الأحتمال فضيله
الاحتمال موضوع طويل، وله أسباب عديدة: فهناك من يحتمل بسبب الوداعة والهدوء في طبعه. وهناك من يحتمل لاتضاع قلبه. أو بسبب الحكمة إذ يتجنب عواقب الأمور. أو لأسباب أخرى... ولكن موضوعنا الآن هو الاحتمال بسب المحبة، المحبة التي تحتمل كل شيء.
** فالذي يحب شخصًا يكون مستعدًا أن يحتمل منه، وأن يحتمل من أجله. يحتمل منه إساءاته وأخطائه. ويحتمل من أجله في الدفاع عنه.
** ومن أمثلة المحبة التي تحتمل، محبة الأمومة ومحبة الأبوة: فالأم تحتمل متاعب الحمل والولادة، ومتاعب الرضاعة، وحمل الابن في صغره، ومتاعب الصبر في تربية أبنائها والعناية بهم في غذائهم وفي نظافتهم، وفي الاهتمام بصحتهم، وفي تعليمهم النطق والكلام، وفي الصبر على صراخ الأطفال وصياحهم وعنادهم إلى أن يكبروا.
ومن جهة الأب: يحتمل كثيرًا في تربية أبنائه، وفي مشقة العمل للإنفاق عليهم وتوفير كافة احتياجاتهم.
** ومن أمثلة المحبة التي تحتمل، ما احتمله الشهداء من سجن وعذابات لا تُطاق، ثابتين في محبة الله، ورافضين أن ينكروه إلى أن قُطعت رقابهم... ولا ننسى أيضًا احتمال الأنبياء والرسل في نشر رسالة الإيمان، وما يتلقونه من متاعب ومقاومات.
ومن أجل محبة الله أيضًا احتمل الرهبان والنُسّاك أن يعيشوا في البراري والقفار وشقوق الأرض، بعيدًا عن كل عزاء بشرى، في شظف الحياة زاهدين في كل شيء.
** ومن أمثلة المحبة التي تحتمل، محبة الجنود لوطنهم. إذ يحتملون مشاق التدريب والحرب، والتعرض للموت أو للإصابة. وربما يحتملون أيضًا فقد بعض أعضائهم أو التعرض لجروح شديدة أو تشوّهات... ونفس الوضع نقوله على ما تحتمله الشرطة لحفظ الأمن، وما يتعرضون له أحيانًا من مقاومات من المتمردين على النظام.
كل هذه الأمثلة عن المحبة من أجل الغير، المحبة التي لا تطلب ما لنفسها... ومن الأمثلة أيضًا رجال المطافئ، وفرق الإنقاذ على تنوع تخصصاتهم. أولئك يعرضون أنفسهم للحريق أو للغرق أو للموت بأنواع كثيرة من أجل الغير.
** ننتقل إلى نقطة أخرى وهى الحديث عن محبة المخطئين واحتمال تصرفاتهم. المحبة التي تحتمل الغير وتغفر له، والمحبة التي تحتمل الإساءة ولا ترد بالمثل. ولا تُشهّر بالمخطئ، ولا تشكو منه بل المحبة التي تنسى الإساءة، ولا تخزنها في ذاكرتها كما يفعل البعض إذ يتذكر الإساءة لشهور وسنوات، أما المحبة الغافرة فكثيرًا ما تنسى حقوقها الخاصة.
** المحبة التي تحتمل هي محبة الشخص صاحب القلب الكبير الواسع. الذي يحتمل كلام الآخرين حتى لو كان ذلك بألفاظ صعبة. ويحتمل حتى الفكاهة ولو كانت بأسلوب يبدو فيه تهكم. ويحتمل العتاب القاسي ولا يتضايق.
على أن يكون الاحتمال في غير ضجر ولا تذمر ولا ضيق. بل بصدر رحب وروح طيبة، غير متمركز حول ذاته وحول كرامتها.. وطبيعي أن المحبة التي لا تطلب ما لنفسها، سوف لا تطلب حقوقًا لذاتها، وبالتالي ستحتمل كل شيء، دون أن تحتد.
