«يَا يَسُوعُ ٱبْنَ دَاوُدَ ٱرْحَمْنِي ! »
بَيْنَمَا يَسُوعُ خَارِجٌ مِنْ أَرِيحا، هُوَ وتَلامِيذُهُ وجَمْعٌ غَفِير، كَانَ بَرْطِيمَا، أَي ٱبْنُ طِيمَا، وهُوَ شَحَّاذٌ أَعْمَى، جَالِسًا عَلَى جَانِبِ الطَّريق.
فلَمَّا سَمِعَ أَنَّهُ يَسُوعُ النَّاصِرِيّ، بَدَأَ يَصْرُخُ ويَقُول: «يَا يَسُوعُ ٱبْنَ دَاوُدَ ٱرْحَمْنِي!».
فَٱنْتَهَرَهُ أُنَاسٌ كَثِيرُونَ لِيَسْكُت، إِلاَّ أَنَّهُ كَانَ يَزْدَادُ صُرَاخًا: «يَا ٱبْنَ دَاوُدَ ٱرْحَمْنِي!».
فوَقَفَ يَسُوعُ وقَال: «أُدْعُوه!». فَدَعَوا الأَعْمَى قَائِلِين لَهُ: «ثِقْ وٱنْهَضْ! إِنَّهُ يَدْعُوك».
فطَرَحَ الأَعْمَى رِدَاءَهُ، ووَثَبَ وجَاءَ إِلى يَسُوع.
فقَالَ لَهُ يَسُوع: «مَاذَا تُرِيدُ أَنْ أَصْنَعَ لَكَ؟». قالَ لَهُ الأَعْمَى: «رَابُّونِي، أَنْ أُبْصِر!».
فقَالَ لَهُ يَسُوع: «إِذْهَبْ! إِيْمَانُكَ خَلَّصَكَ». ولِلْوَقْتِ عَادَ يُبْصِر. ورَاحَ يَتْبَعُ يَسُوعَ في الطَّرِيق.
التأمل: «يَا يَسُوعُ ٱبْنَ دَاوُدَ ٱرْحَمْنِي!».
وصلنا إلى المحطة الأخيرة قبل خط الوصول.
لقد مضى ٥ اسابيع من الصوم الكبير، هل تحررنا من ما يعيقنا عن السير في خطى يسوع ؟
يعطينا برطيما درساً في الحرِّية لهذا الاسبوع.
كما الأبرص و يائيروس وابنته والمرأة النازفة والمخلع والابنين الأكبر والاصغر في مثل الإبن الضال، اعمى اريحا هو صورة عن الإنسان البائس البعيد عن الله. الإنسان المعزول وراء عادات وتقاليد وشرائع، أو الذي اختار فابتعد، أو أُجبِرَ فَنُفِيَ. النتيجة هي انه يسمع الحياة تمر بجانبه، يمضي أيامه كما يستطيع، مسرعاً في كل الاتجاهات، لربما دون ان يشعر أنه على هامش الحياة و دون ان ينجح في تمييز نداء الله.
هي ايضاً حالة الإنسان الذي، في مجال أو في آخر، يضع الله جانبا، في خزانة محكّمة الاقفال، او في بلد بعيد، أو يتجنب النظر إليه فيُحوِّل نظره يميناً أو شمالاً لئلاّ يراه. ليعيش إيمانه من وقت إلى وقت، على إيقاع متقطع. فيُكرِّس وقتاً للعمل، وقتاً للعائلة، وقتاً للتسلية والقليل من الوقت لله. وفي كل الأدوار التي يلعبها، يلبس الشخصية المناسبة، دون أن يجد ذاته في هذا الدور او ذاك.
قصة الأعمى اليوم هي دعوة لنا لنلاحظ كمسيحيين، أن ما يربطنا بالمسيح ليس أمرا خارجياً، ليست مجرد علاقة اجتماعية أو مهنيَّة. ولا علاقة مريض بطبيبه. ولا عبد بسيِّده، ولا رجل بزعيمه. ولا علاقة مخلوقاً تافهاً بإلهاً عالياً متعالياً جبَّاراً. ولا هي علاقة عبادة دورية تنحصر بالممارسة الخارجية.
