فن إدارة الخلافات الزوجية دكتور / محمد المهدي استشاري الطب النفسى
§ ... نحن مختلفين في أشياء كثيرة , في شخصياتنا وفي أفكارنا وفي طريقة حياتنا وفي علاقاتنا بالناس, وحتى في علاقتنا بربنا .
§ ولماذا تزوجتم إذن ؟
§ بهرتني فيه صفة , وأعمتني عن باقي الصفات .
§ هذا ما نحذر منه كثيرا ... عموما هذا شئ قد حدث ولا يجدي البكاء عليه الآن ... ولكن ما نتيجة خلافاتكم الآن ؟
§ كل منا لا يطيق الآخر , وكل منا مصر على موقفه .
§ هل هو العناد ؟
§ ربما , وربما يكون قلق كل منا على شخصيته وكرامته خشية أن يهدرها الآخر... ثم لماذا يصر هو على أنني مخطئة وعليّ أن أتغير لأوافق طباعه وطريقة تفكيره ؟ .. أليس في هذا استبدادا واستعلاءا وعنجهية ؟ .. وبالمناسبة أنا أكثر منه نجاحا في العمل وفي الحياة وفي العلاقات الإجتماعية , وهو يقلق كثيرا من ذلك , ويريد مني اعترافا بأنني الأقل وأنني الأجهل , وأن أسلم له قيادي .
§ أرى أن الأمر قد تحول إلى تنافس وصراع وليس فقط خلاف بين زوجين .
§ هو فعلا كذلك
§ وماذا عن أحوال الأبناء بينكما في تلك الظروف ؟
§ يعانون أكثر منا , فهو يريد أن يربيهم على طريقة أبيه وأمه وهي طريقة بدائية ومع ذلك هو معجب بها جدا , وأنا أحاول أن أرتقي بهم بشكل عصري متفتح , هو يربي كيفما تربى .. وأنا أربي طبقا لمعايير راقية أستقيها من قراءاتي ومن الدورات والدراسات التربوية التي أهتم بها , هو يرى أن أمه كانت أمية ومع ذلك استطاعت أن تربيه هو وإخوته أحسن تربية وتجعلهم مستشارين وأطباء ومهندسين ناجحين .. وأنا أشك تماما في نجاحهم على الرغم من مناصبهم ووظائفهم , فالنجاح عندي هو في جودة الحياة ورقيها وتطورها . بصراحة لم يعد يجمعنا شئ غير الخوف على مصير الأبناء إن نحن افترقنا ... حتى فراش الزوجية لم أعد أطيقه فطريقته فجة ولا يعرف كيف يتعامل مع امرأة رقيقة متحضّرة .
§ والحل ؟
§ لا أعرف ... بل إنني أهرب من هذا السؤال , وأعتقد هو أيضا يهرب , ولهذا تزداد الهوة بيننا اتساعا كل يوم , ولا يكاد أحدنا يدرك الآخر أو يشعر به .
§ هل تصارحتما بذلك ؟
§ لا
§ ولم ؟
§ لقد يئسنا من الكلام والحوار , فدائما نصل إلى طريق مسدود وينتهي الأمر بشجار وخصومة , لذلك يتجنب كل منا الآخر .
§ هذا أخطر وضع يصل إليه زوجان ..
§ وماذا أفعل غير ذلك إذا كان شرطه الوحيد أن أغير أنا رأسي وطباعي لأتوافق مع متطلبات "سيادته" وطبائع أمه وتوجيهات أبيه !!
كان هذا نموذجا لأسرة مأزومة ( أي تحولت الخلافات فيها إلى أزمة يعاني منها كل أفراد الأسرة) انسدت فيها مسارات الحوار وطغى الخلاف على التفاهم واحتفظ كل طرف بموقفه وموقعه غير عابئ بمشاعر واحتياجات الآخر , والسبب المعلن هو اختلاف الأفكار والطباع والتوجهات والخلفيات الإجتماعية , فهل صحيح أن الخلاف أو الإختلاف ليس له حل خاصة إذا كان متعدد الجوانب وبين طرفين كليهما مصر على موقفه ويعتقد أنه على حق دائما وأن الآخر مخطئ على طول الخط .. ؟
أبعاد الخلاف في الأسرة المأزومة :
هل ما رأيناه في النموذج السابق خلاف أم تعال أم جدال أم شقاق أم عناد أم صراع ؟ .. وهل يوجد حل لهذا الموقف المتأزم ؟ .. أم أن المصير المحتوم هو الفراق بين هذين الزوجين المختلفين المعاندين المتصارعين ؟ .. وهل الأفضل للأبناء بقاء الشكل الإجتماعي للأسرة على الرغم من الخلافات العميقة والدائمة بين الأبوين , أم الأفضل ابتعاد كل طرف عن الآخر حتى لا يعطيا نموذجا مضطربا للأسرة يتأثر به الأبناء سلبا ويعانون منه طول الوقت ويكرهون الحياة الأبوين "معا" , ويكرهون أيضا الحياة الزوجية , ويمقتون كلمة " أسرة " ؟
وللإجابة على هذه التساؤلات دعونا نفهم معاني بعض المصطلحات التي وردت في ثنايا الحديث :
§ الخلاف أو الإختلاف : هو أن ينهج كل شخص طريقا مغايرا للآخر في قوله أو فعله ، وقد يرى البعض أن التعريف السابق ينطبق على الإختلاف فقط , أما الخلاف فهو حدوث مشكلة بسبب هذا الإختلاف .
