اعتماد يسوع
آ13. حينئذٍ أتى يسوعُ من الجليل إلى الأردنِّ ليَعتمدَ من يوحنّا، لا لأنَّه محتاج العماد، بل ليعطي الجميع مثالاً للاتِّضاع الكامل والبرِّ التامّ الذي تكمل به، لا الوصايا الإلهيَّة فقط، بل كلُّ ما يطابقُ الاستقامة واللياقة أيضًا. ثمَّ قد أراد السيِّد أن يقبل الاعتماد من العبد، كي لا يأنف العبيد قبول الاعتماد من سيِّدهم كما قال أغوسطينوس*. وأراد المخلِّص أيضًا أن يزيد يوحنّا اعتبارًا لدى اليهود بقبوله العماد منه، وأن يقدِّس المياه بمسِّ جسده المقدَّس ويمنحها القوَّة الأدبيَّة لتلد الناس ثانية بعد رسمة المعموديَّة، كما قال النزينزيّ* وفم الذهب* وأغوسطينوس*. على أنَّ جلَّ ما قصده السيِّد باعتماده هو أن يُظهر نفسه للجموع أنَّه الماسيّا الموعود به. إذ روى يوحنّا الإنجيليّ 1: 31: وأنا لم أكن أعرفه، ولكن ليظهر لإسرائيل فلهذا جئت لأعمّد بالماء. وكان اعتماد المسيح في اليوم السادس من كانون الثاني في سنة 15 لملك طيباريوس قيصر كما قال لو 3: 1. فتمنَّع يوحنّا منه قائلاً:
آ14. أنا المحتاجُ أن أعتمدَ منك وأنتَ أتيتَ إليَّ؟ وقرأت اللاتينيَّة أنا يجب عليَّ أن أعتمد منك. واليونانيَّة أنا أحتاج معموديَّتك، لا المعموديَّة المنظورة والجسديَّة العتيد أن ترسمها، بل المعموديَّة الروحيَّة والغير المنظورة بفيضان نعمتك ومواهبك، التي كما أفضتها عليَّ في أحشاء أمّي، فهكذا أرجو أن تواصل فيضانها عليَّ لأتنظَّف من الآثام الخفيفة وأزداد تزيُّنًا بمواهب روحك القدُّوس. هذا مع أنَّ القدّيس إيرونيموس* وصاحب التأليف الناقص وتاوافيلكتوس* وأوتيميوس* نتجوا من هذه الآية أنَّ يوحنّا المعمدان اعتمد بعد ذلك عمادًا جسديًّا من المسيح ليصير عضوًا لكنيسة المخلِّص التي المعموديَّة بابها. وكذا قد علَّم أوديوس* خليفة بطرس في كرسيّ أنطاكية وغيره كثيرون أنَّ مريم العذراء ومار بطرس وباقي الرسل عمَّدهم المسيح.
آ15. أجاب يسوع وقال له: دعِ الآن، أي دعني أعتمد منك الآن إذ لم يُشهَر بعد بحلول الروح القدس أنّي المسيح، بل يظنُّني الناس واحدًا من العامَّة. ولذا لا ينبغي أن تأبى تعميدي، كذا فسَّر فم الذهب* وأوتيميوس* وغيرهما. فهكذا ينبغي لنا، أي لي ولك، أو لنا أي لجميع الذين يعلِّمون الناس، أن نكمِّل كلَّ البرّ، بتقدُّمنا الجميع بالسلوك به. ويُفهَم بكلِّ البرِّ هنا كلّ ما هو مستقيم وعادل ومرضٍ لله، أو المفهوم بكلِّ البرِّ التواضع الذي يدخل فعل كلِّ برٍّ وفضيلة. ويعطينا المسيح بذلك نموذجًا للاتِّضاع والثواب له، فإنَّه بخضوعه ليوحنّا قد شهد الثالوث الأقدس ويوحنّا نفسه له أنَّه أعظم من يوحنّا بل إنَّه ابن الله حقيقة. ويقرب من التصديق أنَّ يوحنّا أشهر المسيح بنفس تعميده له، لأنَّه من حيث إنَّ صورة معموديَّة يوحنّا كانت هذه: أنا أعمِّدك باسم العتيد أن يأتي، أو ما أشبهها، فيظهر أنَّه إذ عمَّد المخلِّص قال: هذا هو الماسيّا الذي قلت إنَّه عتيد أن يأتي. حينئذٍ تركه، أي حينئذٍ عمَّد يوحنّا يسوع. ويظهر أنَّه لم يغسل رأسه فقط بل باقي جسمه أيضًا، لأنَّ عادة اليهود كانت أن يغسلوا كلَّ أعضاء الجسد لتطهير جميعها.
