كلنا بلا استثناء حفظنا الآية الإنجيلية في عقولنا قبل قلوبنا، وكثيراً ما أخذناها شعاراً في الخدمة ووعظنا بها من فوق المنابر والتي هي مشهورة عند الجميع ومحفوظة عن ظهر قلب : [ لي حياة هي المسيح والموت هو ربح ] (فيلبي 1: 21)
ومن جهة الحياة اليومية المعاشة على المستوى العملي والتطبيق، وعلى الأخص وقت الضيق والمحنة والشدة، تُنسى هذه الآية تماماً لأنها تُفقد من الذاكرة أمام المشكلة الحاضرة، لأنها – في الواقع العملي – لم تتخطى العقل وتدخل القلب لتتحول لحياة عملية في الواقع اليومي المُعاش، فأصبحت عندنا نظرية نقولها في أوقات السعة والرحب !!!
فنحن دائماً ما نعيش بعيداً عن أن تكون حياة الله فينا فعلاً [ لي حياة هي المسيح ]، وتظل اللفظة حبيسة العقل والفكر وحده، نعظ بها ونتكلم كثيراً عنها ونتأمل فيها بعمق وبصدق أيضاً، أما كونها حياة فعلية في المسيح الرب كواقع عملي في حياتنا، فهو بعيد جداً عنا على مستوى الفعل والعمل، بل لا تتعدى الفكرة والمعرفة في حدود الحفظ العقلي والتسميع عند الحاجة !!!
وطبعاً – طبيعياً – مستحيل أن ننظر للموت على أنه ربح، لأنه ماذا سنربح، وفي الواقع العملي المُعاش ليس لنال حياة هي المسيح، أي إننا نحيا في وادي بعيداً عن المسيح الرب فعلاً، ومعظم حياتنا شكلاً في المسيح، وجوهر هي خارج المسيح رب المجد والحياة الأبدية، والدليل الجزع الشديد والخوف وطرح الرجاء الحي والنواح والعويل والصراخ وحمل التراب فوق الرؤوس، والياس الذي يظهر في كآبة الوجه، عند موت أحد الأحباء أو المقربين وبالأخص من نعتمد عليهم في حياتنا !!!
يا أحباء الرب الذي مات لأجلنا وقام، لننال قوة حياة في واقعنا المعاش في شخصه، أننا نجد أن الآباء دائماً يدعوننا أن نتذكر موتنا في كل لحظة من لحظات حياتنا، وهي في الحقيقة ليست دعوة لأن نعيش الرعب من أن الموت سيقهرنا في أي وقت فنيأس من الحياة ونرفض أعمالنا اليومية ولا نأبه بمستقبل أولادنا أو مستقبلنا، بحجة أننا سوف نموت في أي وقت، هذه النظرة التشاؤمية ليست هي نظرة الآباء ولا الكتاب المقدس الذي لا يعرف فشل ولا يأس، لأن المسيح قام وأعطى لنا ترياق الخلود بجسده ودمه اللذان هما غذائنا الحي في قفر هذا العالم، بل الدعوة هنا هو أن [ أكون واعياً لحقيقة أن كل ما أراه وأقوله وأفعله واسمعه وأتلقاه الآن ربما يكون هو آخر حدث أو خبرة في حياتي الحاضرة، التي ينبغي أن أحياها وعيني شاخصه في الأعالي حيث يجلس عمانوئيل مسيح الله الحي ]، وهذا الفكر ينبغي أن يكون تتويجاً لي وليس هزيمة، قمة لحياتي وليس حفرة اسقط فيها وأُردم بالتراب …
سؤل أحد الحكماء [ ما هي أعظم لحظة في الحياة ؟ وما هو أهم عمل في الحياة ؟ ومَن هو أهم شخص في حياتنا ؟ ] ومع أنه حكيم وفيلسوف عظيم، ولكنه لم يجد الإجابة الصحيحة وجلس يقول كلمات فلسفية طويلة وشرح مستفيض جداً يُصيب السامع أو القارئ بملل، وفي النهاية بالطبع لم يصل لحل واقعي عملي يحل جذور المشكلة !!!
