقت أسماء العلم مثل يسوع، ويشوع، أشعيا، الشياع، هوشع، وترجع هذه الأسماء إلى نفس المصدر الأساسي: أن يخلص المرء يعني أن يُنشل من خطر كاد يهلك فيه. وبحسب طبيعة الخطر تتم عملية الإنقاذ أو الحماية، أو الفداء، أو الشفاء، للتطهير (حزقيال 36: 29) أو للتحرير (إرميا 31: 7، غلاطية 5: 1) أو للسعادة (أشعيا 52: 7) وذلك بفضل علاقتها بملكوت الله.

كشف لنا الكتاب المقدس أن الخلاص هبة من الله، ويأتي من الرب "مِنَ الرَّبِّ خَلاصُ الأبْرار" (مزمور 37 :39) هو إله خلاص" أَنقِذْني مِنَ الدِّماءِ يا أللهُ إلهُ خَلاصي" (مزمور 51: 16). ووصف لنا أيضا مداخلات الله في سبيل خلاص شعبه منذ الخلق مرورا بإبراهيم حتى مجيء المسيح، قمة تاريخ الخلاص. إنّ الله "يُريدُ أَن يَخْلُصَ جَميعُ النَّاسِ ويَبلُغوا إلى مَعرِفَةِ الحَقّ"(1 طيموتاوس 2: 4) "إنَّ اللهَ، بَعدَما كَلَّمَ الآباءَ قَديمًا بِالأَنبِياءَ مَرَّاتٍ كَثيرةً بِوُجوهٍ كَثيرة، كَلَّمَنا في آخِرِ الأَيَّام هذِه بِابْنٍ جَعَلَه وارِثًا لِكُلِّ شيء وبِه أَنشَأَ العالَمِين. " (عبرانيين 1: 1-2)، عندما بلغ ملء الزّمان، أرسل ابنه، الكلمة المتجسد، الذي مسحه الروح القدس، ليبشّر المساكين، ويشفي منكسري القلوب (أشعيا 61: 1، لوقا 4: 18).

والإنجيل يقدّم الخلاص لكل مؤمن كما صرَّح بولس الرسول "فإِنِّي لا أَستَحيِي بِالبِشارة، فهي قُدرَةُ اللهِ لِخَلاصِ كُلِّ مُؤمِن " (رومه 1: 16). لان الله يُريدُ أَن يَخْلُصَ جَميعُ النَّاسِ ويَبلُغوا إلى مَعرِفَةِ الحَقّ " (1 طيموتاوس 2: 4). وقد بشَّر يوحَنَّا المعمدان " كُلُّ بَشَرٍ يَرى خَلاصَ الله" (لوقا 3: 6) بغض النظر عن انتماءاتهم الوثنية واليهودية مثل " القَيصَرِ طيباريوس، وبُنطِيوس بيلاطُس حاكِمَ اليَهوديّة، وهيرودُس أَميرَ الرُّبعِ على الـجَليل، وفيلِبُّس أَخوهُ أَميرَ الرُّبعِ، وليسانياس أَميرَ الرُّبعِ وحَنَّانُ وقَيافا عَظيمَي الكَهَنَة (لوقا 3: 1-2). والجدير بالذكر أن عدد الوارد أسماؤهم هم سبعة، وهي علامة الملء والاكتمال وإشارة إلى أن الخلاص هو من نصيب الجميع. لأجل هذا أرسل ابنه كمخلص للعالم (1 يوحَنَّا 4: 14) وكمخلص يريد أن يقود كل الناس إلى الخلاص (1 طيموتاوس 4: 2)، إنه جاء ليخلص الخطأة (1 طيموتاوس 1: 15)، وبموته وقيامته، صار لنا " سَبَبَ خَلاصٍ أَبَدِيّ" (عبرانيين 5) ، ويعلق القديس أوغسطينوس " حياة يسوع وعمله الفدائي يهدف بطبيعته إلى خلاص البشر" ( رسائل 187، 11، 34) : جاء يسوع على الأرض ليبحث عن الهالك فيخلصه (لوقا 9: 56)، ليخلص العالم، لا ليحكم عليه "فإِنَّ اللهَ لَم يُرسِلِ ابنَه إلى العالَم لِيَدينَ العالَم بل لِيُخَلَّصَ بِه العالَم" (يوحَنَّا 3: 17، ) أنه " كَلِمَةُ الخَلاص " (أعمال الرسل 13: 26).