آ16. فلمّا اعتمدَ يسوعُ صعدَ حالاً من الماء وانفتحتْ له، أي إكرامًا له، السماوات. لا السماء الحقيقيَّة إذ لا يمكن أن تنشقَّ طبيعيًّا، ولا طائل لانشقاقها بنوع فائق الطبيعة، بل يُراد بالسماوات الجوَّ الأعلى (الذي يُدعى كثيرًا في الكتاب المقدَّس باسم السماء)، فإذ تتبلَّد أجزاؤه من طرفين مع بقاء الهواء المتوسِّط متخلخلاً، تظهر فيه طاقة وشقّ. وكذا حدث للقدّيس إسطفانوس وحزقيال النبيّ وغيرهما. ورأى يسوع روح الله. أي الروح القدس نازلاً مثل حمامة واستقرَّت عليه. يعني حلَّ الروح القدس عليه بشكل أو بصورة حمامة ممثِّلة ومبيِّنة حلول الروح القدس. فإذًا لم تكن حمامة حقيقيَّة كما ارتأى إيرونيموس* وأنسلموس* وتوما*، بل جسمًا هوائيًّا كوَّنه ملاك على هيئة الحمامة وحرَّكه كما علَّم أمبروسيوس* وفم الذهب* وغيرهما على أنَّها كانت جسمًا حقيقيًّا لا شبحًا، لأنَّها إذا لم تكن جسمًا حقيقيًّا، فإمّا لا يمكن الجميع أن يروها وإمّا يقتضي تكرار الأعجوبة في أعين كلٍّ من الناظرين. ثمَّ إنَّ الحمامة بيضاء ووديعة وطاهرة وساذجة وغيورة ومخصبة ومحبَّة أفراخها وأنيسة وتلتذُّ بالروائح الطيِّبة وتجانب الأقذار. وبذلك جميعه تشير إلى صفات المسيح والروح القدس. وكما بشَّرتْ سابقًا نوحًا بنهاية الطوفان، إذ أتت بغصن زيتون أخضر، هكذا بشَّرت هنا يوحنّا واليهود الحاضرين بمجيء مخلِّص العالم، لأنَّ يوحنّا رأى الحمامة كما يظهر من مر 1: 10، وكان يوحنّا وُعد بذلك كما روى يو 1: 33: إنَّ الذي ترى الروح ينزل مستقرًّا عليه هو يعمِّد بروح القدس وكون باقي اليهود رأوا الحمامة ينتج بالكفاية من سماعهم صوت الآب السماويّ كما سيجيء. ولا يتوهَّمنَّ أحد أنَّه يشار بذلك إلى أنَّ المسيح ازداد حينئذٍ نعمًا أو مواهب بحلول الروح القدس عليه، لأنَّه منذ أوَّل دقيقة من اتِّخاذه الطبيعة البشريَّة امتلأ نعمة وعلمًا نظرًا إلى ناسوته كما تقدَّم في 1: 20.
آ17. وصوت من السماء، مكوَّن من الهواء بواسطة الملائكة كما قال فيكتور الأنطاكيّ*. في مر 1. يقول، بلسان الآب: هذا هو. ورد في مرقس ولوقا: أنت هو ابني الحبيب الذي به سُرِرتُ. منذ الأزل هو منزَّه عمّا يغيظني. وبالنظر إليه وإلى استحقاقاته، يسرُّني الجميع ولا أحد يرضيني دونه. فما أعذب هذا الصوت وما أغربه عمّا جاء في تك 6: 7 من قوله تعالى: ندمت نفسي على عمل الإنسان. وقد اتَّضح حينئذٍ للعالم سرُّ الثالوث الأقدس الذي كان أوحي إلى اليهود بالتباس، إذ أظهر الآب نفسه بالصوت والابن بالجسد والروح القدس بشكل حمامة. وقد سمع جميع الحاضرين هذا الصوت، إذ غايته إظهار المسيح لهم وإظهار سرِّ الثالوث الأقدس كما تقدَّم.