ثم سؤل فلاحاً بسيطاً غير متعلم ولا يدرك من الثقافة شيئاً، وقد رد قائلاً: [ أهم لحظة في الحياة هي الحاضرة، فهي الوحيدة التي نملكها، لأن الماضي قد ذهب، والمستقبل لم يأتِ بعد... وأهم عمل في الحاضر هو أن نعمل الصواب... وأهم شخص في حياتنا هو الذي معنا الآن، والذي يُمكننا أن نتصرف معه بالصواب أو الخطأ ] وبالطبع هذا هو المقصود بتذكر الموت على الدوام، ولكن لا يتذكر الموت وحده، لأن دعوة الاباء هو تذكر لحظة فراق الجسد للقاء العريس السماوي، لأننا لا نعرف موت لنركز فيه، سوى موت ربنا يسوع على الصليب لكي ما نموت معه، أي نُصلب معه [ مع المسيح صلبت فأحيا لا أنا بل المسيحي يحيا فيَّ ] كما قال حبيبنا القديس بولس الرسول …
في الحقيقة أن أمكننا فعلاً أن نُدرك الأهمية القصوى لكل لحظة في حياتنا اليومية – إذ قد تكون هي الأخيرة في حياتنا – فإن حياتنا حتماً سوف تتغير فعلاً في أعماقها، وسوف نبحث عن أهم شخص في حياتنا بمنتهى الجدية، ليكون لنا شركة معه، وبالطبع واضح من هو المقصود والذي يعطي عتق من سلطان الموت [ لأن ناموس روح الحياة في المسيح يسوع أعتقني من ناموس الخطية والموت ] (رومية 8: 2)
فيا إخوتي أن حياتنا ليست بحسب القانون الساري على الجسد وهو الموت، بل ولا تعرفه، لأن كل إنسان يولد سيموت حتماً في أي وقت لا يعمله أحد قط، سوى الله وحده فقط بالطبع، فمن امتلأ من حياة الله تكون ساعته كل حين حاضرة أمام عينيه في مجد قيامة يسوع، فيستثمرها لحساب مجد المسيح الرب فتتحول لأبدية ممتدة لا تتوقف، لأنه يعيش في المسيح يسوع الذي هو القيامة والحياة، فهو الذي قال : أنا حي فأنتم ستحيون، فالرب المسيح هو الحياة حسب لاهوته، لذلك حتماً سنحيا به إن كنا حقاً نؤمن به فعلاً حتى لو إيماننا مثل حبة خردل، ونحيا له كبنين على المستوى العملي ونبني حياتنا على شخصه عاملين بوصاياه مثل الذي بنى بيته على الصخر فلا يسقط أبداً، لأنه قائم على صخر الدهور الذي لا يتزعزع، ولكي نفهم ما هو إيماننا وندرك كل عمل الرب ونعيشه بكل قوة فعليه، لنقرأ سوياً من رسالة رومية الإصحاح الثامن:
[ إذاً لا شيء من الدينونة الآن على الذين هم في المسيح يسوع السالكين ليس حسب الجسد بل حسب الروح. لأن ناموس روح الحياة في المسيح يسوع قد أعتقني من ناموس الخطية والموت. لأنه ما كان الناموس عاجزاً عنه في ما كان ضعيفاً بالجسد، فالله إذ أرسل ابنه في شبه جسد الخطية، ولأجل الخطية، دان الخطية في الجسد. لكي يتم حكم الناموس فينا نحن السالكين ليس حسب الجسد بل حسب الروح. فأن الذين هم حسب الجسد فبما للجسد يهتمون، ولكن الذين حسب الروح فبما للروح. لأن اهتمام الجسد هو موت، ولكن اهتمام الروح هو حياة و سلام. لأن اهتمام الجسد هو عداوة لله، إذ ليس هو خاضعاً لناموس الله، لأنه أيضاً لا يستطيع. فالذين هم في الجسد، لا يستطيعون أن يرضوا الله. وأما أنتم فلستم في الجسد بل في الروح، إن كان روح الله ساكنا فيكم، ولكن إن كان أحد ليس له روح المسيح، فذلك ليس له. وإن كان المسيح فيكم فالجسد ميت بسبب الخطية، وأما الروح فحياة بسبب البر. وإن كان روح الذي أقام يسوع من الأموات ساكنا فيكم، فالذي أقام المسيح من الأموات سيحيي أجسادكم المائتة أيضاً بروحه الساكن فيكم. فإذاً أيها الإخوة نحن مديونون ليس للجسد لنعيش حسب الجسد. لأنه أن عشتم حسب الجسد فستموتون، ولكن إن كنتم بالروح تميتون أعمال الجسد فستحيون. لأن كل الذين ينقادون بروح الله فأولئك هم أبناء الله. إذ لم تأخذوا روح العبودية أيضاً للخوف، بل أخذتم روح التبني الذي به نصرخ يا أبا الآب. الروح نفسه أيضاً يشهد لأرواحنا أننا أولاد الله. فأن كنا أولاداً، فأننا ورثة أيضاً، ورثة الله ووارثون مع المسيح، إن كنا نتألم معه لكي نتمجد أيضاً معه. فاني أحسب أن آلام الزمان الحاضر لا تقاس بالمجد العتيد أن يستعلن فينا . ] (رومية 8 : 1 – 18)
واختتم بكلمة القديس مقاريوس الكبير: [ جيد أن يضع الإنسان نُصب عينيه في كل وقت هذه الأمور الرئيسية الثلاثة: تذكر موته أمام عينية في كل ساعة، وأن يموت عن كل إنسان، وأن يكون دائماً مُخلصاً للرب في قلبه. لأنه إن لم يكن للإنسان ذكر لموته أمام عينيه في كل الأوقات فلن يُمكنه أن يموت عن كل إنسان، وإن لم يمت عن كل إنسان فلن يُمكنه أن يكون مُخلصاً أمام الله ] The wit and wisdom of the Christian Fathers of Egypt, I : 171