إن كيفية دخول شعب إسرائيل لأرض كنعان، التي يسميها الكتاب أرض الموعد، تثير الكثير من التساؤلات للقارئ. خاصةً في بعض الحالات، مثل الدخول إلى أريحا، التي قام فيها شعب الرب بإراقة دماء جميع السكان، ومن ضمنهم النساء والأطفال (يشوع ٦: ٢**#1633؛ وهذا يواجهنا أمام أسئلة هامة وصعبة:
كيف يسمح الله لشعبه بدخول واحتلال أرض لشعب آخر؟
وكيف يسمح الله لشعبه بأن يقتل إناس أبرياء، مثل النساء والأطفال؟
سوف لا نتمكن من الإجابة على تلك التساؤلات في هذا المقال، لكن في مستهل هذه السلسلة بنعمة الله. لكن سنتناول في هذا المقال بعض المفاتيح الهامة التي تساعدنا على فهم تعاملات الله مع الشعوب؛ ووضع تلك الأحداث بسياقها التاريخي واللاهوتي من جهة خطة ملكوت الله. إن أهم مفتاح لفهم قضية دخول شعب إسرائيل إلى أرض كنعان، مع جميع حيثياته وحروبه الدموية، هو اعتباره كجزء ثالث من عملية تمخض وولادة عسرة لشعب الرب؛ وذلك لإتمام خطة الله بعدما أنزل الشريعة على موسى. وحدث هذا من خلال استعلان دينونة الله القاسية على شعب مصر؛ وعلى شعب إسرائيل في البرية؛ ومن ثمَّ على شعوب أرض كنعان.
والثلاث مراحل هذه هي كما يلي:
المرحلة الأولى: استعلان دينونة الله على شعب مصر.
المرحلة الثانية: تنقية الله لشعبه، والتي شملت دينونة قاسية له في البرية.
المرحلة الثالثة: استعلان دينونة الله لشعوب كنعان.
إن عملية دخول شعب إسرائيل لأرض كنعان هي المرحلة الثالثة من عملية ولادة شعب الرب، ويجب النظر إليها كالجزء الثالث من هذه العملية، وليس كجزئية قائمة بذاتها من العدم.
إن الله، في المرحلة الأولى، تعامل بيد دينونة قاسية جدًا على الشعب المصري في مصر. ومات كنتيجة لهذا جميع أبكارهم من البشر والبهائم، بالإضافة إلى الآلاف من الناس الذين ماتوا كنتيجة للضربات العشر كالوبأ وغيره. وبعدها، في الجزئية الثانية، أُظهِرت يد دينونة الله القاسية لشعب إسرائيل في البرية بسبب تمرُّدهم وخطاياهم؛ وفيما يلي لمحة عنها:
في خروج ٣**#1634;: ١**#1632;، أراد الله أن يبيد كل شعب إسرائيل ويعيد بناء أمة جديدة، فقط من نسل موسى، بسبب صنعهم وعبادتهم للعجل الذهبي. بعدها قام اللاويون بإجراء قضاء الله للشعب، فقتل في ذلك اليوم نحو ثلاثة آلاف رجل. ولم يكتفي بهذا الرب لكنه قرر أن يعاقب شعبه في الوقت المحدد (خروج ٣**#1634;: ٢**#1639;-٢**#1640؛ فضرب الشعب بوباءٍ ولم يعرف عدد الذين ماتوا (٣**#1635;-٣**#1637. ذات يوم نزلت نار من قبل الرب على إبنا هارون، ناداب وأبيهو بسبب تقديمهم لنار غريبة على مذبح المسكن (لاويين ١**#1632;: ١-٢). وتارة عندما تذمر الشعب، خرجت نار من الله عليهم والتهمتهم، ولم يذكر عدد الذين ماتوا (العدد ١**#1633;: ١).
