منتدى الفرح المسيحى  


العودة  

الملاحظات

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  رقم المشاركة : ( 1 )  
قديم 30 - 07 - 2021, 01:13 PM
الصورة الرمزية Mary Naeem
 
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو
  Mary Naeem غير متواجد حالياً  
الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,275,577

فى الطريق إلى الصليب


فى الطريق إلى الصليب






ها نحن أخيراً، فى انبهار، نقترب بالتأمل من أحداث الصليب المجيدة حيث يبقى العقل هناك.. لكى تتخشع الروح وتتعبد فى حجال الملك.
مثال الطاعة


كانت خطية الشيطان هى الكبرياء، التى دفعت به إلى العصيان، والتمرد، وعدم الطاعة لله. أما السيد المسيح فمع كونه الابن الوحيد الجنس المساوى لأبيه فىكل صفات الجوهر الإلهى، فإنه أراد أن يقدم المثل والقدوة للملائكة والبشر-أى لكل خليقة عاقلة -فى الطاعة والخضوع الناشئ عن المحبة، ولهذا فقد أخلى ذاته، آخذاً صورة عبد ليمارس الطاعة كإنسان، مظهراً أن الخضوع للآب السماوى ليس فيه ضياع، بل هو المجد الحقيقى..

وبهذا أظهر السيد المسيح بطلان دعاوى الشيطان، هو ومن تبعه من الملائكة الذين سقطوا معه. ووضع الابن الوحيد ناموساً للمعرفة الحقيقية فى ملكوت الله.. جوهره التحرر من الكبرياء والغطرسة.

طريق الصليب

بدأ السيد المسيح مسيرته نحو الصليب، مثبتاً وجهه نحو أورشليم مدينة الملك العظيم.. الموضع الذى سُر الرب أن يُدعى اسمه فيه.. أورشليم التى كانت رمزاً لملكوت الله.

أظهر السيد المسيح أن الصليب والطريق إلى الملكوت هما شئ واحد، وقال لتلاميذه: “ها نحن صاعدون إلى أورشليم وابن الإنسان يُسلّم إلى رؤساء الكهنة والكتبة فيحكمون عليه بالموت، ويسلّمونه إلى الأمم لكى يهزأوا به، ويجلدوه، ويصلبوه، وفى اليوم الثالث يقوم” (مت20: 18، 19). فالصعود إلى أورشليم (رمز الملكوت)، معناه الدخول فى طريق الصليب (الاتضاع، والطاعة الكاملة).
من الموت إلى الحياة


كانت خدمة الصليب هى البرهان الحقيقى على اتضاع السيد المسيح الكامل. فهو لم يقبل المحقرة والآلام فقط، بل قَبِل أيضاً أن يبدو مهزوماً أمام الموت.. مع أنه هو الذى هزم الموت الحقيقى بتواضعه.. هزم موت الخطية بطاعته الكاملة للآب.

قيل عن السيد المسيح “الذى فى أيام جسده إذ قدّم بصراخ شديد ودموع طلبات وتضرعات للقادر أن يُخلّصه من الموت. وسُمع له من أجل تقواه” (عب5: 7).

حقاً لقد سمع الآب لابنه الحبيب المتجسد -كممثل للجنس البشرى- وأقامه حياً من الأموات ظافراً بالموت. وهو الذى قال بفم النبى مخاطباً الآب: “لأنك لا تترك نفسى فى الجحيم. ولا تدع قدوسك يرى فسادًا” (مز15: 10).

نحن نؤمن بالطبع أن السيد المسيح قد قام بقوة لاهوته، لأنه قال لليهود: “انقضوا هذا الهيكل وفى ثلاثة أيام أُقيمه.. وأما هو فكان يقول عن هيكل جسده” (يو2: 19، 21).

ولكن الكتاب من جهة أخرى يؤكد دور الآب السماوى فى نصرة الابن الوحيد المتجسد على الموت، لأنه سرّ به لتواضعه وأقامه من الأموات “هذا أقامه الله” (أع2: 32).

وهنا نتذكر قول السيد المسيح: “مهما عمل ذاك (الآب) فهذا يعمله الابن كذلك” (يو5: 19).
من بيت عنيا إلى الجلجثة


تبدأ أحداث الصلب بوصول السيد المسيح إلى بيت عنيا، وإقامته لعازر من الأموات، وتآمر اليهود عليه ليقتلوه، وسكب الطيب الناردين الكثير الثمن، على جسده والذى قال عنه إنه سُكِب على جسده لتكفينه، أو أنه ليوم دفنه قد حُفِظ. ودخوله أورشليم وديعاً راكباً على آتان وجحش ابن آتان كملك للسلام. ثم تناوله طعام الفصح مع تلاميذه وغسله لأرجلهم. وحديثه عن تسليم يهوذا الإسخريوطى له، وخروج يهوذا، وإعطائه جسده ودمه لتلاميذه. وجهاده وصلاته فى البستان، والقبض عليه بإيعاذ من يهوذا، ومحاكمته، وإهانته، وجلده، ووقوفه أمام بيلاطس. وخروجه حاملاً الصليب إلى الجلجثة حيث صلب بين لصين، وما أحاطه من تعييرات اليهود، واقتسام ثيابه، وتسليمه الروح فى يدى الآب بعد أن طلب الغفران لصالبيه.
أحداث بيت عنيا


بدأت أحداث الصلب بذهاب السيد المسيح إلى بيت عنيا، لإقامة لعازر من الموت.

وقد احتمل السيد المسيح -فى تواضعه- العتاب الذى وجهته إليه مرثا أخت لعازر مع أختها مريم لسبب تأخره عن الحضور إلى بيت عنيا لشفاء لعازر.

كانت الأختان قد أرسلتا إليه قائلتين فى عشم كبير: “يا سيد هوذا الذى تحبه مريض” (يو11: 3). “وكان يسوع يحب مرثا وأختها ولعازر. فلما سمع أنه مريض مكث حينئذ فى الموضع الذى كان فيه يومين. ثم بعد ذلك قال لتلاميذه: لنذهب إلى اليهودية أيضاً” (يو11: 5-7).

تباطأ السيد المسيح فى الذهاب لشفاء لعازر، واحتمل أن يبدو مقصّراً فى واجبه نحو شخص يحبه. كما احتمل العتاب المؤثر من الأختين الحزينتين.. كل ذلك لكى تُنَفذ مشيئة الآب السماوى فى إقامة لعازر من الموت.
أبعاد الموقف


كانت معجزة إقامة لعازر من الموت هى السبب الذى جعل رؤساء كهنة اليهود والفريسيين يتآمرون فيما بينهم أن يقتلوا السيد المسيح “فمن ذلك اليوم تشاوروا ليقتلوه. فلم يكن يسوع أيضاً يمشى بين اليهود علانية.. وكان فصح اليهود قريباً.. وكان أيضاً رؤساء الكهنة والفريسيون قد أصدروا أمراً أنه إن عرف أحد أين هو، فليدل عليه لكى يمسكوه” (يو11: 53-57).

ما أعجب اتضاع الرب المخلّص..! إذ أنه من أجل محبته لتلاميذه وللعازر، احتمل كل ذلك العناء، واحتمل أن يضطر للمشى فى الخفاء، كما لوكان خائفاً من اليهود..

بالطبع هولم يكن خائفاً منهم، ولكنه كان قد وضع فى نفسه أن لا يمسكوه قبل عيد الفصح.. لكى يُذبح فى يوم الفصح نفسه، إذ هو فصحنا الحقيقى. كذلك كان أمامه الكثير ليعمله من أجل كنيسته المحبوبة، قبل أن يسلّم نفسه لصالبيه.

لقد دفع السيد المسيح حياته ثمناً لإقامة لعازر من الموت، كما دفعها ثمناً لفداء كل أحبائه، مانحاً الحياة لكل من يؤمن بخلاصه العجيب.

لهذا يقول الكتاب “لأنكم قد اشتريتم بثمن، فمجدوا الله فى أجسادكم، وفى أرواحكم التى هى لله” (1كو6: 20).
“لعازر حبيبنا قد نام” (يو11: 11)


فى حديث السيد المسيح مع تلاميذه عن إقامة لعازر.. تكلّم بأسلوب غاية فى البساطة والاتضاع. إذ قال: “لعازر حبيبنا قد نام. لكنى أذهب لأوقظه. فقال تلاميذه: يا سيد إن كان قد نام فهو يُشفى. وكان يسوع يقول عن موته. وهم ظنوا أنه يقول عن رقاد النوم. فقال لهم يسوع حينئذٍ علانية لعازر مات” (يو11: 11-14).

تكلّم السيد المسيح عن إقامته للعازر من الموت بلغة بسيطة متواضعة، كأنه سوف يقيم من النوم شخصاً قد رقد. ولم يذكر للتلاميذ أن لعازر قد مات.. لم يحاول أن يتكلم بأسلوب الافتخار بعظيم الأعمال.. فالأعمال العظيمة تتكلم عن نفسها، ولا تحتاج إلى تفخيم وتعظيم.

ومن جهة أخرى، فإن السيد المسيح كان يريد أن يؤكد أن الأبرار لن يموتوا، ولكنهم سوف يرقدون، طالما أن المخلّص مانح الحياة سوف يعيدهم إلى الحياة مرة أخرى، بعد نوالهم الفداء بدمه الثمين. لهذا قال: “أنا هو القيامة والحياة” (يو11: 25).

والكنيسة تبرز هذا المعنى فى أوشية الراقدين، وتقول فى صلواتها للرب }لأنه لا يكون موت لعبيدك بل هو انتقال{.
أفرح لأجلكم


وحينما أعلن السيد المسيح موت لعازر باللغة التى يفهمها التلاميذ، قال لهم: “أنا أفرح لأجلكم إنى لم أكن هناك، لتؤمنوا، ولكن لنذهب إليه” (يو11: 15).

كان السيد المسيح منشغلاً بإيمان التلاميذ.. لم يفكر فيما يخصه، بل فيما يخص غيره. لأن المحبة “لا تطلب ما لنفسها” (1كو13: 5).

لم يصنع السيد المسيح معجزة إقامة لعازر من الموت ليرضى نفسه، بل من أجل خير التلاميذ والبشرية.. ليقود البشر إلى الإيمان بالقيامة والحياة، التى جاء ليهبها للمؤمنين بموته وقيامته وفدائه للبشرية.
خرج من عند الآب


أمام القبر، وقف ذاك الذى أخلى ذاته من أجل خلاصنا، ليصلّى إلى الآب، فى ضراعة وخشوع، وثقة واتضاع: “أيها الآب أشكرك لأنك سمعت لى. وأنا علمت أنك فى كل حين تسمع لى. ولكن لأجل هذا الجمع الواقف قلت ليؤمنوا أنك أرسلتنى” (يو11: 41، 42).

أراد السيد المسيح أن يصلى قبل إتمام المعجزة، بصوت مسموع، ليبرز علاقته الجوهرية بالآب كمولود منه، وكيف أن الآب قد أرسله لخلاص العالم. وليؤكد أن ما سيفعله هو عطية من الآب.

لهذا قال السيد المسيح بحق فى صلاته قبل الصلب: “أنا مجدتك على الأرض. العمل الذى أعطيتنى لأعمل قد أكملته.. أنا أظهرت اسمك للناس الذين أعطيتنى من العالم.. والآن علموا أن كل ما أعطيتنى هو من عندك.. وهم قَبِلوا وعَلِموا يقيناً أنى خرجت من عندك. وآمنوا أنك أنت أرسلتنى” (يو17: 4-8).

إن كل عطايا الآب هى عطايا الابن أيضاً، وكل عطايا الابن هى عطايا الآب.. كما قال السيد المسيح مخاطباً الآب: “كل ما هو لى فهو لك وما هو لك فهو لى” (يو17: 10).
” بكى يسوع ” (يو 11: 35)


السيد المسيح فى تواضعه بكى عند قبر لعازر، حتى قال اليهود: “انظروا كيف كان يحبه. وقال بعض منهم: ألم يقدر هذا الذى فتح عينى الأعمى أن يجعل هذا أيضاً لا يموت” (يو11: 36، 37).

لم يكتم السيد المسيح عواطفه البشرية، لأنه شابهنا فى كل شئ ماخلا الخطية وحدها. وقد بكى ليس فقط لتأثر عاطفته البشرية ببكاء مريم أخت لعازر والذين معها، ولكن إشفاقاً على حياة الإنسان الذى سقط صريعاً أمام الموت الذى دخل إلى العالم بحسد إبليس.

ظهرت محبة الله للإنسان فى بكاء السيد المسيح على موت لعازر، ورغبة الله الصادقة فى إعادة الحياة للبشر مرة أخرى. وما فعله السيد المسيح هو الترجمة المنظورة لمشاعر الرب الخفية من نحونا.

احتمل السيد المسيح فى اتضاع عجيب تهكم بعض من اليهود عليه بقولهم: “ألم يقدر هذا الذى فتح عينى الأعمى أن يجعل هذا أيضاً لا يموت” (يو11: 37). وكان السيد المسيح قد تباطأ خصيصاً فى الحضور إلى بيت عنيا حيث كان لعازر المريض، لتظهر محبة الله للإنسان ورغبته فى إقامته من الموت.

لم يكن السيد المسيح يهتم برأى الناس وأقاويلهم، بل كان يهتم بتنفيذ مشيئة الآب السماوى.. ومن خلال الاتضاع حقق أعظم الأمجاد. فهكذا دائماً “من يرفع نفسه يتضع ومن يضع نفسه يرتفع” (مت23: 12). هكذا علّم السيد المسيح وهكذا فعل.

لقد شاركنا السيد المسيح أحزاننا وآلامنا، وبكى معنا ومن أجلنا وعلى حالنا، كما هو مكتوب عنه: “محتقر ومخذول من الناس. رجل أوجاع ومختبر الحزن.. لكن أحزاننا حملها، وأوجاعنا تحملها” (إش53: 3، 4).

هنا نحس اقتراب الله الشديد من نحو الإنسان، ليس وهو يشاركه آلامه فقط (من خلال التجسد)، بل وهو يحمل عنه هذه الآلام.. لأنه هكذا يليق بالقلب الكبير أن يحمل أحزان الغير وآلامهم “لأنه لاقَ بذاك الذى من أجله الكل وبه الكل وهو آتٍ بأبناءٍ كثيرين إلى المجد، أن يكمل رئيس خلاصهم بالآلام” (عب2: 10).
“ناردين خالص” (يو12: 3)


اقترب الصليب “ثم قبل الفصح بستة أيام أتى يسوع إلى بيت عنيا حيث كان لعازر الميت الذى أقامه من الأموات. فصنعوا له هناك عشاء. وكانت مرثا تخدم، وأما لعازر فكان أحد المتكئين معه. فأخذت مريم مناً من طيب ناردين خالص كثير الثمن، ودهنت قدمى يسوع، ومسحت قدميه بشعرها. فامتلأ البيت من رائحة الطيب” (يو12: 1-3).

هذه الرائحة العطرة هى رائحة موت السيد المسيح رائحة حياة لحياة فى الذين يخلصون ورائحة موت لموت فى الذين يهلكون (انظر2كو2: 15، 16).

موت المسيح هو موت محيى، خالٍ من الفساد. لأنه قدوس بلا خطية. فالموت الذى ماته، قد ماته عن آخرين. وفاحت رائحة محبته بموته فداءً عنا.

لهذا قالت عروس النشيد “مادام الملك فى مجلسه، أفاح ناردينى رائحته” (نش1: 12).

وقالت أيضاً “لرائحة أدهانك الطيبة، اسمك دهن مهراق. لذلك أحبتك العذارى” (نش1: 3).

لقد تصور يهوذا الإسخريوطى أن سكب الطيب على جسد السيد المسيح، هو نوع من الرفاهية، وانتقد هذا الوضع (انظر يو12: 4، 5).

ولكن السيد المسيح فى تواضعه كشف أن هذا الطيب هو لتكفينه، وهو علامة قبوله الموت ودخوله القبر بإرادته. فقبوله لتكفينه وهو حى قبل الموت، هو منتهى الاتضاع..

وقال السيد المسيح دفاعاً عن مريم التى سكبت الطيب: “اتركوها. إنها ليوم تكفينى قد حفظته” (يو12: 7).

لقد حققت مريم أخت لعازر بمحبتها للسيد المسيح وبإرشاد من روح الله، تلك النبوءات الرائعة عن رائحة الناردين فى مجلس الملك “أفاح ناردينى رائحته” (نش1: 12). وما أثمن تحقيق النبوءات فى نشر الإنجيل والبشارة المفرحة بالخلاص لكل العالم. إنه أثمن شئ فى الوجود أن يصدق البشر كلام الإنجيل.

وقد ظلت رائحة الناردين الخالص الكثير الثمن عالقة بجسد السيد المسيح حتى وهو على الصليب. لأن اسم المخلص هو دهن مهراق يجتذب بالحب إليه جميع شعوب الأرض الباحثة عن خلاص الله.

هوذا ملكك يأتيك وديعاً تعوَّد الملوك أن يمتطوا الجياد المطهمة، أى أن يعتزوا بركوب الخيل عند دخولهم إلى مدينة ملكهم. خاصة حينما يدخل الملك دخولاً انتصارياً، ويحتفل الشعب بدخوله المنتصر..

هكذا دخل الملك المسيح إلى مدينة ملكه أورشليم فى يوم أحد الشعانين، وهو يستعد للفصح الحقيقى بتقديم نفسه ذبيحة عن حياة العالم، ليعبر المفديون من الموت إلى الحياة.

ولكنه لم يدخل راكباً على فرس أو على حصان، بل دخل راكباً على أتان وعلى جحش ابن أتان، كما هو مكتوب “ابتهجى جداً يا ابنة صهيون، اهتفى يا بنت أورشليم، هوذا ملكك يأتى إليك، هو عادل ومنصور وديع وراكب على حمار وعلى جحش ابن أتان. وأقطع المركبة من أفرايم والفرس من أورشليم، وتُقطع قوس الحرب. ويتكلم بالسلام للأمم وسلطانه من البحر إلى البحر ومن النهر إلى أقاصى الأرض” (زك9: 9، 10).

دخل السيد المسيح راكباً على الأتان وليس الفرس، لأنه رئيس السلام لا الحرب. ولأنه ملك وديع ومتواضع القلب، فلا يهتم بمظاهر العظمة الخارجية، بل بالانتصار على العدو الحقيقى للإنسان الذى هو الموت، الذى جاء السيد المسيح ليحررنا من سلطانه.

كان الفرس يرمز إلى الحرب، مثلما قيل فى سفر الأمثال “الفرس معد ليوم الحرب. أما النصرة فمن الرب” (أم21: 31). ولهذا شبه الرب النفس المجاهدة بقوة الفرس “لقد شبهتك يا حبيبتى بفرس فى مركبات فرعون” (نش1: 9).

والسيد المسيح قد حارب الشيطان روحياً بقوة، وانتصر عليه حينما تجسد لأجل خلاصنا. ولكنه حاربه وهو متشح بالاتضاع. فلم تكن عظمة السيد المسيح هى العظمة الظاهرة بل الخفية “ثم رأيت السماء مفتوحة وإذا فرس أبيض، والجالس عليه يدعى أميناً وصادقاً وبالعدل يحكم ويحارب. وعيناه كلهيب نار، وعلى رأسه تيجان كثيرة، وله اسم مكتوب ليس أحد يعرفه إلا هو. وهو متسربل بثوب مغموس بدم ويدعى اسمه كلمة الله” (رؤ19: 11-13).

وأيضاً جنود السيد المسيح الذين يتبعونه، رآهم يوحنا الإنجيلى فى رؤياه وقال عنهم “والأجناد الذين فى السماء كانوا يتبعونه على خيل بيض، لابسين بزاً أبيض ونقياً” (رؤ19: 14).

هكذا فمن الناحية المنظورة دخل السيد المسيح أورشليم راكباً على أتان وجحش ابن أتان، ولكنه من الناحية الروحية فقد كان يمتطى فرس الغلبة والانتصار على إبليس، فى أعظم معركة سجلتها البشرية، وخرجت منها منتصرة غالبة بدم الحمل كلمة الله المتجسد.

أوصنّا فى الأعالى

قال داود النبى فى المزمور: “من أفواه الأطفال والرضعان هيأت سُبحاً، من أجل أعدائك لتُسكت عدواً ومنتقماً” (مز8: 2).

وقد ردد الأطفال فى الهيكل تسبيحاً للرب يسوع المسيح فى يوم دخوله إلى أورشليم كملك مثلما سبحه التلاميذ والجموع “أوصنا لابن داود. مبارك الآتى باسم الرب أوصنا فى الأعالى” (مت21: 9). “فلما رأى رؤساء الكهنة والكتبة العجائب التى صنع والأولاد يصرخون فى الهيكل ويقولون أوصنا لابن داود غضبوا. وقالوا له: أتسمع ما يقول هؤلاء؟ فقال لهم يسوع: نعم، أما قرأتم قط من أفواه الأطفال والرضع هيأت تسبيحاً” (مت21: 15، 16).

فما معنى هذا التسبيح الذى تنبأ عنه داود النبى فى المزمور والذى رددته الجموع مع التلاميذ والأطفال فى يوم دخول السيد المسيح إلى مدينة أورشليم؟

إن كلمة “أوصنا” هى فى اللغة العبرية “هوشعنا ” ومعناها “خلّصنا” وقد وردت أيضاً فى المزمور “يا رب خلصنا يا رب سهل طرقنا. مبارك الآتى باسم الرب. باركناكم من بيت الرب. الله الرب أضاء علينا. رتّبوا عيداً فى الواصلين إلى قرون المذبح” (مز117: 25-27).

ومن كلمة “هوشعنا ” جاءت تسمية أحد الشعانين. ويلاحظ أيضاً أن اسم الرب يسوع فى اللغة العبرية هو يهوشع أى “يهوه خلّص” كما قال الملاك: “تدعو اسمه يسوع لأنه يخلص شعبه من خطاياهم” (مت1: 21).

خلّصنا فى الأعالى

ولكن العجيب فى التسبيح الذى أودعه الروح القدس فى أفواه الأطفال فى ذلك اليوم حسب النبوة “من أفواه الأطفال والرضعان هيأت سُبحاً” (مز8: 2)، هو أنهم تكلموا عن خلاص فى الأعالى وليس على الأرض. والمقصود أنهم اعترفوا بالملك الآتى باسم الرب ملكاً سمائياً وليس أرضياً مثلما قال السيد المسيح لبيلاطس: “مملكتى ليست من هذا العالم” (يو18: 36). فحينما هتف الجميع “مباركة مملكة أبينا داود الآتية باسم الرب” (مر11: 10)، كانوا يقصدون أن هذه المملكة هى مملكة سمائية. وهذا يختلف عما أراده ذوى النظرة المادية من اليهود أن يقيموا السيد المسيح ملكاً أرضياً.

بالإضافة إلى ذلك فإن عبارة “خلّصنا فى الأعالى” تعنى أن الخلاص المقصود ليس هو خلاصاً أرضياً من الاستعمار الرومانى فى ذلك الحين بل خلاصاً سمائياً.

“خلصنا فى الأعالى” تعنى أعطنا قبولاً أمام أبيك السماوى. وتعنى أعطنا مجداً وتسبيحاً فى وسط ملائكتك القديسين. أى خلّصنا من العار الذى لحق بنا بين السمائيين لسبب سقوط الجنس البشرى.

“خلّصنا فى الأعالى” تعنى أن يكون لنا غفرانٌ لخطايانا عند الآب السماوى، وأن يكون لنا ميراثٌ فى ملكوته الأبدى.

عن هذا الغفران قال معلمنا يوحنا الرسول: “إن أخطأ أحد فلنا شفيع عند الآب يسوع المسيح البار. وهو كفارة لخطايانا. ليس لخطايانا فقط بل لخطايا كل العالم أيضاً” (1يو2: 1، 2).

“خلّصنا فى الأعالى” تعنى أن نولد من فوق وأن تُكتَب أسماؤنا فى سفر الحياة الأبدية.

“خلّصنا فى الأعالى” تعنى أن تأتى ربوات من القوات السمائية لتساعدنا وتحارب معنا “فإن مصارعتنا ليست مع دم ولحم، بل مع الرؤساء، مع السلاطين، مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر، مع أجناد الشر الروحية فى السماويات” (أف6: 12).

إن القوات الجوية والمظليين هم الذين يحسمون معارك الجيوش المتحاربة. والقوات الجوية والدفاع الجوى هم الذين يقومون بحماية سماء المعركة.

وبنفس الأسلوب نحتاج فى السماويات. لذلك نهتف من أعماق قلوبنا “خلصنا فى الأعالى”.

“خلصنا فى الأعالى” تحمل ضمناً نبوءة عن موت السيد المسيح معلقاً على خشبة الصليب أعلى الجلجثة. فهو بالفعل قد خلّصنا على قمة جبل أورشليم مدينة الله. وقال بفمه الإلهى: “أنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب إلىّ الجميع” (يو12: 32). وقال أيضاً لليهود: “متى رفعتم ابن الإنسان فحينئذ تفهمون أنى أنا هو” (يو8: 28).

“خلّصنا فى الأعالى” تحمل أيضاً نبوءة عن صعود السيد المسيح إلى السماء بعد قيامته المجيدة كما هو مكتوب فى المزمور “صعد الله بالتهليل، والرب بصوت البوق” (مز46: 5). ونبوءة عن دخوله الانتصارى كسابق لنا إلى المقادس العلوية فى السماء “ارفعوا أيها الرؤساء أبوابكم وارتفعى أيتها الأبواب الدهرية فيدخل ملك المجد. من هو هذا ملك المجد؟ الرب العزيز القدير، الرب القوى فى الحروب.. هذا هو ملك المجد” (مز23: 7-10) لقد صعد الرب وجلس عن يمين أبيه. وبهذا دخل إلى مجده. ويتغنى بذلك الكاهن فى القداس الغريغورى {أصعدت باكورتى إلى السماء}.

بالطبع لم يكن ممكناً للأطفال والتلاميذ والجموع أن ينطقوا بهذا التسبيح الفائق فى معانيه إن لم يكن هذا بوحى من الروح القدس الذى نطق على أفواههم بهذه العبارة العجيبة.

” نريد أن نرى يسوع ” (يو12: 21)

دخل يسوع إلى أورشليم فى يوم أحد الشعانين “وكان الجمع الذى معه يشهد أنه دعا لعازر من القبر وأقامه من الأموات. لهذا أيضاً لاقاه الجمع لأنهم سمعوا أنه كان قد صنع هذه الآية” (يو12: 17، 18).

بعد ذلك جاء أناس يونانيون من الذين صعدوا ليسجدوا فى العيد “فتقدم هؤلاء إلى فيلبس الذى من بيت

صيدا الجليل، وسألوه قائلين يا سيد نريد أن نرى يسوع. فأتى فيلبس وقال لأندراوس، ثم قال أندراوس وفيلبس ليسوع” (يو12: 21، 22).

ربما فرح التلاميذ فى ذلك الحين بأن شهرة معلمهم سوف تنتشر فى العالم كله، وأنه سوف يلتقى بالحجاج الذين جاءوا من بلاد اليونان.. وكان السيد المسيح قد دخل إلى أورشليم ليقدّم نفسه ذبيحة عن حياة العالم.

لهذا أجاب السيد المسيح تلاميذه وقال لهم: “قد أتت الساعة ليتمجد ابن الإنسان، الحق الحق أقول لكم إن لم تقع حبة الحنطة فى الأرض وتمت، فهى تبقى وحدها. ولكن إن ماتت، تأتى بثمر كثير” (يو12: 23، 24).

لم يكن السيد المسيح يسعى نحو الشهرة، بل ثبت وجهه نحو الصليب.. هناك حيث يكون الفداء والخلاص للبشر.

لو انشغل السيد بنفسه، لما وُجدت الفرصة لينشغل بغيره، لهذا أعطى مثل حبة الحنطة التى إن ماتت فهى تأتى بثمر كثير..

لم يقبل السيد المسيح أن يبقى وحده.. لهذا مات فداءً عن كثيرين.. وأعطى جسده للتلاميذ قائلاً: “هذا هو جسدى الذى يبذل عنكم” (لو22: 19).

أعطاهم جسده المقدس الذى تألّم لأجلهم وهو حياة لهم، إذ قال: “من يأكلنى فهو يحيا بى” (يو6: 57).

بهذا أعطت حبة الحنطة نفسها للموت، فأثمرت للحياة قديسين كثيرين.

“إن كان أحد يخدمنى فليتبعنى” (يو12: 26)

بعد أن تحدث السيد المسيح عن حبة الحنطة وموتها لكى تثمر، خيَّر التلاميذ بين أحد طريقين:

الأول: هو طريق الشهرة، والارتباط بمجد العالم والاستناد إلى سلطانه.

الثانى: هو طريق الصليب والموت عن العالم..

لهذا خاطبهم قائلاً: “من يحب نفسه يهلكها، ومن يبغض نفسه فى هذا العالم، يحفظها إلى حياة أبدية. إن كان أحد يخدمنى فليتبعنى، وحيث أكون أنا هناك أيضاً يكون خادمى” (يو12: 25، 26).

أراد السيد المسيح لخدامه أن يسلكوا نفس الدرب الذى سلكه هو، أى طريق الصليب، مرتفعين بقلوبهم نحو الجلجثة.

لا يمكن أن تنجح الخدمة بعيداً عن الصليب: فالصبر صليب، والاحتمال صليب، والشهادة بكلمة الحق صليب، والسلوك فى طريق البر والفضيلة صليب، والطاعة والخضوع صليب، وإنكار الذات صليب، وممارسة المحبة الباذلة الحقة صليب، والسهر على الرعاية صليب..

الصليب هو العلامة، وهو الختم، وهو الجسر، وهو الملتقى، وهو سلاح الغلبة، وهو قوة الله للخلاص..

المسيحية ليس لها وجود بدون الصليب، بل هى بدون الصليب كالعُرس بلا عريس، وكالوليمة بلا ذبيح..
أهمية الصليب لخدام السيد المسيح


الصليب فى حياة خادم المسيح، هو التحرر من الأنا التى تستعبد الإنسان وتذله وتمنعه من أن يحب غيره..

الصليب هو الانفتاح على الآخرين بدافع الحب المقدس، والخروج من سجن الذات البغيض إلى حرية المحبة، التى تعرف كيف تقود غيرها نحو حياة القداسة..

الصليب هو الطريق إلى المجد الحقيقى.. وهذا يقودنا إلى تكملة حديث السيد المسيح: “إن كان أحد يخدمنى يكرمه الآب” (يو12: 26).

الخادم الذى يتبع السيد المسيح فى طريق الصليب، يمنحه الآب السماوى الكرامة الحقيقية.

وهذه الكرامة هى نعمة الروح القدس الذى يمسح كلام الخادم، حتى يصير لكلامه سلطان أن يغيّر قلوب سامعيه..

الروح القدس يشفع بأنات لا ينطق بها فى صلوات الخادم، حتى تأتى صلاته إلى حضرة رب الجنود. فتكون صلاته مستجابة فى كل زمان ومكان حتى بعد تركه لهذا العالم، يستطيع أن يقدم الشفاعة التوسلية أمام الله عن كثيرين.

الروح القدس الذى يرافق كلام الخادم، ويتكلم فى قلبه، لينطق بحسب مشيئة الله، فتتحقق جميع كلماته، مثلما قيل عن صموئيل النبى “كان الرب معه ولم يدع شيئاً من جميع كلامه يسقط إلى الأرض” (1صم3: 19).

ما أجمل أن ينال الخادم الكرامة الحقيقية من الآب السماوى، مثلما فعل السيد المسيح الذى رفض مجد الناس، واحتمل الآلام بسرور فى طاعة كاملة لله أبيه.

اختار تلاميذ السيد المسيح الأوفياء أن يتبعوا السيد المسيح كما أوصاهم، وحملوا الصليب من خلفه، وبذلوا حياتهم بفرح لأجل اسمه، فاستحقوا أكاليل المجد السماوى فى عملهم الرسولى العجيب.

ومن الجانب الآخر يحدثنا الإنجيل عن كثير من رؤساء اليهود الذين آمنوا بالسيد المسيح “غير أنهم لسبب الفريسيين لم يعترفوا به، لئلا يصيروا خارج المجمع. لأنهم أحبوا مجد الناس أكثر من مجد الله” (يو12: 42، 43).
غسل الأرجل


رأينا السيد المسيح وسمعناه يتصرف باتضاع عجيب فى كل المواقف. وها نحن نراه الآن وهو يغسل أرجل تلاميذه.

كان الصليب بالنسبة للسيد المسيح، هو طريقه فى بناء الملكوت.. وكان الاتضاع هو طريقه نحو الصليب، وطريقه فى الصليب.

فقبل الصليب مباشرة، وضع السيد المسيح خدمة غسل الأرجل، كما سجلها لنا إنجيل القديس يوحنا: “أما يسوع قبل عيد الفصح، وهو عالم أن ساعته قد جاءت لينتقل من هذا العالم إلى الآب. إذ كان قد أحب خاصته الذين فى العالم أحبهم إلى المنتهى. فحين كان العشاء، وقد ألقى الشيطان فى قلب يهوذا سمعان الإسخريوطى أن يسـلمه. يسوع وهو عالم أن الآب قد دفع كل شئ إلى يديه، وأنه من عند الله خرج، وإلى الله يمضى. قام عن العشاء وخلع ثيابه، وأخذ منشفة واتزر بها. ثم صب ماء فى مغسل، وابتدأ يغسل أرجل التلاميذ ويمسحها بالمنشفة التى كان متزراً بها” (يو13: 1-5).

أراد السيد المسيح أن يوضح أن الهدف من صلبه هو غسل أرجل تلاميذه. بمعنى أن خدمة التطهير وغسل الخطايا، هى مسئوليته باعتباره الفادى والمخلص.

وقد ربط الوحى بشكل عجيب فى بشارة يوحنا بين الحب والاتضاع “إذ كان قد أحب خاصته.. إلى المنتهى.. قام عن العشاء.. وابتدأ يغسل أرجل التلاميذ” (يو 13: 1-5).

المحبة الحقيقية تتحقق بالاتضاع.. والاتضاع يتألق بالمحبة، وكلاهما يلتقيان معاً فى بذل الذات وإنكارها.
سر التوبة والاعتراف


فى غسل الأرجل أسس السيد المسيح سر التوبة والاعتراف، الذى يسبق التناول من جسد الرب ودمه. ولكى يستفيد الإنسان من هذا السر، ينبغى أن يكون قلبه تائباً. وبهذا يتأهل للتناول باستحقاق من الجسد والدم الأقدسين. لهذا قال لبطرس وهو يغسل رجليه: “أنتم طاهرون، ولكن ليس كلكم. لأنه عرف مسلمه. لذلك قال: لستم كلكم طاهرين” (يو13: 10، 11). قال هذا عن يهوذا الإسخريوطى الذى كان حاضراً غسل الأرجل ولكنه لم يتناول من جسد الرب ودمه.

المثل الأعلى فى الاتضاع

وضع السيد المسيح لنا مثالاً لكى نقتفى أثر خطواته. وصنع لنا ما لا يخطر على البال. وقال للتلاميذ: “أعطيتكم مثالاً، حتى كما صنعت أنا بكم تصنعون أنتم أيضاً” (يو13: 15).

فى تواضعه العجيب انحنى وغسل أرجل تلاميذه.. وهو الذى يغطى الشاروبيم والسارافيم أرجلهم أمام بهاء عظمة مجده.

ماذا رأيت أيها الساراف وماذا أبصرت؟.. وكيف افتكرت أيها الكاروب الممتلئ أعيناً وفهماً ومعرفة، حينما انحنى السيد المسيح نحو أرجل التلاميذ ليغسلها؟!..