هي أولاً علاقة حرَّة مبنيَّة على الثقة وثانياً علاقة كاملة تشمل الشخص بأكمله : قلباً، عقلاً، فكراً وقُدرةً. من اصابع اقدامه الى اعلى رأسه. من اعماق بؤسه إلى اقاسي مجده؛ علاقة تدخل في صميم الانسان، تتبنى ضعفه وثقل جسده وعماه و قوقعة حدوده لتحمله إلى التحليق عبر مجرَّات أبعاده على خطى يسوع.
«ثِقْ وٱنْهَضْ! إِنَّهُ يَدْعُوك». فطَرَحَ الأَعْمَى رِدَاءَهُ، ووَثَبَ وجَاءَ إِلى يَسُوع».
إذا لم يكن الإنسان حراً لا يمكنه، لا يعرف ولا يستطيع أن يكون مسيحياً : يثب ويأتي إلى يسوع.
ما لم يختبر الانسان اولاً الحرَّية قد يصعب عليه اكتشاف معنى الحياة المسيحية، أي أن يكون ابن الله. المسيحية تفترض الحرية. “الحرية، هذه الصفحة البيضاء التي وضعها الله في الانسان، كخلية كاملة القدرة، (كالخلايا الجذعية الكاملة القدرة)، التي تمنح الإنسان، إلى اللا نهاية، إمكانية المعصية تجاه محبة الله .
ابحث عن الحرِّية تَتعْلّم ؛ ابحث عن المعرفة تَبْتَكِر ؛ ابحث عن العِلم والابتكار معاً، فلا تستطيع الاَّ أن تحب” ( l’Incandescent Michel Serres).
«فطرح عنه رداءهُ». لم يكن الأعمى اسير شيء. “وثب و جاء إلى يسوع”.
ويسوع هو هذا الإله الذي يسمع نداء كل إنسان وبشكل خاص من كان يظن أنه مهَّمش.
من ميّزات المسيحية هذه الثلاث : الثقة الواعية والحرية المطلقة والفرح الكامل برجاء المجد..
الثقة ليست الايمان. الإيمان هو الاعتقاد، الاقتناع بنظرَّية معيَّنة واعتبارها حقيقة. والإيمان لا يُبَرهَن علمياً، و قد يخطئ الشخص باختياره فيؤمن باعتقادات واهمة. والإيمان لا يظهر فيما ينادي به الإنسان بل فيما يعيش، لانه يفترض أن يتناغم إيمانه مع طريقة عيشه.
اما الثقة فلا يمكن ان تكون إلا في علاقة بين شخصين او اكثر. قد تكون نشطة أو سلبية، في اتجاه واحد أو في الاتجاهين.
ليس المقصود هنا التفاؤل، فمن الممكن أن يكون المرء، في آن معا، متفائلاً ومتشائماً، أو قد يكون لا هذا ولا ذاك. ألتفاؤل و التشاؤم ليسا بالضرورة حالة مستقِرَّة ثابتة عند هذا الانسان او ذاك، فهما قد يتبدّلا بحسب الظروف النفسية او الخارجية.
الثقة تخوِّل المرء ان يقول “نعم” أساسية مرجّحة أن تؤدِّي إلى الفعل (اتخاذ قرارٍ ما والعمل به) مع كل العواقب التي يمكن أن تصدر عنه. الثقة – وهنا نتكلم عن الثقة الاصلية الموجودة في الانسان – هي الركيزة، الصخرة، هي عكس الشعور بالوحدة، بالفراغ. هي التي تُحجّم القلق الوجودي. بالثقة يمكنني مواجهة الواقع وما فيه من شكوك. هي القوة الهادئة التي تُهيِّئ الإنسان للإيمان. ولكن الثقة بدون الفعل تبقى عاقراً، فشرط الفعل هو الحرية.
اما ثقة الله بالإنسان فهي بلا حدود.
اللقاء بيسوع اذاً والتعرّف إليه كمخلص، (الوثوق به واعطائه الثقة، والإيمان بحقيقته، ايماناً يشفي)، يحول الحياة من ” على الهامش” إلى فرح الرجاء. ليس فرحاً عابراً، بل فرحاً صاخباً ينبع من اعماق نفسٍ نالت معجزة الشفاء من المسيح شخصياً. نالت الحياة الجديدة. فصار كل شيء أمامها ضياء. زال الخوف من قلبها لأنها اختبرت الحياة في المسيح، وتطلبها بإرادة حرَّة وثقة يوماً بعد يوم.