وعندما تذمر الشعب على موسى وأرادوا تنصيب ملكًا عليهم ليرجعهم إلى أرض مصر، أوشك الله أن يصيبهم بمرض عظيم ليبيدهم (العدد ١**#1636;: ١-١**#1634، فقرر الله أن لا يدخل هذا الشعب إلى أرض كنعان (٢**#1632;-٢**#1635; والعدد ٣**#1634;: ١**#1632;-١**#1637; وتثنية ١: ٣**#1636;-٤**#1632، بل أماتهم في البرية (٢**#1640;-٣**#1632; و٣**#1635;-٣**#1636. جدير بالذكر هنا أننا نتكلم عن ست مئة ألف رجل، غير النساء من ذلك الجيل (العدد ١**#1633;: ٢**#1633; ). وعندما تمردت جماعة من الشعب على موسى: قورح بن يصهار وداثان وأبيرام وأليآب وأون بن فالت من بني رأوبين، مع مئة وخمسين رجلاً (العدد ١**#1638، شق الله الأرض وابتلعت هؤلاء مع عائلاتهم وكل ما كان لهم؛ وبعدها خرجت نار من الرب والتهمت ٢**#1637**#1632; رجل ادّعوا انهم من الكهنة (٣**#1633;-٣**#1635. بعدها أرسل الله وباء على الشعب بسبب التمرد، ووصل عدد الذين ماتوا بالوباء أربعة عشر ألفًا وسبع مئة (العدد٤**#1641. وبعدها تذمر الشعب على موسى وعلى الله مرة أخرى، على الطعام "السخيف" الذي أعده لهم، فأرسل الله حيات سامة إلى الشعب ومات كثيرون من بين إسرائيل (العدد ٢**#1633;: ٤-٥). وعندما أتى الشعب إلى شطيم، بدأ الشعب يزني مع النساء المؤابيات، وعبدوا آلهتهم، فأرسل الله وباء لبني إسرائيل، فمات في ذلك اليوم أربعة وعشرين ألفًا (العدد ٢**#1638;: ١-٩).
والآن على ضوء الضربات القاسية التي أنزلها الله في أرض مصر، وأيضًا الدينونة القاسية التي أجراها الله لشعبه في البرية؛ سنرى أن ما فعله الله بشعوب أرض كنعان لم يكن أكثر صعوبة منهما. لكن جيد أن نستعرض الأسباب التي دفعت الله لإجراء دينونته على الشعوب في أرض كنعان.
إن أول مرة أعلن فيها الله عن عزمه لإدانة شعب الأرض كان على زمن إبراهيم، فقال له:
" ١**#1635; فَقَالَ لأَبْرَامَ: «اعْلَمْ يَقِيناً أَنَّ نَسْلَكَ سَيَكُونُ غَرِيباً فِي أَرْضٍ لَيْسَتْ لَهُمْ (أي أرض مصر ) وَيُسْتَعْبَدُونَ لَهُمْ فَيُذِلُّونَهُمْ أَرْبَعَ مِئَةِ سَنَةٍ. ١**#1636; ثُمَّ الأُمَّةُ الَّتِي يُسْتَعْبَدُونَ لَهَا أَنَا أَدِينُهَا..... ١**#1638; وَفِي الْجِيلِ الرَّابِعِ يَرْجِعُونَ إِلَى هَهُنَا لأَنَّ ذَنْبَ الأَمُورِيِّينَ لَيْسَ إِلَى الآنَ كَامِل “ تكوين ١**#1637;.
منذ وقت إبراهيم والله يريد أن يدين سكان أرض كنعان، الذين دعيوا في ذلك الوقت أموريين، لكن وقت دينونتهم لم يكن مكتمل بعد؛ لأن ذنبهم لم يصل إلى الحد الذي يتطلب تدخل الله. وجدير بالذكر أن دخول يشوع للأرض كان بعدها بحوالي ست مئة عام. أي أن الله صبر على سكان كنعان، على الأقل ست مئة عام ليتوبوا، لكن كما يبدو بلا جدوى.
