رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
القداسة: هل هي ممكنة في عصرنا؟ مقدّمة: باريس، في سنّ العشرين إنّ الإحساس بالزمن لدى الراهب الذي انكفأ عن العالم ليعيش في الموانئ السّلاميّة، أعني الأديار، يختلف عن إحساس أهل العالم المُنغَمِسين حُكْمًا في دوّامة الأحداث. في الدّير، يبدو الزّمن واقفًا، والسُّنون تَكُرُّ على وَقْعٍ وَحيدٍ هو تَتالي الأعياد والأصوام. فالحياة الرُّهبانيّة في جَوْهَرِها خارجةٌ عن نطاق الحوادث، ولا ينبغي أن يلفُت الراهبُ الأنظار. ففيما أنا بينَكم شيخٌ أشْيَبُ، يُساوِرُني الشعور بأنّي واحدٌ منكم، ما زلتُ في السابعة والعشرين، كما حين دخولي الجبل المقدّس، منذ حوالي ثلاثٍ وثلاثين سنة. وأنتهز هذه الفرصة لأحدّثَكم عن نظرتي للحياة لمّا كنتُ في العشرينات من عمري، وكيف صِرْتُ إلى جبل آثوس. عندما دخلتُ الجامعة، بُعَيْدَ أحداث أيّار 1968 ، لم أُشارِكْ في الحياة السِّياسيَّة الجائشة المُضطَربة في تلك الفترة، ولكنّني، ضِمنيًّا، شاطَرْتُ أبناءَ جيلي مَطاليبَهم. تلك الفترة عَرفَتْ تيّاراتٍ فلسفيّةً سياسيّةً تستلهمُ المذهب الإشتراكيّ، وتناهِضُ مجتمعَ الإستهلاك، ولكن بنسبة عالية من الرومنطيقيّة. آنذاك أُعميَت عيونُنا، ولم يُرِد أحدٌ من “اليَساريّين” أن يرى حقيقةَ البلاد التي حَسِبْناها “أرض النعيم”، كالصّين أيّام ماو Mao وكوبا. في الاجتماعات التي سادَتْها الشِّعارات الحماسيّة الثوريّة، لَفتَني أنّ كلّ ما اقترحَهُ هؤلاء من أجل التَّحَرُّر ليس سوى استعبادٍ أكبر للأُدْلوجة idéologie التي أطلقوا عليها إسم “مصلحة الشعب والعمّال”. مع مُرور الزَّمن، تأكّد لي صوابُ إحساسي. فقد انهارَت الشّيوعيّة انهيارًا مُفاجئًا، كاشفةً أنّها لم تتمكّن من الانتشار إلاّ لقاءَ القَمع والاضطهادات المتحيِّزة، الممارَسة باسم الشَّعب (كما حدَثَ في أيّام الثّورة الفرنسيّة). وفي غضون سنوات قليلة، اضمحلّت الفلسفات الماركسيّة كالغبار، ولم يبقَ في طبقة مثقَّفي باريس مَن يَجرؤ ويَنسِبُ نفسَه إليها. أمّا قبل عشر سنوات، فلم يَكُنْ لائقًا ألاّ ينتمي المَرء على الأقلّ إلى الحزب الشيوعيّ. ونذكر مثلاً أنّ جان بول سارتر، الذي خلَبَ أَلبابَ جيل ما بعد الحرب، أخذَ يُوَزِّعُ مَناشير مُوالِيَة “لماو تسي تونغ” عند مَداخل المعامِل، لكي يُطابق بينَ أفكاره “والتزام الثورة”! كم بدَتْ تلك الأنشطة الحِزبيّة سخيفة واهية! |
04 - 07 - 2016, 01:45 PM | رقم المشاركة : ( 2 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: القداسة: هل هي ممكنة في عصرنا؟
إذًا، زالت الماركسيّة في سَنوات قليلة، ولكنّها خلّفت عشرات ملايين الضّحايا، وهو رقم قياسيّ في التاريخ، يَحدونا، مع اعتبار النّازيّة، على وصف القرن العشرين بأنّه قَرن المذاهب السّياسيّة (الأُدلوجات idéologies) الفاتِكة. وَلَئِنْ زالَتْ هذه بشكلها السّياسيّ، فإنّ بعض أفكار “أيّار 68‘” أحدثَتْ فِعلاً ثورة خُلُقيّة في العالم الغربيّ بأسره.