هل غطيت وجهك بجناحيك مما رأيته من المجد البهى، أم من الانسحاق؟ أم رأيت مجد التواضع باهراً يخطف العقل والبصر معاً، فهتفت قائلاً: إن السماء والأرض مملوءتان من مجدك الأقدس.

وأنت يا سيدى يسوع المسيح: كنت تغسل أرجل تلاميذك فى وسط تسابيح الملائكة، تلك التى لم تشغلك إلى لحظة واحدة عن إتمام قصد محبتك.. مقدّماً الطاعة الكاملة لأبيك السماوى، الذى فرح قلبه بطاعتك الكاملة فى الجسد كخادم للخلاص..

“فلما كان قد غسل أرجلهم، وأخذ ثيابه واتكأ أيضاً قال لهم أتفهمون ما قد صنعت بكم. أنتم تدعوننى معلماً وسيداً، وحسناً تقولون لأنى أنا كذلك. فإن كنت وأنا السيد والمعلم قد غسلت أرجلكم فأنتم يجب عليكم أن يغسل بعضكم أرجل بعض” (يو13: 12-14).

الكاهن يغسل أرجل المعترفين فى سر التوبة والاعتراف. وهو يحتمل ضعفاتهم ويصلى عنهم، وينسحق أمام الرب بدموع لأجلهم.. وبدموع خدمته الكهنوتية يغسل أقدامهم من وسخ الخطية.

والخادم يغسل أرجل المخدومين بتعبه من أجل تطهير حياتهم.. بتعليمه.. بعظاته الممسوحة بالروح القدس. كما قال السيد المسيح: “أنتم الآن أنقياء لسبب الكلام الذى كلمتكم به” (يو15: 3).



والإنسان المسيحى يغسل أرجل إخوته بتعامله معهم بمحبة واتضاع.. باحتمال ضعفاتهم.. بأن ينسب إلى نفسه خطاياهم.. لأن من يحمل خطايا غيره باتضاع ومحبة، يكون كمن ينحنى ويغسل أقدامهم.

السيد المسيح يواحهه خيانة يهوذا

كان شيئاً قاسياً جداً على قلب المخلص الرقيق الممتلئ بالحب، والممتلئ بأسمى معانى النُبل والإخلاص والوفاء، أن يواجه الخيانة من قِبَل أحد تلاميذه الأخصاء المقربين.

فى ذلك نتذكر قول الشاعر:

وظلم ذوى القُربى أشدّ غضاضةً على النفس من وقع الحسامِ المهنَّدِ

ولكن السيد المسيح بالرغم من ذلك تعامل مع يهوذا بمنتهى الرفق، وبمنتهى الاتضاع.

“أنت إنسان عديلى إلفى وصديقى” (مز55: 13)

عاش يهوذا مع السيد المسيح أكثر من ثلاثة أعوام متصلة، بعد أن اختاره السيد المسيح ضمن الاثنى عشر، ليكون معه، وليكون تلميذاً له، ولتصير له وظيفة رسولية. تلامس يهوذا مثل سائر التلاميذ مع السيد المسيح عن قرب، حسبما قال معلمنا يوحنا الإنجيلى؛ التلميذ الذى كان يسوع يحبه “الذى سمعناه. الذى رأيناه بعيوننا. الذى شاهدناه ولمسته أيدينا” (1يو1: 1).

استمع يهوذا إلى عظات السيد المسيح الممتلئة بالنعمة والحكمة والحياة، تلك التى شهدت لها الجموع، إذ كانوا يتعجبون من كلامه المؤثر العميق كقول المزمور عنه “انسكبت النعمة على شفتيك” (مز44: 2).

رأى يهوذا ما فى السيد المسيح من صفات روحية جميلة، تلك التى عبّر عنها القديس يوحنا فى إنجيله: “ورأينا مجده مجداً كما لوحيد من الآب، مملوءًا نعمةً وحقاً” (يو1: 14).

رأى معجزاته الفائقة للطبيعة، واستجابة الآب السماوى التلقائية له فى كل ما يطلبه، مثلما قال السيد المسيح مخاطباً الآب: “وأنا علمت أنك فى كل حين تسمع لى” (يو11: 42).

رأى التفاف الناس حوله، ومحبتهم الجارفة له، وتجاوبهم مع تعليمه.. خاصة الخطاة الذين تركوا حياة الخطية.. حينما سمعوا مناداته بالتوبة لاقتراب ملكوت الله.

اختبر يهوذا عن قرب محبة السيد المسيح الفياضة نحوه ونحو الآخرين، ولمس وداعته ولطفه وعطفه وترفقه بالضعفاء.

كانت هناك عشرة وصداقة عجيبة بين السيد المسيح وتلاميذه الاثنى عشر. فكان يأكل معهم ويقيم معهم، ويأخذهم معه إلى الهيكل كما إلى الجبال والوديان، والحقول، وضفاف الأنهار والبحيرات، وفى السفن فى المياه. اصطحبهم معه فى خلوات روحية بعيداً عن الجموع، يعلّمهم الصلاة، ويفسّر لهم الأمثال، ويقول لهم “قد أعطى لكم أن تعرفوا أسرار ملكوت السماوات” (مت13: 11) كما اصطحبهم فى ترحاله؛ فى جولاته منادياً وكارزاً بملكوت الله.

بل أكثر من ذلك أعطاهم سلطاناً أن يصنعوا الأشفية والآيات والعجائب باسمه المبارك. وحتى الشياطين صارت تخضع لهم باسمه. وكان يقول لهم الأعمال التى أنا أعملها سوف تعملونها بل وأكثر منها.

“الذى معه كانت تحلو لنا العشرة” (مز 55: 14)

أمام كل هذه العلاقة الوثيقة، والصداقة العميقة، اختلج قلب السيد المسيح فى أسى، وهو ينظر إلى خيانة التلميذ الذى باعه بثلاثين من الفضة.. بأبخس ثمن يمكن أن يُباع به إنسان.

وهنا نتذكر كلمات داود النبى فى المزمور التى كتبها بروح النبوة يصف بها مشاعر وأفكار مخلصنا الصالح وهو يواجه هذا الموقف المؤلم:

“لأنه ليس عدوٌّ يعيِّرنى فأحتمل، ليس مبغضى تعظّم علىّ فأختبئ منه. بل أنت إنسان عديلى إلفى وصديقى. الذى معه كانت تحلو لنا العشرة. إلى بيت الله كنا نذهب فى الجمهور.. ألقى يديه على مسالميه. نقض عهده. أنعم من الزبدة فمه وقلبه قتال. ألين من الزيت كلماته وهى سيوف مسلولة” (مز55: 12-14، 20، 21).

كيف تصرف السيد المسيح باتضاع ؟

بمنتهى الحب، وطول الأناة، وبمنتهى الصبر والاتضاع تعامل السيد المسيح مع تلميذه الخائن يهوذا الإسخريوطى .. لم يكن السيد المسيح يرغب فى هلاك ذلك الصديق الذى كانت تحلو له العشرة معه..

دعنا إذن نبدأ القصة من أولها :

كان يهوذا ميالاً نحو المال. وأراد السيد المسيح أن يعوِّضه عن هذا الميل بطريقة سليمة، فسمح له أن يكون أميناً للصندوق “كان الصندوق عنده” (يو12: 6).
وبالرغم من ذلك، فقد أعمى الشيطان قلبه، وكان يسرق أموالاً من الصندوق. ولكن السيد المسيح أطال أناته عليه، ولم يفضحه فى وسط التلاميذ، مع أنه “كان سارقاً وكان الصندوق عنده، وكان يحمل ما يُلقى فيه” (يو12: 6).
وقد تطاول يهوذا بفكره وبكلامه على السيد المسيح، حينما سكبت المرأة طيباً من ناردين خالص كثير الثمن عليه، إذ قال: “لماذا هذا الإتلاف، لأنه كان يمكن أن يُباع هذا الطيب بكثير (بأكثر من ثلثمائة دينار -حسب إنجيل معلمنا مرقس الرسول) ويعطى للفقراء” (مت26: 8، 9، انظر مر14: 5). “قال هذا ليس لأنه كان يُبالى بالفقراء. بل لأنه كان سارقاً، وكان الصندوق عنده وكان يحمل ما يلقى فيه” (يو12: 6).

وبالرغم من هذا التذمر وهذا التطاول، فقد أجاب السيد المسيح باتضاع وأناة عجيبين وقال: “لماذا تزعجون المرأة، فإنها قد عملت بى عملاً حسناً.. فإنها إذ سكبت هذا الطيب على جسدى، إنما فعلت ذلك لأجل تكفينى” (مت26: 10، 12). وأعلن الرب محبته الزكية من خلال قبوله الموت والتكفين..

لم يعيّر السيد المسيح يهوذا بأنه سارق للصندوق، ولأموال الفقراء.. بل قال: “الفقراء معكم فى كل حين. وأما أنا فلست معكم فى كل حين” (يو12: 8، مت26: 11).

والعجيب أن هذا الموقف قد تكرر فى الأسبوع الأخير، مرة قبل الفصح بستة أيام (فى يوم السبت السابق للفصح)، ومرة قبل الفصح بيومين (فى يوم الأربعاء السابق للفصح). وفى المرة الثانية وصل تذمر يهوذا إلى ذروته.

كان يهوذا هو المذنب، وقام بقلب الحقائق.. ولكن السيد المسيح احتمل تطاوله عليه، وأجاب بطريقة موضوعية، دون أن يشهره أو يفضحه، وحتى لم يعاتبه فيما بعد على ما بدر منه، ولا ما هو فيه من طمع وجسارة.. بل أراد أن يعطيه الفرصة ليراجع نفسه فى ضوء الحقيقة التى كان هو أول من يعرفها.

أراد السيد المسيح أن يغلب الشر بالخير وأن يقدّم الإحسان للمسيئين إليه.. وحتى لم يحاول أن يفضحهم.. بل تركهم لعل ضمائرهم تبكتهم نتيجة لِما أظهره نحوهم من حب فى مقابل إساءتهم.

عجيب أنت يا رب فى اتضاعك، وفى احتمالك لأخطاء من أساءوا إليك يا قدوس!!

سلّم يهوذا نفسه للشيطان فى الأسبوع الأخير أصيب التلاميذ بالقلق، لسبب ما سبق السيد المسيح فأنبأهم به، وهم صاعدون إلى أورشليم عن تسليمه إلى أيدى أناس خطاة فيجلدونه، ويصلبونه، ويقتلونه وفى اليوم الثالث يقوم (انظر مت20: 18، 19)، وقبل الفصح بيومين أخبرهم بموعد صلبه (انظر مت26: 1، 2).

ولكن للأسف فقد كانت مشاعر حزن التلاميذ فى جانب، بينما كانت مشاعر يهوذا الإسخريوطى فى جانب آخر..كانت محبة المال قد سيطرت تماماً على قلبه، وأعمى الشيطان بصيرته، وشعر أنه بصلب السيد المسيح سيفقد الصندوق الذى كان معه وسيتوقف عن الحصول على المال المسروق.

ضاعت آماله وأحلامه فى المجد والغنى والمملكة الأرضية، ولم ينظر بإيمان إلى القيامة المجيدة التى أنبأ بها السيد المسيح تلاميذه، ولا إلى الملكوت الروحى، ولا إلى ملكوت السماوات، وأمجاده الأبدية.

فقرر أن يبيع سيده ليربح من وراء موته مالاً، ويعوّض جزءًا مما سوف يفقده.

كانت الأرض والمسائل الأرضية هى شاغله، وليست الأبدية والسماويات.

ولعل فى هذا ما يبكّت السبتيين وشهود يهوه وكل أصحاب عقيدة الملكوت الأرضى للسيد المسيح.

عنيف هو الشيطان فى تأثيره على قلب من يقبل مشورته ونصائحه “وقد ألقى الشيطان فى قلب يهوذا سمعان الإسخريوطى أن يسلّمه” (يو13: 2).
الشيطان يتآمر


كان للشيطان دور واضح فى التآمر على صلب السيد المسيح، وقد أخفى السيد المسيح لاهوته عن الشيطان لكى يتركه فى حماقته يتآمر ولكى يفضح شره وتآمره وعداوته لله وللإنسان بالصليب.

وقف حب الله وحكمته فى مواجهة كراهية الشيطان وحماقته. وانتصر الحب وانتصرت الحكمة، وافتضح الشيطان أمام الخليقة العاقلة من الملائكة والبشر القديسين.

عن هذا كتب معلمنا بولس الرسول مبيناً عمل السيد المسيح فى خلاصنا وفى الانتصار على الشيطان بالصليب “إذ محا الصك الذى علينا فى الفرائض الذى كان ضداً لنا وقد رفعه من الوسط مسمّراً إياه بالصليب. إذ جردّ الرياسات والسلاطين أشهرهم جهارًا ظافراً بهم فيه” (كو2: 14، 15). والمقصود طبعاً بالرياسات والسلاطين أى الشيطان وكل قواته الشريرة كما كتب أيضاً “فإن مصارعتنا ليست مع دمٍ ولحمٍ بل مع الرؤساء مع السلاطين مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر مع أجناد الشر الروحية فى السماويات” (أف6: 12).

إذن لقد أشهر السيد المسيح الشيطان جهارًا وجرّده من سلطته ظافراً به فى الصليب. ولكن يلزمنا أن نفحص جانباً من مؤامرة الشيطان التى أدّت إلى صلب مخلصنا الصالح، والدور الذى لعبه فى هذه المؤامرة.
مؤامرة الخيانة


أوعز الشيطان إلى رؤساء اليهود أن يتآمروا على صلب السيد المسيح ولكن وقفت أمامهم بعض العقبات فكان الشيطان معيناً لهم فى تذليلها.

تكلّم إنجيل معلمنا لوقا البشير عن هذا الأمر فقال: “وقرب عيد الفطير الذى يُقال له الفصح. وكان رؤساء الكهنة والكتبة يطلبون كيف يقتلونه، لأنهم خافوا الشعب. فدخل الشيطان فى يهوذا الذى يُدعى الإسخريوطى وهو من جملة الاثنى عشر. فمضى وتكلّم مع رؤساء الكهنة وقواد الجند كيف يسلّمه إليهم. ففرحوا وعاهدوه أن يعطوه فضة. فواعدهم. وكان يطلب فرصة ليسلّمه إليهم خلواً من جمع” (لو22: 1-6).

هنا يظهر تدخل الشيطان واضحاً، حتى أنه دخل فى يهوذا الإسخريوطى حتى يُقَسِّى قلبه ويجعله يتورط فى هذه المؤامرة الشنيعة ويفرح أعداء السيد المسيح ويعدهم بتسليمه إليهم فى مكان خالٍ من الجماهير لأنه يعرف الأماكن الخاصة التى يذهب إليها مع تلاميذه.

ولكن دور الشيطان لم ينته عند هذا الحد لأنه لابد أن يكمل الطريق إلى النهاية، لئلا يتراجع يهوذا عن نيته الشريرة. لهذا استمر الشيطان يتعامل مع يهوذا فى كل مراحل المؤامرة.

ويوضح معلمنا يوحنا البشير ذلك عندما تحدث عن العشاء الأخير قبل صلب السيد المسيح حينما أكل الفصح مع تلاميذه فقال: “فحين كان العشاء، وقد ألقى الشيطان فى قلب يهوذا سمعان الإسخريوطى أن يسلّمه” (يو13: 2).

فى هذه المرحلة كان السيد المسيح سيوجّه تحذيرات وإنذارات ليهوذا لكى لا يرتكب خطيته الفظيعة. وكان الأمر يحتاج إلى تقسية إضافية لقلبه من الشيطان لئلا يلين أمام الإنذارات المرعبة “كان خيراً لذلك الرجل لو لم يولد” (مت26: 24) هكذا فعل الشيطان فاستمر فى ترغيب يهوذا فى ارتكاب فعلته الشنعاء.

وعندما ابتدأ السيد المسيح يحدد من هو الذى سيسلمه كان الأمر محرجاً جداً بالنسبة ليهوذا الإسخريوطى أمام السيد المسيح وأمام التلميذ الذى كان يسوع يحبه. إذ أن يوحنا الحبيب حينما سأله: يا سيد من هو؟ “أجاب يسوع: هو ذاك الذى أغمس أنا اللقمة وأعطيه. فغمس اللقمة وأعطاها ليهوذا سمعان الإسخريوطى. فبعد اللقمة دخله الشيطان.. فذاك لما أخذ اللقمة خرج للوقت وكان ليلاً” (يو13: 26، 27، 30).

شئ عجيب جداً أن السيد المسيح حينما غمس لقمة الفصح اليهودى فى المرق حسب طقس الفصح وأعطاها ليهوذا ليأكلها؛ دخله الشيطان!!.

لقد خشى الشيطان أن يتراجع يهوذا أمام إنذارات السيد المسيح وأيضاً أمام موّدته كصديق لأنه أطعمه بيده الطاهرة “ليتم الكتاب الذى يأكل معى الخبز رفع علىّ عقبه” (يو13: 18).

لهذا لم يكتفِ الشيطان بأنه دخل فى يهوذا حينما ذهب وتواعد مع رؤساء الكهنة والكتبة أن يسلّم السيد المسيح إليهم خلواً من جمع فى مقابل ثلاثين من الفضة، ولا اكتفى الشيطان بأنه ألقى فى قلب يهوذا وقت العشاء أن يسلّم المسيح، بل دخله مرة ثانية حينما أعطاه السيد المسيح اللقمة. وحينئذ صمم يهوذا أن يتمم فعل الخيانة الرهيب. إن المشكلة ليست فى اللقمة التى أعطاها له السيد المسيح، ولكن المشكلة هى فى أنه قد فتح قلبه للشيطان ليدخل فيه مرارًا وتكرارًا وأن يضع فيه ما شاء من أفكار الطمع والتآمر والخيانة.

وهكذا فعل الشيطان أيضاً مع اليهود الذين لم يؤمنوا بالسيد المسيح كما كتب يوحنا الإنجيلى عنهم “ومع أنه كان قد صنع أمامهم آيات هذا عددها لم يؤمنوا به. ليتم قول إشعياء النبى الذى قاله يا رب من صدق خبرنا ولمن استعلنت ذراع الرب. لهذا لم يقدروا أن يؤمنوا لأن إشعياء قال أيضاً: قد أعمى عيونهم وأغلظ قلوبهم لئلا يبصروا بعيونهم ويشعروا بقلوبهم ويرجعوا فأشفيهم” (يو12: 37-40). فمن الذى أعمى عيونهم؟ إنه الشيطان الملقب بإله هذا الدهر كما كتب القديس بولس الرسول “الذين فيهم إله هذا الدهر قد أعمى أذهان غير المؤمنين لئلا تضئ لهم إنارة إنجيل مجد المسيح الذى هو صورة الله” (2كو4: 4).
التآمر على تسليم السيد المسيح


كان رؤساء الكهنة يبحثون عن شخص يصير دليلاً لهم، ليلقوا القبض على السيد المسيح بعيداً عن الجموع، خوفاً من الشعب الذى استقبل السيد المسيح كملك عند دخوله إلى أورشليم فى يوم أحد الشعانين.

وقد سجّلت لنا الأناجيل هذه الأحداث كما يلى:

“حينئذ اجتمع رؤساء الكهنة والكتبة وشيوخ الشعب إلى دار رئيس الكهنة الذى يدعى قيافا. وتشاوروا لكى يمسكوا يسوع بمكر ويقتلوه. ولكنهم قالوا ليس فى العيد لئلا يكون شغب فى الشعب” (مت26: 3، 4).
“وقرب عيد الفطير الذى يقال له الفصح. وكان رؤساء الكهنة والكتبة يطلبون كيف يقتلونه. لأنهم خافوا الشعب. فدخل الشيطان فى يهوذا.. وكان يطلب فرصة ليسلمه إليهم خلواً من جمع” (لو22: 3-6).
“وكان.. رؤساء الكهنة والفريسيون قد أصدروا أمراً أنه إن عرف أحد أين هو، فليدل عليه لكى يمسكوه” (يو11: 57).
“وخرج مع تلاميذه إلى عبر وادى قدرون حيث كان بستان، دخله هو وتلاميذه. وكان يهوذا مسلمه يعرف الموضع. لأن يسوع اجتمع هناك كثيراً مع تلاميذه” (يو18: 1، 2).

ولخّص القديس بطرس الرسول هذا الأمر بقوله المدوّن فى سفر أعمال الرسل: “كان ينبغى أن يتم هذا المكتوب الذى سبق الروح القدس فقاله بفم داود عن يهوذا الذى صار دليلاً للذين قبضوا على يسوع إذ كان معدوداً بيننا” (أع1: 16، 17).

كانت المسألة تحتاج إلى شخص يعرف جيداً تحركات السيد المسيح، ويحدد للذين يريدون أن يمسكوه المكان والزمان بعيداً عن الجموع. ولم يكن الأعداء يحلمون بأن يأتيهم واحد من تلاميذه ليكون دليلاً لهم. ولهذا فقد فرحوا جداً حينما وجدوا ضالتهم المنشودة فى شخص يهوذا الخائن.

والعجيب جداً أن قمة التصعيد فى نفسية يهوذا قد حدثت حينما ضاعت فرصته فى أن يحصل على ثمن الطيب الكثير الثمن الذى سكبته المرأة على السيد المسيح.

ولهذا فبمجرد أن نطق السيد المسيح بعبارته عن المرأة ساكبة الطيب: “الحق أقول لكم حيثما يكرز بهذا الإنجيل فى كل العالم يُخبر أيضاً بما فعلته هذه تذكاراً لها” (مت26: 13). ذهب يهوذا بعدها مباشرة إلى رؤساء كهنة اليهود “حينئذ ذهب واحد من الاثنى عشر الذى يُدعى يهوذا الإسخريوطى إلى رؤساء الكهنة. وقال ماذا تريدون أن تعطونى وأنا أسلمه إليكم. فجعلوا له ثلاثين من الفضة. ومن ذلك الوقت كان يطلب فرصة ليسلمه” (مت26: 14-16).

لم يخرج يهوذا مندفعاً فقط من العلية فى ليلة العشاء الربانى من وسط التلاميذ، ولكن أيضاً فى اليوم السابق خرج من بيت سمعان الأبرص فى بيت عنيا.. وقد تركه السيد المسيح يذهب ولم يكشف تآمره لأحد مع أنه كان يعلم بكل تحركات يهوذا وبخيانته له و”بكل ما يأتى عليه” (يو18: 4).
وفى العشاء الأخير


قال السيد المسيح لتلاميذه على مائدة الفصح: “شهوة اشتهيت أن آكل هذا الفصح معكم قبل أن أتألم. لأنى أقول لكم إنى لا آكل منه بعد، حتى يكمل فى ملكوت الله” (لو22: 15، 16).

لهذا حرص السيد المسيح جداً أن لا يعلم يهوذا بمكان إعداد الفصح وتأسيس سر العشاء الربانى، الذى أمر السيد تلاميذه أن يصنعوه لذكره إلى مجيئه الثانى، فى اليوم الأخير.

لم يرغب السيد المسيح فى أن يحرج يهوذا، أو أن يكشف أمره لباقى التلاميذ، أو أن يطرده بعيداً.. بل تركه حتى خرج مسرعاً قبيل تقديس الخبز والخمر فى سر القربان المقدس.

أخفى السيد المسيح مكان اجتماعه ليأكل الفصح مع تلاميذه عن جميع التلاميذ.. “فأرسل بطرس ويوحنا قائلاً: اذهبا وأعدا لنا الفصح لنأكل. فقالا له أين تريد أن نعد؟ فقال لهما إذا دخلتما المدينة يستقبلكما إنسان حامل جرة ماء. اتبعاه إلى البيت حيث يدخل. وقولا لرب البيت يقول لك المعلم أين المنزل حيث آكل الفصح مع تلاميذى. فذاك يريكما علية كبيرة مفروشة، هناك أعدّا. فانطلقا ووجدا كما قال لهما. فأعدا الفصح” (لو22: 8-13).

حتى التلاميذ الذين أرسلهم لإعداد الفصح لم يكن معلوماً لهم المكان، وإنما أعطاهم علامة عجيبة لا يستطيع أى إنسان أن يستنتج منها شيئاً. وذهب التلميذان ووجدا كما قال لهما المعلم، وبقيا هناك حتى وصل السيد المسيح مع تلاميذه الباقين دون أن يلاحظ أحد لماذا فعل المعلم هكذا.

كان السيد المسيح يريد أن يمنح يهوذا فرصته الأخيرة ليأكل معه طعام عيد الفصح.. وأن يغسل له السيد المسيح رجليه مع باقى التلاميذ، وأن يوجه إليه التحذيرات الأخيرة، قبل أن يرتكب الخائن فعلته الشنعاء.

أراد السيد المسيح أن يؤجل خطية يهوذا إلى آخر فرصة ممكنة، فأخذه معه إلى العلية.. وغمس اللقمة بيده وأعطاه، لعله يشعر بالمودة والحب ولطف معاملة السيد المسيح له، الذى لم يحرمه من أن يأكل معه، بالرغم من تآمره عليه واتفاقه مع رؤساء الكهنة على تسليمه إليهم.

كيف لم تشعر يا يهوذا بترفق السيد المسيح بك، ورغبته الأكيدة فى خلاصك مثل الباقين، حينما قال لك إن “ابن الإنسان ماضٍ كما هو مكتوب عنه” (مر14: 21)؟!!

بدأ السيد المسيح يوبخ يهوذا على ما أضمره فى قلبه من الشر، فقال لبطرس عند غسل الأرجل: “أنتم طاهرون ولكن ليس كلكم، لأنه عرف مسلمه. لذلك قال لستم كلكم طاهرين” (يو13: 10، 11).

وقال أيضاً لتلاميذه ويهوذا فى وسطهم: “لست أقول عن جميعكم، أنا أعلم الذين اخترتهم. لكن ليتم الكتاب، الذى يأكل معى الخبز رفع علىَّ عقبه” (يو13: 18).

وحينما تذكر اللحظة الحاسمة، التى سوف تأتى حينما تصل خيانة يهوذا إلى قمتها، “اضطرب بالروح، وشهد وقال الحق الحق أقول لكم إن واحداً منكم سيسلمنى” (يو13: 21).

فى كل ذلك لم يشأ السيد المسيح أن يكشف يهوذا شخصياً لسائر التلاميذ، فقال: “واحد منكم”.. وقال: “أقول لكم الآن قبل أن يكون، حتى متى كان تؤمنون أنى أنا هو” (يو13: 19).

كان ينبغى أن يخبرهم ليعلموا أنه سلّم نفسه للموت بإرادته وسلطانه، ولم يباغته شئ. لأن هذا هو دليل محبته، إذ بذل ذاته فداءً عن العالم. كان ينبغى أن يفهموا بعد أن يتم الفداء أنه هو الله الظاهر فى الجسد (انظر 1تى3: 16). لهذا أخبرهم ولكنه لم يعرِّض يهوذا للخطر فى وسط التلاميذ، ولم يخبرهم عن اسمه علانية، حتى “حزنوا جداً وابتدأ كل واحد منهم يقول له هل أنا هو يا رب” (مت26: 22). و”كان التلاميذ ينظرون بعضهم إلى بعض، وهم محتارون فى من قال عنه” (يو13: 22).

وحتى حينما سأل يوحنا السيد المسيح سراً، لم يجبه بالاسم، لكى لا يلاحظ أحد.. بل أعطاه علامة فقط، وغالباً لم توجد فرصة لكى يخبر يوحنا أحداً بإجابة السيد المسيح قبل خروج يهوذا. لأنه خرج فوراً بعد إتمام تلك العلامة، وهذا ما أوضحه يوحنا فى إنجيله:

“وكان متكئاً فى حضن يسوع واحد من تلاميذه كان يسوع يحبه. فأومأ إليه سمعان بطرس أن يسأل من عسى أن يكون الذى قال عنه. فاتكأ ذاك على صدر يسوع، وقال له يا سيد من هو؟ أجاب يسوع هو ذاك الذى أغمس أنا اللقمة وأعطيه. فغمس اللقمة وأعطاها ليهوذا سمعان الإسخريوطى. فبعد اللقمة دخله الشيطان. فقال له يسوع ما أنت تعمله فاعمله بأكثر سرعة. وأما هذا فلم يفهم أحد من المتكئين لماذا كلّمه به. لأن قوماً إذ كان الصندوق مع يهوذا، ظنوا أن يسوع قال له: اشتر ما نحتاج إليه للعيد، أو أن يُعطى شيئاً للفقراء. فذاك لما أخذ اللقمه خرج للوقت. وكان ليلاً. فلما خرج قال يسوع الآن تمجّد ابن الإنسان، وتمجّد الله فيه” (يو13: 23-31).

لو كان بطرس قد علم بالأمر قبل خروج يهوذا، لما كان قد سمح له أن يخرج. ولكن المرجح أنه علم من يوحنا بعد خروج يهوذا، وبعد مرور وقت كاف لا يسمح لبطرس بتتبعه.. ” ما أنت تعمله فاعمله بأكثر سرعة ” (يو13: 27)

الملاحظ هنا أن السيد المسيح قال هذه العبارة ليهوذا، على سبيل التوبيخ والإنذار للتوبة. لأن يهوذا هو الذى كان يتعجل أى فرصة مواتية، ليذهب سريعاً إلى رؤساء الكهنة الذين كانوا ينتظرون مجيئه بفارغ الصبر.

لم يقل له السيد المسيح “اذهب بسرعة لتسلمنى لليهود”. ولكن قال: “ما أنت تعمله” تاركاً له حرية الاختيار بين أحد أمرين:

إما أن يعمل عمل التوبة بسرعة فيتأهل للتناول من جسد الرب ودمه، إذ يترك عنه الخيانة ويبقى مع التلاميذ.
أو أن يخرج سريعاً ويخلى المجال، ليتمكن السيد المسيح فى العلية من تأسيس سر العشاء الربانى، الذى لا يستحق يهوذا أن يشترك فيه، وبحيث يتم ذلك قبل القبض على السيد المسيح فى البستان.

وقد اختار يهوذا -كما سبق السيد المسيح وأنبأ- الخيار الثانى. وخرج للوقت لأنه كان قد سلّم قلبه بالكامل للشيطان.. وبعد خروجه ومعه شيطان قلبه، بدأ السيد المسيح فى تقديس القربان إذ قال “الآن تمجّد ابن الإنسان وتمجّد الله فيه” (يو13: 31). لم تكن لقمة الفصح اليهودى التى أعطاها السيد المسيح ليهوذا قبل خروجه هى السبب فى دخول الشيطان فيه. أما قول الكتاب “بعد اللقمة دخله الشيطان” (يو13: 27)، فهو مرتبط بقوله السابق لهذا الأمر “وقد ألقى الشيطان فى قلب يهوذا سمعان الإسخريوطى أن يسلِّمه” (يو13: 2).

كان السبب الحقيقى لدخول الشيطان فى يهوذا، هو إصراره على الخيانة، بالرغم من محبة السيد المسيح وتحذيراته له. وتخلى النعمة عنه فى نهاية الأمر لأنه لم يستحقها، بل رفضها وبإصرار.. والنعمة لا تفرض وجودها على أحد..

أليس هذا هو ما حذر منه السيد المسيح من التجديف على الروح القدس؟.. وهو ما ينتج عن رفض التوبة وبإصرار إلى النهاية؟!

حسن التدبير

عامل السيد المسيح يهوذا الإسخريوطى بمنتهى الرفق والرقة، فى مقابل خيانته الشنيعة، وحتى حينما حرمه السيد المسيح من التناول من الأسرار المقدسة، فقد فعل ذلك بطريقة حسن التدبير، وحسن اختيار الزمان والمكان.

فبسابق علمه كان يعرف أن يهوذا يتحيّن الفرصة للذهاب لرؤساء الكهنة، ولا يرغب فى البقاء بعد انتهاء الفصح اليهودى، بل كان كل همه أن يعرف خط سير السيد المسيح.

أثناء الفصح اليهودى حذَّره السيد المسيح من الخيانة بقوله: “إن ابن الإنسان ماضٍ كما هو مكتوب عنه، ولكن ويل لذلك الرجل الذى به يُسلَّم ابن الإنسان. كان خيراً لذلك الرجل لو لم يولد” (مت26: 24).

كان التحذير شديداً وعميقاً ومؤثراً.. ولكن يهوذا لم يبالِ.. وحينما سأل يهوذا السيد المسيح “هل أنا هو يا سيدى” (مت26: 25). أجاب السيد المسيح وقال له: “أنت قلت” (مت26: 25).

بعد هذه التحذيرات قال السيد المسيح ليهوذا: “ما أنت تعمله، فاعمله بأكثر سرعة” (يو13: 27). وبهذا ترك له حرية الاختيار بين البقاء والتراجع عن الخيانة، وبين الخروج الذى كان يهوذا يتعجله.

وكما رأينا، اختار يهوذا أن يخرج مسرعاً.. وهنا بدأ السيد المسيح فى تأسيس سر الشكر، وتقديس القربان والكأس التى للعهد الجديد. وذلك بعد أن خرج الذى أضمر خطية فى قلبه.

بكل هذا التدبير العجيب صنع السيد المسيح العشاء الربانى بعد خروج يهوذا.. وغالباً ظن يهوذا أن الفصح اليهودى لم يكن باقياً بعده سوى الختام والتسبيح.

كانت أقدس اللحظات قد أوشكت .. وخرج الخائن.. غير الطاهر (انظر يو13: 10، 11)، وأصبح الجو مهيئاً ليمنح السيد المسيح أعظم عطية فى الوجود لتلاميذه.. وهو ما تقول عنه الترنيمة:

هذا عشا العريس قدّم للعروس والوعد بالفردوس لحافظ العهد

فى بساطة واتضاع عجيبين أعطى السيد المسيح جسده لتلاميذه قائلاً: “خذوا كلوا هذا هو جسدى الذى يُبذل عنكم. اصنعوا هذا لذكرى” (لو22: 19، انظر مت26: 26).

وسبق أن قال لهم: “من يأكل جسدى ويشرب دمى يثبت فىَّ وأنا فيه” (يو6: 56).

هؤلاء التلاميذ الضعفاء المساكين.. وهم قوم بسطاء وأغلبهم من الصيادين.. أعطاهم السيد المسيح سر حبه الأمين .. فى ليلة آلامه .. جسده الذى يقسم عنهم، ودمه الزكى الثمين الذى يسفك لأجل كثيرين.. وهو فرح جميع القديسين.

أعطاهم السيد المسيح عربون الحياة الأبدية، بيده الطاهرة الطوباوية، حين لم تعد للخيانة فى الحاضرين بقية.. مترفقاً بضعف الباقين الذين كانت محبتهم حقيقية، ولكنها كانت تنتظر قيامته القوية.

وهنا نتذكر ما كتبه قداسة البابا شنودة الثالث –أطال الرب حياة قداسته- عن القوة التى تمنحها القيامة فى أبيات ذهبية:

قـم حـطم الـشـيطـان لا تُـبـق لـدولـتــه بـقــيـة

قـم بـشـر الـموتى وقـل غفرت لكم تلك الخطية

قـم قــو إيـمـان الـرعـاة ولِـمّ أشــتـات الــرعـيـة

واغـفـر لبـطرس ضعـفـه وامـسـح دمـوع المجدلـية

واكشف جراحك مقنعـاً تــومــا فـريـبـتـه قــويـة ( )

كانت خطية يهوذا فى خيانته هى عدم المحبة. أما باقى التلاميذ فى ضعفهم أثناء آلام السيد المسيح وصلبه، فكانت محبتهم تنتظر قوة وفاعلية الروح القدس، لكى تكون قادرة على هدم كل محاربات الشيطان .. هناك فرق بين الهزيمة والخيانة.. فالجندى الأمين فى الميدان من الممكن أن ينهزم وقتياً، ولكنه ليس من الممكن أن يخون .. مثل هذا الجندى يحتاج إلى معونة من قيادته القوية، سواء بالأجناد أو بالسلاح والعتاد. وهذا ما يفعله الله مع أولاده المخلصين الأمناء، إن انهزموا وقتياً فى ضعف، وصرخوا إليه طالبين المعونة لخلاصهم.
لماذا خان سيده


اختار السيد المسيح يهوذا الإسخريوطى وهو يعلم مسبقاً أنه سوف يخونه ويسلّمه لأعدائه من اليهود. ولكن بالرغم من ذلك فإن السيد المسيح حاول أن يثنيه عن خيانته وأنذره بعواقبها. ولكن يهوذا أصر على الخيانة ولم تنفع معه النصائح والإنذارات ولم يؤثـّر فيه العتاب والتوبيخ.