§ الجدل : هو المفاوضة على سبيل المنازعة والغلبة , مأخوذ من جدلت الحبل , إذا فتلته وأحكمت فتله, فإن كل واحد من المتجادلين يحاول أن يفتل صاحبه ويجدله بقوة وإحكام على رأيه الذي يراه . ففي الجدل يحاول كل طرف أن يحمل الآخر على رأيه الذي يتشبث به بشكل مطلق ولهذا لا يستطيع سماع الرأي الآخر أو تفهمه فهو بالنسبة له خطأ مطلق , ورأيه صواب مطلق . وهذا الموقف المجادل يثير مقاومة وعنادا لدى الطرف الآخر لأنه يشعر أنه يفقد حريته ويفقد إرادته وخياراته أمام الطرف المجادل إن هو استسلم لرأيه .
§ الشقاق : وهو يحدث حين يشتد الجدل بين طرفين يؤثر كل منهما الغلبة على صاحبه ولا يفكر أحدهما في الحق أو الصواب , ويتعذر بينهما التفاهم أو الإتفاق على أي شئ , هنا يحدث الشقاق بمعنى أن يكون كل واحد في شق من الأرض , وكأنما أرضا واحدة لا تسعهما .
§ العناد : وفيه يحرص كل طرف على أخذ الموقف المضاد للآخر دائما , وهدفه من ذلك إثبات تميزه عن الآخر ومحاولة إحداث حالة من الغيظ والمكايدة له .
§ الصراع : هو حالة حرب باردة أو مشتعلة بين طرفين يحرص كل منهما على إيذاء الآخر وإضعافه أو إلغائه .
وقد يكون من المهم أن يعرف كل من الزوجين ما هي المرحلة التي وصلا إليها : أهي خلاف أم جدل أم شقاق أم صراع , ليس هذا فقط بالنسبة للزوجين بل أيضا لمن يقوم بالوساطة أو التحكيم أو الإصلاح بينهما , فالإستبصار بدرجة المشكلة وحدتها هو أول خطوات الحل الصحيح .
وثمة بديهية جدير بنا أن نسلم بها في بادئ الأمر ونهايته .. وهي أن الإختلاف من طبائع البشر وطبيعة الأشياء , وهو في حالة حسن إدارته يؤدي إلى التنوع والثراء , وهذه حكمة الله في الكون حيث يقول تعالى في كتابه الكريم : "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ..... " (هود 118) .
وللإمام الشافعي قاعدة ذهبية في فقه الخلاف يقول فيها : " رأيي صواب يحتمل الخطأ , ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب " , وللفيلسوف الفرنسي أيضا كلمة ذهبية في هذا الشأن يقول فيها : " قد أختلف معك في رأيك , ولكنني مستعد لأن أدفع حياتي ثمنا لحريتك في التعبير عن هذا الرأي" .
وحين نرى الخلاف والإختلاف من هذا المنظور , ونتعامل معه بهذا الأدب الراقي فإننا نريح أنفسنا ونريح غيرنا ونتفادى الكثير من الصراعات المؤلمة في حياتنا . وهذا لا يعني تشجيع الخلاف الدائم بين الزوجين دونما مساحة معقولة من الإتفاق , بل إن مساحة الإتفاق والإلتقاء هي صمام الأمان للتعامل مع مساحة الإختلاف , ولذلك كان التعارف في فترة الخطبة مهما لرؤية التناسب بين تلك المساحات من الإتفاق والإختلاف ومدى مناسبتها لاستمرار الحياة الزوجية , وإذا ثبت أنه لا توجد أي مساحة للإتفاق في فترة الخطبة فلم الإقدام على الزواج إذن ؟ .. ولم نعرض أبناءنا للعيش بين قطبين متنافرين تماما لا يوجد بينهما أي رابط ؟
فإذا تأكدنا من التوازن بين مساحات الإتفاق والإختلاف , فدعمنا الأولى وأدرنا الثانية بشكل عاقل وراق ونبيل فإن الحياة الزوجية تمضي في سلام , أما في حالة سوء إدارة الإختلاف فذلك بداية الصراع المدمر للطرفين .