تلك الأيّام التي أكملتُ خلالَها دراستي الجامعيّة هي حقبة من التاريخ زَعزعَتْ أُسُسَ السّلوك برمّتها، وقَلَبَتْ المَفاهيم في مَيْدانَي الجنس والأخلاق، فأحدثَتْ ثَورة خُلُقيّة امتدَّت عَواقبُها على المدى الطّويل امتدادًا أفعل من التغيّرات السياسيّة، مهما تكن هذه جذريّة، وقد أمست العَودة عنها غير معقولة. أدّت هذه الثورة الخُلُقيّة إلى تفكُّك الأُسرة، وانهزام كلِّ سلطة، وانهيار مفاهيم الدّين والمُثُل العُليا التي ربطت أواصر شعبٍ كاملٍ، كحُبّ الوطَن، أو بذل الذات، وسواها. يا للمفارقة، لقد انتَصر الفَوضويّون، لا سياسيًّا، بل خُلُقيًّا، حيث يسود اليوم مُعظمَ المجتمعاتِ الغربيّة “تحرّرٌ فوضويّ”. والذين أرادوا القضاء على المجتمع الرأسماليّ أمسوا من أغنياء رجال الأعمال أو من رجالات السيّاسة، ولكنّهم لا يزالون يحاولون ضرب سائر أسس المجتمع الذي أنشأته المسيحيّة منذ ألفَي سنة، من أجل أن يفرضوا “مبدأ اللذّة”، يعني سيادة الفرد المتروك إلى أبسط ميوله الغريزيّة. فمنذ القرن التاسع عشر، وضَعَ علم التحليل النفسانيّ (psychanalyse) هذا المبدأ في أساس شخصيّة الإنسان، فيما ينظر إليه اللاهوت المسيحيّ كمصدر سقوط الإنسان الأوّل (ما يسمّيه الآباء حُبّ الذات philautia). |
||||
04 - 07 - 2016, 01:45 PM | رقم المشاركة : ( 3 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: القداسة: هل هي ممكنة في عصرنا؟
بالتالي، أصابَ من حَدَّدَ المجتمعَ الغربيَّ بأنّه “مجتمع الشهوة”, بالأحرى من “مجتمع الاستهلاك”. فالاقتصاد العالميّ بأسره يقوم على تغذية حاجات لا تنتهي بوساطة الدِّعاوة (او “دعاية” publicité )، من خلال المناداة بوعود لَذّاتٍ سهلة متواصلة، تنأى عن الحاجات الحقيقيّة للإنسان. والهدف الوحيد من هذا هو إشباع الرغبة، وتثبيت “الأنا”.
هذه إذًا عاقبة “الأُدْلوجات” التي حَشَدَتْ في الطُّرقات آنذاك أترابي من الشّباب. معظمهم حرّكته في البدء روح شهامة صادقة، ولكنّهم انخدعوا بمنطق عنيد لا بدّ أنّ شخصًا خفيًّا أثاره فيهم، ما هو إلاّ الشيطان. |
||||
04 - 07 - 2016, 01:45 PM | رقم المشاركة : ( 4 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: القداسة: هل هي ممكنة في عصرنا؟
عواقب الثورة الخلُقيّة: مجتمع الشهوة والعزلة
وتَبِعَتْ هذه الأحداث ثورةٌ أُخرى، هي ثورةُ المَعلوماتيّة ووسائل التواصل المباشَر، حتّى أمكَنَنا اليوم أن نطّلع اطّلاعًا مباشَرًا على كلّ شيء تقريبًا. كلٌّ منّا له أن يصل إلى كمّيّة معلومات لا يمكن لأحد التّحكّم بها، ولا حتّى ترتيب محتوياتها كما يجب. فبهذه الطّريقة، انتصر وَهْمٌ آخر، وَهْمٌ قائمٌ على المعرفة المباشَرة السّهلة، وعلى شبكات الترابُط interconnexion، وعلى عالم ظاهريّ (virtuel)، كلّما غاصِ فيه المرء غَرَّقَه في عزلة كُبرى. ولا داعي هنا لأَسوقَ لَكُم مثَلاً واضحًا عن شُبّان يُقيمون صداقات في أربع أقطار الأرض، ولا يعرفون أن يكلّموا المقرَّبين منهم. وحتّى لو استطعنا أن نستعلم عن كلّ ما يجري في العالم، فنادرون يعرفون أن يجدوا التفسير السّديد لهذه المعلومات، سيّما أنّ أخصّائيّي الإعلام يتلاعبون بها ليَجنوا أرباحًا طائلة. وما يزيدُ الوضعَ تناقضًا وتعقيدًا، هو أنّ هذه الوسائل الجديدة تُضاعف إمكانيّة حرّيّة التعبير لدى