إن الرب يظل أميناً وفياً حتى ولو خانه أصدقاؤه. وقد تألم السيد المسيح كثيراً لسبب خيانة أحد تلاميذه له. وكان هذا من الأسباب التى جعلت نفسه حزينة جداً حتى الموت فى ليلة آلامه. ولكن بالرغم من ذلك فإنه قد اختار يهوذا الإسخريوطى ليكون واحداً من الاثنى عشر، ويؤدى دوره فى تسليم السيد المسيح وبهذا يصير وسيلة لتحذير كل تلاميذ الرب من الخيانة وبشاعتها.

وفى أسبوع الآلام تركِّز الكنيسة فى الخميس الكبير وقراءاته على واقعة خيانة يهوذا، وتمنع التقبيل لعدة أيام فى هذا الأسبوع المقدس استنكارًا للقبلة الغاشة التى سلّم بها يهوذا سيده ومعلمه إلى اليهود، الذين حكموا عليه بالموت وأسلموه إلى الرومان ليصلبوه.

وينبغى علينا أن نتنبه فى طقس البصخة المقدسة أن يهوذا لم يتناول من جسد الرب ودمه، بل أكل فقط من عشاء الفصح اليهودى وحينما غمس السيد المسيح اللقمة فى المرق وأعطاه، خرج للوقت. وبعدها بدأ السيد المسيح فى تقديس الخبز والخمر وتأسيس سر الإفخارستيا أى التناول المقدس. وقد سبق أن نشرت مجلة الكرازة مقالاً تفصيلياً بهذا الخصوص استنادًا إلى ما ورد فى الأناجيل الأربعة. كما أن قداسة البابا شنودة الثالث أطال الرب حياته قد نبّه مرارًا وتكرارًا أن يهوذا لم يتناول من جسد الرب ودمه. وكذلك فإن المجمع المقدس فى جلسته فى عيد العنصرة (يونيو 2002م) قد نبّه إلى تصحيح قراءات عظات قطمارس البصخة المقدسة واستبعاد العبارات التى تشير إلى تناول يهوذا من جسد الرب ودمه الأقدسين.
نبوات عن خيانة يهوذا


وردت نبوة عن يهوذا فى المزمور المائة والتاسع (مز109: 8) واقتبسها القديس بطرس الرسول فى حديثه عنه بعد انتحاره وعند اختيار متياس الرسول بدلاً منه والمذكور فى سفر أعمال الرسل (أع1: 20) “لتصر داره خراباً ولا يكن فيها ساكن وليأخذ وظيفته آخر” وهذا المزمور يحوى كلاماً كثيراً عن يهوذا الإسخريوطى ويبدأ بعبارة “يا إله تسبيحى لا تسكت. لأنه قد انفتح علىّ فم الشرير وفم الغش..” (مز109 :1، 2).

ويستطرد المزمور فيقول “فأقم أنت عليه شريراً وليقف شيطان عن يمينه. إذا حوكم فليخرج مذنباً وصلاته فلتكن خطية. لتكن أيامه قليلة ووظيفته ليأخذها آخر.. من أجل أنه لم يذكر أن يصنع رحمة بل طرد إنساناً مسكيناً وفقيراً والمنسحق القلب ليميته. وأحب اللعنة فأتته ولم يسر بالبركة فتباعدت عنه” (مز109: 6-8، 16، 17).

وهنا يكشف المزمور سر هلاك يهوذا الإسخريوطى فى عبارة “وأحب اللعنة فأتته ولم يسر بالبركة فتباعدت عنه” (مز109: 17).

أحياناً يحاول البعض أن يدافعوا عن يهوذا الإسخريوطى ويقولون إن يهوذا قد قدّم خدمة للبشرية بتسليمه السيد المسيح لليهود لكى يتم الفداء والخلاص. وأن السيد المسيح قد اختاره لهذا الغرض.

ولكن السيد المسيح أنذر يهوذا بأن الخلاص سيتم؛ من خلال خيانة يهوذا أو بدونها. ولكن ويل لمن يقوم بهذه الخيانة. وقد سجلت الأناجيل قول السيد المسيح هذا بحضور يهوذا: “إن ابن الإنسان ماضٍ كما هو مكتوب عنه. ولكن ويل لذلك الرجل الذى به يُسلَّم ابن الإنسان. كان خيراً لذلك الرجل لو لم يولد” (مت 26: 24).

وها هو أيضاً المزمور يوضح أن يهوذا قد “أحب اللعنة فأتته، ولم يسر بالبركة فتباعدت عنه” (مز109: 17).

وقد كشف المزمور بهذا مشاعر قلب يهوذا الداخلية أنه أحب اللعنة، ولذلك جاءته هذه اللعنة. أحب أجرة الظلم، وجاءت معها اللعنة. أحب الخيانة، وجاءت معها اللعنة. أحب مشورة الشياطين، وجاءت معها اللعنة. أحب مؤامرة الأشرار، وجاءت معها اللعنة.

كذلك فإنه لم يسر بالبركة فتباعدت عنه. لم يسر برفقة السيد المسيح، فتباعدت عنه البركة. لم يسر برفقة التلاميذ المخلصين، فتباعدت عنه البركة. لم يسر بحضور القداس الإلهى الأول، فتباعدت عنه البركة. لم يسر بمرافقة السيد المسيح ومشاركته فى ليلة آلامه، فتباعدت عنه البركة. لم يسر بحديث السيد المسيح عن صلبه وقيامته، فتباعدت عنه البركة. لم يسر بوظيفته الرسولية، فتباعدت عنه البركة. لم يسر بأن يصنع رحمةً بل طرد المنسحق القلب ليميته، فتباعدت عنه البركة.

ماذا نقول عنك يا يهوذا؟ لقد صرت نذيراً وتحذيراً لكل من تسول له نفسه الخيانة. لقد أحزنت قلب سيدك الذى قدّم لك الحب وصار يقول: “بدل محبتى يخاصموننى. أما أنا فصلاة. وضعوا علىّ شراً بدل خيرٍ، وبغضاً بدل حبى” (مز109: 4، 5).
نهاية الخائن


بعد تسليم السيد المسيح، وصدور حكم مجمع اليهود عليه بالموت، لم يحتمل يهوذا الإسخريوطى أسلوب الرقة والمحبة التى عامله بها السيد المسيح من قبل.. ووضع الشيطان فى قلبه أن يمضى ويقتل نفسه.

وبالفعل إذ لم تكن فى قلبه محبة ولا اتضاع، لم يلجأ إلى السيد المسيح تائباً معتذراً عما بدر منه، بل مضى وشنق نفسه..

وهكذا نرى أن لطف الله وأناته الذى يقتادنا إلى التوبة، هو نفسه يصير سبب دينونة لنا، إن لم نتراجع عن خطايانا بقلوب ملؤها الحب والثقة فى الله.

عن ذلك قال معلمنا بولس الرسول: “غير عالم أن لطف الله إنما يقتادك إلى التوبة. ولكنك من أجل قساوتك، وقلبك غير التائب، تذخر لنفسك غضباً فى يوم الغضب واستعلان دينونة الله العادلة” (رو2: 4، 5).

كثير من الدروس نستطيع أن نتعلمها من خيانة يهوذا، وموقف الرب منه، ومعاملاته الممتلئة حنواً من نحوه، ومصيره الذى اختاره لنفسه وذهب إليه بإرادته..

أيها الرب يسوع المسيح، ليتنا نفهم شيئاً من سرك العجيب، فنتأملك بالدهش.. وتعجز كلماتنا عن أن تصف فضائلك يا ملك القديسين.”أرنا الآب وكفانا” (يو14: 8).

بعد العشاء الربانى، تكلّم السيد المسيح عن بيت الآب السماوى والطريق إليه. فسأله توما الرسول: “يا سيد لسنا نعلم أين تذهب، فكيف نقدر أن نعرف الطريق؟” (يو14: 5). فقال له يسوع: “أنا هو الطريق والحق والحياة. ليس أحد يأتى إلى الآب إلاّ بى. لوكنتم قد عرفتمونى لعرفتم أبى أيضاً. ومن الآن تعرفونه، وقد رأيتموه” (يو14: 6، 7).

وحينما تكلّم السيد المسيح عن معرفة التلاميذ للآب ورؤيتهم له، وهى تلك التى تحققت من خلال الابن الوحيد الله الكلمة المتجسد، بدأ فيلبس يطلب رؤية الله، متجاهلاً حضور السيد المسيح الذى قيل عنه “الله ظهر فى الجسد” (1تى3: 16)، وقال متعجلاً: “يا سيد أرنا الآب وكفانا” (يو14: 8).

جاء طلب فيلبس منافياً تماماً لكلمات السيد المسيح عن الله الآب: “ومن الآن تعرفونه وقد رأيتموه” (يو14: 7)، ومنافياً لحضور السيد المسيح باعتباره الله الظاهر فى الجسد (انظر 1تى3: 16).

ولكن عمانوئيل لم يغضب من هذا التجاهل لكلامه ولحضوره “الله معنا” (مت1: 23) بل أجاب فى اتضاع وفى عتاب قائلاً: “أنا معكم زماناً هذه مدته ولم تعرفنى يا فيلبس؟! الذى رآنى فقد رأى الآب. فكيف تقول أنت أرنا الآب؟! ألست تؤمن أنى أنا فى الآب والآب فىّ..” (يو14: 9، 10).

ما قصده فيلبس بقوله: “أرنا الآب وكفانا” هو “أرنا الله وكفانا”. وكأنه يجعل هناك فرقاً، أو فاصلاً بين السيد المسيح والله. أو أن الآب وحده هو الله، والسيد المسيح هو شاهد عن الله..

ولكن السيد المسيح أوضح له وللتلاميذ، أن الذى يرى المسيح فقد رأى الله الكلمة، الابن الأزلى.. والابن هو “صورة الله غير المنظور” (كو1: 15). والمقصود أنه صورة الله الآب غير المنظور. فالذى يرى الله الكلمة الظاهر فى الجسد، يكون قد رأى الصورة الحقيقية لله الآب مثلما نقول أن الكلمة صورة العقل غير المنظور. وبهذا يكون قد رأى الله الآب. وقد قال أحد الفلاسفة: “كلّمنى فأراك”.

وهذا ما عبّر عنه القديس يوحنا فى بداية إنجيله بقوله: “الله لم يره أحد قط. الإله الوحيد الجنس الذى هو فى حضن الآب هو خبّر” (يو1: 18).
أيقونة الثالوث


أشار قداسة البابا شنودة الثالث عدة مرات إلى الخطأ الذى أستُحدث فى القرون الأخيرة، ووقع فيه بعض الفنانين الغربيين، حينما رسموا أيقونة للثالوث القدوس، استخدمتها بعض الكنائس فى الغرب، يظهرون فيها الآب فى صورة إنسان كبير السن ذى لحية بيضاء، وعن يمينه الابن فى صورة شاب ذى لحية سوداء، والروح القدس فى هيئة حمامة بيضاء مضيئة.

وأوضح قداسته أن الابن باعتباره صورة الله الآب غير المنظور؛ فليس من الصواب أن يتم تصوير الآب بهذا الشكل! إن الآب “لم يره أحد قط” (يو1: 18). ولم نره إلاَّ فى ابنه الذى هو صورته.

كما أن اللحية البيضاء للآب، مع لحية سوداء للابن، قد تعطى انطباعاً بأن هناك فارقاً زمنياً فى الوجود بين الآب والابن، وهو ما ابتدعه أريوس الهرطوقى مدعياً أن الأزلية هى للآب وحده.

بينما نرى الكتاب المقدس يورد وصفاً للسيد المسيح فى السماء فى رؤيا يوحنا اللاهوتى: “وفى وسط السبع المناير شبه ابن إنسان متسربلاً بثوب إلى الرجلين، ومتمنطقاً عند ثدييه بمنطقة من ذهب. وأما رأسه وشعره فأبيضان كالصوف الأبيض كالثلج. وعيناه كلهيب نار. ورجلاه شبه النحاس النقى كأنهما محميتان فى أتون. وصوته كصوت مياه كثيرة. ومعه فى يده اليمنى سبعة كواكب. وسيف ماض ذو حدين يخرج من فمه ووجهه كالشمس وهى تضئ فى قوتها. فلما رأيته سقطت عند رجليه كميت فوضع يده اليمنى علىَّ قائلاً لى: لا تخف أنا هو الأول والآخر، والحى وكنت ميتاً وها أنا حى إلى أبد الآبدين آمين. ولى مفاتيح الهاوية والموت” (رؤ1: 13-18).

الذى رآه يوحنا هو السيد المسيح الذى مات حسب الجسد، وقام من الأموات، وصعد إلى السماوات حيث “رفع فى المجد” (1تى3: 16).

وقد رأى يوحنا شعر رأس السيد المسيح وشعر لحيته وهما أبيضان كالصوف الأبيض كالثلج، علامة أنه قديم الأيام وأزلى مثل الآب تماماً، لأنه هو كلمة الله الذى له نفس الجوهر الذى للآب، والمولود منه قبل كل الدهور والأزمان. وليس من الممكن أن يوجد الله الآب بغير الكلمة الأزلى، إذ هو “قوة الله، وحكمة الله” (1كو1: 24)، “الكائن على الكل إلهاً مباركاً إلى الأبد آمين” (رو9: 5).

إن أجمل أيقونة للثالوث هى أيقونة عماد السيد المسيح حيث نرى السماوات مفتوحة، والروح القدس يحل على السيد المسيح بهيئة حمامة، والآب يشهد بصوته قائلاً “هذا هو ابنى الحبيب” (مت3: 17).

السيد المسيح كمعلم لللاهوت

لم يغضب السيد المسيح من كلام فيلبس. بل كمعلم سأله بطول أناة واتضاع: “الذى رآنى فقد رأى الآب. فكيف تقول أنت أرنا الآب ؟!” (يو14: 9).

كان هدف السيد المسيح من كلامه هو أن يُصحح إيمان فيلبس وعقيدته اللاهوتية، حتى يمكنه أن يعرف الحق المؤدى إلى الحياة. فخاطبه بعدها قائلاً: “ألست تؤمن أنى أنا فى الآب والآب فىّ؟” (يو14: 10).

ما أعجب السيد المسيح كمعلم لللاهوت، وهو يدعو تلاميذه إلى المعتقد القويم والإيمان الحق ويقول متوسلاً فى حب واتضاع: “صدقونى أنى فى الآب والآب فىّ” (يو14: 11).

“لأن الآب نفسه يحبكم” (يو16: 27)

حينما اقتربت ساعة الصلب، بدأ السيد المسيح يكلّم تلاميذه عن أسرار عجيبة، ربما لم يكلمهم عنها من قبل. ولكن فى الوقت نفسه أشار إلى أيام آتية، يكشف لهم فيها مزيداً من الأسرار الإلهية.

قال السيد المسيح: “قد كلمتكم بهذا بأمثال، ولكن تأتى ساعة حين لا أكلمكم أيضاً بأمثال، بل أخبركم عن الآب علانية. فى ذلك اليوم تطلبون باسمى. ولست أقول لكم إنى أنا أسأل الآب من أجلكم. لأن الآب نفسه يحبكم لأنكم قد أحببتمونى. وآمنتم أنى من عند الله خرجت” (يو16: 25-27).

أراد السيد المسيح أن يشرح لتلاميذه كيف يسعى لإيجاد علاقة مباشرة بينهم وبين الآب. هذه العلاقة المباشرة لم يكن من الممكن أن توجد بدون الفداء، وإتمام المصالحة بين الإنسان والله. وتمتع الإنسان بنعمة الولادة الجديدة والبنوة لله فى المعمودية.

قبيل الصليب كان السيد المسيح منشغلاً بالعلاقة بين الله الآب والإنسان الذى تغرب عنه زمناً طويلاً.

وبدأ بكلامه يمنح التلاميذ تشوقاً لكى يتطلعوا نحو تلك الساعة، أو ذلك اليوم الذى يكلمهم فيه عن الآب علانية، بعد إتمام الفداء. ولكى يتطلعوا نحو ذلك اليوم الذى يطلبون فيه من الآب بدالة حقيقية.

أليس هذا ما نصلى به فى القداس الإلهى فى صلوات القسمة إذ نقول }لكى بقلب طاهر، ووجه غير مخزى، وإيمان بلا رياء، ومحبة كاملة.. نجرؤ بدالة بغير خوف، أن نصرخ نحوك أيها الآب القدوس الذى فى السماوات، ونقول: أبانا الذى فى السماوات..{.

منتهى الحب ومنتهى الاتضاع أن يقول السيد المسيح لتلاميذه “فى ذلك اليوم تطلبون باسمى. ولست أقول لكم إنى أنا أسأل الآب من أجلكم” (يو16: 26). كان مسروراً جداً بإيجاد علاقة مباشرة بين تلاميذه وبين الآب. ولهذا استهان بكل ما كان ينتظره من آلام وخزى، فى سبيل تحقيق هذا الغرض النبيل.

حينما يصطلح الإنسان مع الآب بالتوبة وبدم السيد المسيح، تصير له الدالة أن يتخاطب مع الآب مباشرة. لذلك قال السيد المسيح: “لست أقول لكم إنى أنا أسأل الآب من أجلكم” (يو16: 26).

ولكن “إن أخطأ أحد فلنا شفيع عند الآب، يسوع المسيح البار، وهو كفارة لخطايانا” (1يو2: 1، 2).

غفران الخطية لا يتم إلا بشفاعة السيد المسيح الكفارية. ولهذا لا يمكن للإنسان أن يأتى إلى الآب إلا بالمسيح. والمسيح هو الذى يطلب من أجل مغفرة خطاياه..

أما باقى الطلبات التى تتبع المصالحة مع الآب وتترتب عليها، فمن الممكن أن يقدمها الإنسان للآب مباشرة باسم السيد المسيح.
لماذا يستجيب الآب ؟


شرح السيد المسيح ذلك بقوله: “لأن الآب نفسه يحبكم. لأنكم قد أحببتمونى. وآمنتم أنى من عند الله خرجت” (يو16: 27).

محبة الله لنا تتحقق بمحبتنا للسيد المسيح وإيماننا به. هذا هو دليل قبولنا لمحبته ودخولنا إلى شركة الحب معه.

لهذا قال يوحنا المعمدان : “الآب يحب الابن، وقد دفع كل شئ فى يده. الذى يؤمن بالابن له حياة أبدية” (يو3: 35، 36).

وقال يوحنا الإنجيلى : “من اعترف أن يسوع هو ابن الله، فالله يثبت فيه وهو فى الله. ونحن قد عرفنا وصدقنا المحبة التى لله فينا. الله محبة ومن يثبت فى المحبة يثبت فى الله والله فيه” (1يو4: 15، 16).

وعن محبتنا لابن الله قال: “كل من يحب الوالد يحب المولود منه أيضاً” (1يو5: 1).

جاء السيد المسيح لكى ينقل إلينا الحب الكائن بين الآب والابن منذ الأزل، أى الحب الكائن بين أقانيم الثالوث الآب والابن والروح القدس.

ولهذا قال فى مناجاته للآب قبل الصليب: “أيها الآب البار إن العالم لم يعرفك. أما أنا فعرفتك. وهؤلاء عرفوا أنك أنت أرسلتنى. وعرفتهم اسمك وسأعرفهم، ليكون فيهم الحب الذى أحببتنى به، وأكون أنا فيهم” (يو17: 25، 26).

“أبى أعظم منى” (يو14: 28)

بقدر ما أتعبت هذه الكلمات أريوس الهرطوقى، بقدر ما هى مفرحة لقلوب الودعاء والمتضعين..

قالها السيد المسيح فى بساطة واتضاع، عن حال كونه قد أخذ صورة عبد بالتجسد.. وإذ وُجد فى الهيئة كإنسان وضع ذاته.. ( انظر فى2: 8).

فالسيد المسيح هو المثل الأعلى فى الاتضاع. وبالرغم من كونه هو أقنوم الابن الأزلى، المساوى لأبيه فى كل صفات الجوهر الإلهى، والأزلى مع الآب.. إلا أنه أخلى ذاته، آخذاً صورة عبد. ولم يكتفِ بذلك بل إذ وُجد فى الهيئة كإنسان، وضع ذاته وأطاع حتى الموت.

لهذا قدّم معلمنا بولس الرسول ما عمله السيد المسيح كمثال للاتضاع إذ قال:

“فليكن فيكم هذا الفكر الذى فى المسيح يسوع أيضاً. الذى إذ كان فى صورة الله، لم يحسب مساواته لله اختلاساً. لكنه أخلى نفسه، آخذاً صورة عبد صائراً فى شبه الناس. وإذ وُجد فى الهيئة كإنسان، وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب” (فى2: 5-8).

إخلاء الذات : (Kenosis)

بهذه العبارات شرح معلمنا بولس الرسول حقيقة التجسد الإلهى.

فالابن الوحيد الأزلى إذ كان “فى صورة الله” (evn morfh / Qeou/ إن مورفى ثيئو) أخذ “صورة عبد” (morfh/n dou,lou مورفين دولو). هو لم يتغير عن طـبيعته الإلهـية، ولكنه أخـلى نفسه (e`auto/n evke,nwse هى أفتون إكينوسى): بمعنى أنه تخلّى عن أن يكون مجده الإلهى منظوراً على الأرض، حينما احتجب مجد اللاهوت فى الجسد.. إذ أخذ صورة عبد ووُجِد فى الهيئة (sch,mati سكيماتى) كإنسان.

لهذا قال السيد المسيح -حال كونه فى الجسد على الأرض- إن الآب أعظم منه..

بمعنى أنه إذ أخلى نفسه فإن صورة العبد هى المنظورة.. وبصعوده إلى السماء فسوف يدخل إلى مجده، أى إلى صورة الله التى أخلى نفسه منها مرحلياً أو وقتياً فى نظر من رآه فى حال تجسده على الأرض. وبهذا يدخل بجسد القيامة إلى حالة المجد التى تخص صورة الله.

لهذا قال لتلاميذه : “لوكنتم تحبوننى لكنتم تفرحون لأنى قلت أمضى إلى الآب. لأن أبى أعظم منى” (يو14: 28). بمعنى أنهم ينبغى أن يفرحوا بعودته إلى السماء، حيث مجده الإلهى الأول الذى أخلى نفسه منه، إذ أخذ صورة عبد، لكى يضع نفسه ويطيع حتى الموت ويفتدى البشرية.

ويؤكد ذلك كله ما قاله السيد المسيح فى صلاته للآب قبيل الصليب : “أنا مجدتك على الأرض، العمل الذى أعطيتنى لأعمل قد أكملته. والآن مجدنى أنت أيها الآب عند ذاتك، بالمجد الذى كان لى عندك قبل كون العالم” (يو17: 4، 5).

أى أن رسالة السيد المسيح على الأرض كانت هى تمجيد الآب السماوى، وكان الابن قد أخلى نفسه ليتمم الفداء.

وبعد إتمام الفداء على الأرض، يصير صعوده إلى السماء هو الوسيلة التى يعلن بها الآب دخول السيد المسيح إلى مجده، حيث يظهر مع الآب فى الأقداس السماوية لأجلنا.. ويكون بهذا قد عاد إلى مجده الذى كان له قبل كون العالم، والذى لم يفقده بالتجسد بل أخفاه عن الناظرين إليه على الأرض ليتمم الفداء.

وقد عبّر القديس بولس الرسول عن هذه الحقيقة بقوله :

“وبالإجماع عظيم هو سر التقوى: الله ظهر فى الجسد، تبرر فى الروح، تراءى لملائكة، كُرز به بين الأمم، أومن به فى العالم، رُفع فى المجد” (1تى3: 16).

فالله الظاهر فى الجسد، هو السيد المسيح الذى أخلى ذاته آخذاً صورة عبد. وهو نفسه رُفع فى المجد: لأنه “كان ينبغى أن المسيح يتألم بهذا ويدخل إلى مجده” (لو24: 26).

وبهذا يتضح أن قول السيد المسيح: “أبى أعظم منى” يخص وجوده فى دائرة الإخلاء على الأرض. أما بعد عودته إلى مجده السماوى، فلا مجال لهذا القول على الإطلاق، إذ هو مساو لأبيه فى مجده الإلهى الأزلى.

” لم يحسب مساواته لله اختلاساً ” (فى2: 6)

ونظراً لأن السيد المسيح لم يختلس الألوهية، ولا مساواته لله.. بل هو مولود من الآب بالطبيعة قبل كل الدهور، بنفس جوهر الآب الإلهى: إذ له نفس الجوهر الذى للآب :

هومو أوسيون تو باترى o`mo ouvsion tw/ Patri,

Homo – ousion tou Patri = of the same Essence with the Father

لهذا أمكن أن يُخلى ذاته دون أن يخشى فقدان شئ من هذا الجوهر الإلهى. فمسألة الإخلاء تخص مجده الإلهى المنظور فقط، دون أن تتأثر طبيعته الإلهية أو تتغير بسبب الإتحاد الطبيعى والأقنومى بين اللاهوت والناسوت فى تجسد الكلمة.

الترجمة الإنجليزية لهذه الآية هى كما يلى حسب : King James Version

“Thought it not robbery to be equal to God ” (Ph2:6).

أى لم يحسبه اختلاساً أن يكون معادلاً لله أو لم يحسب مساواته لله اختلاساً (انظر فى2: 6). كان إخلاء السيد المسيح لنفسه ضرورة حتمية للتجسد، وكان اتضاعه فى تجسده ضرورة حتمية لإتمام الفداء. وقد علّمنا بمثاله الصالح كيف يمكن تحقيق مقاصد الله من خلال الاتضاع، لكى ننجو نحن من سقطة الكبرياء التى لإبليس المعاند.

“وتتركوننى وحدى” (يو16: 32).

فى ليلة آلام السيد المسيح؛ قال لتلاميذه : “هوذا تأتى ساعة وقد أتت الآن، تتفرقون فيها كل واحد إلى خاصته وتتركوننى وحدى، وأنا لست وحدى لأن الآب معى” (يو16: 32).

من الأمور المؤلمة للقلب، أن يجد الإنسان نفسه وقد تخلّى عنه أصدقاؤه فى وقت الشدة والضيق..

فى ليلة آلامه فى البستان، عاتب السيد المسيح تلاميذه حينما ناموا ولم يسهروا معه حسب طلبه وقال لهم: “أهكذا ما قدرتم أن تسهروا معى ساعة واحدة؟!” (مت26: 40). وقد ورد هذا المعنى فى المزمور القائل “انتظرت رقة فلم تكن ومعزّين فلم أجد” (مز69: 20).

وكان السيد المسيح قد “ابتدأ يحزن ويكتئب” (مت26: 37) ويقول لتلاميذه: “نفسى حزينة جداً حتى الموت” (مر14: 34).

كان من الطبيعى أن يحزن السيد المسيح على خطايا البشر جميعاً، وقد وُضعت على كاهله ليحملها عوضاً عنهم. إذ قيل عنه أنه هو “حمل الله الذى يرفع خطية العالم” (يو1: 29). وقيل أيضاً “كلنا كغنم ضللنا ملنا كل واحد إلى طريقه، والرب وضع عليه إثم جميعنا” (إش53: 6).

لم يكن من السهل إطلاقاً أن يحمل البار ذنوب الخطاة، بل كان الثمن فادحاً جداً.. وكان الحزن هو التعبير الطبيعى عن المعاناة الكبيرة التى عاناها السيد المسيح لأجل خلاصنا.

“أحزاننا حملها” (إش53: 4)

لهذا قيل عن السيد المسيح فى آلامه، أنه “محتقر ومخذول من الناس، رجل أوجاع ومختبر الحزن.. وكمستر عنه وجوهنا محتقر فلم نعتد به. لكن أحزاننا حملها وأوجاعنا تحملها، ونحن حسبناه مصاباً مضروباً من الله ومذلولاً” (إش53: 3، 4).

وقف السيد المسيح أمام العدل الإلهى كمذنب، مستعد لتحمل العقاب ودفع الثمن. وكراعٍ صالح قال: “أنا أضع نفسى عن الخراف” (يو10: 15). وقال لتلاميذه: “ليس لأحد حب أعظم من هذا، أن يضع أحد نفسه لأجل أحبائه” (يو15: 13).

تحمل السيد المسيح الأحزان والأوجاع ، التى ينبغى أن يتحملها الخاطئ حينما يشعر بفداحة ذنبه وجسامة خطاياه وبشاعتها. ولا يوجد مثل السيد المسيح فى إدراكه الكامل لبشاعة الخطية. هذا كله تحمله السيد المسيح، إلى جوار تحمله لآلام الجلد وإكليل الشوك والصلب، وتذوقه الموت لأجل كل واحد. وأضيف إلى ذلك ما احتمله نتيجة التعيير من البعض، والجحود أو التخلى أو الخيانة من البعض الآخر. وتم ما قيل عنه فى المزمور “عند كل أعدائى صرت عارًا، وعند جيرانى بالكُلية، ورعباً لمعارفى. الذين رأونى خارجاً هربوا عنى. نسيت من القلب مثل الميت. صرت مثل إناء متلف. لأنى سمعت مذمة من كثيرين.. تفكروا فى أخذ نفسى” (مز31: 11-13).

لم يكن هناك من يستطيع أن يدفع ثمن خطايا البشرية سوى البار القدوس وحده، إذ جعل نفسه ذبيحة إثم. فهو الوحيد الذى يستطيع أن يتألم ويموت عوضاً عن آخرين، لأنه هو نفسه بلا خطية تستوجب الموت أو الإدانة.

“دست المعصرة وحدى” (إش63: 3)

وحينما قال لتلاميذه: “تتركونى وحدى”، لم يكن هذا فقط من جهة عدم قدرتهم على مساندته والسهر معه فى وقت الآلام. ولكن أيضاً لأنه لم يكن ممكناً لأى إنسان أن يحمل معه خطايا البشرية ويدفع ثمنها.. فكان السيد المسيح وحيداً فريداً “هو يدوس معصرة خمر سخط وغضب الله” (رؤ19: 15) موفياً العدل الإلهى حقه بالكامل.

لهذا قال بفم النبى: “قد دست المعصرة وحدى، ومن الشعوب لم يكن معى أحد” (إش63: 3).

لكن فى كل ذلك قال لتلاميذه: “أنا لست وحدى، لأن الآب معى” (يو16: 32). لأن الآب والابن لا ينفصلان إطلاقاً.

أيها الآب مجد اسمك حينما تكلم السيد المسيح مع تلاميذه عن مجيء ساعة آلامه وموته، إذ قال: “قد أتت الساعة ليتمجد ابن الإنسان” (يو12: 23)، وقال إنه قد جاء إلى العالم لأجل هذه الساعة “لأجل هذا أتيت إلى هذه الساعة” (يو12: 27)، تحوّل السيد المسيح من حديثه مع التلاميذ إلى مخاطبة الآب السماوى ورد عليه الآب من السماء كما يلى: “أيها الآب مجد اسمك. فجاء صوت من السماء: مجدت وأمجد أيضاً” (يو12: 28).ويلزمنا هنا أن نسأل عن علاقة قول السيد المسيح: “قد أتت الساعة ليتمجد ابن الإنسان” (يو12: 23) بقوله للآب: “أيها الآب مجّد اسمك”، وما هى علاقة كل ذلك بآلام السيد المسيح وموته وقيامته من الأموات؟.

ويلزمنا أيضاً أن نسأل عن الاسم الذى قصده السيد المسيح حينما قال: “أيها الآب مجّد اسمك”.

لقد أكّد السيد المسيح أهمية هذا الاسم الذى ردده كثيراً أى “الآب” لذلك ففى مناجاته قبل الصلب التى سجلها القديس يوحنا فى الأصحاح السابع عشر من إنجيله، رفع يسوع عينيه نحو السماء وقال: “أيها الآب قد أتت الساعة. مجّد ابنك ليمجدك ابنك أيضاً” (يو17: 1). وفى نهاية هذه المناجاة العميقة قال: “أيها الآب البار إن العالم لم يعرفك. أما أنا فعرفتك، وهؤلاء عرفوا أنك أنت أرسلتنى. وعرفتهم اسمك وسأعرفهم ليكون فيهم الحب الذى أحببتنى به وأكون أنا فيهم” (يو17: 25، 26).

عرّفتهم اسمك

فى تكرار السيد المسيح لهذا اللقب الجميل “الآب” كشف عن حقيقة الثالوث القدوس، لأنه لا يوجد آب بغير ابن. وفى قوله للآب: “عرفتهم اسمك” يعنى أنه قد كشف هذه الحقيقة الرائعة وهى أن إله إبراهيم هو ليس مجرد إله فقط، بل هو الآب وكلمته وروحه.

الآب هو الأصل بغير بداية الذى منه يولد الابن قبل كل الدهور، ومنه ينبثق الروح القدس قبل كل الدهور، كما قال السيد المسيح عنه: “روح الحق الذى من عند الآب ينبثق” (يو15: 26).

وكما شرح الآباء القديسون لا يوجد آب بغير ابن ولا ابن بغير آب ومن هنا نفهم ارتباط تمجيد الابن بتمجيد اسم الآب. لأننا حينما نرى مجد المحبة فى الفداء ونعلم أنه “هكذا أحب الله العالم، حتى بذل ابنه الوحيد الجنس لكى لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية” (يو3: 16) حينئذ ندرك أبوة الآب الحقيقية.

الآب يتمجد فى الخلاص الذى منحه للبشرية بواسطة ابنه الوحيد الجنس ربنا يسوع المسيح.

حينما تمجد ابن الله الكلمة الذى تجسد وتأنس من أجل خلاصنا وذلك بموته المحيى وقيامته من الأموات، حينئذ تمجد اسم الآب بواسطة ابنه الوحيد.

الآب هو ينبوع الحب وينبوع الحكمة وينبوع الحياة.. ونحن ندرك كل ذلك حينما ننال الحياة فى المسيح بفعل الروح القدس العامل فى الأسرار.

إن اسم “الآب” ليس مجرد لقب فخرى يعلن أبوة الآب للخليقة، ولكنه يعلن ما هو أعظم من ذلك بكثير. فهو يعلن أن الله هو أبو ربنا يسوع المسيح، أى أن الآب له ابن خصوصى والأبوة فى الله ليست مستحدثة لسبب وجود الخليقة بل هى الخاصية الأقنومية للآب، والتى تعلن فى آن واحد أن الله هو ثالوث فى جوهر واحد، وجوهر واحد فى ثلاثة أقانيم غير منفصلة.

وقد أشار القديس بولس الرسول إلى أبوة الله بالنسبة لنا فى فاتحة رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس: “نعمة لكم وسلام من الله أبينا والرب يسوع المسيح” (1كو1: 3)، وفى رسالته الثانية لأهل كورنثوس قال: “مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح” (2كو1: 3). وكرر نفس الأمر فى فاتحة الرسالة إلى أهل أفسس: “نعمة لكم وسلام من الله أبينا والرب يسوع المسيح. مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح” (أف1: 2، 3).