كيف أُترجم عملياً في حياتي هذه الميزات المسيحية : الثقة والإيمان والفرح ؟
“إذا كان هناك فرض على المسيحي هو أن يكون فرِحاً”. (بول كلوديل)
يسعدني سماع الأشخاص الذين نالوا هبات شفاء بطرق مذهلة وهم يخبرون، ودموع الفرح تنهمر على وجوههم المشعة بنور المسيح. لو يعي كل منا مقدار هبات الله اليومية له، لأشرق وجهه فرحا وخرج يخبر بأعمال الله.
كل يوم لنا هو معجزة شفاء، كل توبة في مسيرتنا هي عمل خلاص مذهل. لماذا لا يظهر دائماً فرح الرجاء على وجوهنا ؟
هل ينطبق علينا نحن ايضا كلام نيتشيه، (Nietzsche) ؟ الذي يقول ” عليهم أن يرتّلوا بطريقة افضل وان يظهروا لي وجوهاً مُخلّصَة حتى أؤمن بمخلصهم”.
لماذا لا يظهر على وجهي وفي نمط حياتي فرح الرجاء الذي نلته بالمسيح يسوع ؟ هل لأني لم اتحرر بعد؟ هل لأن ثقتي محدودة جداً وإيماني عقيم؟
من منَّا مستعدّ، إذا التقى يسوع في الطريق اليوم، أن يلقي عنه تاريخه وضماناته وقناعاته واللحاق به، كما فعل الأعمى؟
الثقة والإيمان والفرح هي حالات فكرية، روحية ونفسية تتعلق بعضها ببعض. إذا نقصت واحدة غابت الثلاث.
كلما تحرر الإنسان من الامور السطحية اقترب من الجوهر الأساسي، وكلما اقترب من الجوهر الأساسي تآلف مع الحقيقة الاولى، أي أصبح صديقاً للحق: يسوع المسيح.
لماذا أمضي وقتي على ذمّ اخوتي ووضعهم في خانة الخطأة أو الضالين وأحكم عليهم وهم مُخلَّصون بدم المسيح ؟
ألم يأت يسوع ليخلص العالم لا ليحكم عليه، لماذا نحكم نحن على بعضنا البعض ؟
لماذا نُبَشّر بإله “يُهَسْتِر” غيظاً إذا شاهد عارضة أزياء (قليلة الحشمة في نظرنا وبحسب ثقافتنا) ؟ لا أستطيع ان اتخيّل الله مغتاظاً من الجمال. لماذا نلتهي بالقشور؟ اللباس والزينة هما وجه من وجوه الحضارات والثقافات ولا علاقة لهما بالإيمان. لم يأت يسوع على ذكر الثياب إلا لانتقاد الفريسيين على الاهداب الطويلة. ولكن يسوع حذّر من الظن السيئ و الفكر الفاسق والزاني. لا يوجد خطيئة في المأكل والمشرب واللباس. الخطيئة هي في ضمير كل منا.
فليهتم كل منّا بتنقية ضميره وانارة ذهنه وتطهير قلبه، لكي لا يخجل عندما تُعلَن أفكاره.
من الضمير النقي يشرق القلب النيّر و من القلب النيِّر تكون الحياة في حضرة الله التي تفيض فرحا وسلاما ورجاء وحب.
وليتشجع من يسعى إلى البرّ لأن “لا شيئ يمكنه أن يمنع ذوي المشيئات الصالحة من عمل الصلاح، ما لم يجد الشرير ثغرة يتسرب من خلالها إليهم”، (اسحق السرياني).
لا شيء يجعل الفرح ممكناً مثل التقرّب من الحقيقة. عندما أعيش ما أقول أكون في الحقيقة، أدخل في علاقة ثقة مع الله، والثقة تُرّسِخ الإيمان. والثقة والإيمان عندما يملأ قلب الإنسان، يُشرِق وجهه كالشمس ويُضيئ له نور المسيح. فيختبر الفرح، واي فرح!
من يعيش الثقة والإيمان والفرح لا يقدر إلا أن يشهد على محبة المسيح. بحرية و صبر واندفاع وفرح.
خلال هذا الاسبوع الاخير من الصوم (قبل الدخول في اسبوع الآلام) ، تعالوا نبدأ بتحرير أنفسنا… عندنا يمرّ المسيح في طريقه إلى أورشليم، احد الشعانين، نواكبه، لا كمتفرجين، ولكن على مثال ابن طيما، نترك خلفنا ماضينا ونسير إلى الأمام، إلى حياة جديدة بالمسيح، على خطى المسيح، لنربح المسيح.