الأقلّيّات، ما كان مستحيلاً في العهد الإعلاميّ السالف، حيث تَحكَّمَتْ الدُّوَل والشَّركات الكبرى بالإعلام. مثالاً على ذلك، أنّ المعلومات الوحيدة الصّادقة حول ما جرى في “كوسوفو” خلال الحرب أعطاها للعالم كلّه راهب واحد من دير ديتشاني. أمّا الآن، فالنّاس كلّهم في تواصل مع الناس. والحقّ إنّ مُستخدِمي هذه الوسائل يُستعبَدون لها أكثر فأكثر، ويَبتلعون في جمود تامّ المذاهب والأفكار التي تُقدَّم لهم جاهزة بشكل صوَر يسهل هضمها. والمصيبة أنّ عالم الإعلام لديه من قوّة الجاذبيّة ما يصعب معه السيطرة على الوقت وتقدير المنفعة الفعليّة المجتناة منه. هذا يتطلّب نضوجًا كبيرًا قد نكتسبه على مدى بضع أجيال، عندما سيشعر الناس بالتُّخمة من المعلومات والصُّوَر، ويجدون الأجسام المضادّة لها anticorps، فلا يأخذون منها إلاّ المفيد. ولكنّنا ما زلنا بعيدين عن هذا النّضوج، ما عدا استثناءات نادرة. |
||||
04 - 07 - 2016, 01:46 PM | رقم المشاركة : ( 5 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: القداسة: هل هي ممكنة في عصرنا؟
هذا المجتمع الإستهلاكيّ دخل منذ زمن بعيد في عمليّة تدمير ذاتيّ تجرّ خلفها الطّبيعة (الأزمة البيئيّة)، والعالم بأسره (العَوْلمة). إلاّ أنّ معظم الغربيّين ما زالوا عميانًا، يظنّون أنّهم مستمرّون في “التحرّر” من قيود المجتمع البُرجوازيّ (المحافظ). والنتيجة واضحة: أزمة إقتصاديّة وخُلُقيّة شاملة، وانعزال أشخاص لا يؤمنون بشيء، وسعي جنونيّ إلى إشباع الرغبات الأنانيّة والروح المادّيّة، فطلاقٌ، فإجهاضٌ، فانتحارٌ، وهلمّ جرًّا.
هذا الانهيار ما زال في أوّله، ولكنّه عاقبة أدلوجة هي منطق “الاستقلاليّة” الشيطانيّ، منطق عشق الأنا التي تنتصب كأنها صنمُ “بُغضِ الله”.إنّ عالَم العَولمة والتواصل أمسى عالَمَ الانعزال وانقطاع الشركة بين الناس، الذين باتوا أرقامًا أو أشياء. |
||||
04 - 07 - 2016, 01:46 PM | رقم المشاركة : ( 6 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: القداسة: هل هي ممكنة في عصرنا؟
• حصيلة التاريخ أتت هذه الحالة حصيلة مسيرة تاريخيّة طويلة. فمن وجدانيّة القدّيس أغسطينوس subjectivité التي قَوْلَبَت الثّقافة الغربيّة بجملتها (أدب السِّيَر الذاتيّة، مثلاً)، انتقلنا إلى تحليل عقلانيّ للكون وللمبادئ الدّينيّة (مثل تطبيق مناهج أرسطو في اللاهوت ابتداءً من القرن الثاني عشر). من هنا، نشأت العلوم التي ادّعت كشف أسرار الطبيعة، مبعدةً الله تدريجيًّا. شيئًا فشيئًا، بدت فرضيّة “العلّة الفائقة” للوجود رأيًا زائدًا لا ضرورة له، فحاولوا التخلّص منها. ومن المذهب الإنسانيّ المعجَب بالآداب القديمة، في القرن السادس عشر، وصلنا إلى عقلانيّة القرن السابع عشر rationalisme (مع ديكارت) – وما هي في الحقيقة سوى عاقبة علمانيّة للاّهوت السخولاستيكيّ ، ومنه إلى فلسفات المذاهب الطّبيعيّة (naturalisme)، وعهد التنوير (Les Lumières)، حيث زعم العقل أنّه تحرّر من الدّين، ومن الله ذاته، باسم العِلم. ومن هذا التّنوير وُلِدَت الثورة الفرنسيّة، وأفكار التحرير الوطنيّ، وشرعة حقوق الإنسان ذات القدسيّة المطلقة، وهي حقوق الفرد، التي تسمح اليوم بالتدّخّل العشوائيّ في حياة البلدان والناس. ثمّ الاقتصاد الرّأسماليّ، وما نَعهَدُ فيه من جنوح الإنسان إلى استغلال الإنسان. أمّا القرن التاسع عشر، عصر الثورة الصّناعيّة، فأوجَدَ بدوره فلسفات تدّعي أنّ “الله مات”، حاولَ الناس بها الانعتاق من الدّين انعتاقًا أكبر، ليبرّروا سيطرة الإنسان على الطبيعة. وما إن أُعلِنَ “موت الله” نظريًّا، لم يبقَ إلاّ تلقّي التَّبعات القصوى لذلك. وهذا ما يصفه دوستويفسكي في شخصيّات شباب مُنادين بالعَدَميَّة هيّأوا للثورة الرّوسيّة. |