كذلك فى فاتحة رسالة أهل كولوسى كتب يقول: “نعمة لكم وسلام من الله أبينا والرب يسوع المسيح. نشكر الله وأبا ربنا يسوع المسيح” (كو1: 2، 3).

لذلك نلاحظ التأكيد على أبوة الله الآب للرب يسوع المسيح.. هذا هو الاسم الذى يتمجد حينما يتمجد الابن الوحيد.

أنت ابنى

وقد أوضح القديس بولس الرسول أهمية فهم هذه العلاقة بين الآب والمسيح فقال: “لأنه لمن من الملائكة قال قط: أنت ابنى أنا اليوم ولدتك. وأيضاً أنا أكون له أباً وهو يكون لى ابناً. وأيضاً متى أدخل البكر إلى العالم يقول: ولتسجد له كل ملائكة الله. وعن الملائكة يقول: الصانع ملائكته رياحاً وخدامه لهيب نار. وأما عن الابن: كرسيك يا الله إلى دهر الدهور” (عب1: 5-8).

إن القديس بولس الرسول فى اقتباسه من مزمور “كرسيك يا الله إلى دهر الدهور” (مز44: 6). قد أوضح أن المقصود بهذه العبارة هو الله الابن.

لذلك فإن تمجيد الابن هو تمجيد للآب، وتمجيد الآب هو تمجيد للابن لسبب وحدانية الجوهر الإلهى. فمجد الآب والابن والروح القدس هو مجد إلهى واحد.

وبهذا نفهم معنى الحوار الذى دار بين الابن والآب “أيها الآب مجد اسمك. فجاء صوت من السماء مجدت وأمجد أيضاً” (يو12: 28) إنه وعد من الآب بتمجيد اسمه من خلال ابنه الوحيد “ليمجدك ابنك أيضاً” (يو17: 1). فالآب يمجد الابن ليتمجد الآب بالابن. وهكذا يكون مجد المحبة الأزلية.

المناجاة مع الآب فى ليلة الصلب

سجّل لنا القديس يوحنا فصلاً كاملاً عن مناجاة السيد المسيح للآب فى ليلة آلامه وصلبه، ونذكر منها العبارات التالية:

أ- ” أنا مجدتك على الأرض ” (يو17: 4)

كيف مجّد الابن المتجسد أباه السماوى فى تجسده وظهوره فى العالم؟

عن هذا الأمر كتب القديس يوحنا فى إنجيله عن الكلمة الذى صار جسداً وحل بيننا “رأينا مجده مجداً كما لوحيد من الآب مملوءًا نعمةً وحقاً.. ومن ملئه نحن جميعاً أخذنا ونعمة فوق نعمة. لأن الناموس بموسى أُعطى، أما النعمة والحق فبيسوع المسيح صارا” (يو1: 14، 16، 17).

إنها كلمات عجيبة قالها تلميذ الرب يوحنا الرسول: “رأينا مجده كما لوحيد من الآب” أى أن المجد الذى رآه التلاميذ هو ما يليق بابن الله الوحيد.

تُرى ما هو هذا المجد الذى عناه يوحنا، التلميذ الذى كان يسوع يحبه؟

هل يقصد رؤيته للسيد متجلياً على جبل طابور حينما صعد إلى الجبل ليصلى وأخذ معه بطرس ويعقوب ويوحنا “وتغيرت هيئته قدامهم، وأضاء وجهه كالشمس، وصارت ثيابه بيضاء كالنور” (مت17: 2). ذلك المنظر الذى قال عنه القديس بطرس الرسول: “كنا معاينين عظمته. لأنه أخذ من الله الآب كرامة ومجداً، إذ أقبل عليه صوت كهذا من المجد الأسنى هذا هو ابنى الحبيب الذى أنا سررت به. ونحن سمعنا هذا الصوت مقبلاً من السماء إذ كنا معه فى الجبل المقدس” (2بط1: 16-18).

بلا شك أن هذه الرؤيا أو هذا المنظر قد ترك أثراً عميقاً فى أذهان الرسل الثلاث حينما أبصروا شعاعاً من مجد الابن الوحيد.

وقد كتب القديس بولس الرسول أن الله قد كلمنا فى ابنه، وقال عن ابن الله أنه هو “بهاء مجده” (عب1: 3). باللغة الإنجليزيةBrightness of His Glory (K.J.V.) أى “لمعان مجده”، بمعنى لمعان مجد الله الآب.

ولكن المسألة فى الحقيقة لم تكن قاصرة على منظر التجلى البديع وذلك فى ذهن القديس يوحنا الإنجيلى حينما كتب “ورأينا مجده مجداً كما لوحيدٍ من الآب مملوءًا نعمةً وحقاً” (يو1: 14). لأنه من الواضح أنه قد ربط رؤيته لهذا المجد هو وغيره بما رأوه فى المسيح من ملء النعمة والحق.

إن الشيطان يستطيع أن يغير شكله إلى شبه ملاك نور، ويمكنه أن يبهر الناس بمناظر وأفعال خارقة. ولهذا فإن السيد المسيح لم يظهر مجده فقط بمنظره النورانى على جبل التجلى.. بل ظهرت ملامح هذا المجد فى كل جوانب سيرته وحياته.

وهنا نستطيع أن نميز بين المجد الزائف، والمجد الحقيقى، بين المجد الظاهرى والمجد الأصيل.

” فيه يحل كل ملء اللاهوت جسدياً ” (كو2: 9)

كتب معلمنا بولس الرسول عن السيد المسيح “فإنه فيه يحل كل ملء اللاهوت جسدياً ” (كو2: 9).

لقد اتحد أقنوم الكلمة (اللوغوس) بالطبيعة البشرية الكاملة التى أخذها من العذراء مريم منذ اللحظة الأولى للتجسد. وبهذا صارت الصفات الإلهية جميعها هى من خصائص الابن المتجسد الذى تجسد بطبيعة واحدة تجمع خصائص الطبيعتين، دون أن تتلاشى واحدة منها فى الأخرى. ولكن أمكن أن نرى كل صفات اللاهوت فى الابن المتجسد الواحد. لهذا قال السيد المسيح لتلاميذه: “الذى رآنى فقد رأى الآب” (يو14: 9). وقال معلمنا بولس الرسول: “الله ظهر فى الجسد” (1تى3: 16). لأن المسيح هو “صورة الله” (كو1: 15). وهذا يشرح قول القديس يوحنا الإنجيلى: “رأينا مجده مجداً كما لوحيدٍ من الآب مملوءًا نعمةً وحقاً”.

إن السيد المسيح “مملوءًا نعمةً وحقاً” ، وفيه “يحل كل ملء اللاهوت جسدياً”.

رأى التلاميذ فى السيد المسيح صلاح الله، وبره، وقداسته، وخيريته، وطول أناته، ورحمته، ومحبته، وقوته، وسعيه لخلاص الناس، وما فيه من حق وعدل وحزم ورفض للشر..

تلامسوا مع وداعته ورقته وصفحه وغفرانه العجيب إلى المنتهى للخطاة التائبين من كل قلوبهم.

وتلامسوا مع عنايته بالمرضى والمعذبين وسعيه لإراحتهم، وهو يتحنن على الجموع ويشفق ويمنح الراحة للمتعبين، ويشبع الجياع فى الأماكن القفرة فى البرية.

وتلامسوا مع طول أناته معهم واحتماله لضعفاتهم كمبتدئين حتى يأتى بهم إلى القوة. واحتماله لجهلهم حتى يأتى بهم إلى المعرفة الحقة.

تلامسوا مع محبته إلى المنتهى وهو يبذل نفسه عنهم ويحتمل الآلام الرهيبة ليخلصهم من الهلاك الأبدى، كانت الجلدات على ظهر السيد المسيح هى شفاء لأوجاع خطايانا وتلذذات الخطية التى أفسدت طبيعتنا البشرية.

وتلامسوا مع سمو تعاليمه، واستمعوا إلى كلمات النعمة الخارجة من شفتيه وتؤثر فى السامعين بمنتهى القوة والعمق .. وكم كان يتكلم كمن له سلطان وليس كالكتبة.

تلامسوا مع الحق الذى فيه.. وهو الذى قال عن نفسه “أنا هو الطريق والحق والحياة”. لم يظهر الحق ويعبّر عنه بصورة واضحة كما كان معلناً فى السيد المسيح. كان الحق الذى فيه أقوى من كل فعل أو كلام باطل للشيطان أو للناس الذين انساقوا وراء إبليس. ولهذا فقد شهد التلاميذ بقوة القيامة “حقاً قام” لأن القيامة كانت هى الحق الذى أشرق ليبدد كل مؤامرة الشيطان، وكل ظلم البشر الأشرار.

وتلامسوا مع الحق الذى فيه كرافض للشر والخطية فى حياة ذوى القلوب المتقسية الرافضة للتوبة. الأمر الذى تنبأ عنه يوحنا المعمدان بقوله: “والآن قد وضعت الفأس على أصل الشجر. فكل شجرة لا تصنع ثمراً جيداً تقطع وتلقى فى النار” (مت3: 10).

تلامسوا مع قداسة الله فى شخص السيد المسيح.. الله القدوس الذى بلا خطية وحده.. وكان السيد المسيح هو الذى قال لليهود: “من منكم يبكتنى على خطية” (يو8: 46). طهارة كاملة.. نقاوة كاملة.. سمو كامل.. صفاء عجيب .. بساطة متناهية .. قوة فى رفض الشر والصمود فى وجه الطغيان.. تحرر من الأهواء والنزعات..

إنها أنشودة عجيبة تلك الكلمات الخالدة “أنا مجدتك على الأرض”.. لأن مجد الآب قد ظهر فى ابنه الوحيد “ورأينا مجده مجداً كما لوحيدٍ من الآب مملوءًا نعمةً وحقاً”..

وكان السيد المسيح فى كل ذلك يسعى دائماً لتمجيد أبيه السماوى وإظهار اسمه للناس. أى إظهار أنه “هو الآب” بالحقيقة. الآب الذى يتدفق الحب الأزلى بينه وبين الابن الوحيد.. الآب الذى هو أبو كل الأرواح وهو الأصل فى كل شئ وله ينبغى التمجيد مع ابنه الوحيد والروح القدس الآن وكل أوان وإلى الأبد آمين.

ب- ” العمل الذى أعطيتنى لأعمل قد أكملته ” (يو 17: 4)

كانت إرسالية الابن الوحيد إلى العالم هى بحسب تدبير الثالوث القدوس من أجل خلاص البشر وتمجيد اسم الله.

وقد قال السيد المسيح عن هذه الإرسالية بفم إشعياء النبى: “منذ وجوده أنا هناك، والآن السيد الرب أرسلنى وروحُهُ ” (إش48: 16).

كان التدبير الإلهى بمنتهى الحكمة والروعة والذكاء فى عمل الفداء.. فى إظهار قداسة الله الآب كرافض للشر.. وفى إظهار محبته كمعتنٍ بالخليقة.. وفى إظهار رحمته فى خلاص الخطاة.

كل ذلك قد كان كما قال معلمنا بولس الرسول: “لمدح مجد نعمته التى أنعم بها علينا فى المحبوب. الذى فيه لنا الفداء بدمه غفران الخطايا، حسب غنى نعمته التى أجزلها لنا بكل حكمة وفطنة. إذ عرّفنا بسر مشيئته، حسب مسرته التى قصدها فى نفسه لتدبير ملء الأزمنة، ليجمع كل شئ فى المسيح ما فى السماوات وما على الأرض” (أف1: 6-10).

هذا العمل الكبير، وهذا التدبير الإلهى المتقن لأجل خلاص البشرية.. وهو أمر يفوق العقول، وتنبهر له أفهام الملائكة السمائيين.. هو ما قصده السيد المسيح بقوله للآب “العمل الذى أعطيتنى لأعمل قد أكملته” (يو17: 4).

كان كل ما يشغل السيد المسيح فى خدمته، هو أن يصنع مشيئة الآب السماوى. وكان يقول لتلاميذه: “طعامى أن أعمل مشيئة الذى أرسلنى وأتمم عمله” (يو4: 34). وقال أيضاً لليهود: “متى رفعتم ابن الإنسان فحينئذ تفهمون أنى أنا هو. ولست أفعل شيئاً من نفسى، بل أتكلم بهذا كما علمنى أبى. والذى أرسلنى هو معى، ولم يتركنى الآب وحدى. لأنى فى كل حين أفعل ما يرضيه” (يو8: 28، 29).

وحينما استنكر اليهود قول السيد المسيح: “أنا والآب واحد” (يو10: 30)، قال لهم: “إن كنت لست أعمل أعمال أبى، فلا تؤمنوا بى. ولكن إن كنت أعمل، فإن لم تؤمنوا بى فآمنوا بالأعمال. لكى تعرفوا وتؤمنوا أن الآب فىّ وأنا فيه” (يو10: 37، 38).

وعلى الرغم من تمايز دور كل أقنوم فى العمل، إلا أن العمل الإلهى هو واحد ومشترك، فالخلاص هو عمل الثالوث الأقدس وتدبيره، ولكن كل أقنوم كان له دوره المتمايز فى هذا العمل الواحد الكبير. فالآب بذل ابنه الوحيد إذ أرسله لخلاص العالم. والابن بذل نفسه على الصليب.. فهو الذى تجسد وصلب ومات وقام من الأموات. والروح القدس لم يكن غريباً عن الابن الكلمة المتجسد “الذى بروح أزلى قدّم نفسه لله بلا عيب” (عب9: 14).

“الله كان فى المسيح مصالحاً العالم لنفسه” (2كو5: 19). وبهذا تم الفداء على أكمل وجه.

حقاً لقد صنع السيد المسيح مشيئة الآب الذى أرسله “لذلك عند دخوله إلى العالم يقول ذبيحةً وقرباناً لم تُرِد، ولكن هيأت لى جسداً. بمحرقات وذبائح للخطية لم تسر. ثم قلت هانذا أجيء فى درج الكتاب مكتوب عنى لأفعل مشيئتك يا الله” (عب10: 5-7).

لقد كان السيد المسيح فى صورة الله، ولم يحسب مساواته لله اختلاساً (انظر فى2: 6)، لأن جوهره هو هو نفس جوهر الآب.. ولذلك لأنه لم يختلس المساواة مع الله الآب “أخلى نفسه آخذاً صورة عبد، صائراً فى شبه الناس. وإذ وُجد فى الهيئة كإنسان، وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب” (فى2: 7، 8). “مع كونه ابناً تعلّم الطاعة مما تألم به” (عب 5: 8).

كان مجرد ظهور كلمة الله فى الجسد هو إخلاء للنفس لأنه إذ كان فى صورة الله، أخذ صورة عبد.

ولم يكتفِ بذلك.. بل إذ وُجد فى الهيئة كإنسان.. سلك بمنتهى الاتضاع خاضعاً.. مطيعاً.. وديعاً.. متواضعاً .. سُر به قلب الآب السماوى. وضع نفسه عن الخراف.. احتمل الذل والمهانة والعار عوضاً عن الخطاة .. حمل خطايا كثيرين.. وشفع فى المذنبين. مع أنه لم يعمل خطية ولم يوجد فى فمه غش، بل قدّم صورة مثالية للإنسان.. وكان قدوساً للقديسين.

لهذا قال عنه الآب فى سفر إشعياء: “هوذا عبدى الذى أعضده، مختارى الذى سُرَّت به نفسى. وضعت روحى عليه فيُخرِج الحق للأمم.. إلى الأمان يُخرج الحق.. وتنتظر الجزائر شريعته” (إش42: 1-4، انظر مت12: 18، 20، 21).

لقد انبهرت عقول وأفهام الجميع، ممن فى السماء ومن على الأرض من كل ما صنعه الابن الوحيد، الذى صنع كل مشيئة الآب وأكمل عمله.

ج- ” أنا أظهرت اسمك للناس ” (يو17: 6)

قال السيد المسيح للآب: “أنا أظهرت اسمك للناس” (يو17: 6). وقال له أيضاً: “وعرفتهم اسمك وسأعرفهم ليكون فيهم الحب الذى أحببتنى به وأكون أنا فيهم” (يو17: 26). وهذا القول الأخير قاله عن تلاميذه القديسين الذين طلب من الآب من أجلهم لكى يكونوا معه فى مجد ملكوته.

والسؤال الذى يتبادر إلى الذهن هنا: ما معنى أن السيد المسيح قد أظهر اسم الآب للناس؟

فى الحقيقة إن الله كان معروفاً قبل مجيء السيد المسيح فى الجسد باسم “يهوه” وهو دلالة على الكينونة، وباسم “أدوناى” بمعنى السيد، وبأسماء أخرى كثيرة كان اليهود يوقرونها بأساليب متنوعة.. ولكن كلها تشير إلى السيد الكائن القدير الذى هو الإله الحقيقى بين جميع الآلهة.

أما الاسم الذى كان يحلو للسيد المسيح أن يطلقه عليه فهو اسم “الآب” لأن السيد المسيح قد أظهر لنا معرفة الثالوث القدوس.

فالله الآب هو أبو ربنا يسوع المسيح. وليس هناك آب بدون ابن ولا ابن بدون آب.

وتعبير “الآب” يشرح العلاقة الأزلية القائمة على الحب بين الآب وابنه الوحيد كلمة الله المولود من الآب قبل كل الدهور. وهو نفس الحب المتبادل بين الأقانيم الثلاثة: الآب والابن والروح القدس المنبثق من الآب.

كما أن تعبير الآب وهو من الناحية اللغوية يعنى “الأصل” إلا أنه يشير إلى أبوة الله التى تتحقق أزلياً بولادته للابن الوحيد، كما أنها تتحقق فى الزمن بعنايته ومحبته للخليقة.

لقد أعلن السيد المسيح أبوة الله العجيبة حينما قال لنيقوديموس: “لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد الجنس لكى لا يهلك كل من يؤمن بل تكون له الحياة الأبدية” (يو3: 16).

والمقصود فى هذه العبارة أنه إلى هذه الدرجة غير الموصوفة أحب الله الآب العالم حتى بذل ابنه الوحيد الجنس.

كان أعظم إعلان عن أبوة الله الحقيقية هو فى سعيه من أجل خلاص البشر، بالرغم من التعدى والسقوط الذى حدث بغواية إبليس.

وقد تغنى إشعياء النبى بهذه الحقيقة فقال: “هوذا الله خلاصى فأطمئن ولا أرتعب لأن ياه يهوه قوتى وترنيمتى وقد صار لى خلاصاً. فتستقون مياهاً بفرح من ينابيع الخلاص” (إش12: 2، 3).

إن يسوع هو يهوه المخلص وهذا هو معنى اسمه فى اللغة العبرية “يهوه خلّص”. كما قال الملاك: “وتدعو اسمه يسوع لأنه يخلص شعبه من خطاياهم” (مت21:1).

ومعنى كلمة إشعياء أن “يهوه قد صار لى خلاصاً” أى أن الله هو نفسه صار لنا خلاصاً، والمقصود هنا “الله الابن” أى “الله الكلمة” الذى تجسد وصار لنا خلاصاً.

فالله الآب قد أحب العالم وأرسل ابنه الوحيد الذى هو الله الكلمة بالحقيقة. وكان السيد المسيح يردد دائماً عبارة ” أنا هو” وهى نفسها ” أهيه” باللغة العبرية أو “VEgw, eivmi إيجو إيمى” باللغة اليونانية، وهى “I am he” باللغة الإنجليزية فى ضمير المتكلم فى الزمن المضارع.

وتصير ” يهوه” بمعنى “كائن” أو “هو يكون He is ” فى ضمير المفرد الغائب فى الزمن المضارع.

من كان يستطيع أن يظهر الله غير المنظور إلا كلمة الله الذى ظهر فى الجسد معلناً أبوة الله الحقيقية.

لهذا قال السيد المسيح: ” أنا أظهرت اسمك للناس” (يو17: 6).

وإظهار هذا الاسم ليس هو مجرد فكرة يفهمها الإنسان، ولكنها حياة يختبرها ويتذوقها إذا فتح قلبه للإيمان بالمسيح. لهذا قال عن تلاميذه: “عرفتهم اسمك وسأعرفهم ليكون فيهم الحب الذى أحببتنى به وأكون أنا فيهم” (يو17: 26).

إن معرفة اسم الآب هو بداية انفتاح قلب الإنسان ليتدفق فيه نهر الحياة.. ذلك الحب العجيب المتدفق الذى يختبره الإنسان حينما يحب الآب بالابن فى الروح القدس.

د- ” وهم قبلوا وعلموا يقيناً أنى خرجت من عندك ” (يو17: 8)

ما أجمل أن يتكلم السيد المسيح عن إيمان التلاميذ اليقينى بخروجه من الآب أى بولادته الأزلية. وبإرساله إلى العالم “علموا يقيناً أنى خرجت من عندك. وآمنوا أنك أنت أرسلتنى” (يو17: 8).

كلمة الله له ميلادان :

الميلاد الأول: أزلى بولادته من الآب قبل الدهور حسب لاهوته.

والميلاد الثانى: فى الزمن بولادته من العذراء مريم فى ملء الزمان بحسب ناسوته (إنسانيته).

فعبارة “خرجت من عندك” تشير إلى الميلاد الأزلى بنفس جوهر الآب غير المنقسم.

وعبارة “أنك أنت أرسلتنى” تشير إلى الميلاد البتولى من العذراء مريم بجوهر مساوٍ لنا بلا خطية.

فى ميلاده الأزلى وُلد من الآب بحسب لاهوته بغير أم.

وفى ميلاده الثانى وُلد من العذراء بحسب ناسوته بغير أب.

والذى ولد من الآب أى ابن الله الأزلى صار هو هو نفسه ابناً للإنسان بولادته من العذراء مريم. فابن الله هو نفسه ابن الإنسان كما يقول معلمنا بولس الرسول “يسوع المسيح هو هو أمساً واليوم وإلى الأبد” (عب13: 8).

وفى رسالة القديس كيرلس الكبير إلى فاليريان أسقف أيقونية؛ أكد القديس كيرلس هذه المعانى فى دفاعه عن البطريرك يوحنا الأنطاكى وأساقفته بعد المصالحة التى أعاد بها القديس كيرلس الوحدة بين أنطاكية وباقى الكراسى الرسولية سنة 433م (بعد المجمع المسكونى الثالث فى أفسس سنة 431م) فكتب يقول:

[ أوضح الأساقفة خائفو الله فى الشرق كله مع سيدى يوحنا، أسقف أنطاكية الكلى المخافة لله، باعتراف مكتوب واضح للجميع أنهم يدينون الابتداعات التى لنسطور ويحرمونها معنا، وأنهم لم يعتقدوا أبداً أنها تستحق أى اعتبار، بل يتبعون العقائد الإنجيلية الآبائية ولا يمسون على الإطلاق اعتراف الآباء.

لأنهم اعترفوا أيضاً معنا أن العذراء القديسة هى والدة الإله (ثيئوتوكوس)، ولم يضيفوا أنها والدة المسيح (خريستوتوكوس) أو والدة الإنسان (أنثروبوتوكوس) كما يقول هؤلاء الذين يدافعون عن آراء نسطور البائسة.. بل يقولون بوضوح أنه يوجد مسيح واحد، وابن ورب واحد. الله الكلمة المولود بطريقة تفوق الوصف من الله الآب قبل كل الدهور، وأنه ولد فى الأيام الأخيرة من امرأة بحسب الجسد. وبهذا يكون إله وإنسان فى نفس الوقت. كامل اللاهوت، وكامل الناسوت. ويؤمنون أن شخصه واحد، دون أن يقسموه بأى شكل إلى ابنين أو مسيحين أو ربين].

وفى نفس الرسالة شرح القديس كيرلس سبب تسمية العذراء “والدة الإله” وذلك لأن كل ما يخص جسد كلمة الله يُنسب إليه لأنه جسده الخاص. وهكذا يُنسب إلى كلمة الله الولادة من العذراء مريم وأيضاً الآلام التى احتملها بشخصه من أجل خلاصنا بحسب الجسد مع أنه بحسب لاهوته غير متألم.. كتب القديس يقول:

[من المعترف به أن الإلهى -لأنه بلا جسد- لا يُمس ولم يُمس على الإطلاق، لأن الإلهى يفوق كل خليقة، منظورة وعقلية، وطبيعته غير جسدانية، طاهرة بلا عيب، لا تُمس ولا تُدرك. ولأن كلمة الله الابن الوحيد الجنس، بعدما أخذ جسداً من العذراء القديسة وجعله خاصاً به – كما قلت قبلاً مرة ومرات- بذل نفسه رائحة سرور لله الآب كذبيحة بلا عيب، لذا تأكد (لنا) أنه احتمل عنا ما حدث لجسده، فكل ما حدث للجسد يُنسب بصواب إليه، فيما عدا الخطية. لأنه (أى الجسد) جسده هو الخاص بهHis Own body ، وبالتالى، لأن الله الكلمة تجسد، ظل غير قابلاً للألم كإله، ولكن لأنه بالضرورة جعل أمور الجسد أموره (أى جعلها خاصة به) لذا تأكد (لنا) أنه احتمل ما هو بحسب الجسد، رغم أنه بلا خبرة فى الألم عندما نفكر فيه كإله].

وديعة الإيمان

هذا هو الإيمان المسلّم مرة للقديسين، الذى غرسه السيد المسيح فى قلوب رسله القديسين “علموا يقيناً أنى خرجت من عندك، وآمنوا أنك أنت أرسلتنى” (يو17: 8). الإيمان بألوهية السيد المسيح وولادته الأزلية من الآب، والإيمان بأن الآب قد أرسله إلى العالم مولوداً من امرأة هى العذراء مريم “والدة الإله” ليفتدى العالم من لعنة الخطية والموت. وهو نفس الإيمان الغالى الثمين الذى حفظته الكنيسة الجامعة الرسولية، ودافعت عنه من جيل إلى جيل.

وكان لكنيسة الأسكندرية الدور الرئيسى فى الحفاظ عليه بواسطة قديسيها أثناسيوس وكيرلس وديسقورس. كما رافقتها شقيقتها الكنيسة السريانية وسارت على منوالها فى شخص القديس ساويرس الأنطاكى وأمثاله. وما زالت كنيسة الأسكندرية تحمل أمانة التعليم الأرثوذكسى وتحفظ الإيمان حسب وصية القديس بولس الرسول لتلميذه تيموثاوس “يا تيموثاوس احفظ الوديعة معرضاً عن الكلام الباطل الدنس ومخالفات العلم الكاذب الاسم. الذى إذ تظاهر به قوم زاغوا من جهة الإيمان” (1تى6: 20، 21).

هـ – ” وكل ما هو لى فهو لك ” (يو17: 10)

فى مناجاته مع الآب قال السيد المسيح: “وكل ما هو لى فهو لك، وما هو لك فهو لى” (يو17: 10) وقال كذلك لتلاميذه: “كل ما للآب هو لى” (يو16: 15).

وقال القديس أثناسيوس الرسولى إن الابن له جميع صفات الآب ما عدا أن الآب هو آب والابن هو ابن.

وهذا بالطبع لأن الآب والابن والروح القدس لهم طبيعة إلهية واحدة وجوهر إلهى واحد. فكل صفات الجوهر الإلهى هى للآب كما هى للابن، وكذلك للروح القدس. أما الخواص الأقنومية أو الصفات الأقنومية فينفرد بها كل أقنوم على حدة.

فالآب: له الأبوة فى الثالوث وهو الوالد للابن، والباثق للروح القدس.

والابن: له البنوة باعتباره الابن الوحيد للآب (انظر يو3: 16).

والروح القدس: له الانبثاق باعتباره روح الحق الذى من عند الآب ينبثق (انظر يو15: 26).

وكما أن صفات الجوهر الإلهى هى نفسها لكل الأقانيم كذلك كل القدرات والعطايا الإلهية هى صادرة عن الأقانيم الإلهية معاً. فالقدرة على الخلق هى للآب والابن والروح القدس.

والمواهب الممنوحة للكنيسة هى من الآب بالابن فى الروح القدس.

أى أن مواهب الروح القدس الممنوحة للكنيسة هى ممنوحة من الآب باستحقاقات دم الابن الوحيد والروح القدس هو الذى يمنحها للكنيسة بعمله فيها من خلال الأسرار والمواهب والعطايا الإلهية.

لهذا قال السيد المسيح عن الروح القدس :

“وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به. ويخبركم بأمور آتية. ذاك يمجدنى لأنه يأخذ مما لى ويخبركم. كل ما للآب هو لى. لهذا قلت إنه يأخذ مما لى ويخبركم” (يو16: 13-15).

لقد ربط السيد المسيح بين عطايا الروح القدس، وبين عطاياه هو للكنيسة، معتبراً إياها أيضاً أنها عطايا الآب. فقال إن الروح القدس “يأخذ مما لى”. ثم قال: “كل ما للآب هو لى” ففى الحقيقة أن ما للروح القدس هو للابن، وما للابن هو للآب، وما هو للآب فهو للابن لأن الجوهر الإلهى للابن هو نفس الجوهر الإلهى الذى للآب وللروح القدس. ولا يوجد أقنوم منفصل عن الآخر فى الجوهر.

وكذلك فالعمل الإلهى هو عمل واحد بالرغم من تمايز دور كل أقنوم فى هذا العمل.

ففى الخلق كان الأقانيم يعملون معاً، وفى الخلاص كان الأقانيم يعملون معاً وما زالوا يعملون .. وهكذا.

فى الخلاص أرسل الله ابنه ليتجسد بفعل الروح القدس، وعلى الصليب كان الله مصالحاً العالم لنفسه فى المسيح “الذى بروح أزلى قدّم نفسه لله بلا عيب” (عب9: 14). لذلك فالابن الوحيد قد قدّم نفسه ذبيحة مقبولة أمام الله الآب بالروح القدس.

وبعدما أتم السيد المسيح الفداء، صعد إلى السماوات وجلس عن يمين الآب وباعتباره رئيس الكهنة الأعظم، أرسل الروح القدس الذى يعمل فى الكنيسة ويوصل إليها كل بركات الفداء.

وكل ما يمنحه الروح القدس للكنيسة من مواهب هو من عطايا الآب السماوى بابنه الوحيد يسوع المسيح ربنا.

لهذا قال معلمنا يعقوب الرسول: “كل عطية صالحة، وكل موهبة تامة، هى من فوق نازلة من عند أبى الأنوار الذى ليس عنده تغيير ولا ظل دوران. شاء فولدنا بكلمة الحق لكى نكون باكورة من خلائقه” (يع1: 17، 18).

الآب هو الينبوع

الآب هو الينبوع الذى منه الابن الوحيد بالولادة الأزلية قبل كل الدهور. ومنه أيضاً الروح القدس بالانبثاق الأزلى قبل كل الدهور.

الآب هو الحكيم الذى يلد الحكمة ويبثق روح الحكمة.

والآب هو الحقانى الذى يلد الحق (انظر يو14: 6) ويبثق روح الحق (انظر يو15: 26).

فالحكمة هو لقب أقنوم الابن المولود من الآب الحكيم. والحق هو لقب أقنوم الابن المولود من الآب الحقانى.

والكلمة أى (العقل منطوق به) هو لقب أقنوم الابن المولود من الآب العاقل.

والخواص الجوهرية جميعاً ومن أمثلتها الحكمة والحق والعقل.. يشترك فيها الأقانيم معاً فالحق مثلاً هو خاصية يشترك فيها الأقانيم جميعاً. فالآب هو حق من حيث الجوهر، والابن هو حق من حيث الجوهر، والروح القدس هو حق من حيث الجوهر.

أما من حيث الأقنوم فالآب هو الحقانى (أى ينبوع الحق)، والابن هو الحق المولود منه والروح القدس هو روح الحق المنبثق منه.

من يستطيع أن يفصل الحقانى عن الحق المولود منه؟!

ومن يستطيع أن يفصل الحكيم عن الحكمة؟.. إن الحكمة تصدر عن الحكيم تلقائياً كإعلان طبيعى عن حقيقته غير المنظورة.

إننا نعرف الحكيم.. بالحكمة، ونعرف العاقل بالعقل المنطوق به، ونعرف الحقانى بالحق الصادر منه.. وهكذا.

أى أن الرب هو حكيم وحكمته فى حضنه منذ الأزل، وبالحكمة صنع الرب كل الموجودات كقول المزمور “بكلمة الرب صُنِعَت السماوات، وبنسمة فيه كل جنودها” (مز33: 6).

أى أن الرب قد خلق السماوات وملائكتها بكلمته وبروحه القدوس.

ما أجمل كلام السيد المسيح حينما قال: “كل ما للآب هو لى” حقاً إن الثالوث القدوس هو الله الواحد فى الجوهر المثلث الأقانيم.

مجد الآب وملكيته وملكوته جميعاً للابن أيضاً من عبارة “كل ما هو لى فهو لك” (يو17: 10) نفهم أيضاً أن كل مجد الآب هو للابن أيضاً، وكل ملكية الآب وملكوته تخص الابن أيضاً.

مجد الآب

قال السيد المسيح عن مجيئه الثانى للدينونة واستعلان ملكوت الله: “ومتى جاء ابن الإنسان فى مجده وجميع الملائكة القديسين معه، فحينئذ يجلس على كرسى مجده. ويجتمع أمامه جميع الشعوب فيميز بعضهم من بعض كما يميّز الراعى الخراف من الجداء. فيقيم الخراف عن يمينه والجداء عن اليسار. ثم يقول الملك للذين عن يمينه تعالوا يا مباركى أبى رثوا الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العالم” (مت25: 31-34).

وكما قال السيد المسيح إن ابن الإنسان سوف يأتى “فى مجده” قال أيضاً: “فإن ابن الإنسان سوف يأتى فى مجد أبيه مع ملائكته وحينئذ يجازى كل واحد حسب عمله” (مت16: 27).

وبهذا لم يفرق السيد المسيح بين “مجده” و”مجد أبيه” فى حديثه عن مجيئه الثانى للدينونة. لأن مجد السيد المسيح باعتبار أنه هو ابن الله هو نفس مجد الآب بلا أدنى فرق فى المجد. فالأقانيم الثلاثة متساوية فى المجد الإلهى.

وحينما قال السيد المسيح فى مناجاته قبل الصلب: “والآن مجّدنى أنت أيها الآب عند ذاتك بالمجد الذى كان لى عندك قبل كون العالم” (يو17: 5). كان يقصد أن مجده الأزلى هو نفسه مجد الآب الأزلى قبل خلق العالم، وذلك بالرغم من أن السيد المسيح قد أخفى الكثير من مجده فى حال ظهوره فى الجسد حينما أخلى نفسه آخذاً صورة عبد. كذلك نادى السيد المسيح الآب قبيل الصلب قائلاً: “أيها الآب مجّد اسمك. فجاء صوت من السماء مجدّت وأمجّد أيضاً” (يو12: 28).

وحينما خرج يهوذا الإسخريوطى بعد عشاء الفصح اليهودى ليذهب إلى رؤساء الكهنة ويصير دليلاً للذين قبضوا على السيد المسيح، قال السيد المسيح: “الآن تمجَّد ابن الإنسان وتمجَّد الله فيه. إن كان الله قد تمجَّد فيه فإن الله سيُمجِّده فى ذاته ويمجِّده سريعاً” (يو13: 31، 32).

وفى مناجاته مع الآب بعد تلك الأحداث مباشرة، رفع عينيه نحو السماء وقال: “أيها الآب.. مجّد ابنك ليمجدك ابنك أيضاً” (يو17: 1).

إن مجد الآب هو نفسه مجد الابن لأنه له نفس الجوهر الواحد مع الآب.

ولُقِّب السيد المسيح بأنه هو “بهاء مجده” (عب1: 3). فإن كان الابن هو بهاء مجد الآب فكيف نفصل بين مجد الابن ومجد الآب.