** بعض الناس لا يحتملون الذين لا يفهمونه. ومن هنا كانت مشكلة الأذكياء مع الجهلاء أو الأقل فهمًا، أو مع الطبقات الجاهلة. لذلك يبعد مثل هؤلاء الأذكياء عن كثيرين من الناس. وقد لا يحتمل الواحد منهم طول الوقت في إقناع غيره، فيبعد عنه. بينما لو كانت في قلبه محبة لأطال أناته على من لا يفهمه، وبمحبته يصبر عليه. وبذلك يمكنه أن يضم إليه هذا الجاهل باحتماله له، ويرجو منه خيرًا! ونفس الوضع في معاملته للأطفال.
** إن القلب الضيق الخالي من الحب، هو الذي لا يحتمل الآخرين. أما القلب المتسع فيستطيع أن يحتمل كل الناس. لذلك كن متسعًا في قلبك وفي صدرك وفي فهمك. ولا تتضايق بسرعة واعرف أن المجتمع فيه أنواع متعددة من الناس. وليسوا جميعًا من النوع الذي تريده. يوجد فيهم كثيرون لم يصلوا بعد إلى المستوى المثالي، ولا إلى المستوى المتوسط. وعلينا أن نحبهم جميعًا. وبالمحبة ننزل إلى مستواهم لنرفعهم إلى مستوى أعلى. نتأنى عليهم، ونترفق بهم، ونحتمل كل ما يصدر من جهالاتهم، ونصبر عليهم حتى يصلوا...
لا تقل: "الناس متعبون". بل بمحبتك تعامل معهم، وحاول أن تصلح من طباعهم. لأنك لو كنت لا تتعامل إلا مع المثاليين، فعليك أن تبحث عن عالم آخر تعيش فيه. في أحدى المرات قال لي شخص: "أنا لم أعد احتمل (فلان) إطلاقًا. إنه شخص لا يطاق ولا يمكن احتماله!!". فقلت له: "وكيف إذًا احتمله الله منذ ولادته حتى الآن؟! وكيف احتمل غيره وأمثاله منذ بدء الخليقة إلى يومنا هذا؟!". فإن كان الله يحتملنا في كل أخطائنا، فلماذا لا نحتمل غيرنا.
وكم مرة قدمنا لله توبة كاذبة، وكان الله يقبلنا. ثم نعود إلى خطايانا السابقة، ويحتملنا الله ويطيل أناته علينا حتى نتوب مرة أخرى. وكم مرة يأتي موعد الصلاة، فنقول ليس لدينا وقت لنصلى! عجيب أن هذا التراب يقول لخالقه: "ليس لدى وقت لأكلمك!!"، ويحتمل الله عبده... وكأنه يقول لهذا العبد: إن وجدت وقتًا افتكرني.
حقًا ليتنا نتعلم دروسًا من معاملة الله، ونحتمل الناس. نحتملهم كما يحتملنا الله، ونحتملهم كما احتملهم.
** كذلك الإنسان المحب لله يحتمل التجارب والمشاكل والأمراض. ولا تتزعزع محبته لله مهما طال وقت التجربة أو ازدادت حدتها. بل يحتمل في ثقة وفي غير تذمر ولا يتعجل حل المشكلات... بل ينتظر الرب متى يحين الوقت الذي يخلصه فيه. والذي يحب الله لا يتضايق من انتظاره للرب بل يحتمل. فقد يصلي، ولا يجد أن الصلاة قد اُستُجيبَت. فلا يشك في محبة الله له، ولا يظن أن الله قد نسيه. بل يحتمل ما يظنه متأخرًا في الاستجابة!! واثقًا أن الله لا بُد سيعمل من أجله. ولكن الله دائمًا يعمل في الوقت المناسب حسب حكمته.
إن القلب الضيق أو الذي محبته قليلة، هو الذي يتضجر. ويريد أن يطلب الطلب، ويناله في التو واللحظة، دون أن يحتمل عامل الزمن!!