||||
04 - 07 - 2016, 01:46 PM | رقم المشاركة : ( 7 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: القداسة: هل هي ممكنة في عصرنا؟
وبعد أن تمهّد السبيل للمتطرّفين، – وما هؤلاء سوى أشخاصٍ يَحصُدون ما زَرعوه، ويعرفون أن يتلقّوا النتائج المُتوقَّعة لمبادئ تتبنّاها غالبيّة الناس-، تمّ تطبيق هذه المبادئ في السّياسة، فأدّى هذا إلى القرن العشرين، وهو القرن الذي عرفَ مَوتَ الإنسان، مع الحربَين العالميّتَن، والقنبلة الذّرّيّة، ومعتقلات الموت…
عَقِبَ هذه الكوارث، وبعد مبادرة مفعمة من روح الشهامة والمصالحة تَلَتْ الحرب العالميّة الثانية مباشرةً، استعاد الفلاسفة نظريّات القرن السّابق، واقتفى أثرَهم روّاد الفنّ، ليروّجوا لإلحاد جذريّ ونزعة إنسانيّة تدّعي إرضاء الأنا أساسًا لها، وتتخطّى كلّ حاجزٍ قد يقف في وجه هذا الإشباع لمبدأ اللذّة. وها نحن الآن، نساءٌ ورجالٌ يدّعون أنّهم “متحرّرون”، ويزدادون شقاءً، لا على المستوى المادّيّ فحسب، بسبب انهيار النظام الاقتصاديّ، بل بسبب فقدانهم معنى الحياة، وتَعَسِهِم النّفسيّ والروحيّ. |
||||
04 - 07 - 2016, 01:46 PM | رقم المشاركة : ( 8 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: القداسة: هل هي ممكنة في عصرنا؟
• البحث عن معنى الحياة أمّا أنا، فلم تَروِ غَليلي الأدلوجات idéologies الرّائجة، وبدأتُ أبحث عن معنى وجودي. وبفضل لقاءات ومطالعات حول الحضارات الشّرقيّة التّقليديّة، اكتشفتُ أنّ المجتمع الغربيّ المعاصر هو المجتمع الوحيد الذي يدّعي أنّه تأسّس على مبدأَي التقدُّم واستقلاليّة الفرد، فيما سائر الحضارات التي عرفَها التاريخ ترتكزُ على “التُّراث” tradition ، لا بمعنى مجرّد تكرار الماضي، بل كمبدأ مُحيٍ مُحَمَّل بالمعاني، تُستقى منه القِيَم وأسباب الوجود، وهو ما يربط الناس ببعضهم، وبأسلافهِم من الناس، وبالكون، وبالله تعالى. وإنّ بعض الاطّلاع على ديانات الشرق الأقصى، سنح لي أن أدرك كذلك أنّ معنى حياة الإنسان ليس في تكديس الخيرات المادّيّة، بل في اختبار ما يتجاوز الحياة البشريّة العابرة. هذا أثار فيّ اهتمامًا بالحياة الروحيّة، شأني شأنَ كثيرين من أبناء عصري، الذين لجأوا، ولا يزالون، إلى الشرق الأقصى، في سعيهم إلى حياة التصوّف. إلاّ أنّ تلك الحياة غالبًا ما امتزجت لديهم بالأوهام، وابتعدت عن واقع الحياة في مختلَف المجتمعات. كما أنّ تلك الكتابات الصوفيّة الشرقيّة بدت لي غريبةً تمامًا عن معنى الإله الشّخصانيّ الذي عرفتُه في طفولتي، وأحسستُ به في قلبي. فلمّا تابعتُ بَحثي، وفي نفسي ظمأٌ إلى الحقّ، صِرتُ إلى اكتشاف آباءِ الكنيسة، وطقسِ القُدّاس الأرثوذكسيّ، اكتشافَ المُعجَب المُندَهِش، وبَدا لي كُلٌّ منهما نافذَةً مفتوحةً على سرِّ الله الحيّ، والحياة الأبدّية. |
||||