إن مجد الآب يظهر جلياً للخليقة بواسطة الابن الوحيد، ولهذا نقول فى القداس الغريغورى الذى أظهر لنا نور الآب.

وبالإضافة إلى ذلك قيل عن الابن إنه “رب لمجد الله الآب” (فى2: 11).

بمعنى أن الابن هو رب أى سيد للخليقة التى تحيا فى مجد الله، وتعكس هذا المجد، فيتمجد الله فيها وبواسطتها.

ونحن كثيراً ما نلّقب السيد المسيح بعبارة “رب المجد” التى قالها عنه معلمنا بولس الرسول فى (1كو2: 8).

ملكوت الآب

لشدة محبة الآب للابن، فإنه يلقب ملكوته بملكوت الابن “ملكوت ابن محبته” (كو1: 13).

وكما أن الآب له لقب “ملك الملوك ورب الأرباب.. الذى لم يره أحد من الناس ولا يقدر أن يراه” (1تى6: 15، 16). هكذا أيضاً فإن الابن له نفس اللقب وقد رآه يوحنا الإنجيلى فى رؤياه “متسربلٌ بثوبٍ مغموسٍ بدمٍ، ويدعى اسمه كلمة الله.. وله على ثوبه وعلى فخذه اسم مكتوب ملك الملوك ورب الأرباب” (رؤ19: 13، 16).

ولذلك ففى يوم الدينونة قيل عن الابن إنه سوف “يجلس على كرسى مجده” (مت25: 31). وأن لقبه هو “الملك” (مت25: 34).

إن ملكوت الآب هو نفسه ملكوت الابن.. وكل هذا يتحقق فينا بعمل الروح القدس الذى يجعل ملكوت الله داخلنا (انظر لو17: 21) بسكناه فينا، ويقودنا فى طريق الملكوت حتى نصير ملكاً لله، ويملك على حياتنا إلى الأبد بنعمته.

و- ” وأنا ممجد فيهم ” (يو 17: 10)

قال السيد المسيح: “أنا أظهرت اسمك للناس الذين أعطيتنى من العالم.. من أجلهم أنا أسأل. لست أسأل من أجل العالم بل من أجل الذين أعطيتنى لأنهم لك. وكل ما هو لى فهو لك. وما هو لك فهو لى. وأنا ممجد فيهم” (يو17: 6، 9، 10).

إن حياة القديسين الذين آمنوا بالسيد المسيح، وتمتعوا بخلاصه العجيب، قد صارت لمجد اسمه القدوس.

فسيرتهم العطرة، وأقوالهم الحسنة، وأعمالهم الطيبة قد صارت كلها لمجد السيد المسيح الذى افتداهم واشتراهم بدمه وقدسهم بروحه القدوس الذى من عند الآب ينبثق.

من الأشياء الجميلة أن يقول السيد المسيح عن تلاميذه: “أنا ممجد فيهم”.. إنها ثقة عجيبة بما سوف يعمله فيهم وبواسطتهم لمجد الله.

كيف تحول الخطاة إلى قديسين.. وكيف تحول فساد البشرية التى كانت ترزح تحت عبودية إبليس إلى تمجيد اسم الله فى حياة أولاده. كل هذا صنعه السيد المسيح بصورة أبهرت عقول السمائيين.

بهذا تغنى معلمنا بولس الرسول فقال: “مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح الذى باركنا بكل بركة روحية فى السماويات فى المسيح. كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم لنكون قديسين وبلا لوم قدامه فى المحبة. إذ سبق فعيننا للتبنى بيسوع المسيح لنفسه حسب مسرة مشيئته لمدح مجد نعمته التى أنعم بها علينا فى المحبوب” (أف1: 3-6).

إن الله لم يخلق العالم فقط بواسطة أقنوم الكلمة. ولكنه أيضاً خلّص العالم بنفس الأقنوم الإلهى الذى هو كلمة الله المتجسد.

وقد أعاد أقنوم الكلمة خِلقة البشرية من جديد بالفداء الذى صنعه على الصليب وبما ترتب عليه من نعم وبركات سمائية.

لذلك يقول الكتاب “إن كان أحد فى المسيح فهو خليقة جديدة” (2كو5: 17). حقاً لقد خلقنا السيد المسيح من جديد حينما خلصنا من عبودية الشيطان، وأعطانا نعمة التجديد والبنوة “بغسل الميلاد الثانى وتجديد الروح القدس” (تى3: 5).

بهذا تمجد السيد المسيح الرب باعتباره هو حكمة الله وقوة الله، وبواسطته تم الفداء وخلاص البشر من حكم الموت الأبدى. وتمت المصالحة بين الله والإنسان. وأصبح من الممكن أن يعود الإنسان إلى الصورة الجميلة التى خلقه الله فيها على صورته ومثاله.

لقد صار القديسون هم رائحة المسيح الذكية، ورسالته المقروءة من جميع الناس..

وجميل جداً أن يتصور السيد المسيح فى حياة قديسيه وتلاميذه حسبما قال معلمنا بولس الرسول عن مخدوميه: “يا أولادى الذين أتمخض بكم أيضاً إلى أن يتصور المسيح فيكم” (غل4: 19).

عبارة “أنا ممجد فيهم” تعنى أننا قد لبسنا البر الذى للمسيح حينما صرنا أولادًا لله فى المعمودية ويتجدد مفعولها فى باقى الأسرار والوسائط الروحية، وينبغى أن يتمجد السيد المسيح فينا وبواسطتنا.

من أجل السيد المسيح خُلقت الخليقة، وبواسطة السيد المسيح خُلقت الخليقة. وبواسطته أيضاً ومن أجله تم تجديد البشرية بالفداء. “لأنه لاق بذاك الذى من أجله الكل، وبه الكل وهو آتٍ بأبناء كثيرين إلى المجد أن يكمل رئيس خلاصهم بالآلام. لأن المُقدِّس والمُقدَّسين جميعهم من واحد. فلهذا السبب لا يستحى أن يدعوهم إخوة قائلاً: أخبر باسمك إخوتى وفى وسط الكنيسة أسبحك.. فإذ قد تشارك الأولاد فى اللحم والدم، اشترك هو أيضاً كذلك فيهما لكى يبيد بالموت ذاك الذى له سلطان الموت أى إبليس” (عب2: 10-12، 14).

فى قول معلمنا بولس الرسول السابق أن المُقدِّس والمُقدَّسين جميعهم من واحد. يقصد أن المُقدِّس هو: السيد المسيح، والمُقدَّسين هم: جماعة المؤمنين. وهم جميعاً أبناء لآدم من جهة وأبناء لله من جهة أخرى.

فبحسب الجسد السيد المسيح هو من نسل آدم، وبحسب لاهوته هو مولود من الآب بالطبيعة قبل كل الدهور.

والمؤمنون هم من نسل آدم بحسب الجسد، ومن الناحية الروحية قد نالوا التبنى بالميلاد الفوقانى بالمعمودية.

السيد المسيح أخذ الذى لنا (البنوة لآدم) وأعطانا الذى له (البنوة لله). ومفهوم طبعاً أن بنوتنا لله لا تساوى بنوة السيد المسيح الذى له نفس الجوهر الإلهى الذى للآب.

لهذا السبب لا يستحى أن يدعو مؤمنيه إخوة لأنه قد اشترك معهم فى اللحم والدم أى فى طبيعتهم البشرية، كما أنه منحهم بالنعمة البنوة لله حتى ينادوا الله الآب أباً لهم كما منحهم السيد المسيح أن يقولوا.

لقد تمجد السيد المسيح بالفداء الذى صنعه بكل حكمة وفطنة لأجلنا، وتمجد فى إظهار قدرته الإلهية فى تحويل الخطاة إلى قديسين، وتمجد بما يعمله بواسطة هؤلاء القديسين من أعمال عظيمة قد سبق فأعدها ليسلكوا فيها.

حقاً ما أعجب تدبيرك أيها الآب، يا من منحتنا كل هذه الإمكانيات المجيدة بواسطة ابنك الوحيد الحبيب.

ز- ” ولست أنا بعد فى العالم ” (يو17: 11)

تكلّم السيد المسيح عن صعوده جسدياً إلى السماء، حيث يجلس عن يمين الآب، وبالتالى عن تركه للعالم الذى يعيش فيه تلاميذه الذين اختارهم وأرسلهم ليكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها فقال: “ولست أنا بعد فى العالم، وأما هؤلاء فهم فى العالم، وأنا آتى إليك” (يو17: 11)..

كان السيد المسيح قد قطع رحلة عمره على الأرض وقبيل صعوده اجتاز الآلام من أجل خلاص البشرية ونصرتها على الشيطان، وتحطيم شوكة الموت، وإتمام المصالحة مع الله.

وإذ أكمل السيد المسيح رسالته على الأرض، كان ينبغى أن يترك العالم ويمضى إلى الآب حيث يمارس عمله كرئيس كهنة فى المقادس العليا يشفع كل حين من أجل مغفرة خطايا التائبين المعترفين بقوة دمه والمتحدين معه بشبه موته وقيامته.

وكان لزاماً على الكنيسة أن تكمل مسيرتها على الأرض بينما ارتفع رأسها إلى السماء متشبهة به فى آلامه ونصرته على إبليس.. إلى أن تنتهى الأزمنة، ويأتى السيد المسيح فى مجد أبيه مع ملائكته القديسين ليدين العالم.. ويأخذ الكنيسة عروسه المحبوبة معه إلى المجد فى ملكوت السماوات..

صار الرسل هم وكلاء أسرار الله – يمثلون خدمة السيد المسيح فى استمراريتها من أجل خلاص الكثيرين فى هذا العالم الحاضر. كقول معلمنا بولس الرسول: “هكذا فليحسبنا الإنسان كخدام المسيح ووكلاء سرائر الله” (1كو4: 1).

كان حديث السيد المسيح مع الآب السماوى فى هذه العبارات يدور حول تلاميذه القديسين على وجه التخصيص، لأنه قال بعدها فى نفس المناجاة: “ولست أسأل من أجل هؤلاء فقط، بل أيضاً من أجل الذين يؤمنون بى بكلامهم” (يو17: 20). وبهذا يكون قد انتقل إلى الطِلبة من أجل جميع المؤمنين المعترفين باسمه.

ومما يدل أيضاً أنه كان يتكلم عن تلاميذه القديسين أنه قال عنهم: “حين كنت معهم فى العالم كنت أحفظهم فى اسمك الذين أعطيتنى حفظتهم ولم يهلك منهم أحد إلا ابن الهلاك ليتم الكتاب. أما الآن فإنى آتى إليك” (يو17: 12، 13). والمقصود بابن الهلاك هو يهوذا الإسخريوطى الذى أسلمه.

أما باقى التلاميذ فقال عنهم للآب: “كما أرسلتنى إلى العالم. أرسلتهم أنا إلى العالم” (يو17: 18).

لقد حملوا بشارة الإنجيل للعالم بعد صعود السيد المسيح وحلول الروح القدس عليهم. وحملوا رسالة المصالحة بين الله والإنسان كقول معلمنا بولس الرسول: “الله الذى صالحنا لنفسه بيسوع المسيح وأعطانا خدمة المصالحة. أى أن الله كان فى المسيح مصالحاً العالم لنفسه، غير حاسب لهم خطاياهم وواضعاً فينا كلمة المصالحة. إذاً نسعى كسفراء عن المسيح كأن الله يعظ بنا. نطلب عن المسيح تصالحوا مع الله” (2كو5: 18-20).

عبارة “نطلب عن المسيح” أى نطلب نيابة عن السيد المسيح أو كوكلاء لخدمته. وقد أكدّ السيد المسيح مبدأ الوكالة بقوله: “فمن هو ترى الوكيل الأمين الحكيم الذى يقيمه سيده على عبيده، ليعطيهم طعامهم فى حينه. طوبى لذلك العبد الذى إذا جاء سيده، يجده يفعل هكذا. حقاً أقول لكم: إنه يقيمه على جميع أمواله” (لو12: 42-44).

لقد طلب السيد المسيح من أجل تلاميذه لكى يحفظهم الآب من الشرير أثناء وجودهم فى العالم – لكى يحملوا الرسالة بعد أن يمضى هو إلى الآب ليمارس عمله كرئيس كهنة فى الأقداس السماوية.

وقد رسمت العناية الإلهية هذه الصورة العجيبة أن السيد المسيح الرأس هو فى السماء، والكنيسة جسده هنا على الأرض تعمل عمله وتحمل رسالته إلى أن يجيء هو فى نهاية الأزمنة ليأخذها إلى ملكوته الأبدى.

وقد جمع الله فى السيد المسيح أيضاً ما فى السماوات وما على الأرض كما هو مكتوب “لتدبير ملء الأزمنة ليجمع كل شئ فى المسيح ما فى السماوات وما على الأرض فى ذاك الذى فيه أيضاً نلنا نصيباً معينين سابقاً حسب قصد الذى يعمل كل شئ حسب رأى مشيئته” (أف1: 10، 11).

الكنيسة تؤدى رسالتها على الأرض ونظرتها متجهة نحو السماء.. وأشواقها.. وفكرها.. وشركتها حيث المسيح جالس عن يمين العظمة.

وقد عبّر القديس بولس الرسول عن هذه الحقيقة فى وصفه لمسيرة الكنيسة فقال: “لأنكم لم تأتوا إلى جبل ملموس مضطرم بالنار وإلى ضباب وظلام وزوبعة.. بل قد أتيتم إلى جبل صهيون وإلى مدينة الله الحى أورشليم السماوية وإلى ربوات هم محفل ملائكة. وكنيسة أبكار مكتوبين فى السماوات وإلى الله ديان الجميع وإلى أرواح أبرار مكملين. وإلى وسيط العهد الجديد يسوع وإلى دم رش يتكلم أفضل من هابيل” (عب12: 18، 22-24).

هذه الصورة الرائعة التى أرادها السيد المسيح لكنيسته المجيدة، وطلب من الآب لأجلها لكى يحضرها كنيسة لا عيب فيها. تحيا فى شركة الروح مع الله وملائكته القديسين. وتتجه مسيرتها نحو السماء، وهى تقطع زمان غربتها على الأرض صانعة مشيئة ذاك الذى اشتراها بدمه الثمين حتى يستعلن ملكوت السماوات بقوة.

ح- ” أيها الآب القدوس احفظهم فى اسمك ” (يو17: 11)

اسم الآب

كان اسم “الآب” هو محور كبير فى مناجاة السيد المسيح قبل الصليب المدونة فى (يو 17) وقد ورد ذكره عشر مرات فى هذه المناجاة أحياناً بقوله “أيها الآب” (ست مرات) وأحياناً بقوله “اسمك” (أربع مرات).

مثلما قال “أنا أظهرت اسمك للناس الذين أعطيتنى من العالم” (يو17: 6)، إذ كان الناس يعرفون الله باسم “يهوه” أى الكائن.

أما السيد المسيح فقد أعلن سر الثالوث، وأقنومية الآب، وأبوته الأزلية للابن، وإرساله إياه إلى العالم ليصالح الآب العالم لنفسه فى المسيح.

حول هذا اللقب “الآب” تقوم المسيحية.. لأنه لا يوجد آب بغير ابن ولا ابن بغير آب. فمجرد ذكر لقب “الآب” يعنى إعلان أن السيد المسيح هو ابن الله المرسل إلى العالم لأجل خلاص البشرية.

إعلان الأبوة فى الله أيضاً هو إعلان عن الحب المتدفق فيه منذ الأزل لهذا أكد السيد المسيح “لأنك أحببتنى قبل إنشاء العالم” (يو17: 24).

إن الحب فى الجوهر الإلهى يستدعى وجود الأقانيم، لأن الحب لا يمكن أن يوجد فى حياة أقنوم واحد منفرد قبل خلق العالم.

بل إن الحب نحو الخليقة هو نتيجة منطقية للحب المتبادل بين الأقانيم الثلاث بصورة لا يمكن وصفها أو التعبير عنها.. ولكننا نستطيع أن نختبرها فى تذوقنا لمحبة الله التى “انسكبت فى قلوبنا بالروح القدس المعطى لنا” (رو5: 5).

لهذا قال السيد المسيح للآب: “وعرفتهم اسمك وسأعرفهم، ليكون فيهم الحب الذى أحببتنى به، وأكون أنا فيهم” (يو17: 26).

إن لقب “الآب” فى نظر السيد المسيح هو موضوع الإعلان وموضوع الشهادة الرئيسية التى شغلته فى توضيح حقيقة الله. سواء من جهة حقيقة الثالوث القدوس، أو من جهة علاقته بالخليقة بصفة عامة، وبالبشر على وجه الخصوص..

وهنا نأتى إلى عبارة ” احفظهم فى اسمك ”

لقد أخذ السيد المسيح الذى لنا وأعطانا الذى له.. أخذ الذى لنا بالتجسد، إذ صار ابناً للإنسان. وأعطانا الذى له أى أن نصير بالنعمة أولادًا لله. لهذا قال معلمنا يوحنا الرسول: “انظروا أية محبة أعطانا الآب حتى ندعى أولاد الله” (1يو3: 1).

عبارة “أيها الآب.. احفظهم فى اسمك” تعنى أن يحفظنا الآب فى حالة البنوة التى ننالها بالمعمودية. لأن “كل من هو مولود من الله لا يفعل خطية، لأن زرعه يثبت فيه. ولا يستطيع أن يخطئ، لأنه مولود من الله” (1يو3: 9). حينما نخاطب الآب ونقول: “أبانا” فإن هذا يعنى ضمناً إننا قد صرنا أولادًا لله. وبهذا نكون محفوظين فى اسمه باعتبار أنه هو الآب.

هو الآب بالنسبة للسيد المسيح بحسب لاهوته بالطبيعة. وهو الآب بالنسبة لنا بالنعمة، بالتبنى.

وحينما قال معلمنا يوحنا الرسول: “كل من هو مولود من الله لا يفعل خطية” (1يو3: 9)، أضاف أيضاً وقال: “بهذا أولاد الله ظاهرون ، وأولاد إبليس” (1يو3: 10).

فعبارة “احفظهم فى اسمك” تعنى أن يحفظهم الآب فى وضع البنوة له، لكى لا يكونوا أولادًا لإبليس.

أما اليهود الذين لم يقبلوا السيد المسيح، ولم يؤمنوا به فقال لهم: “أنتم من أب هو إبليس، وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا. ذاك كان قتالاً للناس من البدء ولم يثبت فى الحق، لأنه ليس فيه حق. متى تكلم بالكذب، فإنما يتكلم مما له، لأنه كذاب وأبو الكذاب” (يو8: 44).

ما أجمل أن يطلب السيد المسيح من أجل خاصته أن يحفظهم الآب فى اسمه الحصين، فى أبوته الحانية، فى صلاحه وخيريته.. ليكونوا أولادًا لله حقاً بالحقيقة.

ط – ” ليكونوا واحداً كما نحن ” ( يو 17: 11)

جاءت طلبة السيد المسيح بقوله “أيها الآب القدوس احفظهم فى اسمك.. ليكونوا واحداً كما نحن” (يو17: 11).

إن حياة البنوة الحقيقية لله تجعل أولاد الله يسلكون بروح واحد، هو الروح القدوس كقول الكتاب “لأن كل الذين ينقادون بروح الله، فأولئك هم أبناء الله” (رو8: 14). إنهم يسلكون بالروح الواحد بقلب واحد وبنفس واحدة. “وكان لجمهور الذين آمنوا قلب واحد، ونفس واحدة.. كان عندهم كل شئ مشتركاً” (أع4: 32).

الجميع يصيرون أعضاءً فى الجسد الواحد بالروح القدس ورأس هذا الجسد هو السيد المسيح كلمة الله المتجسد. فالكنيسة هى جسد السيد المسيح بالمعنى العام والسيد المسيح هو الرأس كقول معلمنا بولس الرسول: “وإياه جعل رأساً فوق كل شئ للكنيسة التى هى جسده” (أف1: 22، 23).

وهناك فرق بين جسد السيد المسيح الخاص الذى أخذه من العذراء مريم وجعله واحداً مع لاهوته، وبين الكنيسة كجسد للمسيح، وهى جماعة المؤمنين. فجسد السيد المسيح الخاص هو فى موضع الرأس للجسد العام بمعنى الكنيسة.

السيد المسيح هو العريس السمائى والكنيسة هى عروسه التى اشتراها بدمه الخاص، لكى يرفعها معه إلى السماء.

السيد المسيح هو الفادى، والكنيسة هى المفتداه.. السيد المسيح هو الرأس، والكنيسة هى الجسد.. السيد المسيح هو الراعى الصالح، والكنيسة هى خرافه التى رعاها، وحماها، واشتراها.

الروح القدس هو الذى يجعلنا أولادًا لله فى المعمودية، وهو الذى يربطنا فى فكر واحد بالمسيح الرأس. كقول القديس بولس الرسول: “أما نحن فلنا فكر المسيح” (1كو2: 16). الروح القدس هو الذى يوصل إلينا عطايا الآب السماوى، باستحقاقات دم ابنه الوحيد، أى هو الذى يمنحنا عطايا الثالوث القدوس الواحد فى الجوهر.

محبة الله هى سر الوحدة

حينما قال السيد المسيح للآب : “احفظهم فى اسمك.. ليكونوا واحداً كما نحن” (يو17: 11). كان يقصد أن يسكب الآب فى تلاميذه الروح القدس حتى تنسكب فيهم المحبة ويصيروا واحداً “لأن محبة الله قد انسكبت فى قلوبنا بالروح القدس المعطى لنا” (رو5: 5).

الروح القدس هو الذى يسكب فينا محبة الله حتى نسلك فى المحبة ونحب بعضنا بعضاً كوصية السيد المسيح الواضحة، والمحبة هى التى توحدنا على مثال الثالوث القدوس الواحد.

وحدة الإرادة هى الوحدة التى فى حرية المحبة تصنع إرادة من تُحب وتجد فى ذلك أقصى درجات المسرة.

ولكى تكون الإرادة واحدة يلزم أن تكون الطبيعة واحدة. لأنه إذا انقسمت الطبيعة، انقسمت الإرادة، لكى تعمل كل إرادة مشيئة طبيعتها الخاصة.

لهذا يعطينا الروح القدس الطبيعة الجديدة، التى هى على صورة الله ومثاله، وتجعلنا نتحد فى جسد واحد كصورة للوحدانية الكاملة الكائنة فى الجوهر الإلهى.

الوحدة بين الأقانيم الثلاث هى وحدة فائقة لا يمكن للعقل البشرى أن يُدركها، ولكن الوحدة بين تلاميذ السيد المسيح هى وحدة نسبية على صورة الوحدة الكائنة فى الله.

وكلما زادت المحبة؛ كلما اقتربنا من الوحدة التى طلبها السيد المسيح لأجلنا “ليكونوا واحداً كما نحن” (يو17: 11).

إن الحب الكائن بين الأقانيم الثلاث منذ الأزل هو نتيجة طبيعية لوحدة الجوهر الإلهى غير المنقسم. فبالرغم من أن ولادة الابن من الآب هى ولادة حقيقية، إلا أنها لم ينتج عنها انفصال الابن عن الآب فى الوجود، أو فى الطبيعة أو فى الإرادة.. وذلك مع التمايز الواضح بين الوالد والمولود، وبين الباثق والمنبثق..

لهذا قال الكتاب إن “الله محبة ومن يثبت فى المحبة يثبت فى الله والله فيه” (1يو4: 16).

الروح القدس يسكب فينا محبة الله لكى نحب الله ونحب كل من هو مولود منه، ويجدد طبيعتنا لكى نرى صورة الله فى بعضنا البعض، ونحب هذه الصورة الجميلة التى تشهد لصفات الله الممجدة.

حقاً إن الله هو السبب الحقيقى للوحدة بين القديسين، لأنه هو المثل الأعلى فى الوحدة التى سرها المحبة غير المحدودة بين الأقانيم، وواقعها هو الجوهر الإلهى الواحد، وسببها هو المصدر أو الينبوع الواحد الذى هو الآب.

ى- ” لأجلهم أقدّس أنا ذاتى” (يو17: 19)

قال السيد المسيح عن تلاميذه: “لأجلهم أقدس أنا ذاتى، ليكونوا هم أيضاً مقدسين فى الحق” (يو17: 19).

وهنا نقف أمام عبارة “أُقدس أنا ذاتى” وكيف قالها السيد المسيح؟ أو ما هو المعنى المقصود فى كلامه؟

“التقديس” كلمة معناها “التخصيص”؛ مثلما قيل “قدّس لى كل بكر” (خر13: 2) أى “خصص لى كل بكر” والإنسان القديس هو قلب قد تخصص فى محبة الله.

وفى الهيكل كان (القدس) هو المكان المخصص لرفع البخور، ومائدة خبز الوجوه، والمنارة ذات السبعة سرج. أما (قدس الأقداس) فهو المكان المخصص تخصيصاً شديداً لتابوت عهد الرب، ولا يدخل إليه إلا رئيس الكهنة مرة واحدة فى السنة، إنه المكان الذى يحل فيه الرب بمجده ويتراءى فوق غطاء التابوت بين الكروبين الذهب.

القداسة هى التخصص فى محبة الله، ولا نستطيع أن نفهم القداسة بعيداً عن حب الله. هذه هى القداسة التى “بدونها لن يرى أحد الرب” (عب12: 14).. لأنه بدون محبة الله فوق كل شئ لا يمكن أن نحيا فى شركة حقيقية معه.

وحينما قال السيد المسيح: “لأجلهم أقدس أنا ذاتى” (يو17: 19)، فإنه فى قوله هذا يختلف عن أى إنسان آخر.. لأن معناها أنه يخصص ذاته من أجل تلاميذه. مثلما قال: “أنا أضع نفسى عن الخراف” (يو10: 15).

لقد تدرج السيد المسيح فى إظهار تخصيص ذاته من أجل الكنيسة..

فقَبْل الصليب، خدم خدمة عجيبة تعب فيها كثيراً من أجل الكرازة بالإنجيل..

وكان يقول عن نفسه إن “ابن الإنسان لم يأتِ ليُخدم، بل ليخدِم، وليبذل نفسه فدية عن كثيرين” (مت20: 28)..

وفى الصليب، وصلت خدمته الباذلة إلى قمتها، لأنه “ليس لأحد حب أعظم من هذا، أن يضع أحد نفسه لأجل أحبائه” (يو15: 13).

وحتى بعد القيامة خصص السيد المسيح أربعين يوماً ليمحو أحزان تلاميذه، ويبعث فيهم فرح ويقين القيامة..

وحينما صعد إلى السماوات فإنه يشفع أمام الآب لأجلنا “لنا شفيع عند الآب” (1يو2: 1) ورآه يوحنا فى سفر الرؤيا فى صورة “خروف قائم كأنه مذبوح” (رؤ5: 6).

إن علاقة السيد المسيح بالكنيسة، هى علاقة لا تنقطع. فالمسيح هو الرأس والكنيسة هى جسده..

إنها علاقة حب عجيبة، هى علاقة عريس منشغل بعروسه المحبوبة.. يخصص نفسه لأجلها.

ما أعجب اتضاعك أيها الرب يسوع المسيح، حيث تقول إنك تخصص ذاتك من أجل الكنيسة.. إنه الاتضاع الناشئ عن الحب.. فالمحبة تستطيع أن تفعل كل شئ.

ل- ” يكونون معى ” (يو17: 24)

ما أعجب محبة السيد المسيح لتلاميذه!!

إنها محبة لا توصف عبّر عنها القديس يوحنا الإنجيلى فقال: “إذ كان قد أحب خاصته.. أحبهم إلى المنتهى” (يو13: 1). وقال عنها القداس الغريغورى }ليس شئ من النطق يستطيع أن يحدَّ لجة محبتك للبشر{.

لم تكن خدمة السيد المسيح مجرد إرسالية أمر تكليف من الآب السماوى، أراد بها أن ينفذ مشيئة أبيه ويرضيه. بل هى فى نفس الوقت علاقة حب بين السيد المسيح وتلاميذه.

حقا إن الحب المتبادل بين الأقانيم هو حب أزلى لا يعبّر عنه. ولسبب هذا الحب ولسبب الطبيعة الواحدة الإلهية، فإن مشيئة الابن هى نفسها مشيئة الآب والروح القدس.. أى مشيئة إلهية واحدة فى حرية المحبة غير الموصوفة.

ولكن الحب الإلهى، ليس هو من النوع الذى يقتصر على الحب اللانهائى بين الأقانيم الثلاث ولكنه يشمل الخليقة أيضاً.. فالمحبة دائماً تريد أن تعطى.. ولا تتوقف عن العطاء.

شئ عجيب حقاً أن ينشغل السيد المسيح بتلاميذه بهذه الصورة فى ليلة آلامه..!!

إنه يطلب من أجلهم بحرارة فى مناجاته مع الآب.. طلبات كثيرة.. حتى يصل إلى هذه الطلبة العجيبة: “أيها الآب أريد أن هؤلاء الذين أعطيتنى يكونون معى حيث أكون أنا” (يو17: 24).

إنه يطلب بحرارة ليكون تلاميذه معه فى ملكوته الأبدى ليتمتعوا بأمجاد الأبدية السعيدة.

الخادم الحقيقى

إن شعار الخادم الروحى هو أنه لا يريد أن يدخل الملكوت وحده بدون مخدوميه.. محبته لهم تسعى لخيرهم.. لخلاصهم.. لسعادتهم.. لا يريد أن يفارقهم فى الأبدية.

حتى إن فارقهم هنا على الأرض لأجل أهداف سامية.. إلا أنه يفعل ذلك حرصاً على لقائه معهم فى الملكوت السمائى. وهذا يشبه إلى حد ما قول معلمنا بولس الرسول لفليمون عن خادمه أنسيموس: “لأنه ربما لأجل هذا افترق عنك إلى ساعة لكى يكون لك إلى الأبد” (فل15).

كذلك قول الرب لكنيسته المحبوبة: “لحيظة تركتك وبمراحم عظيمة سأجمعك” (إش54: 7).

وقد اضطر السيد المسيح أن يفارق تلاميذه بالجسد عندما ذهب إلى الصلب والقبر.. ولكنه قال لهم: “سأراكم أيضاً، فتفرح قلوبكم، ولا ينزع أحد فرحكم منكم” (يو16: 22).

وقد تم ذلك بالفعل عندما أراهم نفسه حياً بعد قيامته من الأموات، ومكث معهم “أربعين يوماً، وهو يظهر لهم ويتكلم عن الأمور المختصة بملكوت الله” (انظر أع1: 3).

وفارق السيد المسيح أيضاً تلاميذه بالجسد حينما صعد إلى السماوات أمام أعينهم، ولكنه كان قد سبق فقال لهم: “أنا أمضى لأعد لكم مكاناً. وإن مضيت وأعددت لكم مكاناً. آتى أيضاً وآخذكم إلىّ حتى حيث أكون أنا تكونون أنتم أيضاً” (يو14: 2، 3).. فى مفارقته لهم دائماً يعمل من أجلهم، ويمهّد لذلك اللقاء الأبدى الذى لا يعقبه فراق.

هكذا فهم الشهداء والقديسون الفراق المؤقت لأحبائهم.. إنه فراق يعقبه لقاء فى الأبدية، لا تفرقه الأحداث، والأيام، والأزمان، والدهور.

بين بولس الرسول والسيد المسيح

كان مشهداً مؤثراً قرب ساحل البحر فى ميليتس، ذلك الوداع الذى أعقبه الفراق بين بولس الرسول ومخدوميه من قسوس الكنيسة فى أفسس، إذ قال لهم: “والآن أستودعكم يا إخوتى لله ولكلمة نعمته القادرة أن تبنيكم وتعطيكم ميراثاً مع جميع المقدسين.. ولما قال هذا جثا على ركبتيه مع جميعهم وصلَّى. وكان بكاء عظيم من الجميع ووقعوا على عنق بولس يقبلونه متوجعين، ولاسيما من الكلمة التى قالها أنهم لن يروا وجهه أيضاً. ثم شيّعوه إلى السفينة” (أع 20: 32، 36-38).

كان لكل من مخدوميه فى قلبه مكان ومكانة، وكان يذكرهم فى صلواته فى كل حين بأمانة.. متشبهاً بسيده المسيح. ولهذا قال فى رسالته من السجن فى رومية إلى أهل فيلبى: “أشكر إلهى عند كل ذكرى إياكم دائماً فى كل أدعيتى، مقدماً الطلبة لأجل جميعكم بفرح.. لأنى حافظكم فى قلبى، فى وثقى، وفى المحاماة عن الإنجيل وتثبيته؛ أنتم الذين جميعكم شركائى فى النعمة. فإن الله شاهد لى كيف أشتاق إلى جميعكم فى أحشاء يسوع المسيح” (فى1: 3، 4، 7، 8)

إنه لا يصلى لأجلهم فقط لكنه مشتاق إلى رؤيتهم جميعاً فى أحشاء يسوع المسيح..

هذه هى روح التلمذة الحقيقية، التى تتلمذ بها القديس بولس الرسول على سيده ومعلمه المسيح راعى الخراف العظيم.

حقاً ما هذا الحب الكبير يا سيدنا المسيح؟!.. نراك مشغولاً بخرافك.. تبذل نفسك عنهم.. وتعمل لخيرهم.. وقلبك الحانى يمتلئ بالشوق أن تراهم معك.. فى أحضان محبتك.. على الدوام.. وإلى غير نهاية… ترويهم من الحب.. وتغنيهم من الخير.. فى المراعى الخضراء، وعلى مياه الراحة الأبدية. فما أمجد محبتك غير الموصوفة..!!

ل- ” ليكون فيهم الحب الذى أحببتنى به ” (يو 17: 26)

حينما كتب القديس يوحنا الرسول الإنجيلى إن “الله محبة” (1يو4: 8، 16)، فإنه كان يقصد أن الله لا يمكن أن تخلو طبيعته من المحبة.

بل إن طبيعة الله هى محبة، تماماً كما إنها حق، وصلاح، وقوة، وحكمة..

المحبة هى فى صميم جوهر وطبيعة الله منذ الأزل.

ولهذا لا يمكن أن نتصور أن يوجد الآب بغير الابن والروح القدس.

فالمحبة تستدعى وجود أكثر من أقنوم لتتبادل هذه الأقانيم المحبة فيما بينها.

ولو كان الله الآب موجوداً فى فردانية مطلقة منذ الأزل، لما أمكن أن نقول إن “الله محبة” (1يو4: 8، 16).

فمحبة الله للخليقة بدأت فقط بعد خلقها، ولهذا لا يمكن أن تكون المحبة فى طبيعة الله هى قاصرة على محبته للخليقة.. لأنه فى هذه الحالة تكون المحبة مستحدثة فى الله مع بداية وجود الخليقة. وهذا أمر غير صحيح ومستبعد تماماً.

ولأن المحبة تُمارَس بين الأقانيم الإلهية منذ الأزل، لهذا فوجود الابن والروح القدس مع الآب أزلياً هو شئ طبيعى، به تتحقق المحبة كصفة أساسية للجوهر الإلهى غير المنقسم.

لهذا قال السيد المسيح فى مناجاته للآب: “لأنك أحببتنى قبل إنشاء العالم” (يو17: 24).

هذا الحب الكائن فى الله هو أحد أسرار الحياة الإلهية التى لا يُعبّر عنها، لأنه لا معنى للحياة بغير الحب.

عطية المحبة

وقد أراد السيد المسيح أن ينقل إلى تلاميذه سعادة الملكوت وذلك بأن يسكب محبة الله فى قلوبنا كقول معلمنا بولس الرسول: “لأن محبة الله قد انسكبت فى قلوبنا بالروح القدس المعطى لنا” (رو5: 5).