وفيما يلي لمحة عن بعض الخطايا التي كانوا يمارسوها:
من جهة الممارسات الشيطانية:
وهي تسع ممارسات موجودة في تثنية ١**#1640;: ٩-١**#1636;:
(١) تقديم الأولاد الصغار كذبائح للآلهات. (٢) العرافة، وهي قراءة البخت أو المستقبل بطرق عديدة. (٣) العيافة، وهي التنجيم والأبراج. (٤) التفائل، وهو صنع الأحجبة بهدف الحصول على امتيازات. (٥) السحر، وهو الناس الذين يمارسون قوة خارقة شيطانية. (٦) الرقية، وهو السيطرة على الآخرين بقوة شيطانية. (٧) سأل الجان، وهم الذين يتواصلون مع الشياطين. (٨) التابعة، وهو اللجوء إلى وسيط ليتحادث مع أوراح الموتى. (٩) الذين يمارسون تحضير أرواح موتى.
طبعًا كان الكنعانيون يعبدون الكثير من الآلهات الوثنية، لكن أبرزها الإله بعل، كأعظم إله ذكري، والآلهة عشتاروث، كأبرز آلهة أنثوية. وكانت عبادتهم مرتبطة بالزنى وتقديم الذبائح البشرية، فعشتاروث هي آلهة الإخصاب؛ وكان في معبدها حجرات خاصة لممسارسة الزنى كجزء من الشعائر لعبادتها.
أما من جهة الزنى:
وهو ممارسات رجسة كثيرة نراها في لاويين ١**#1640;:
زنا الرجل مع: الأم؛ زوجة الأب؛ الأخت؛ ونصف الأخت التي هي من الأم فقط أو من الأب؛ الحفيدة؛ العمة؛ الخالة؛ زوجة العم؛ الكنة؛ إبنة زوجة الأخ؛ أمرأة وابنتها معًا؛ حفيدة الزوجة؛ أخت الزوجة؛ زوجة الجار؛ الحيوانات؛ بالإضافة إلى زنى الرجال مع الرجال (المثلية). وكل ما سبق ينطبق على النساء أيضًا، لكن بالعكس.
ويقول الرب لموسى في نفس الأصحاح بعد تلك الآيات مباشرةً:
"**#1634**#1636; بِكُلِّ هَذِهِ لاَ تَتَنَجَّسُوا لأَنَّهُ بِكُلِّ هَذِهِ قَدْ تَنَجَّسَ الشُّعُوبُ الَّذِينَ أَنَا طَارِدُهُمْ مِنْ أَمَامِكُمْ ....٢**#1639; لأَنَّ جَمِيعَ هَذِهِ الرَّجَاسَاتِ قَدْ عَمِلَهَا أَهْلُ الأَرْضِ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ فَتَنَجَّسَتِ الأَرْضُ. ٢**#1640; فَلاَ تَقْذِفُكُمُ الأَرْضُ بِتَنْجِيسِكُمْ إِيَّاهَا كَمَا قَذَفَتِ الشُّعُوبَ الَّتِي قَبْلَكُمْ (أي أن الله عادل، وليس عنده محاباه، وإذا فعل شعبه نفس رجاسات الأمم، سيُطردوا من الأرض مثلهم ).”
إذا لم تكن يد الله حازمة فقط على الشعب في أرض كنعان، بل ابتدأت على فرعون وشعبه، واستمرت على شعب إسرائيل في البرية، لتنقيتهم وتقديسهم ليكونوا شهادة للأمم؛ واستعلان مجد إله إبراهيم أمام آلهات المصريين وآلهات كنعان. وبعدها قام الله، بعدما قدس شعبه، باستخدامه كأداة لدينونة الشعوب الساكنة في أرض كنعان. سنرى بنعمة الرب، من خلال هذه السلسلة، أن الله إله عادل، وليست عنده محاباة، ويتعامل مع جميع الشعوب بنفس المبادئ والمعايير من حيث القضاء والرحمة. وله خطة كاملة وصالحة لأجل جميع الشعوب لأنه يحبهم جميعًا.