04 - 07 - 2016, 01:46 PM | رقم المشاركة : ( 9 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: القداسة: هل هي ممكنة في عصرنا؟
أثَّر فيّ هذا الاكتشاف تأثيرًا كبيرًا، لأنّه أظهرَ لي أنّه لا حاجة لتقصّي معرفة فلسفيّة (غنوصة gnose) هي حَكرٌ على العارِفين، إنّما الكنزُ في متناوَل كُلِّ إنسانٍ مُعَمَّد. وهذه “الحياة الأكثر وفرةً” (يو10، 10) التي يُظهِرُها لنا القُدّاس الإلهيّ هي حياة الله بالذات. لا بل إنّها الله نفسه الذي يسمح لنا بمشاركته، ويعطي العالم وحياتنا معنى إيجابيًّا. فبفضل القدّاس الإلهيّ في الكنيسة، يصبح وجود كُلٍّ منّا مرقاةً إلى الشركة الأبديّة مع “المطلَق”، لا “وهمًا كَونيًّا”، كما يُصَوِّرُه الشرق الأقصى. وهذا “المُطلَق” هو شخص، وليس شيء. إنّه كائنٌ فائق السموّ ولكنّه يحبّني. هذا المفهوم لا يمكن أن تقبلَه حركات التصوّف الشرقيّة التي تقول “بالذوبان”، وباضمحلال الشخص في محيط اللامتناهي. وحدَها المسيحيّة تجرؤ وتنادي الله عن حقيقة “أبانا”. في الحضارات الأخرى، هذا الإسم له معنى الاستعارة.
مُذّاكَ، بدا لي القدّاس الإلهيّ الطريق إلى حلّ المشاكل الوجوديّة التي يواجهها أبناء عصرنا، بقدر ما يُدركون بُطلان “أصنام” مجتمع “التحرّر” المزعوم، فينطلقون للبحث عن معنى للوجود. احتفظتُ من أيّام تيّارات المعارضة في سنة 1968 برفض المساومات وبشوق إلى المطلَق، وبرفض المألوف، وبمَقتِ الشِّعارات الثوريّة المُصنَّعة والانجذاب نحو النجاح والمال. فغيَّرتُ دراستي، ووَقَفْتُ نفسي على البحث عن المعاني الرَّمزيّة في الطُّقوس المسيحيّة، سيّما معنى الزمن فيها، وعلى اكتشاف التراث الآبائيّ حول دعوة الإنسان إلى التألّه بالمسيح. |
||||
04 - 07 - 2016, 01:46 PM | رقم المشاركة : ( 10 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: القداسة: هل هي ممكنة في عصرنا؟
• هدف الحياة المسيحيّة
من خلال مطالعة كتب الآباء، اكتسبتُ نظرةً للمسيحيّة مختلفة تمامًا عن تلك التي تلقّيتُها في طفولتي الكاثوليكيّة. اكتشفتُ أنّ المسيح لم يأتِ ليؤسّس ديانةً أُخرى، لها أنظمتها ومحرَّماتها، تُسْهِمُ في حُسْنِ سَير المجتمع. لا، أتى أوّلاً ليُحَرِّرَنا من الموت، أي من عُزلة الفَردانيّة individualisme والخِناق الذي تُطوِّقُنا به. أتى ليفتحَ لنا طريقَ السماء، طريقَ الشركة مع الله، والاشتراك في جسده المقدّس. إذً ليست المسيحيّة “مؤسَّسة” من مؤسَّسات هذا العالم، بل هي حدَث الخلاص الذي أتمّه شخص الإله المتأنّس. إنّها حدَثٌ وَقَعَ في مكان وزمان محدَّدَين، في فلسطين المحتلّة من الرومان، ولكنّه حدثٌ مستمِرٌ في سرّ الكنيسة. كان الأب بورفيريوس يؤكّد أنّ المسيح لم يأتِ ليسود علينا، أو ليفرض علينا شريعةً، إنّما ليصيرَ “أخانا” و”صديقنا الحميم”. أتى لِيَؤولَ بنا إلى ذَوقِ حَضرةِ الله في صَميم جَسَدِنا. ليس المسيح حكيمًا من حُكماء هذا العالم، ولا مُتنفِّذًا جبّارًا، إنّما هو مِلْءُ العذوبة والمحبَّة الذي يُقَرِّبُ لنا ذاته لنتناولها . لقد علّم القدّيس سيرافيم ساروف أنّ هدف الحياة المسيحيّة هو اقتناء الروح القدس. فلا مسيحيّة من دون هذه المشاركة في حياة الله، وهي الحياة بالروح القدس التي أرسلها لنا المسيح يوم العنصرة، لكي يُشرِكنا في قداسة الله. |
||||
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|