والمقصود هنا هو عطية المحبة الممنوحة لنا من الثالوث القدوس بواسطة الروح القدس الذى يسكب فينا كل المواهب والعطايا الإلهية. فعطية الروح القدس هى عطية الآب وعطية الابن أيضاً.

لهذا قال معلمنا يعقوب الرسول إن “كل عطية صالحة وكل موهبة تامة هى من فوق نازلة من عند أبى الأنوار الذى ليس عنده تغيير ولا ظل دوران. شاء فولدنا بكلمة الحق لكى نكون باكورة من خلائقه” (يع1: 17، 18).

فكل عطية صالحة هى من الآب بالابن فى الروح القدس. ومن ضمن هذه العطايا الإلهية عطية المحبة التى هى من ثمار الروح القدس كقول الكتاب “وأما ثمر الروح فهو محبة، فرح، سلام، طول أناة، لطف، صلاح، إيمان، وداعة، تعفف” (غل5: 22، 23).

المحبة التى طلبها السيد المسيح لتلاميذه، ليست هى المحبة الطبيعية البشرية المجردة التى يستطيع سائر البشر أن يمارسوها. لأن “الإنسان الطبيعى لا يقبل ما لروح الله” (1كو2: 14).

المحبة البشرية الطبيعية هى محبة مرتبطة بالجسد، وإن تنوعت. ولكن هناك نوع آخر من المحبة الفائقة للطبيعة يمنحها الروح القدس للقديسين.

هى محبة سامية لا تتأثر بالعوامل البشرية الطبيعية المجردة. بل هى فوق كل حدود الزمان والمكان والأحداث. هى من النوع الذى لا يسقط أبداً.

هى أقوى من الموت: كما قيل عن الشهداء “لم يحبوا حياتهم حتى الموت” (رؤ12: 11). وقيل عنها فى سفر نشيد الأناشيد إن “المحبة قوية كالموت.. لهيبها لهيب نار لظى الرب. مياه كثيرة لا تستطيع أن تطفئ المحبة والسيول لا تغمرها” (نش8: 6، 7).

المحبة التى بحسب الجسد هى محبة زائلة. ولا يكون لها قيمة إن لم تتقدس بفعل الروح القدس لكى تأخذ بُعداً أبدياً. وتبقى ذكراها المقدسة إلى الأبد.

الروح القدس لا يلغى المحبة البشرية ولكنه يسمو بها، ويقدسها، ويرتفع بها بقدرته الفائقة ويصبغها بصبغته السمائية.

ثمار الروح القدس هى التى تبقى وتدوم إلى الأبد. ومن ضمن هذه الثمار تلك المحبة الفائقة التى طلبها ثم وهبها السيد المسيح لتلاميذه.

محبة الله ومحبة القريب

المحبة التى يمنحها الروح القدس تتجه أساساً نحو الله، ولكنها تتسع لتشمل الخليقة كلها. بمعنى أنها تشمل أيضاً الملائكة والبشر.

فالوصية الإلهية الأولى هى محبة الله، والثانية مثلها هى محبة القريب وبهذا يكمل الناموس والأنبياء “تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك. هذه هى الوصية الأولى والعظمى. والثانية مثلها تحب قريبك كنفسك. بهاتين الوصيتين يتعلق الناموس كله والأنبياء” (مت22: 36-40).

وقد أكّد القديس يوحنا الرسول أن المحبة لا تتجزأ، أى أن من يحب الله بالمحبة الفائقة الممنوحة من الروح القدس ويسعد بهذه المحبة، فإنه سوف يحب الإخوة بطريقة تلقائية لأن نفس العطية الإلهية تعمل فى الحالتين، ولهذا قال: “نحن نعلم أننا قد انتقلنا من الموت إلى الحياة لأننا نحب الإخوة، ومن لا يحب أخاه يبقَ فى الموت” (1يو3: 14). وقال أيضاً: “أيها الأحباء لنحب بعضنا بعضاً لأن المحبة هى من الله، وكل من يحب فقد وُلد من الله ويعرف الله. ومن لا يُحب لم يعرف الله لأن الله محبة” (1يو4: 7، 8).

نقاش مع التلاميذ فى الطريق

فى الطريق إلى جبل الزيتون، حيث بستان جثسيمانى، ابتدأ السيد المسيح يكشف لتلاميذه ما سوف يحيط بهم من ضعف بعد القبض عليه، وبداية آلامه ومحاكمته تمهيداً لصلبه.. قال لهم: “كلكم تشكون فىّ فى هذه الليلة، لأنه مكتوب أنى أضرب الراعى فتتبدد خراف الرعية” (مت26: 31).

وهنا بدأ بطرس يعترض بثقة زائدة فى النفس، ويستثنى نفسه من بين التلاميذ فقال: “وإن شك فيك الجميع، فأنا لا أشك أبداً” (مت26: 33).

لم يغضب السيد المسيح من اعتراض بطرس على كلامه، الذى بدا وكأنه لا يريد أن يصدق كلام الرب الذى لا يسقط أبداً. فالسماء والأرض يزولان ولكن كلامه لا يزول (انظر مت24: 35). بل أجاب السيد المسيح فى اتضاع وطول أناة مؤكداً: “الحق أقول لك إنك فى هذه الليلة قبل أن يصيح ديك تنكرنى ثلاث مرات” (مت26: 34).

فى البداية: لم يرغب السيد المسيح أن يكلّم بطرس عن إنكاره بل تكلّم عن شك التلاميذ إجمالاً. لكن بطرس اعتبر نفسه متفوقاً فى محبته للسيد المسيح على جميع التلاميذ وقال: “وإن شك فيك الجميع، فأنا لا أشك أبداً” (مت26: 33). فاضطر السيد المسيح أن يكشف له ضعفه، وكيف أنه لن يشك فقط، بل سوف ينكره أيضاً.. لا مرة واحدة، بل ثلاث مرات!!

لم يتراجع بطرس أمام كلمات الرب الواضحة.. بل استمر فى اعتراضه -وكأن السيد المسيح لا يعرف ما سوف يكون- وقال: “ولو اضطررت أن أموت معك لا أنكرك” (مت26: 35).

العجيب أن كلام بطرس قد تسبب فى أن باقى التلاميذ قد كرروا نفس الكلمات “هكذا قال أيضاً جميع التلاميذ” (مت26: 35).

ربما يغضب أى معلم عادى من اعتراض أحد تلاميذه على كلام هو واثق منه كل الثقة.. ولكن السيد المسيح صمت ولم يغضب، حتى وإن بدا أن بطرس لا يريد تصديق كلامه.. وحتى إن اعترض هو وباقى التلاميذ على كلامه علانية.

كان السيد المسيح يحب بطرس ويحب سائر التلاميذ، ويعرف ضعف البشر، وقد جاء ليحرر الذين قبلوه من ضعفهم، حاملاً خطاياهم محتملاً لجهالتهم..

لهذا اكتفى السيد المسيح بما قيل.. وترك لبطرس والتلاميذ أن يكتشفوا الحقيقة فى أوانها.. ترك الباب مفتوحاً لبطرس لكى يخرج خارجا ويبكى بكاءً مراً (انظر مت26: 75) حينما يكتشف صدق ما سبق وقاله السيد المسيح. لم يكن الوقت مناسباً للغضب أو التأديب، لأن قلوب التلاميذ كانت قد تثقلت بأحزان الصليب.

مبررات الاحتجاج

ربما يحتج البعض بأن ما دفع بطرس والتلاميذ إلى الاعتراض على كلام السيد المسيح، هو رغبتهم فى التعبير عن شدة محبتهم، وعدم تصورهم أن تصدر منهم هذه الأمور المخجلة. ولكن مهما كان الدافع.. فلم يكن من الصواب إطلاقاً، أن يعترضوا بشدة على ما يقوله السيد المسيح منبهاً إياهم بما سوف يحدث بروح اليقين. لم يحدث إطلاقاً أن أخبرهم السيد المسيح عن أمر ولم يتحقق. ولم يحدث إطلاقاً أن وعدهم بشئ ولم ينفذ وعده.

أليس هو الذى قال عن موت لعازر: “لعازر حبيبنا قد نام. لكنى أذهب لأوقظه” (يو11: 11). وقال أيضاً: “وأنا أفرح لأجلكم إنى لم أكن هناك لتؤمنوا” (يو11: 15). وبالفعل ذهب إلى بيت عنيا وأقام لعازر بسلطان لاهوته من بعد موت لعازر بأربعة أيام.. لم يكن هناك عذر لبطرس ولباقى التلاميذ أن لا يصدقوا ما قاله السيد المسيح، وأن يعبّروا عن اعتراضهم علانية بهذه الصورة.. بل كان الأليق بهم أن يتأمل كل واحد منهم ضعفه.. وترن كلمات السيد المسيح فى داخله، فيصرخ إلى الرب طالباً المعونة لئلا تفنى التجربة إيمانه.

تشجيع الرب لتلاميذه

بالرغم من كل ما حدث، فإن محبة الرب قد أحاطت ببطرس فى وقت التجربة. وقال له “سمعان سمعان هوذا الشيطان طلبكم لكى يغربلكم كالحنطة. ولكنى طلبت من أجلك لكى لا يفنى إيمانك. وأنت متى رجعت ثبت إخوتك” (لو22: 31، 32).

فكما أنبأ الرب بطرس بما سوف يصدر عنه من ضعف، فإنه أيضاً قد شجعه بهذه الكلمات “طلبت من أجلك لكى لا يفنى إيمانك” و “متى رجعت”..

فى كل ما قاله السيد المسيح كان يقصد أن يخبر بطرس بما سوف يكون حتى لا ييأس: أخبره بضعفاته.. وأخبره أيضاً بقبوله لعودته ورجوعه وتقويته.. كل ذلك قاله السيد المسيح قبل أن يكون..

ما أجمل هذه الكلمات “طلبت من أجلك لكى لا يفنى إيمانك” (لو22: 32).. وهل يوجد مجال للشك فى أن تستجاب طلبة السيد المسيح لأجل بطرس؟! هكذا جاءت كلمات السيد الرب لتشجيعه، حتى فى وقت ضعفه وكلامه غير المقبول..

أما عن قول السيد المسيح: “وأنت متى رجعت فثبت إخوتك” فالمقصود بها أنه متى تاب ورجع، فإن الرب سيعيده إلى رتبته الرسولية، وسيستخدمه فى خلاص الخطاة والبعيدين، لأنه يكون قد اختبر مرارة الخطية وحلاوة الرجوع إلى أحضان الرب الحنان.

فى بستان جثسيمانى

” جثا على ركبتيه وصلى ” (لو22: 41)

فى وقت الشدة والحزن المرير، أوصى السيد المسيح تلاميذه قائلاً: “صلوا لكى لا تدخلوا فى تجربة” (لو22: 40).

وكما أوصاهم هكذا فعل، مقدّماً نفسه مثالاً لكل إنسان، ونائباً عن البشرية فى أوجاعها وأحزانها التى استحقتها لسبب الخطية..

فى اتضاع عجيب جثا السيد المسيح على ركبتيه وصلى، بكل الانسحاق، وبنفس منسكبة، وفى ضراعة عميقة، وصراخ من القلب.. “وإذ كان فى جهادٍ كان يصلى بأشد لجاجةٍ. وصار عرقه كقطرات دمٍ نازلةٍ على الأرض” (لو22: 44).

هذه الصلاة الحارة العميقة قد اجتذبت انتباه السمائيين “وظهر له ملاك من السماء يقويه” (لو22: 43). ربما كان الملاك يردد ذلك النغم الخالد }لك القوة والمجد والبركة والعزة{.. أو كان يردد تسبحة الثلاثة التقديسات }قدوس الله قدوس القوى قدوس الحى الذى لا يموت{.. أو ليعلن إعجاب السمائيين بذلك الحب العجيب الذى احتمل الأحزان لأنه “إذ كان قد أحب خاصته الذين فى العالم، أحبهم إلى المنتهى” (يو13: 1)..

فى كل الأحوال فإن ظهور الملاك قد أكد مشاركة الجند السمائيين فى وقت التجربة والحزن والألم.

وقد وصف معلمنا بولس الرسول تلك الصلوات الحارة والمنسحقة التى قدمها السيد المسيح أثناء آلامه وأحزانه فقال: “الذى فى أيام جسده إذ قدّم بصراخ شديد ودموع طلبات وتضرعات للقادر أن يخلصه من الموت. وسُمع له من أجل تقواه. مع كونه ابناً تعلم الطاعة مما تألم به. وإذ كمل صار لجميع الذين يطيعونه سبب خلاص أبدى” (عب5: 7-9).

كل ما قيل عن تضرعات السيد المسيح أمام الآب فى وقت الآلام والأحزان، ينبغى أن ننظر إليه فى ضوء أن الابن الوحيد قد أخلى ذاته آخذاً صورة عبد (انظر فى2: 7). ولكنه مع هذا بقى هو هو نفسه كلمة الله القادر على كل شئ. ولكن من حيث إنه قد تجسد، وصار نائباً عن البشرية “إذ وُجد فى الهيئة كإنسان، وضع نفسه وأطاع حتى الموت؛ موت الصليب” (فى2: 8).

ولذلك يقول: “مع كونه ابناً تعلم الطاعة مما تألم به” (عب5: 8). أى أنه مع كونه ابن الله الذى له نفس جوهر الآب وقدراته وإرادته، فإنه كنائب عن البشرية قد أظهر الطاعة فى قبوله للآلام والأحزان، مُرضياً لقلب الآب السماوى.

وهو فى صلاته وتضرعه، كان يطلب من أجل خلاص البشرية من براثن الموت وقبضته. وقد أقامه الآب من الأموات، بنفس القدرة الإلهية التى أقام بها هو نفسه، والتى أقامه بها الروح القدس. لأن قدرة الثالوث هى قدرة إلهية واحدة. ولكنه مع كونه ابناً قد تضرع إلى الآب من أجل القيامة من الأموات لأنه فى هذا قد ناب عن البشرية فى استرضاء قلب الآب السماوى، وفى إيفاء العدل الإلهى حقه بالكامل.

يقول الكتاب “وسُمع له من أجل تقواه” (عب5: 7). فلم يكن الأمر تنازلاً عن حق العدل الإلهى الذى لا يمكن أن يتغير.. بل بالفعل أوفى الإنسان يسوع المسيح حق العدل الإلهى، واستجاب الآب لما طلبه ابن الإنسان البار القدوس الذى بلا خطية، حينما قدّم نفسه ذبيحة إثم إذ حمل خطايا كثيرين وشفع فى المذنبين.

مجد الاتضاع

هذا الذى أخلى ذاته فى الجسد على الأرض من مجده الإلهى المنظور، حينما قَبِلَ أن يوجد فى صورة عبد ولم يحسب مساواته لله اختلاساً بل صار فى شبه الناس (انظر فى2: 6). “وإذ وجد فى الهيئة كإنسان، وضع نفسه وأطاع حتى الموت؛ موت الصليب” (فى2: 8).

يتكلّم معلمنا بولس الرسول عن مجد اتضاعه فيقول: “ولكن الذى وضع قليلاً عن الملائكة، يسوع نراه مكللاً بالمجد والكرامة، من أجل ألم الموت. لكى يذوق بنعمة الله الموت لأجل كل واحد” (عب2: 9).

إن المحبة تتألق حينما تتألم.. وهى تبرهن على نفسها حين تبذل وتعطى..

مجد المحبة هى أن تحب. كما أن مجد الينبوع هو أن يروى ويسقى ويغسل.. فمبارك هو ذاك الذى أخلى ذاته من المجد بالتجسد.. وبذل ذاته متجسداً بالصليب..

وهكذا “كان ينبغى أن المسيح يتألم بهذا، ويدخل إلى مجده” (لو24: 26). “لذلك رفَّعه الله أيضاً، وأعطاه اسماً فوق كل اسم. لكى تجثو باسم يسوع كل ركبة ممن فى السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض. ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو رب لمجد الله الآب” (فى2: 9-11).

” جعل نفسه ذبيحة إثم ” (إش53: 10)

وردت هذه النبوة عن السيد المسيح فى سفر إشعياء (انظر إش53: 10) لتوضيح أن ذبيحة الصليب هى لخلاص الأثمة والخطاة. لأنه يقول أيضاً “بمعرفته يبرر كثيرين وآثامهم هو يحملها” (إش53: 11). اتحد اللاهوت بالناسوت فى السيد المسيح اتحاداً تاماً كاملاً منذ اللحظة الأولى للتجسد الإلهى. وهذا الإتحاد هو الذى عبّر عنه القديس كيرلس الكبير بعبارة [طبيعة واحدة متجسدة لله الكلمة].

وبسبب هذا الاتحاد الذى يفوق العقل والإدراك، صار لذبيحة الصليب فاعلية غير محدودة فى خلاص الخطاة. لأن الآب وضع عليه خطايا كثيرين ليبررهم. “أما الرب فسر بأن يسحقه بالحزن، إن جعل نفسه ذبيحة إثم.. يبرر كثيرين وآثامهم هو يحملها.. هو حمل خطية كثيرين، وشفع فى المذنبين” (إش53: 10-12).

هذا الفداء العجيب الذى دبّره الآب السماوى، فى وحدة المشيئة مع الابن والروح القدس، قد اشترك فيه الأقانيم الثلاث. فالآب بذل ابنه الوحيد، والابن بذل ذاته، والروح القدس لم يكن غريباً عن الكلمة حينما كان معلقاً على الصليب “المسيح الذى بروح أزلى قدّم نفسه لله بلا عيب” (عب9: 14).

لو كانت ذبيحة الصليب هى ذبيحة إنسانية مجردة، لما كان لها القدرة أن تكفر عن خطايا كثيرين -أى ما لا يعد من الملايين- ولما كان لها القدرة أن تسحق الشيطان وتحطم سلطانه وقوته. ولكن لأن الناسوت هو ناسوت كلمة الله، ولأن هذا الناسوت كان متحداً باللاهوت بلا انفصال، فقد أمكن أن تكون هذه الذبيحة هى ذبيحة إلهية مخلّصة ومانحة للحياة. لهذا قال السيد المسيح: “أنا هو القيامة والحياة. من آمن بى ولو مات فسيحيا” (يو11: 25).

فكل ما فعله ابن الله المتجسد من أجل خلاصنا، فقد فعله بأقنومه المتجسد الواحد والذى لم يفترق إلى طبيعتين من بعد الاتحاد.

لكل هذه الأسباب، أرسل الله ابنه الوحيد المولود من الآب قبل الدهور، ليتجسد من العذراء مريم فى ملء الزمان، وليحرر البشر من الخطية ومن الموت الأبدى، وليعلن حب الله غير المحدود.. حب الله الأبدى غير الموصوف.

” سر بأن يسحقه بالحزن ” (إش53: 10)

لماذا سر الآب بأن يسحق الابن المتجسد بالحزن؟

كانت مسرة قلب الآب أن يصالح العالم لنفسه فى المسيح. هذه المسرة ملؤها التضحية ودافعها المحبة.

لم يكن الخصام بين الله والإنسان شيئاً يسر قلب الله. ولم يكن ممكناً أن تتم المصالحة بدون سفك دم، وبدون كفارة حقيقية تستعلن فيها قداسة الله كرافض للشر والخطية فى حياة الإنسان.

وفى كل ذلك احتمل السيد المسيح فى طاعة كاملة لأبيه السماوى، وفى اتضاع عجيب؛ احتمل كل الأحزان التى تفوق الوصف. وقال بفم إشعياء النبى: “السيد الرب فتح لى أذناً، وأنا لم أعاند، إلى الوراء لم أرتد. بذلت ظهرى للضاربين وخدّىَّ للناتفين. وجهى لم أستر عن العار والبصق” (إش50: 5، 6).
القبض على يسوع


” من تطلبون ؟ ” (يو18: 4)

بعد جهاد الصلاة فى بستان جثسيمانى، وبعد وصول جنود الهيكل وخدام رئيس الكهنة “خرج يسوع وهو عالم بكل ما يأتى عليه وقال لهم: من تطلبون؟” (يو18: 4).

لم يكن سبب السؤال أنه لم يكن يعلم، بل كان عالماً بكل ما يأتى عليه. ولكنه فى اتضاع ينزل فى بساطة إلى مستوى بنى البشر لكى يخاطبهم، ويبدأ الحوار وكأنه لا يعلم، مع أنه عالِم بكل شئ.

وقد أجابوه قائلين: “يسوع الناصرى” فقال لهم يسوع: “أنا هو” (يو18: 5).

ونظراً لأن عبارة “أنا هو =I am he ” تعنى “يهوه” (VEgw, eivmi إيجو إيمى) باللغة اليونانية، فقد ظهرت قوتها وتأثيرها حينما خرجت من فم الله الكلمة. تماماً مثلما خاطب موسى فى صورة لهيب النار فى العليقة، وقال له: “أهيه الذى أهيه” (خر3: 14). وقال الله لموسى: “هكذا تقول لبنى إسرائيل أهيه أرسلنى إليكم” (خر3: 14). فى ذلك الوقت “غطى موسى وجهه لأنه خاف أن ينظر إلى الله” (خر3: 6).

“فلما قال لهم: إنى أنا هو رجعوا إلى الوراء وسقطوا على الأرض” (يو18: 6).لم يحتملوا مجد لاهوته، حينما أعلن بكلامه شيئاً عن هذا المجد، حتى ولو لم يفهموا لقساوة قلوبهم.

عجيب هو سرّك أيها الكلمة الأزلى، يا من ظهرت فى الجسد لأجل خلاصنا..!!

عجيب أنت فى اتضاعك.. إذ وأنت الإله السرمدى، سلّمت للموت نفسك بإرادتك وسلطانك وحدك..!!

من يقدر أن يصف سر تجسدك الفائق للوصف والإدراك؟.. ومن يقدر أن يفهم اتضاعك وإخلائك لذاتك، وأنت تسير فى طريق الموت بحسب الجسد، حاملاً صليب العار، بل صليب المجد مُظهراً مقدار محبتك للبشر.

كنت يا سيدى تنظر فى عطف ورثاء إلى أولئك الذين جاءوا فى جهل وغباوة للقبض عليك، مدفوعين فى شقاوتهم بإيحاء من إبليس اللعين الذى لم يحتمل ظهورك فى الجسد.. لم يحتمل تواضعك وإخلاءك لذاتك، فاندفع فى حماقته يكيل ضدك ضربات الكراهية والحقد والحسد.. وأنت مثل حمل وديع، احتملت ظلم الأشرار، مظهراً مجد طاعتك الكاملة لأبيك السماوى.

هكذا استطاعت المحبة الفائقة أن تحتمل .. أن تحتمل كل شئ.. حتى تهزم الكراهية، وتحرر البشرية من سلطان إبليس.. وتوبخ قساوة البشر حتى يخجلوا من كل ما عملوه.

بعد ذلك أعاد السيد المسيح نفس السؤال: “من تطلبون” (يو18: 7). وكرروا نفس الإجابة: “يسوع الناصرى. أجاب يسوع: قد قلت لكم إنى أنا هو” (يو18: 7، 8). وقول السيد المسيح فى هذه المرة ” أنا هو” قاله بالمعنى البسيط؛ أى أنا الذى تبحثون عنه وتطلبونه لتقبضوا عليه كأنه مذنب. لم يقلها بحسب إعلانه هو شخصياً عن طبيعته الإلهية، بل حسب مقصدهم هم الخالى من المعرفة “لأن لو عرفوا لما صلبوا رب المجد” (1كو2: 8).

لهذا لم يقعوا على الأرض فى المرة الثانية، بل تجاسروا وتقدموا للقبض عليه.. وقد سمح هو بذلك وسلم نفسه لهم مخفياً مجد لاهوته ليتم الفداء.

” دعوا هؤلاء يذهبون ” (يو18: 8)

جاء السيد المسيح لكى يبذل نفسه فدية عن كثيرين. وقد تحقق هذا أيضاً فى لحظة القبض عليه لأن الفداء فى حياته كان منهجاً، وليس حدثاً عارضاً. فكما افتدى البشرية بموته على الصليب، هكذا افتدى تلاميذه فى لحظة القبض عليه. وقال لأجناد اليهود: “فإن كنتم تطلبوننى فدعوا هؤلاء يذهبون” (يو18: 8).

اعتاد الجنود فى الحروب أن يقدموا أنفسهم فدية عن ملوكهم. فالملك يحاط بعناية خاصته. وقد حدث فعلاً أن طلب المحيطون بالملك داود أن لا يطفئ سراج إسرائيل (انظر 2صم21: 17). وأن لا ينزل بنفسه إلى معارك الحروب، فيترك الجيش ليحارب، ويبقى هو فى القصر فى أمان.

وقد قبِل الملك داود منهم هذه النصيحة، بعد أن خاض حروب كثيرة. وابتدأ يمتنع عن النزول إلى الحرب وبقى فى القصر.. وأدى ذلك إلى متاعب كثيرة فى حياته فيما بعد.

أما الملك يسوع، فلم يقبل أن يُقبض على أحد سواه فى ليلة آلامه، واختار أن يساق وحيداً إلى الموت بعد انصراف التلاميذ ليتم القول الذى قاله: “إن الذين أعطيتنى لم أهلك منهم أحداً” (يو18: 9).

كان قلبه منشغلاً بالآخرين وبسلامتهم ونجاتهم.. فتقدم كقائد شجاع، ليدفع الثمن وحده.. ليخلص المسبيين، ويحرر المأسورين، ويدك حصون الشياطين.

أليس هو الذى قال بفم حزقيال النبى: “أنا أرعى غنمى وأربضها.. وأطلب الضال، وأسترد المطرود، وأجبر الكسير، وأعصب الجريح، وأبيد السمين والقوى وأرعاها بعدل” (حز34: 15، 16).

الملك الحقيقى هو من يحقق لرعيته حياة الكرامة والحرية.. وهذا ما فعله السيد المسيح.

والملك الحقيقى هو من يمنح الحياة الأفضل.. وهذا ما منحه السيد المسيح.

والملك الحقيقى هو من يحرر رعيته من الخوف، ويصد هجمات الأعداء فى بأس وقوة.

والملك الحقيقى هو من يملك على قلوب رعيته بالمحبة.

فليس المُلك هو أن يملك الملك على الشعب ليذلهم وليخدموه، بل المُلك هو أن يملك على القلوب ويمجدهم فيحبوه حتى أنه لا يملك فى وسطهم، بل يملك فى داخلهم.

هكذا ملك السيد المسيح على خشبة الصليب. وبدلاً من أن يملك الموت على البشر، ملكت الحياة التى فى السيد المسيح.

لهذا نادى معلمنا بولس “لى الحياة هى المسيح” (فى1: 21) وقال: “متى أظهر المسيح حياتنا” (كو3: 4). وقيل فى إنجيل يوحنا “فيه كانت الحياة” (يو1: 4). وقال السيد المسيح عن نفسه: “أنا هو خبز الحياة” (يو6: 35). “أنا هو.. الحياة” (يو11: 25). وكراعٍ صالح يبذل نفسه عن الخراف قال: “أتيت لتكون لهم حياة وليكون لهم أفضل” (يو10: 10).

” أبقبلة تسلم ابن الإنسان ؟! ” (لو22: 48)

ظل السيد المسيح وديعاً ومتواضعاً وأميناً إلى النهاية.. وحينما وصل يهوذا لينفذ الخيانة التى وضعها فى قلبه.. لم يصدّه السيد المسيح عن أن يُقبِّله.. مع أن تلك القُبلة كانت هى العلامة التى أعطاها يهوذا لجنود وخدام رؤساء كهنة اليهود ليمسكوا يسوع.

عاتب السيد المسيح يهوذا بقوله “يا صاحب، لماذا جئت؟” (مت26: 50). كقول المزمور “ليس مبغضى تعظم علىّ فأختبئ منه. بل أنت إنسان عديلى إلفى وصديقى. الذى معه كانت تحلو لنا العشرة” (مز55: 12-14).

وعاتبه أيضاً بقوله “يا يهوذا أبقبلة تُسلِّم ابن الإنسان” (لو22: 48) هل يتصور أحد أن علامة المحبة والصداقة والألفة، تصير هى نفسها علامة الغدر والخيانة..؟!

سار السيد المسيح على الدرب نحو الصليب، وطُعن فى جنبه بالحربة فوق الجلجثة. ولكن طعنة يهوذا فى قلبه كانت أقسى بكثير… لهذا كتب عنه فى نبوة إشعياء: “محتقر ومخذول من الناس، رجل أوجاع ومختبر الحزن.. أحزاننا حملها وأوجاعنا تحملها.. مجروح لأجل معاصينا مسحوق لأجل آثامنا” (إش53: 3-5).

” اجعل سيفك فى الغمد ” (يو18: 11)

أراد بطرس أن يدافع عن السيد المسيح بالسيف فى وقت القبض عليه فى البستان. وبالفعل “كان معه سيف، فاستله وضرب عبد رئيس الكهنة فقطع أذنه اليمنى. وكان اسم العبد ملخس. فقال يسوع لبطرس: اجعل سيفك فى الغمد. الكأس التى أعطانى الآب ألا أشربها” (يو18: 10، 11).

لم يرغب السيد المسيح فى استخدام العنف فى الدفاع عن نفسه، أو فى مقابل الكراهية المصوبة نحوه. بل أراد أن يعالج الكراهية بالمحبة، وأن يعالج العنف بالوداعة. أليس هو الذى علّم قائلاً: “لا تقاوموا الشر، بل من لطمك على خدك الأيمن فحوّل له الآخر أيضاً” (مت5: 39).

أعاد السيد المسيح لعبد رئيس الكهنة أذنه وأبرأها فعادت صحيحة. ولم يقبل أن يتم بسببه أذية إنسان.. وبالرغم من محبته الواضحة فقد قبضوا عليه وأوثقوه.

لم يعتز السيد المسيح بسحق أعدائه بالقوة.. بل أظهر -فى آلامه- بالضعف ما هو أقوى من القوة. أظهر قوة الاحتمال النابع عن المحبة، إذ “ليس لأحد حب أعظم من هذا أن يضع أحد نفسه لأجل أحبائه” (يو15: 13).

كان الآب قد أرسل السيد المسيح لخلاص العالم. وكان ينبغى أن يشرب من كأس الألم ليتم الفداء. وأراد بطرس أن يدافع عن السيد المسيح ولكنه بهذا كان يعطل عمل الفداء بالصليب. لهذا قال له السيد المسيح: “الكأس التى أعطانى الآب ألا أشربها” (يو18: 11).

ما أجمل التسليم لإرادة الآب السماوى، حينما يقبل الإنسان كأس الآلام من يد الآب نفسه، واثقاً أن النصرة هى من عند الرب (انظر أم 21: 31). وأن الآب يعتنى به ويحميه.. وإن سمح له أن يشترك أو يتشبه “بالآلام التى للمسيح، والأمجاد التى بعدها” (1بط1: 11). والمقصود بالأمجاد هنا أمجاد القيامة والصعود..

فالقيامة هى سر رجاء المسيحى وفرحه فى وسط الآلام. لأنه كما يشترك فى آلام المسيح هكذا سيشترك فى قيامته.

” قبضوا على يسوع وأوثقوه ” (يو18: 12)

“ثم إن الجند والقائد وخدام اليهود قبضوا على يسوع وأوثقوه، ومضوا به إلى حنان أولاً لأنه كان حما قيافا الذى كان رئيساً للكهنة فى تلك السنة. وكان قيافا هو الذى أشار على اليهود أنه خير أن يموت إنسان واحد عن الشعب” (يو18: 12-14).

كيف يتم تقييد السيد المسيح بهذه الصورة العجيبة؟! وهل هو مستحق لذلك؟!

من الذى يستحق الربط والوثاق ؟

أليس إبليس هو الذى يستحق أن يوثق ليستريح العالم من شروره..؟!

أليس الإنسان الخاطئ هو الذى يستحق أن يوثق، إذ سلّم نفسه إلى رباطات الخطية والموت..؟!

لذلك كُتب عن الشيطان: “والملائكة الذين لم يحفظوا رياستهم، بل تركوا مسكنهم، حفظهم إلى دينونة اليوم العظيم بقيود أبدية تحت الظلام” (يه 6).

وكُتب عن الشيطان أيضاً أن السيد المسيح بعد أن أتم الفداء “قبض على التنين الحية القديمة الذى هو إبليس والشيطان، وقيده ألف سنة” (رؤ20: 2). إلى أن يحل الشيطان من سجنه زماناً يسيراً فى نهاية العالم، قبل إلقائه بصفة نهائية فى البحيرة المتقدة بالنار والكبريت.

وقال بطرس الرسول لسيمون الساحر الذى طلب أن يقتنى موهبة الرسولية بدراهم “فتب من شرك هذا، وأطلب إلى الله عسى أن يغفر لك فكر قلبك. لأنى أراك فى مرارة المر ورباط الظلم” (أع8: 22، 23).

فالشيطان يربط الإنسان ويوثقه برباطات الخطية، والسيد المسيح يريد أن يحل الإنسان من هذه الرباطات.

كذلك كان الشيطان قبل مجيء المخلّص يربط الناس فى أجسادهم. إذ كان له سلطان على البشر بعد سقوط الإنسان. لهذا قال السيد المسيح عن المرأة المنحنية التى شفاها من مرضها: “وهذه وهى ابنة إبراهيم قد ربطها الشيطان ثمانى عشرة سنة. أما كان ينبغى أن تحل من هذا الرباط” (لو13: 16).

جاء السيد المسيح وقال: “روح الرب علّى، لأنه مسحنى.. لأنادى للمأسورين بالإطلاق.. وأرسل المنسحقين فى الحرية” (لو4: 18). فجاء لكى يحرر البشر من وثاق الظلمة ولكى يخرج “من الحبس المأسورين من بيت السجن، الجالسين فى الظلمة” (إش42: 7).

لماذا أوثقوا يسوع ؟!!

هل خوفاً من أن يهرب؟ أليس هو الذى سلّم نفسه لهم بإرادته..؟!
هل خوفاً من أن يبطش بهم؟.. أليس هو الذى أبرأ ملخس عبد رئيس الكهنة..؟
أم إظهاراً لسطوتهم وقدرتهم فى القبض عليه؟.. أليسوا هم الذين سقطوا على الأرض عندما قال لهم: ” أنا هو” وقت القبض عليه..؟!
هل أوثقوه لكى لا يصنع المزيد من المعجزات بيديه، والتى بسببها آمن الكثيرون؟ أليس هو الذى أبرأ الكثيرين بكلمة من فمه المبارك، وليس بيديه فقط.. وأظهر سلطانه على الطبيعة وعلى كل شئ. ولم يصنع المعجزات وهو حر فقط، بل وهو مسمَّر على الصليب، حينما أخفت الشمس شعاعها فى عز النهار، وتحوّل النهار إلى ليل لمدة ثلاث ساعات متصلة، وماجت الأرض مرتعدة. وأكثر من ذلك كله صنع معجزة القيامة وهو ميت بحسب الجسد، ومدفون فى القبر لمدة ثلاثة أيام، والأختام موضوعة على القبر الذى كان يحرسه عساكر الرومان.

ربما كانت هذه كلها هى دوافعهم فى أن يوثقوا الرب يسوع، بل وأكثر منها.. ولكن الرب سمح بذلك كله لكى يصير تقييده ووثاقه عوضاً عن الإنسان الخاطئ الذى أوثقته الخطية وجعلته مقيداً وفقد حريته الحقيقية.

لقد قبِل السيد المسيح أن يفقد حريته -بحسب الجسد- فى وقت الآلام والصلب، لكى يحرر الإنسان من رباطات الخطية مظهراً أن الحرية الحقيقية هى الحرية من الشر. ولهذا قال لليهود: “إن حرركم الابن فبالحقيقة تكونون أحرارًا” (يو8: 36).