ولكل مرحلة من مراحل الحياة الزوجية طبيعة لخلافاتها فمثلا تكثر الخلافات في السنة الأولى حول طبائع كل من الطرفين ومحاولة توفيقها مع طبائع الطرف الآخر , أما بعد السنوات الأولى فتكثر الإختلافات حول طريقة تربية الأبناء , وفي مرحلة منتصف العمر تزداد الخلافات المتعلقة باهتمامات وعلاقات كل طرف خارج المنزل وخاصة العلاقات بالجنس الآخر .
وقد تتباين الإختلافات طبقا للمستويات الإجتماعية والإقتصادية فمثلا تكثر الخلافات حول العمل والمصروفات والأزمات المادية وكيفية حلها لدى الطبقات الفقيرة والمتوسطة , بينما تظهر الخلافات الثقافية والوجدانية لدى الطبقات الأعلى .
القاعدة الوجدانية :
وقد يتورط الزوجان أو من يصلح بينهما في اعتبار أن المشكلة تكمن في الخلافات العائلية أو المادية أو الفكرية أو العقائدية أو الثقافية أو في اختلاف الآراء والتوجهات , وينسون أن العلاقة الزوجية هي علاقة وجدانية في أغلبها , وأن التوافق والتصالح يرتكزان أساسا على قاعدة من الحب إذا غابت كان من الصعب تعويضها , وأصبحنا نتوه في تفاصيل خلافات لا حد لها , وكلما حسمنا خلافا ظهر خلاف آخر بلا نهاية .. فوجود علاقة حب بين الزوجين كفيل بإذابة الكثير من الخلافات والعيوب , بل إن المحب قد لا يرى عيوب محبوبه , وإذا رآها فإنه يصغرها أو يبررها أو يدافع عنها وربما أحبها بحبه لصاحبها . أما إذا غابت تلك القاعدة الوجدانية فإن كل كلمة تثير خلافا , وكل موقف يفجر شجارا , وكل عيب يبدو متضخما , وكل مشكلة تبدو معقّدة وبلا حل , وهذا مصداق للمثل الشعبي " حبيبك يبلع لك الزلط , وعدوك يتمنى لك الغلط " .
وهناك اعتقاد خاطئ لدى كثير من الناس وهو أن الزوجين يجب أن يكونا متشابهين , وحبذا لو كانا متماثلين أو متطابقين , وإذا لم يكونا كذلك في البداية فعليهما أن يسعيا أو يسعى أحدهما لتحقيق ذلك , وإذا لم ينجحا في ذلك فإن النتيجة هي الجدال أو الشقاق أو الصراع ليؤدي ذلك في النهاية إلى الطلاق .
والحقيقة أن العلاقة بين الزوجين ليست علاقة تشابه وتطابق بقدر ماهي علاقة توافق وتكامل , فقد يكونا مختلفين ولكنهما متكاملين , وأقرب مثال لذلك هو علاقة موج البحر بالشاطئ , فالموج قد يكون في بعض الأحيان صاخبا هادرا , ولكنه يصل إلى الشاطئ فيهدأ ويرق ويستريح , فكلاهما يزيد الآخر قوة وجمالا على الرغم من اختلافهما . واقتصار حبنا على من يشبهنا هو نوع من الحب النرجسي أي أننا هنا نحب أنفسنا حبا هائلا ولا نحب إلا كل ماهو شبيه لنا على اعتبار أننا النموذج المثالي في الجمال والكمال , أما النوع الآخر من الحب وهو "الحب الغيري" فيعني أننا نحب الآخر بصفاته التي ربما تختلف عن صفاتنا ومع هذا يحدث بيننا وبينه نوع من التكامل والتناغم يثري وجودنا ويثري الحياة .
تجاهل الخلاف :
وقد يتجاهل الزوجان أو أحدهما ما بينهما من اختلافات أو خلافات ظنا منهما أنها لا تستحق الإهتمام أو يأسا من الوصول إلى أي درجة من الإتفاق خاصة إذا كان أحد الطرفين يصر دائما أنه على حق , وأن الحوار هدفه إثبات ذلك للطرف الآخر . وتجاهل الإختلاف تهوينا أو يأسا يؤدي إلى تراكمات سلبية على المستوى الفكري والوجداني تؤدي إلى تسميم العلاقة الزوجية وتوسيع الفجوة يوما بعد يوم , وقد يصل الأمر بعد فترة إلى حالة اللارجعة . وقد يحاول الأهل أو الأصدقاء التقليل من أهمية الخلافات خاصة حين يتوسطون للصلح بين الزوجين , وقد يكتفون بحلول الترضية السطحية لأحد الطرفين أو كليهما (كأن يقبل كل منهما راس الآخر) , وكأنهم هنا يضعون المرهم على الجرح الغائر المتقيح أو على السرطان فيحدث نوع من الراحة المؤقتة يعقبها تفجر أخطر للخلافات مع عواقب أكثر سوءا . وقد يكون التجاهل تفاديا للطلاق المؤكد حيث يعلم الطرفان أو أحدهما أن فتح ملفات الخلافات بينهما سيؤدي حتما إلى مواجهة حادة لا تنتهي إلا بالطلاق .
|