نستنتج مما سبق أنَّ خلاص الله للإنسان بدأ منذ الخلق ويستمر في مجرى التاريخ إلى الأزمنة الأخيرة. فالخلق هو"بدء تاريخ الخلاص الذي بلغ ذروته في المسيح" (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 280). والكنيسة تعلم أن كل حياة المسيح سر خلاص. "والمسيح وحده هو السر" (القديس أوغسطينوس، رسائل 187، 11، 34) . أي العلامة المنظور Sacramentum) ( لحقيقة الخلاص الخفية Mysterium)). وبهذا المعنى أيضا" الكنيسة في هذا العالم سر الخلاص، والعلامة والأداة لشركة الله والبشر "التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية،680)

نستنتج مما سبق إن الله يلخِّص بيسوع كل تاريخ الخلاص في سبيل البشر (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 430). إن اسم "يسوع" يعني "الله يخلص" ويعبّر عن هويته ورسالته معا، وكل ما عمله يسوع، وما قاله، وما تألمه، كان هدفه إعادة الإنسان الخاطئ إلى دعوته الأولى: "عندما تجسد وصار إنسانا، لخّص في ذاته تاريخ البشر الطويل، وحصل لنا الخلاص، بحيث أن ما فقدناه بآدم، (كوننا على صورة الله ومثاله)، نستعيده في المسيح يسوع" التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 518). وقد وجّه خلاصه أولا إلى اليهود (أعمال الرسل 13: 26)، وبعد ذلك إلى الأمم الأخرى (أعمال الرسل 13: 47)، وشرط الخلاص هو الإيمان بالرب يسوع والدعاء باسمه (أعمال الرسل 16: 30-31). فعمل خلاص البشر هذا ومجد الله الأعظم الذي مهّدت له الأعمال الرسل الإلهية في شعب العهد القديم، أتمّه المسيح الرب ولا سيما في سر ميلاده وفصح آلامه السعيدة وقيامته من بين الأموات وصعوده المجيد، سر فصحي الذي به "حطّم الموت بموته، وجدّد الحياة بقيامته" (دستور عقائدي في الليتورجيا المقدسة، 5).

الخلاصة

نظرًا لأهميّة الدور الذي يقوم به القدِّيس يوحَنَّا المعمدان، يحدّثنا الإنجيلي لوقا عن تاريخ ظهوره كحقيقة واقعة تمت في زمن حُكْمِ القَيصَرِ طيباريوس، وبُنطِيوس بيلاطُس حاكِمَ اليَهوديّة، وهيرودُس، وفيلِبُّس أَخوهُ وليسانياس وفي عهد وحَنَّانُ وقَيافا عَظيمَي الكَهَنَة. ولمَّا صارت إليه كلمة الله ودعاه ليبدأ العمل، جاء إلى المنطقة القريبة من الأردن، وبدأ ينادى ببشرى الخلاص لكل الناس. اليهود والأمم، الكبار والصغار، الرجال والنساء، لكي تمتلئ بالأمل والرجاء كل نفس يائسة مثل الوادي المنخفض، وتتضع كل نفس متكبرة وعالية مثل الجبل، ولتكون أهداف الناس مستقيمة في طلب الرب، وضمائرهم خالية من كل مكر وشر. وهيَّا قلوب البشر بالتوبة لقبول الخلاص على يد يسوع المسيح.

إن دعوة يوحَنَّا دعوة توبة وخلاص. إن وعظ يوحَنَّا المعمدان وكرازته ترتكز على كلمة "توبوا" والتي تعني باليوناني "تغيير الوجهة إلى الاتجاه المعاكس، تغيير الطريق، ترك طريق الموت والخطيئة والظلمة للعودة إلى طريق الحياة والنعمة والنور والخلاص. ولا تزال دعوة يوحَنَّا قائمة في كل نفس، فإن أعماقنا لن تبصر خلاص الله ما لم نسمع صوت يوحَنَّا في داخلنا يملأ قلوبنا المنسحقة بالرجاء، ويُحطِّم كل عجرفة وكبرياء، ويُحوِّل مشاعرنا الداخليّة عن المعوجَّات ويجعل وُدياننا العميقة سهلة.

دعاء

أيها الآب السماوي نبتهل إليك، باسم ابنك يسوع المسيح، أن تُقوّم قلبنا؛ وعلّمنا كيف نُعدّ الطريق لابنك الوحيد مخلصنا حتى نستعد لاستقباله بقلوب نقيّة طاهرة فننطلق لحياة جديدة وننال الخلاص الأبدي. آمين.

الأب لويس حزبون - فلسطين



رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

الانتقال السريع

قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً
الموضوع
بشارة يوحَنَّا المعمدان الداعية إلى التوبة وخلاص
الإشارة إلى يوحنا المعمدان في ستة فصول في بشارة متى
بشارة يوحنا المعمدان والضمير الأخلاقي
بشارة يوحنا المعمدان للناس
بشارة زكريا الكاهن بميلاد يوحنا المعمدان


الساعة الآن 10:58 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024