تكلّم المفكر الفرنسى الوجودى (جان بول سارتر) عن حرية الإنسان.. ونادى بتحرير الإنسان من سيطرة الله عليه -حسب زعمه- والتى مظهرها الوصايا الإلهية.

ولكن الوصية فى حقيقتها، ليست قيداً على الإنسان.. بل هى المحرر له من سلطان الشر والخطية.

وكان ينبغى على سارتر أن يتأمل كيف اختار الله الكلمة المتجسد أن يفقد حريته من أجل تحرير الإنسان.

فليس الله هو ذلك الإله الذى يسلب حرية الإنسان بعد أن خلقه حراً.. بل هو ذلك الإله الذى دفع حريته وحياته -بالصليب- ثمناً لتحرير الإنسان بالكامل “لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد الجنس لكى لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية” (يو3: 16).

شمشون والمسيح

إن كان اليهود قد قبضوا على السيد المسيح، وأوثقوه.. فقد حدث نفس الأمر فى حياة شمشون نذير الرب وقاضى إسرائيل.. وذلك حينما حضر إليه شيوخ إسرائيل وقالوا له إن الوثنيين يهاجمون أرضهم، ويتلفون ممتلكاتهم، ويقتلون بنيهم أو يأخذونهم كأسرى بسبب ما فعله هو بالوثنيين.

وحينما سألهم شمشون عما يقترحونه أو يطلبونه.. أجابوه بأن الحل فى نظرهم هو أن يقبضوا عليه، ويسلموه موثقاً إلى الوثنيين، لأن هذا هو الشرط الذى طلبوه ليمتنعوا عن إيقاع الأذى بهم..

وقد وافق شمشون فى شجاعة نادرة على طلبهم. ليريحهم من جهة، وليظهر لهم قدرة الرب من جهة أخرى.

ومع ذلك أحضر شعبه حبالاً جديدة متينة وأوثقوه بها. وقبل هو أن يتم تسليمه للأعداء فداءً عن شعبه.

وحينما وصل شمشون موثقاً بالحبال إلى محلة الوثنيين، فرحوا جداً وهتفوا وشعروا أن غريمهم القوى قد وقع أسيراً فى أيديهم فى النهاية. ولكن فرحتهم لم تتم، إذ حل روح الرب على شمشون، فانحلّت وثاقاته المتينة، وصارت الحبال القوية كأنها خيط رفيع أمام قوته العجيبة. وإذ كان الجند قد تجمهروا من حوله.. أبصر أمامه على الأرض فك حمار، فالتقطه وضرب به ألف جندى من الوثنيين وانتصر عليهم. وحرر المأسورين من شعبه، وصنع الرب خلاصاً عظيماً على يديه فى ذلك اليوم.

كان شمشون فى كل ذلك رمزاً للسيد المسيح الذى أظهر بالضعف ما هو أقوى من القوة.

فقد سمح لليهود أن يقبضوا عليه ويوثقوه، ويسلّموه إلى قضاء الموت بيد الحاكم الوثنى الرومانى. وتقبل كل ما وجه إليه من إهانات فى اتضاع وتسليم من أجل خلاصنا.

وقد تخيل الشيطان فى حماقته أن السيد المسيح قد وقع أسيراً بين يديه.. ولكن السيد المسيح إذ انتصر على الصليب حطّم مملكة الشيطان وحرر المأسورين.

ففى ضعفه الظاهرى كان قوياً منتصراً على مملكة الظلمة. كما أنه انتصر على الموت، وحطّم شوكته، وقام منتصراً من الأموات. تحرر بسهولة من الموت إذ لم يكن ممكناً أن يُمسك منه.

كان “فك الحمار” الذى انتصر به شمشون على أعدائه رمزاً إلى “الموت” الذى حطّم به السيد المسيح الموت. وقد دخل السيد المسيح إلى أورشليم فى بداية أسبوع الصلب راكباً على أتان. دخل من باب الضأن فى أورشليم ليكون تحت الحفظ مثل خروف الفصح، لأنه هو حمل الله الذى يحمل خطية العالم كله. وبدخول السيد المسيح إلى أورشليم بهذه الصورة قَبِلَ الموت بإرادته. وقَبِلَ أن يدخل إلى صراع الموت ليحطّمه ويبيد سلطانه “إذ قد تشارك الأولاد فى اللحم والدم، اشترك هو أيضاً كذلك فيهما لكى يبيد بالموت ذاك الذى له سلطان الموت أى إبليس، ويعتق أولئك الذين خوفاً من الموت كانوا جميعاً كل حياتهم تحت العبودية” (عب2: 14، 15).

سقوط المعبد

وقد تكرر موقف مشابه فى حياة شمشون. حينما أرادوا أن يسخروا منه فى عيد الإله داجون، وأتوا به إلى المعبد لإذلاله هناك. ولكنه وقف بين عمودى المعبد الأساسيين، ورفع يديه على مثال الصليب ودفع العمودين بقوة فانهار معبد الوثنيين على من فيه وكان عدد الذين قتلهم فى موته أكثر من الذين قتلهم فى حياته.

وكان فى هذا يرمز إلى السيد المسيح الذى فى موته على الصليب هدم مملكة إبليس وحرر البشر من سلطانه وفتح الجحيم وأخرج أرواح الذين رقدوا على الرجاء وأدخلهم إلى الفردوس ورد آدم إلى مرتبته مرة أخرى..

كان موت المسيح هو أعظم انتصار على الشيطان، بالرغم مما بدا فيه من ضعف ظاهرى.

فعلى الصليب انتصرت المحبة، وانتصر البر، وأخذ العدل مجراه فانتصرت العدالة، وانتصرت الحياة على الموت لأن الحياة فى المسيح، كانت أقوى من الموت الذى لنا.

” هذه ساعتكم ” (لو22: 53)

فى وقت القبض على السيد المسيح، قال لرؤساء كهنة اليهود ولقواد جند الهيكل والشيوخ المقبلين عليه: “كأنه على لص خرجتم بسيوف وعصى. إذ كنت معكم كل يوم فى الهيكل لم تمدوا علىّ الأيادى. ولكن هذه ساعتكم وسلطان الظلمة” (لو22: 52، 53).

حدث التآمر ضد السيد المسيح لأنه جاء نوراً للعالم، وأحب الذين قاوموه الظلمة أكثر من النور لأن أعمالهم كانت شريرة.

لم يحتمل الذين سلكوا فى الظلمة ما نادى به السيد المسيح من تعاليم تحرر الإنسان من قيود الخطية وظلمتها.

ولم يحتملوا إنذاراته للجميع بالتوبة “إن لم تتوبوا فجميعكم كذلك تهلكون” (لو13: 3).

ولم يحتملوا إصغاء الناس له والتفافهم من حوله وقالوا بعضهم لبعض: “انظروا إنكم لا تنفعون شيئاً. هوذا العالم قد ذهب وراءه” (يو12: 19). وامتلأوا حسداً..

لم يحتملوا العجائب والمعجزات التى صنعها، وظهر بها مجده فآمن به تلاميذه (انظر يو2: 11).

ولم يحتملوا أنه كان يقاوم أساليبهم التى تعثر الشعب وتبعدهم عن معرفة الله؛ مثل تعشير الشبث والنعنع والكمون، وفى نفس الوقت ظلم الأرامل والأيتام. أو إطالة الصلوات تظاهراً بالتقوى بلا صلة حقيقية بالله أو طلباً للمنفعة (انظر مت23).

كانوا قد حوّلوا الهيكل الذى هو مكان العبادة والصلاة وتقديم الذبائح طلباً للغفران، إلى موضع للتجارة. فكان الهيكل مكتظاً بباعة الحيوانات والطيور وبموائد الصيارفة.. وأخذت العبادة وضعاً شكلياً، وكأن الرب تهمه ذبائح الكباش والتيوس فقط، ولا تهمه ذبائح شفاه معترفة باسمه، أو قلوب منسحقة أمامه، مع أن “الذبيحة لله روح منسحق” (مز50: 17)

وكما هو مكتوب “غيرة بيتك أكلتنى” (يو2: 17)، فقد تحرّك السيد المسيح بغيرة مقدسة لتطهير الهيكل من كل مظاهر محبة العالم قائلاً لهم: “بيتى بيت الصلاة يدعى وأنتم جعلتموه مغارة لصوص” (مت21: 13).

اصطدم السيد المسيح بمصالح الكهنة والفريسيين من أجل تطهير هيكله المقدس من كل مظاهر الانحراف المعلنة متحاشياً الكشف عن خطاياهم الخفية وغير المعلنة. مع أنه كان يعرفها وكتب لهم بعضاً بإصبعه على الأرض فى وقت سابق، وكانوا يعلمون أنه يعرف خطاياهم.. ووقتها لم يستطع أحد منهم أن يقف قبالته بل انصرفوا مبتدئين من الكبار (انظر يو8: 6، 9).

ولكنهم كانوا يشعرون بخطورة بقاء شخص مثل هذا يعرف خطاياهم، وفى نفس الوقت يقاوم إعثارهم للشعب، ولا يرغب فى بقائهم فى مواقفهم القيادية، حينما لم يستمعوا إلى إنذاراته وتعاليمه ومناداته لهم بالتوبة عن خطاياهم، قائلاً لهم: “إن ملكوت الله ينزع منكم ويعطى لأمة تعمل أثماره” (مت21: 43).. وحينما فهموا أنه قال مثل الكرامين الأردياء عليهم، وحينما تكلم عنهم كقادة عميان يجوبون البحر والبر ليكسبوا دخيلاً واحداً يصيرونه ابناً لجهنم أكثر منهم مضاعفاً.

لهذه الأسباب وكثير غيرها.. ولأن نقاوة السيد المسيح قد كشفت خبثهم ورياءهم، فإنهم قد تآمروا عليه، وذهبوا لإلقاء القبض عليه، وتسليمه إلى أيدى الأمم، بعد تجهيز كثير من التهم الباطلة والافتراءات التى أعلنوها أمام الحاكم الرومانى، الذى علم من أسلوبهم المفضوح أنهم قد أسلموه حسداً أو خوفاً على مصالحهم ورغباتهم المنحرفة.

وهنا قال السيد المسيح لهم: “هذه ساعتكم وسلطان الظلمة” (لو22: 53).

” سلطان الظلمة ” (لو22: 53)

كان لابد للظلمة أن تأخذ فرصتها، وأن تصل إلى أبعد المدى فى غيّها.

وهذه طبيعة الظلمة، أنها لابد أن تأخذ فرصتها كاملة، لكى يظهر النور ويشعر الناس بقيمته وتأثيره، كقول الشاعر {بضدّها تتمايز الأشياء}..

ونعود بأفكارنا إلى بداية الخليقة، حينما “كانت الأرض خربة.. وفصل الله بين النور والظلمة. ودعا الله النور نهارًا والظلمة دعاها ليلاً” (تك1: 2-5).

لماذا فصل الله بين النور والظلمة؟ لأنه “أية شركة للنور مع الظلمة؟” (2كو6: 14).

لا يمكن أن تقوم شركة بين الخير والشر، بين البر والخطية، بين أولاد الله وأولاد إبليس، بين الحق والباطل، بين المحبة والكراهية، بين الاستقامة والإعوجاج أو النفاق..

فمنذ البداية أظهر الله أنه يحب النور، لأنه هو نور وساكن فى النور، وملائكة نور تخدمه.

لهذا نرنم ونقول: }قوموا يا بنى النور لنسبح رب القوات{ (تسبحة نصف الليل). ويقول المرنم “بنورك نرى نوراً” (مز36: 9). وقيل عن الرب “اللابس النور كثوب” (مز104: 2).

ويقول الكتاب “كل ما أظهر فهو نور” (أف5: 13). ويقول السيد المسيح: “سيروا (فى النور) مادام لكم النور لئلا يدرككم الظلام” (يو12: 35). وقال: “أنا هو نور العالم. من يتبعنى فلا يمشى فى الظلمة، بل يكون له نور الحياة” (يو8: 12). ويقول معلمنا بطرس الرسول: “لكى تخبروا بفضائل الذى دعاكم من الظلمة إلى نوره العجيب” (1بط2: 9). وقال أيضاً: “عندنا الكلمة النبوية وهى أثبت التى تفعلون حسناً إن انتبهتم إليها كما إلى سراج منير فى موضع مظلم إلى أن ينفجر النهار ويطلع كوكب الصبح فى قلوبكم” (2بط1: 19). وقيل عن السيد المسيح “كان النور الحقيقى الذى ينير كل إنسان آتياً إلى العالم” (يو1: 9).

أما الشيطان فهو رئيس مملكة الظلمة، ومن يتبعه يمشى فى الظلمة، هو وملائكته الأشرار مكتوب عنهم: “فى سلاسل الظلام طرحهم فى جهنم، وسلمهم محروسين للقضاء” (2بط2: 4).

لهذا فالمقصود بسلطان الظلمة، أى الأوقات التى يمارس فيها الشيطان رغباته الشريرة، ويتركه الله إلى حين ليكشف خداعه، حتى ينفجر النهار ويطلع كوكب الصبح المنير مبدداً كل ظلمات الخطية ومظالمها.

ولكن الشيطان يستطيع أن “يغير شكله إلى شبه ملاك نور” (2كو11: 14). ولهذا ربما ينسب إلى نفسه أنه هو الذى يحمل الحق أو يدافع عنه، ولكن الحق يكشفه فى قلب كل من يحب الحق ويسعى فى طلبه، وقد حذّر الكتاب من الذين يقلبون الحقائق وقال “ويل للقائلين للشر خيراً، وللخير شراً، الجاعلين الظلام نوراً والنور ظلاماً، الجاعلين المر حلواً والحلو مراً” (إش5: 20).

وقد احتمل السيد المسيح ظلم الأشرار وساعتهم وسلطان الظلمة، فى صبر واتضاع عجيبين. فهو “الذى إذ شُتم لم يكن يشتم عوضاً، وإذ تألم لم يكن يهدد بل كان يسلم لمن يقضى بعدل. الذى حمل هو نفسه خطايانا فى جسده على الخشبة لكى نموت عن الخطايا فنحيا للبر، الذى بجلدته شفيتم. لأنكم كنتم كخرافٍ ضالة لكنكم رجعتم الآن إلى راعى نفوسكم وأسقفها” (1بط2: 23-25).

محاكمة السيد المسيح وجلده

” أرسله موثقاً إلى قيافا ” (يو18: 24)

بعد أن قبض الجند والقائد وخدام اليهود على الرب يسوع وأوثقوه، مضوا به إلى حنان أولاً، لأنه كان حما قيافا الذى كان رئيساً للكهنة فى تلك السنة. وكان قيافا هو الذى أشار على اليهود “أنه خيراً لنا أن يموت إنسان واحد عن الشعب، ولا تهلك الأمة كلها” (يو11: 50، انظر يو 18: 14).

وحنّان “أرسله موثقاً إلى قيافا رئيس الكهنة” (يو18: 24).

كان قيافا رئيس الكهنة قد وضع فى قلبه أن يقتل السيد المسيح، وذلك منذ أن أقام لعازر من الأموات. وبدأ كثير من اليهود يؤمنون بيسوع، بسبب هذه المعجزة العظيمة.

وقد استند فى رغبته هذه إلى أن موت السيد المسيح سيكون عوضاً عن الشعب.. أى لكى لا تهلك الأمة كلها.

كان الكهنة والفريسيون قد اجتمعوا وقالوا: “ماذا نصنع؟ فإن هذا الإنسان يعمل آيات كثيرة. إن تركناه هكذا يؤمن الجميع به، فيأتى الرومانيون ويأخذون موضعنا وأمتنا” (يو11: 47، 48).

لم تعجبهم تعاليم السيد المسيح عن محبة الأعداء وعدم مقاومة الشر، وعن الاتضاع والتسامح. وشعروا أنه لو آمن به الجميع، لما صارت هناك قوة لمقاومة الرومان وتحرير الأمة اليهودية..

لم يفكروا فى الحرية الحقيقية.. بالتحرر من الشر والخطية وعبوديتها.. لم يفكروا فى طرد المستعمر الحقيقى لحياتهم وهو الشيطان.. لم يفكروا فى التحرر من الموت الأبدى، الذى استحقه البشر نتيجة دخول الخطية إلى العالم..

كانت أفكارهم جسدانية.. أرضية.. وقد سيطرت شهوة محبة العالم على قلوبهم، وأعمت بصيرتهم.. فقالوا عن النور إنه ظلمة، وعن الظلمة إنها نور. وقلبوا الموازين، وجعلوا من الباطل حقاً.. أما الحق فلم يدركوه.. وطريق السلام لم يعرفوه.. وصارت أرجلهم سريعة فى سفك الدم البرئ.

اجتمع الأشرار وتساءلوا: ماذا نصنع؟ “فقال لهم واحد منهم وهو قيافا، كان رئيساً للكهنة فى تلك السنة: أنتم لستم تعرفون شيئاً، ولا تفكرون أنه خير لنا أن يموت إنسان واحد عن الشعب ولا تهلك الأمة كلها. ولم يقل هذا من نفسه. بل إذ كان رئيساً للكهنة فى تلك السنة تنبأ أن يسوع مزمع أن يموت عن الأمة. وليس عن الأمة فقط، بل ليجمع أبناء الله المتفرقين إلى واحد” (يو11: 49-52).

بالرغم من أن كلام قيافا كان قد صدر من قلب خال من المحبة نحو السيد المسيح، إلا أنه قد نطق بكلام النبوة العجيب كرئيس للكهنة فى تلك السنة. اختار هو القصد حسب قلبه، ولكن الروح القدس هو الذى أوحى بالكلمات وصاغها، دون أن يلغى حرية إرادة قيافا فى مقاصده الشخصية.. مثلما حدث مع بلعام بن بعور النبى الذى كان شريراً فى قلبه وفى مسعاه، ولكنه حينما فتح فاه تنبأ نبوات عظيمة عن السيد المسيح.

قال يوحنا الإنجيلى عن كلام قيافا: “لم يقل هذا من نفسه. بل إذ كان رئيساً للكهنة فى تلك السنة تنبأ أن يسوع مزمع أن يموت عن الأمة” (يو11: 51).

” يموت عن الأمة ” (يو11: 51)

كان موت السيد المسيح هو فداءً أو عوضاً عن الأمة.. عن الشعب.. عن كل من يؤمن به وبفدائه العجيب، ويتحد به فى موته وقيامته (انظر رو6: 3 -8).

مات السيد المسيح على الصليب عوضاً عن الخطاة وقد “جعل نفسه ذبيحة إثم” (إش53: 10). “وهو حمل خطية كثيرين وشفع فى المذنبين” (إش53: 12).

حقاً لقد مات السيد المسيح، واحتمل الآلام بدلاً عن الخطاة. وقيل عنه إنه “بمعرفته يبرر كثيرين، وآثامهم هو يحملها” (إش53: 11).

لو لم يكن السيد المسيح قد مات بدلاً عن الخطاة فكيف يقال “جعل نفسه ذبيحة إثم.. وآثامهم هو يحملها”.

وقيل أيضاً “وفى جيله من كان يظن أنه قُطع من أرض الأحياء، أنه ضُرب من أجل ذنب شعبى” (إش53: 8).

أى أنه ضُرب ومات، لكى يوفى دين شعبه. وقُطع من أرض الأحياء لهذا السبب.

وقد حزن السيد المسيح كثيراً من أجل خطايا البشر. وهكذا حزنت البشرية المفدية على أخطائها فى شخصه القدوس. واعتذرت عن تعدياتها أمام الآب بواسطته “أما الرب فسر بأن يسحقه بالحزن” (إش53: 10).

تقدّم السيد المسيح فى انسحاق وحزن كبيرين أمام الآب، ليعتذر عن خطايا البشرية. وكان يجتاز معصرة سخط وغضب الله.. وقال: “قد دست المعصرة وحدى ومن الشعوب لم يكن معى أحد” (إش63: 3).

كان دور الابن هو التجسد والصلب، وكان دور الآب هو قبول ذبيحة الابن الوحيد رائحة رضى وسرور، تلك التى قدّمها بالروح القدس النارى “الذى بروح أزلى قدّم نفسه لله بلا عيب” (عب9: 14).

ولكن بالرغم من تمايز الأدوار، فإن الأقانيم الثلاثة تشترك فى العمل الواحد وهو خلاص البشرية.

ولهذا فإن العدل الإلهى قد استوفى حقه بصفة عامة.. فصفات الجوهر هى نفسها للأقانيم الثلاثة. وعدل الآب هو نفسه عدل الابن، وهو نفسه عدل الروح القدس.

وهكذا إذ أخلى الكلمة ذاته بالتجسد، وسلك فى طريق الطاعة والاتضاع، نائباً عن البشرية.. استطاع أن يوفى العدل الإلهى حقه.. وهكذا كان الآب مصالحاً العالم لنفسه فى المسيح.

” لطم يسوعَ واحدٌ من الخدام ” (يو18: 22)

بعد القبض على السيد المسيح، مضوا به إلى حنان أولاً لأنه كان حما قيافا الذى كان رئيساً للكهنة فى تلك السنة، ثم أرسله حنان موثقاً إلى قيافا رئيس الكهنة (انظر يو18: 14، 24).

“فسأل رئيس الكهنة يسوع عن تلاميذه وعن تعليمه. أجابه يسوع أنا كلمت العالم علانية. أنا علمت كل حين فى المجمع، وفى الهيكل حيث يجتمع اليهود دائماً. وفى الخفاء لم أتكلم بشئ. لماذا تسألنى أنا. اسأل الذين قد سمعوا ماذا كلمتهم. هوذا هؤلاء يعرفون ماذا قلت أنا. ولما قال هذا لطم يسوعَ واحد من الخدام كان واقفاً قائلاً: أهكذا تجاوب رئيس الكهنة. أجابه يسوع إن كنت قد تكلّمت ردياً فاشهد على الردى وإن حسنا فلماذا تضربنى؟” (يو18: 19-23).

كانت تعاليم السيد المسيح قد حوَّلت الكثيرين من حياة الخطية إلى حياة التوبة. والذين آمنوا به قد شعروا بتأثير ذلك فى حياتهم كما هو مكتوب “كما أهان الزمان الأول أرض زبولون وأرض نفتالى، يكرم الأخير طريق البحر عبر الأردن جليل الأمم. الشعب السالك فى الظلمة أبصر نوراً عظيماً. الجالسون فى أرض ظلال الموت أشرق عليهم نور” (إش9: 1، 2).

لذلك قال السيد المسيح لقيافا: “اسأل الذين قد سمعوا ماذا كلمتهم” لأن حياتهم بعد التغيير هى خير شاهد على سمو تعاليم السيد المسيح، وعلى قوة تأثيرها. وقد بهتت الجموع من تعليمه “لأنه كان يعلمهم كمن له سلطان وليس كالكتبة” (مت7: 29). ليتم ما هو مكتوب “انسكبت النعمة على شفتيك” (مز44: 2).

جاء السيد المسيح لخلاص البشرية، وأراد أن يصنع الخير للجميع، وكان يشتهى خلاص الجميع بما فى ذلك الذين وقفوا ضده وناصبوه العداء. ومن ضمن هؤلاء أيضا قيافا رئيس الكهنة الذى أصدر ضده الحكم بالموت ظلماً.

لم يقصد السيد المسيح أن يهين قيافا حينما أجابه على سؤاله. بل أراد أن يلفت نظره إلى الحق الذى أعمى الشيطان قلبه لكى لا يراه.

وهنا تدخل واحد من خدام الهيكل ولطم السيد المسيح قائلاً: أهكذا تجاوب رئيس الكهنة. وكأنه يغار للرب ولكرامة رئيس كهنته، معتبراً أن السيد المسيح قد أهان قيافا بإجابته هذه.

لم يعلم ذلك المسكين أنه قد لطم رئيس الكهنة الحقيقى يسوع المسيح الذى قيل عنه “أقسم الرب ولن يندم أنت كاهن إلى الأبد على رتبة ملكى صادق” (عب7: 21، مز 110: 4). بل أكثر من ذلك أنه قد لطم السيد المسيح ابن الله الحى الذى تجسد من أجل خلاص جنس البشر. وهو الخالق والديان والمولود من الآب قبل كل الدهور.

إن كان ذلك الخادم قد غار لكرامة رئيس الكهنة الذى على رتبة هارون، والذى كان كهنوته رمزاً لكهنوت السيد المسيح. فكيف يتجاسر أن يلطم من له كهنوت لا يزول إلى الأبد، ومن هو مساوى للآب السماوى فى المجد الإلهى. ولكن هذه هى جهالة البشر الذين أبصروا السيد المسيح حينما أخلى ذاته آخذاً صورة عبد. وإذ وجد فى الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع الآب السماوى حتى الموت؛ موت الصليب.

أشفق السيد المسيح على ذلك الخادم. إذ رآه يتصرف بجهالة ويغار غيرة ليست حسب المعرفة. وأشفق عليه من عواقب فعلته الشنعاء حينما لطم السيد المسيح على وجهه. وأراد أن يصحح له موقفه فقال له: “إن كنت قد تكلّمت ردياً فاشهد على الردى. وإن حسناً فلماذا تضربنى؟” (يو18: 23).

أراد السيد المسيح أن يقتاد ذلك الخادم المسكين إلى التوبة وإلى التبصر فيما يفعله. فقال له هذه الكلمات المفعمة بالحب والنصائح الثمينة.

لم ينفعل السيد المسيح -بالطبع- لسبب الإهانة التى وجهت إليه من أحد خدامه وعبيده. بل تكلّم معه بموضوعية ليقنعه بالصواب. وهكذا قدّم نفسه كخادم للخلاص، محتملاً أخطاء الآخرين فى صبر عجيب. وفى نفس الوقت أكّد بإجابته أنه لم يقصد إهانة رئيس كهنة اليهود، بل أراد أن يلفت نظره إلى ما فيه خيره هو وغيره ممن تآمروا لقتل السيد المسيح.

لقد لطم الكثيرون السيد المسيح على وجهه فى تلك الليلة وكان هو قد ترك لهم خديه ليلطمونهما، لأن هذا ما استحقته البشرية لسبب شرودها وخطاياها، وهو أراد أن يدفع ثمن الخطية التى للإنسان. ولكن اللطمة الوحيدة التى أجاب عنها بمثل هذه الكلمات، كانت هذه اللطمة التى أشفق على ضاربها من عواقب فعلتها التى ظن هو أنه يفعلها بغيرة مقدسة من أجل كرامة الكهنوت. ولم يكن يعلم ماذا يفعل.

قد يتساءل البعض لماذا لم يعط السيد المسيح خده الآخر لذلك الخادم حسبما أوصانا فى العظة على الجبل؟ ونقول إن الخد الآخر قد أعطى لكثيرين. وكان فى هذه المرة هو الحب الذى قابل به السيد المسيح تصرف ذلك الخادم والنصيحة الثمينة التى وجهها إليه فى وقت آلامه.

أما عن الخد الآخر فهو مستعد دائماً كما هو مكتوب “والرجال الذين كانوا ضابطين يسوع كانوا يستهزئون به وهم يجلدونه. وغطوه وكانوا يضربون وجهه ويسألونه قائلين تنبأ من هو الذى ضربك. وأشياء أخر كثيرة كانوا يقولون عليه مُجدِّفين” (لو22: 63-65). أما هو فلم يمنعهم بل تركهم يفعلون به كل ما أرادوا.

” تنبأ من هو الذى ضربك ؟ ” (لو22: 64)

بعد القبض على السيد المسيح “أخذوه وساقوه وأدخلوه إلى بيت رئيس الكهنة.. والرجال الذين كانوا ضابطين يسوع كانوا يستهزئون به وهم يجلدونه. وغطوه وكانوا يضربون وجهه ويسألونه قائلين تنبأ. من هو الذى ضربك؟ وأشياء أخر كثيرة كانوا يقولون عليه مجدِّفين” (لو22: 54، 63-65).

لقد علم اليهود أن السيد المسيح قد عومل من الشعب كنبى عظيم وذلك حينما سمع الشعب تعاليمه وأبصروا معجزاته وقالوا: “قد قام فينا نبى عظيم وافتقد الله شعبه” (لو7: 16).

وبالتدريج بدأ الذين آمنوا به يدركون أن هذا هو المسيح الذى تنبأ وكتب عنه موسى النبى وسائر الأنبياء. وكذلك بدأ تلاميذه يدركون أنه هو ابن الله الحى. وكان ذلك بإعلان من الآب السماوى فى قلوب التلاميذ وعقولهم، حسب الاعتراف المشهور “أنت هو المسيح ابن الله الحى” (مت16: 16).

ولكن عبارة “قد قام فينا نبى عظيم وافتقد الله شعبه” كانت تزعج رؤساء كهنة اليهود والكتبة والفريسيين، الذين لم يؤمنوا بالمسيح بل قاوموا رسالته. وكانوا دائماً يحاولون أن يثبتوا للشعب أن ما فهموه عن السيد المسيح ليس حقيقياً، وأنه ليس نبىٌ بل مضل، وليس هو المسيح إذ قالوا:”ألعل المسيح من الجليل يأتى” (يو7: 41)، وليس هو ابن الله “فمن أجل هذا كان اليهود يطلبون أكثر أن يقتلوه. لأنه لم ينقض السبت فقط، بل قال أيضاً إن الله أبوه معادلاً نفسه بالله” (يو5: 18).

وقد تنبأ السيد المسيح عن قيامته من الأموات فى اليوم الثالث وكان اليهود يخشون من إتمام هذه النبوة. ولذلك فبعد موت السيد المسيح على الصليب “اجتمع رؤساء الكهنة والفريسيون إلى بيلاطس قائلين: يا سيد قد تذكرنا أن ذلك المضل قال وهو حى إنى بعد ثلاثة أيام أقوم. فمر بضبط القبر إلى اليوم الثالث، لئلا يأتى تلاميذه ليلاً ويسرقوه ويقولوا للشعب إنه قام من الأموات. فتكون الضلالة الأخيرة أشر من الأولى” (مت27: 62-64).

وقد اختار اليهود أن يموت السيد المسيح مصلوباً، وذلك لكى يثبتوا للشعب أنه ليس نبىٌ وليس هو المسيح ابن الله. وذلك لأنه مكتوب فى سفر التثنية أن “المعلق (على خشبة) ملعون من الله” (تث21: 23). وقد تصوروا أنه بتعليق السيد المسيح وقتله على الصليب يكون الدليل والإثبات قد تم بأنه مضل ومرفوض من الله، كقول إشعياء النبى “ونحن حسبناه مصاباً مضروباً من الله ومذلولاً. وهو مجروح لأجل معاصينا مسحوق لأجل آثامنا” (إش53: 4، 5).

وقد شرح معلمنا بولس الرسول هذا الأمر. فقال: “المسيح افتدانا من لعنة الناموس، إذ صار لعنة لأجلنا. لأنه مكتوب ملعون كل من علق على خشبة” (غل3: 13). إذن السيد المسيح لم يحمل لعنة شخصية، بل حمل لعنة خطايانا ومحاها بالصليب. وبقيامته من الأموات أظهر الله أنه قد محا هذه اللعنة. لأن القيامة قد محت الموت الذى فى الصليب. فالمسيح له المجد بموته داس الموت.

لقد دفع السيد المسيح الدين الذى على البشرية، وأوفى العدل الإلهى حقه. وبهذا رفع اللعنة التى استوجبناها على أنفسنا بسبب خطايانا.

فى اتضاعه العجيب قبل أن يصير لعنة لأجلنا، وأن يحسب خطية “جعل الذى لم يعرف خطية -خطية لأجلنا، لنصير نحن بر الله فيه” (2كو5: 21). أى أنه حمل اللعنة التى لنا، وحمل خطايانا فى جسده على الصليب. وبهذا جُعل خطية لأجلنا: أى حُسب خطية وهو لم يعرف خطية على الإطلاق.

وحينما قُبِضَ على السيد المسيح أراد الرجال الذين كانوا ضابطين له أن يثبتوا أنه ليس نبىٌ كما قيل عنه. ولذلك غطوه وكانوا يضربون وجهه ويسألونه قائلين: تنبأ من هو الذى ضربك واعتبروا أنه إذا لم يجاوبهم ولم يذكر لهم من هو الذى ضربه فبهذا لا يكون قد تنبأ ولا تنطبق عليه صفة النبوة.

وقد نسى هؤلاء المساكين ما هو مكتوب عن السيد المسيح: “أعطانى السيد الرب لسان المتعلمين لأعرف أن أغيث المعيى بكلمة. يوقظ كل صباح.. بذلت ظهرى للضاربين وخدى للناتفين. وجهى لم أستر عن العار والبصق. والسيد الرب يعيننى لذلك لا أخجل. لذلك جعلت وجهى كالصوان وعرفت أنى لا أخزى” (إش50: 4، 6، 7).

كانوا يتممون النبوات المذكورة عنه، وهم يحاولون أن يثبتوا عكس ذلك. لأن نظرتهم كانت قاصرة ولم يضعوا قلوبهم لفهم الكتب المقدسة.

أما السيد المسيح فبعد قيامته من الأموات وظهوره لتلاميذه قال لهم: “هذا هو الكلام الذى كلمتكم به وأنا بعد معكم، أنه لابد أن يتم جميع ما هو مكتوب عنى فى ناموس موسى والأنبياء والمزامير. حينئذ فتح ذهنهم ليفهموا الكتب” (لو24: 44، 45)

هذه هى طريقة الرب الإعجازية فى أن يترك الخصوم يفعلون ما يريدون، وهم فى الوقت نفسه يثبتون صدق كلامه ومواعيده. فليس العجيب هو أن يتمم الأصدقاء مقاصده بل أن يتممها الأعداء والمسيئون. وهكذا بالاتضاع أحضر السيد المسيح الحق إلى النصرة. وأظهره بكل وضوح.

أرادوا أن يثبتوا أن السيد المسيح لم يكن نبياً، فأثبت لهم السيد المسيح أن الشهادة لاسمه هى روح النبوة. وأن جميع الأنبياء قد تنبأوا عن مجيئه وعن الخلاص الذى صنعه لأجلنا.

تنبأوا عن تجسده العجيب من العذراء مريم، وعن ميلاده فى بيت لحم اليهودية، وعن هروبه إلى مصر من وجه هيرودس الملك وعودته منها، وعن نشأته فى الناصرة، وعن نزوله فى مياه الأردن، وعن تعليمه، وعن معجزاته، وعن تلاميذه، وعن التآمر عليه، وعن خيانة تلميذه الإسخريوطى، وعن محاكمته، وعن آلامه، وعن صلبه، وعن قيامته، وعن صعوده إلى السماوات، وعن مجيئه الثانى وملكوته الأبدى.

لا يوجد شئ فى حياة السيد المسيح لم يتكلم عنه الأنبياء لأن الرب قد أعد لنا خلاصاً عظيماً بهذا المقدار.

الذى بجلدته شفيتم (1بط2: 24)

لم يكن جلد السيد المسيح جلداً عادياً، بل كان جلداً على الطريقة الرومانية ويسمى عقوبة نصف الموت.

كان الكرباج الرومانى مكوناً من يد وثلاثة سيور من عصب البقر مثبتاً فى طرف كل سير منها قطعتين من المعدن أو من عظام الحيوانات.

وقد أثبت العلماء الذين فحصوا كفن السيد المسيح أن الجلد قد تم بهذا الأسلوب بواسطة اثنين من العسكر الرومان واحد من كل جانب. وترك الجلد ستة ثقوب فى جسد السيد المسيح لكل جلدة، وعدد الجلدات التى أمكن إحصاؤها مائة وواحد وعشرين جلدة بخلاف ما لم يتمكنوا من إحصائه لسبب احتراق جزء من قماش الكفن عند الذراعين (من قرب الكتف إلى قرب الكوع). ولكن الجلدات من الواضح أنها شملت الجسد كله من أعلى الظهر والصدر إلى قرب القدمين.

كذلك شرح العلماء الذين فحصوا كفن السيد المسيح أن الجلد الذى كان يلف فيه الكرباج حول الجنب واصلاً إلى الصدر قد مزّق الشرايين المحيطة بالقفص الصدرى، وأحدث نزيفاً داخلياً.

” مملكتى ليست من هذا العالم ” (يو18: 36)

حينما وقف السيد المسيح ليحاكم أمام بيلاطس الحاكم الرومانى، وسأله بيلاطس: “أنت ملك اليهود؟.. أجاب يسوع: مملكتى ليست من هذا العالم. لو كانت مملكتى من هذا العالم لكان خدامى يجاهدون لكى لا أسلم إلى اليهود. ولكن الآن ليست مملكتى من هنا” (يو18: 33-36).

ليس هناك شك فى أن السيد المسيح هو الملك الآتى باسم الرب ولهذا فعند دخوله إلى أورشليم “ابتدأ كل جمهور التلاميذ يفرحون ويسبحون الله بصوت عظيم لأجل جميع القوات التى نظروا. قائلين: مبارك الملك الآتى باسم الرب. سلام فى السماء ومجد فى الأعالى” (لو19: 37، 38).

“وكانوا يصرخون أوصنا مبارك الآتى باسم الرب ملك إسرائيل. ووجد يسوع جحشاً فجلس عليه كما هو مكتوب: لا تخافى يا ابنة صهيون، هوذا ملكك يأتى جالساً على جحش أتان. وهذه الأمور لم يفهمها تلاميذه أولاً. ولكن لما تمجد يسوع حينئذ تذكروا أن هذه كانت مكتوبة عنه وأنهم صنعوا هذه له” (يو12: 13-16).

فى بشارة الملاك للعذراء القديسة مريم بميلاد السيد المسيح قال لها: “هذا يكون عظيماً وابن العلى يدعى ويعطيه الرب الإله كرسى داود أبيه. ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد ولا يكون لملكه نهاية” (لو1: 32، 33).

وحينما جاء المجوس من المشرق قالوا: “أين هو المولود ملك اليهود. فإننا رأينا نجمه فى المشرق وأتينا لنسجد له” (مت2: 2).

وعلى الصليب “كان عنوان مكتوب فوقه بأحرف يونانية ورومانية وعبرانية: هذا هو ملك اليهود” (لو23: 38).

وفى سفر الرؤيا كتب يوحنا الرسول عن السيد المسيح “وله على ثوبه وعلى فخذه اسم مكتوب ملك الملوك ورب الأرباب” (رؤ19: 16).
ملكوت الله


الله هو الملك الحقيقى. وعرشه كائن فى السماء. وكان ينبغى أن يملك الله على شعبه. ولكن شعب إسرائيل أرادوا أن يختاروا لهم ملكاً مثل باقى شعوب الأرض. واستاء صموئيل النبى من ذلك. ولكن الله قال لصموئيل: “لم يرفضوك أنت، بل إياى رفضوا حتى لا أملك عليهم” (1صم8: 7). وأمره الرب أن يمسح لهم الملك الذى أرادوه. ومسح شاول ملكاً. ولكنه لم يكن يطيع الوصايا ففارقه روح الرب وبغته روح ردئ من قبل الرب (انظر 1صم16).

ثم اختار الرب داود ومسحه ملكاً بيد صموئيل النبى. وبالرغم من محبة الرب لداود، إلا أن داود قد أخطأ لسبب الضعف البشرى. كما أنه لم يتمكن من تحرير شعبه من سلطان إبليس الذى سيطر على العالم بواسطة الخطية.

كان ينبغى أن يملك الله نفسه لكى يحرر شعبه من خطاياهم ويمنحهم ميراث الحياة الأبدية.

لهذا جاء السيد المسيح إلى العالم. وحينما سأله بيلاطس “أفأنت إذاً ملك. أجاب يسوع أنت تقول إنى ملك. لهذا قد ولدت أنا ولهذا قد أتيت إلى العالم لأشهد للحق. كل من هو من الحق يسمع صوتى” (يو18: 37).

ولكن المُلك الذى يليق بالله هو المُلك السمائى وليس المُلك الأرضى. لأن عرش الله هو فى السماء. وحينما مَلك السيد المسيح فى مجيئه إلى عالمنا، فقد ملك على خشبة الصليب معلقاً بين الأرض والسماء.. مؤكداً هذه الحقيقة أن مملكته ليست من هذا العالم.

لقد رفضت الأمة اليهودية ملكها واقتادته إلى موت الصليب.. تماماً مثلما رفضت الرب قديماً فى أيام صموئيل النبى من أن يملك عليها ولكن الرب المرفوض قد جعل ملكه العجيب فوق خشبة الصليب. لأن المحبة المرفوضة استطاعت أن تملك.. وأن تنتصر.. وأن تتألق.. وأن تجتذب الجميع..

لهذا قال السيد المسيح: “أنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب إلى الجميع” (يو12: 32). حقاً صار المَلِك المرفوض أكثر جاذبية من كل ملوك الأرض. لأن محبته قد فاقت كل توقعات بنى البشر.

أخيراً أمكن للبشرية أن تدرك مقدار حب الله لها فى المسيح. وأن تسعى نحوه فى فرح وشكر ليملك عليها.. ولا يكون مرفوضاً فيما بعد.. لأنه قد صالحها لنفسه، محرراً إياها من الموت والهلاك الأبدى.

حقا لقد صارت الكنيسة عروساً للمسيح تقبل ملكه الروحى وتنتظر ملكوته السماوى وتعلن مجده وخلاصه فى كل الأرض.. تحمل سماته.. وتعانق صليبه.. ولا تسعى نحو الملك الأرضى لأن ملكها هو فى السماء حيث يجلس عن يمين العظمة فى الأعالى.

السيد المسيح لم يطلب لنفسه مُلكاً.. بل إنه حينما رفض المُلك إلى المنتهى، فقد ملك هناك.. فى نفس الموضع الذى أعلن فيه العالم رفضه له كمَلِك.. لأنه صار هو المَلِك المصلوب.

وكان عنوان علته الذى صلب بسببه مكتوباً فوقه على الصليب “يسوع الناصرى ملك اليهود. فقرأ هذا العنوان كثيرون من اليهود لأن المكان الذى صلب فيه يسوع كان قريباً من المدينة. وكان مكتوباً بالعبرانية واليونانية واللاتينية. فقال رؤساء كهنة اليهود لبيلاطس: لا تكتب ملك اليهود بل إن ذاك قال أنا ملك اليهود. أجاب بيلاطس ما كتبت قد كتبت” (يو19: 19-22).

كانت هذه هى تهمته.. وهى سبب موته.. وموته كان سبباً فى تحقيقها؛ لأن الرب بالصليب قد صنع أمجادًا يحتار فيها عقل البشر، وترتفع بسببها قلوبهم نحو أمجاد السماء.

لأشهد للحق

وقف السيد المسيح أمام بيلاطس الحاكم الرومانى فى أورشليم وقال له: “لهذا قد ولدت أنا، ولهذا قد أتيت إلى العالم لأشهد للحق. كل من هو من الحق يسمع صوتى. قال له بيلاطس: ما هو الحق؟” (يو18: 37، 38).

كثيرون يتساءلون عن الحق.. وآخرون يدّعون أنهم يملكون معرفة الحق.. والبعض يطالب بالحق.. وهناك من يقولون أنهم يقضون بالحق.. وآخرون يبحثون بجدية عن الحق.. وغيرهم من يزيّفون الحق ويتعمدون ذلك، أو يزيّفون الحق بهدف تأكيد ما تصوروا أنه هو الحق.

ما هو الحق؟

هذا السؤال ليس هو ما سأله بيلاطس فقط للسيد المسيح، ولكنه هو سؤال نطرحه فى سياق حديثنا عن الحق.

من المعروف فى تعليم السيد المسيح أن الحق هو الله. فالآب فى جوهره هو حق، والابن فى جوهره هو حق، والروح القدس فى جوهره هو حق.

لهذا قال السيد المسيح عن الآب السماوى: “الذى أرسلنى هو حق” (يو7: 28).

وقال عن نفسه: “أنا هو الطريق والحق والحياة” (يو14: 6).

وقال عن الروح القدس: “روح الحق الذى من عند الآب ينبثق” (يو15: 26).

فالآب باعتباره هو المصدر أو الينبوع فى الثالوث هو “مصدر الحق أو الحقانى” والابن هو “الحق” المولود منه، والروح القدس هو “روح الحق” المنبثق من الآب. ويشبه ذلك أن نقول عن ألقاب الأقانيم الثلاثة أن الآب هو “الحكيم” (رو16: 27)، (يه25)، والابن هو “الحكمة” (1كو1: 24)، (انظر كو2: 3)، والروح القدس هو “روح الحكمة” (إش11: 2)، (أف1: 17).

ونظراً لأن الحق هو الله، فمن أراد أن يعرف الحق عليه أن يعرف الله المعرفة الحقيقية.

عن معرفة الآب قال السيد المسيح لليهود: “لو عرفتمونى لعرفتم أبى أيضاً” (يو8: 19).

وعن معرفة الروح القدس قال: “روح الحق الذى لا يستطيع العالم أن يقبله، لأنه لا يراه ولا يعرفه، وأما أنتم فتعرفونه لأنه ماكث معكم ويكون فيكم” (يو14: 17).

وعن معرفة الابن قال هو شخصياً لتلميذه فيلبس: “أنا معكم زماناً هذه مدته، ولم تعرفنى يا فيلبس! الذى رآنى فقد رأى الآب، فكيف تقول أنت: أرنا الآب؟” (يو14: 9). وقال لتلميذه توما: “أنا هو الطريق والحق والحياة. ليس أحد يأتى إلى الآب إلا بى. لو كنتم قد عرفتمونى لعرفتم أبى أيضاً. ومن الآن تعرفونه وقد رأيتموه” (يو14: 6، 7). لهذا قال معلمنا بولس الرسول عن السيد المسيح: “الذى هو صورة الله غير المنظور” (كو1: 15)، أى أننا نستطيع أن نرى الله حينما نرى السيد المسيح.

أتيت إلى العالم لأشهد للحق

بالرغم من أن السيد المسيح هو “الحق” ولكنه قال إنه قد أتى إلى العالم ليشهد للحق. لم يكن هناك من يمكنه أن يعلن الحق ويشهد له بالقوة التى شهد بها الحق نفسه عن نفسه.

لقد شهد السيد المسيح للآب السماوى، وشهد الآب السماوى للسيد المسيح. وشهد السيد المسيح للروح القدس، وشهد الروح القدس للسيد المسيح. لأن “الذين يشهدون فى السماء هم ثلاثة: الآب، والكلمة، والروح القدس. وهؤلاء الثلاثة هم واحد” (1يو5: 7).

وقد أشار السيد المسيح إلى شهادة الثالوث السمائى فى حديثه مع نيقوديموس بقوله “الحق الحق أقول لك: إننا إنما نتكلم بما نعلم ونشهد بما رأينا، ولستم تقبلون شهادتنا. إن كنت قلت لكم الأرضيات ولستم تؤمنون، فكيف تؤمنون إن قلت لكم السماويات؟ وليس أحد صعد إلى السماء إلا الذى نزل من السماء ابن الإنسان الذى هو فى السماء” (يو3: 11-13).

وفيما يلى بعض الآيات التى تشير إلى شهادة الأقانيم السماوية: الآب والابن والروح القدس:

قال السيد المسيح لليهود: “الآب نفسه الذى أرسلنى يشهد لى” (يو5: 37). وقال: “إن كنت أشهد لنفسى فشهادتى حق” (يو8: 14).

وقال لتلاميذه: “متى جاء المعزى الذى سأرسله أنا إليكم من الآب، روح الحق، الذى من عند الآب ينبثق، فهو يشهد لى” (يو15: 26).

وقال مناجياً للآب السماوى: “أنا مجدتك على الأرض.. أنا أظهرت اسمك للناس الذين أعطيتنى من العالم.. وعرفتهم اسمك وسأعرفهم” (يو17: 4، 6، 26).

وقال عن الروح القدس “متى جاء ذاك، روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق” (يو16: 13).

وقال معلمنا بطرس الرسول فى رسالته الثانية: “لأننا لم نتبع خرافات مصنّعة، إذ عرفناكم بقوة ربنا يسوع المسيح ومجيئه، بل قد كنا معاينين عظمته. لأنه أخذ من الله الآب كرامة ومجداً، إذ أقبل عليه صوت كهذا من المجد الأسنى: هذا هو ابنى الحبيب الذى أنا سررت به. ونحن سمعنا هذا الصوت مقبلاً من السماء إذ كنا معه فى الجبل المقدس” (2بط1: 16-18). وهذه شهادة من الآب للابن سمعها التلاميذ.

وقال القديس يوحنا الحبيب فى رسالته الأولى: “إن كنا نقبل شهادة الناس، فشهادة الله أعظم، لأن هذه هى شهادة الله التى قد شهد بها عن ابنه. من يؤمن بابن الله فعنده الشهادة فى نفسه. من لا يصدّق الله، فقد جعله كاذباً، لأنه لم يؤمن بالشهادة التى قد شهد بها الله عن ابنه. وهذه هى الشهادة: أن الله أعطانا حياة أبدية، وهذه الحياة هى فى ابنه. من له الابن فله الحياة، ومن ليس له ابن الله فليست له الحياة” (1يو5: 9-12).

سؤال بيلاطس

مسكين بيلاطس الذى كان الحق (أى السيد المسيح) واقفاً أمامه، وقال له الحق “أتيت إلى العالم لأشهد للحق!” (يو18: 37). ولكن بيلاطس لم يفهم ولم يعرف فسأل “ما هو الحق؟!” (يو18: 38).

هناك من يؤمن بالحق عبر آلاف السنين، وهناك من كان الحق على بُعد أشبار منه ولكنه لم يعرفه..!!.

” كل من هو من الحق يسمع صوتى ” (يو18: 37)

قال السيد المسيح لبيلاطس الوالى الرومانى: “لهذا قد ولدت أنا ولهذا قد أتيت الى العالم، لأشهد للحق. كل من هو من الحق يسمع صوتى. قال له بيلاطس: ما هو الحق؟” (يو 18: 37، 38).

قبل ذلك قال السيد المسيح لتلاميذه: ” أنا هو الطريق والحق والحياة. ليس أحد يأتى إلى الآب إلا بى” (يو14: 6). أى أن السيد المسيح هو الحق وبهذا يكون صوته هو صوت الحق.

ولكن بيلاطس حينما سأله: ما هو الحق؟ لم يجبه السيد المسيح على ذلك. واكتفى بأن يقول له: “كل من هو من الحق يسمع صوتى”.

الذى هو من الحق: يحب الحق، ويفرح بالحق، ويسعى نحو الحق، ويسمع صوت الحق، ويدافع عن الحق، ويشهد للحق، ويطيع نداء الحق، ويسلك فى الحق، ويتحد بالحق إلى أبد الدهور.

ليس للباطل موضع فى قلبه ولا فى حياته.. بل إن الحق يتأكد فى حياته ويتزايد باستمرار.

تصديق الحق

يتكلّم معلمنا بولس الرسول عن ظهور “ضد المسيح”، وما سوف يعمله من آيات وعجائب كاذبة. وكيف أن الله سيسمح بظهور عمل الضلال للهالكين، لكى يظهر الفرق بين محبى الحق ومحبى الكذب. ويكون ذلك مبرراً لإدانة الذين لم يصدقوا الحق.

يقول عن ضد المسيح هذا “الذى مجيئه بعمل الشيطان، بكل قوة، وبآيات وعجائب كاذبة، وبكل خديعة الإثم فى الهالكين. لأنهم لم يقبلوا محبة الحق حتى يخلصوا. ولأجل هذا سيرسل إليهم الله عمل الضلال حتى يصدقوا الكذب. لكى يدان جميع الذين لم يصدقوا الحق بل سروا بالإثم” (2تس2: 9-12).

هناك نفوس تشتاق إلى معرفة الحق.. وهذه لن يتركها الله. بل بالعكس يعرفها ويعينها للتبنى، ويدعوها لميراث الحياة الأبدية.

قد تتأخر دعوتهم بعض الشئ ليتمجد الله فيهم أو بواسطتهم، حينما يقبلون الحق. ولكن الله الذى سبق فعرفهم، لابد أن يدعوهم لأن الحق الذى يعلنه لهم له موضع فى قلوبهم، بغض النظر عن حالتهم السابقة. ولابد أن يشهدوا للحق حينما يدعوهم وبهذا يتأهلون لنيل القيامة، لأنهم آمنوا برب القيامة، واتحدوا به فى المعمودية بشبه موته، ونالوا قوة قيامته.

وهذا ما شرحه معلمنا بولس الرسول فى رسالته إلى أهل رومية: “ونحن نعلم أن كل الأشياء تعمل معاً للخير للذين يحبون الله. الذين هم مدعوون حسب قصده. لأن الذين سبق فعرفهم سبق فعينهم، ليكونوا مشابهين صورة ابنه، ليكون هو بكراً بين إخوة كثيرين. والذين سبق فعينهم فهؤلاء دعاهم أيضاً. والذين دعاهم فهؤلاء بررهم أيضاً. والذين بررهم فهؤلاء مجدهم أيضاً” (رو8: 28-30).

لابد أن يدعو الله محبى الحق إلى معرفته والإيمان به أثناء حياتهم على الأرض. لهذا يقول معلمنا بولس الرسول أيضاً: “وأما نحن فينبغى لنا أن نشكر الله كل حين، لأجلكم أيها الإخوة المحبوبون من الرب. إن الله اختاركم من البدء للخلاص، بتقديس الروح وتصديق الحق” (2تس2: 13).

الاختيار مبنى على سبق المعرفة، لمن سوف يقبلون الحق. ولهذا قال السيد المسيح: “كل من هو من الحق يسمع صوتى”. والذين هم من الحق يسمعون صوت الحق ويطيعون الحق. ولأن الله قد اختارهم، ولهذا فقد دعاهم وبررهم بالميلاد الجديد، ومجدهم بنعمة الروح القدس.

ويقول معلمنا بولس الرسول أيضاً: “الإيمان ليس للجميع” (2تس3: 2). لهذا وقف السيد المسيح صامتاً أمام بيلاطس الحاكم الوثنى. واكتفى بقوله: “كل من هو من الحق يسمع صوتى”. وحينما سأله ما هو الحق، لم يجبه بشئ لأن الحق لم يكن له موضع فى قلبه.

يكفى أن نرى بيلاطس وهو يصدر حكماً على السيد المسيح بالموت صلباً، مع أنه شهد على نفسه وقال: “إنى برئ من دم هذا البار” (مت27: 24).كيف يتبرأ وهو يصدر حكماً بالموت على شخص برئ لم يجد فيه علة واحدة للموت؟

ألا ينطبق على بيلاطس تحذير الرب بالويل لمن يقولون للنور ظلمة وللظلمة نوراً.. الذين يقلبون الحقائق، ولا يسلكون بمقتضاها.

ألا ينطبق عليه تحذير الرب للقضاة من أن يزيفوا أحكام القضاء، حينما قال: “أيديكم ملآنة دماً، اغتسلوا تنقوا اعزلوا شر أفعالكم من أمام عينى. كفوا عن فعل الشر، تعلّموا فعل الخير. اطلبوا الحق. انصفوا المظلوم. اقضوا لليتيم، حاموا عن الأرملة” (إش1: 15-17).

وها هى أورشليم تحكم بالموت ظلماً على الحق الذى تجسد لأجل خلاصها، والرب يرثيها ويقول عنها: “كيف صارت القرية الأمينة زانية. ملآنة حقاً كان العدل يبيت فيها. وأما الآن فالقاتلون” (إش1: 21).

لو كان بيلاطس قد شهد للحق بالقول والفعل، ودافع عن يسوع المظلوم، وترك الظلم لغيره منقذاً نفسه.. لاستحق أن يعرف ما هو الحق، ومن هو الحق.

لهذا بقى السيد المسيح صامتاً. لأن الحق يتكلم حتى ولو صمت. ويتكلم حتى ولو بدا كأنه قد ضاع. لأن الحق لا يمكن أن يضيع.

أليس هذا ما قيل بفم إشعياء النبى: “من صدق خبرنا، ولمن استعلنت ذراع الرب.. ظلم أما هو فتذلل ولم يفتح فاه. كشاة تساق إلى الذبح، وكنعجة صامتة أمام جازيها فلم يفتح فاه” (إش53: 1، 7).

” الذى أسلمنى إليك له خطية أعظم ” (يو19: 11)

قال هذا يسوع لبيلاطس مشيراً إلى أن خطية اليهود كانت أعظم من خطية بيلاطس.

كان المفروض فى اليهود أن يدافعوا عن السيد المسيح أمام الحاكم الرومانى. لأنهم هم شعبه وخاصته.

ولكنه “إلى خاصته جاء وخاصته لم تقبله” (يو1: 11). وكتب عنه فى سفر زكريا النبى “فيقول له: ما هذه الجروح فى يديك؟ فيقول هى التى جُرحت بها فى بيت أحبائى” (زك13: 6).

من كان يتصور أن نسل إبراهيم -صاحب العهد- هو نفسه الذى يطلب صلب السيد المسيح؟!

ومن كان يتصور أن أبناء إسحق الحبيب الذى سيق إلى الذبح مثالاً للمسيح، هم أنفسهم الذين يطلبون له الموت بإلحاح ويصلبونه بأيدى الرومان؟!

ومن كان يتصور أن نسل يعقوب القديس الوارث للوعد، هو نفسه الذى يتآمر على السيد المسيح مُسلماً إياه إلى قضاء الموت بأيدى الأمم الغريبة؟!

أمام هذه الحقيقة المُرة قال المرنم: “رفضونى أنا الحبيب مثل ميت مرذول” (مز37: 21) بحسب الترجمة القبطية.

وذهولاً من ذلك الواقع الرهيب قال معلمنا بولس الرسول: “أقول الصدق فى المسيح لا أكذب وضميرى شاهد لى بالروح القدس. إن لى حزنا عظيماً ووجعاً فى قلبى لا ينقطع. فإنى كنت أود لو أكون أنا نفسى محروماً من المسيح لأجل إخوتى أنسبائى حسب الجسد. الذين هم إسرائيليون ولهم التبنى والمجد والعهود والاشتراع والعبادة والمواعيد. ولهم الآباء ومنهم المسيح حسب الجسد الكائن على الكل إلهاً مباركاً إلى الأبد آمين” (رو9: 1-5).

كان بولس الرسول يتألم بشدة كلما تذكر أن اليهود أصحاب المواعيد والعهد والشريعة الإلهية، هم أنفسهم الذين رفضوا السيد المسيح وصلبوه، واستمر الكثيرون منهم فى رفضه بعد قيامته من الأموات والكرازة باسمه لغفران الخطايا.. بل زادوا على ذلك مقاومتهم لكرازة الآباء الرسل واضطهادهم للكنيسة فى اليهودية وفى كل مكان تواجدوا فيه خارجاً عن أورشليم.

كانت خطية اليهود أعظم من خطية بيلاطس. لأن بيلاطس كان أممياً، وليس من شعب الله الذين أعدهم الرب آلافاً من السنين لاستقبال المخلّص الوحيد، وكان عندهم أقوال الأنبياء التى تكلمت بوضوح عن صلب السيد المسيح، ولكنهم تغافلوا عنها، بل وتمموا ما جاء فيها بغلاظة قلوبهم.

خطية بيلاطس

لم يكن بيلاطس عادلاً فى حكمه، لأنه حكم بالموت على شخص برئ.. وأصدر أعجب حكم فى التاريخ: البراءة والإعدام على شخص واحد، وفى نفس الجلسة.

فالعجيب أنه قبل أن يصدر الحكم بصلبه -وهو صاحب سلطان- طلب ماء، وغسل يديه أمام الجميع وقال: “إنى برئ من دم هذا البار” (مت27: 24). وقال اليهود: “دمه علينا وعلى أولادنا” (مت27: 25).

ولكن قول اليهود هذا لا يجعل بيلاطس يتبرر، لأنه كان فى سلطانه أن يطلق السيد المسيح حسبما قال: “ألست تعلم أن لى سلطاناً أن أصلبك وسلطاناً أن أطلقك” (يو19: 10). ولكنه لم يطلق السيد المسيح حراً لأنه خاف من اليهود حينما قالوا له “إن أطلقت هذا فلست محباً لقيصر” (يو19: 12).. خاف على نفسه، أو خاف على منصبه.. وكان حائراً متردداً.. على أنه كان داخلياً يميل إلى إطلاق السيد المسيح.

بدأت خطية بيلاطس حينما قال لليهود: “أنا أؤدبه وأطلقه” (لو23: 16). لأنه بهذا قد طبق على السيد المسيح عقوبة الجلد الرومانى القاسية، والتى كانوا يسمونها عقوبة [نصف الموت]. وهذه كانت تتخطى بكثير عقوبة الجلد العبرانى.. وهى التى تسببت فى موت السيد المسيح سريعاً على الصليب لسبب النزيف الداخلى الحاد مع جراحات الصليب الأخرى، والمجهود الرهيب الذى يلزم للمصلوب لكى يستطيع أن يتنفس وهو معلق من ذراعيه.

تصوّر بيلاطس أن خطية صلب المسيح يمكن تفاديها بخطية جلده، ولكنه انزلق فى طريق الظلم خطوة بعد خطوة، ولم يمكنه أن يتراجع، مع أن زوجته أرسلت إليه محذرة تقول “إياك وذلك البار، لأنى تألمت اليوم كثيراً فى حلم من أجله” (مت27: 19). ولكن بيلاطس لم يتجاوب عملياً مع التحذير الرهيب..!!

قد يتصور البعض أن الشروع فى الخطية لا يؤدى إلى خطية.. ولكن الشروع فى الخطية هو مثل الجلد والعذاب الذى يكمل بعد ذلك بالصلب والموت. لأن “الشهوة إذا حبلت تلد خطية، والخطية إذا كملت تنتج موتاً” (يع1: 15) والشهوة هى بداية الطريق إلى فعل الخطية. وقد جلد السيد المسيح متألماً بعنف لكى يشفى حواس الإنسان من الشهوة وتلذذاتها، كما هو مكتوب “الذى بجلدته شفيتم” (1بط2: 24).

حينما امتدت يد بيلاطس بجسارة ليسئ إلى السيد المسيح فى عملية الجلد القاسية، كان قد وضع قدميه على أول طريق الحكم عليه ظلماً بالموت، بينما شهد بيلاطس على نفسه: “لست أجد فيه علة واحدة” (يو19: 4).

ما أقسى هذه اللحظات يا ربنا وفادينا، حينما امتدت تلك الأيادى بجسارة لتربطك وتمدك للجلد بالسياط التى ألهبت ظهرك الحانى. وقد انحنيت يا سيدنا تحت وطأة الآلام الرهيبة والمحرقة، لتشفى جراحات خطايانا فى جسدك الطاهر يا قدوس..!!

” لم يفتح فاه ” (إش53: 7)

حاول بيلاطس أن يدفع السيد المسيح للدفاع عن نفسه بأن يهاجم اليهود، ويفضح أخطاءهم وتآمرهم، فيتحول من موقف المتهم إلى موقف المدعى. وقال له محفزاً: “أما تجيب بشئ؟ انظر كم يشهدون عليك!” (مر15: 4) ولكن السيد المسيح لم يقبل “فلم يجبه ولا عن كلمة واحدة حتى تعجب الوالى جداً” (مت27: 14).. “لأنه لم يرسل الله ابنه إلى العالم ليدين العالم بل ليخلُص به العالم” ( يو3: 17).

بقى السيد المسيح صامتاً، ولم يدافع عن نفسه، ولم يتهم المشتكين عليه بشئ، لأنه “إذ شُتم لم يكن يشتم عوضاً، وإذ تألم لم يكن يهدد، بل كان يسلم لمن يقضى بعدل” (1بط2: 23).

محبته للجميع فاقت كل عداوتهم، واتضاعه فاق كل تصور. لأنه “ظلم أما هو فتذلل ولم يفتح فاه. كشاة تساق إلى الذبح وكنعجة صامتة أمام جازيها فلم يفتح فاه” (إش53: 7).

كان السيد المسيح يعلم أنه يدفع ثمن خطايا البشرية، وأنه قد حمل خطايا الكثيرين، وأنه قد وقف فى مكان الخاطئ.. ولا ينبغى أن يدافع عن نفسه كحامل لخطايا العالم.. فعل ذلك وهو مظلوم.. لأن خطايا البشرية قد ظلمته، كما ظلمته منذ القديم بشكها فى محبته وإطاعتها للحية القديمة.. ولكن فى قبوله لمظالم الصليب قد جسَّد كل الموقف فى أعين البشرية وسمْعها جمعاء.

يسوع أم باراباس

كان الوالى فى اليهودية معتادًا أن يطلق للجميع أسيراً واحداً. ويقوم الجمع بتحديد هذا الأسير الذى يطلق سراحه. وكان لهم حينئذ أسير مشهور يسمى باراباس. “وكان المسمى باراباس موثقاً مع رفقائه فى الفتنة. الذين فى الفتنة فعلوا قتلاً” (مر15: 7).

كان رؤساء الكهنة والكتبة وشيوخ الشعب وكل جمهورهم.. مجتمعين أمام دار الولاية “ففيما هم مجتمعون قال لهم بيلاطس: من تريدون أن أطلق لكم. باراباس أم يسوع الذى يدعى المسيح؟” (مت27: 17).

“ولكن رؤساء الكهنة والشيوخ حرّضوا الجموع على أن يطلبوا باراباس ويهلكوا يسوع. فأجاب الوالى وقال لهم: مَن مِن الاثنين تريدون أن أطلق لكم؟ فقالوا: باراباس. قال لهم بيلاطس: فماذا أفعل بيسوع الذى يدعى المسيح. قال له الجميع: ليصلب” (مت27: 20-22).

هكذا اختارت الأمة الجاحدة رجل قاتل ليطلق حراً وأسلمت عريسها البار إلى قضاء الموت. وهذا ما تفعله كل نفس تختار الخطية وترفض البر الذى فى المسيح.

هذا هو حال البشرية التى لم تعرف ما هو لسلامها، ولم تدرك محبة الله لها.. اختارت طاعة الشيطان ودخلت فى شركة معه بينما رفضت الوصية المقدسة وخسرت شركتها مع الله.

ولكن السيد المسيح جاء ليشفى عصياننا وليدفع ثمن خطايانا، موفياً العدل الإلهى حقه، ومعلناً محبة الله المخلصة والشافية والمحيية. وقد احتمل هذا كله فى اتضاع عجيب مرفوضاً من خاصته.

وقد وبّخ القديس بطرس الرسول اليهود على هذا الموقف الردئ فى طلبهم صلب السيد المسيح فقال: “هذا أخذتموه مسلماً بمشورة الله المحتومة وعلمه السابق وبأيدى أثمة صلبتموه وقتلتموه” (أع2: 23).

كان ينبغى أن يوفى الابن المتجسد العدل الإلهى حقه. وقد تم ذلك بأيدى البشر الخطاة، لكى تظهر بشاعة خطية الإنسان الموجهة ضد الله وضد الإنسان نفسه، بآنٍ واحد، لأن الذى وجهت إليه سهام الكراهية والشر هو الله الظاهر فى الجسد كلمة الله المتأنس.

والموقف بكامله أمام الوالى الحاكم الرومانى يحمل فى طياته رمزاً عجيباً – بالرغم من عدم التطابق فى جميع الوجوه.

الحاكم الرومانى يرمز إلى القضاء الإلهى. وباراباس يرمز إلى الإنسان الخاطئ. ويسوع هو المخلّص.

فلو أطلق يسوع حراً لأسلم باراباس إلى قضاء الموت عقاباً على خطاياه. ولو مات يسوع مصلوباً، لأمكن لباراباس أن يحيا. ويكون يسوع قد مات عوضاً عنه..

وكان التدبير الإلهى أن يموت يسوع عوضاً عن البشرية لينقذها من الموت والهلاك الأبدى..

وبالفعل أسلم يسوع بمشورة الله المحتومة وعلمه السابق إلى قضاء الموت ليكشف بشاعة الخطية ويحرر البشر من سلطانها بالتوبة والإيمان باسمه.

وأطلق باراباس حراً لينظر يسوع معلقاً بدلاً منه فوق الإقرانيون. ولسان حاله يناجى السيد المسيح ويقول:

أنـت لم تنصت إلى الحيــة بـل أخطأت أمى وأصغت لنداها

أنت لم تقطف من الشجرة بل قطفت أمى حراماً من جنـاها

فلمـاذا أنت مصـلوب هنــا؟ وأنــا الخـاطـئ حـر أتبــــاهى

حكمــة يـا رب لا أدركهــا وحنــان قد تسـامى وتنـــاهى ( )



مات عوضاً عنا

البعض يقولون إن المسيح قد مات لأجلنا ليظهر محبته للبشرية. ولكننا نقول إنه مات لأجلنا ومات عوضاً عنا أو بدلاً منا. وعلى الصليب إلتقى العدل والرحمة معاً فى توافق عجيب.

مات على الصليب ليظهر محبته.. ومات على الصليب ليوفى الدين الذى علينا، وليمزّق صك خطايانا كقول معلمنا بولس الرسول: “وإذ كنتم أمواتاً فى الخطايا وغلف جسدكم أحياكم معه مسامحاً لكم بجميع الخطايا. إذ محا الصك الذى علينا فى الفرائض الذى كان ضداً لنا وقد رفعه من الوسط مسمراً إياه بالصليب” (كو2: 13، 14).

وقد ظهر الموقف جلياً فى واقعة باراباس إذ كان ينبغى أن يموت الواحد ويطلق الآخر واختار الرب أن يموت عوضاً عن الإنسان الخاطئ.
موقف اليهود


حينما اختار الشعب الجاحد باراباس فقد نفذوا مشورة الله المحتومة وعلمه السابق ولكن هذا لا يعفيهم من الخطأ الذى ارتكبوه إلا إذا تابوا وندموا على هذه الخطية. لأن معلمنا بطرس الرسول بعد أن ذكر أن ذلك قد تم بمشورة الله المحتومة وعلمه السابق قال مباشرة: “وبأيدى أثمة صلبتموه وقتلتموه” (أع2: 23).

وقال أيضاً لليهود: “إن إله إبراهيم وإسحق ويعقوب إله آبائنا، مجَّد فتاه يسوع الذى أسلمتموه أنتم وأنكرتموه أمام وجه بيلاطس وهو حاكم بإطلاقه. ولكن أنتم أنكرتم القدوس البار وطلبتم أن يوهب لكم رجل قاتل. ورئيس الحياة قتلتموه الذى أقامه الله من الأموات ونحن شهود لذلك” (أع3: 13-15).

وحينما نخس بعض اليهود فى قلوبهم وندموا على خطيتهم الشنيعة، سألوا الآباء الرسل: “ماذا نصنع أيها الرجال الإخوة؟” (أع2: 37). أجابهم بطرس الرسول: “توبوا وليعتمد كل واحد منكم على اسم يسوع المسيح لغفران الخطايا فتقبلوا عطية الروح القدس” (أع2: 38).

إذن فالتوبة والمعمودية هى شرط المغفرة لليهود عن خطيتهم الشنيعة فى صلب السيد المسيح ولا مجال لتبرئتهم من دمه دون تحقيق هذا الشرط.
رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

الانتقال السريع

قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً
الموضوع
ليتبعوه على هذا الطريق بحمل الصليب
الصليب هو الطريق
خلفية موبايل الطريق الى الصليب
الصليب معناه الطريق الي المجد
المسيح في الطريق إلى الصليب


الساعة الآن 12:13 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024