رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||
|
|||||||||
الكنيسة الأرثوذكسية في ألبانيا (قصة جهاد وآلام وجدَّة حياة) إن كنيسة ألبانيا الأرثوذكسية واستعادتها حيويتها بعد هول ما عانته على يد الحُكْم العثماني، بدأت حيويتها ليس في ألبانيا، بل في مدينة بوسطون بأمريكا؛ كان ذلك في عام 1908، وبعيداً عن الضغوط التركية العثمانية. فقد تكوَّنت هناك كنيسة ألبانية مـن الألبان الأمريكيين، وكانت في جوهرها بيزنطية وفي عقيدتها أرثوذكسية. وبعد 4 سنوات، وبعد أن انتُزِعَت دولة ألبانيا من وسط أقاليم البلقان الخاضعة للإمبراطورية العثمانية، بدأت مداولات ومناقشات في ألبانيا نفسها لتأسيس كنيسة أرثوذكسية ألبانية مستقلة. ومنذ ابتداء الكنيسة الألبانية وهي تُعاني من الآلام والاضطهادات، وخاصة أثناء الحُكْم الماركسي للديكتاتور ”خوجة“. ففي عام 1967، أعلن ”خوجة“ ألبانيا أول دولة مُلحدة في العالم، بمَن فيها من جماعات مسلمة وجماعات مسيحية: أرثوذكسية وكاثوليكية. ومنذ ذلك الوقت بدأ في اعتقال الأساقفة والإكليروس الأرثوذكسي في الدولة، ولم يُعرف عدد الذين قُتلوا منهم. كما قام عملاء ”خوجة“ بإغلاق الأديرة، وهدم مئات الكنائس، وتحويل ما تبقَّى منها إلى دور للسينما والنوادي والإسطبلات والمسارح. وقد خرَّبت هذه الحملة الكنيسة الأرثوذكسية. وبعد موت ”خوجة“ عام 1985، وانهيار الحكومة الماركسية بعد ذلك بست سنوات؛ قام ممثِّل لبطريركية القسطنطينية الأرثوذكسية بجولة في المدينة، فلم يجد فيها سوى 15 كاهناً وحفنة من الشعب الألباني الأرثوذكسي. كان عدد المسيحيين الأرثوذكس يُقدَّر بحوالي 20 % من إجمالي شعب ألبانيا الذين ينتمي معظمهم إلى قبائـل ”التوسك“ (وهو اسم يُطلق على مجموعة من القبائل الألبانية المتمركزة في النصف الجنوبي من المدينة)؛ بينما الكاثوليك اللاتين كانوا متمركزين بين قبائل ”الغيج“ في النصف الشمالي ويُمثِّلون 10 % من الشعب هناك. وكان المسلمون في كِلاَ المجموعتين يُمثِّلون الأغلبية، الذين انحدروا من القبائل الكاثوليكية أو الأرثوذكسية التي اعتنقت الإسلام قسراً بعد أن أخضع العثمانيون أقاليم البلقان (ومن بينها إقليم ألبانيا) في القرن الخامس عشر. ومعظم الألبانيين اليوم، بدأوا يُدركون هويتهم الدينية والقَبَلية لأجدادهم، لكنهم منعزلون عن الدين. ويُعتبر ثُلث شعب ألبانيا البالغ عددهم 3 ملايين ونصف من المؤمنين (بالأديان). وتسود المسلمين إما شيعة السُّنِّيين أو ”البكتاش“ (وهي شيعة صوفية)، ويتبعهم في العدد الأرثوذكس والكاثوليك. وتعتبر كنيسة ألبانيا الأرثوذكسية أن عدد مؤمنيها 640000 عضواً، بينما يعتبر معظم الخبراء هذا الرقم مُبالغاً فيه. ولكن ما لا نزاع فيه هو أن الكنيسة بدأت تستعيد حيويتها وقوتها. ويرعى كنيسة ألبانيا الأرثوذكسية منذ تجديد إنشائها عام 1991، المتروبوليت أناسطاسيوس. وقد بُنيت منذ ذلك التاريخ 90 كنيسة، وجُدِّدت أكثر من 140 كنيسة قديمة مندثرة. وقد أُنشئ عدد من المؤسسات، من مدارس ومستشفيات، ومراكز للشباب، وبيوت للطلبة، ومعاهد لاهوتية، ومراكز للتدريب المهني. وبالإضافة إلى ذلك، انخرطت الكنيسة أيضاً في النشاط الإعلامي، فعندها محطة إذاعة، وتقوم بنشر عدد من المطبوعات الدورية باللغتين الألبانية واليونانية، من بينها الصحف الإخبارية. إلاَّ أن الكنيسة المنبعثة من آلامها ما زالت تواجه تحديات ضخمة: اجتماعية وسياسية. النشأة الأولى للمسيحية في ألبانيا: يعتقد المؤرِّخون، بالرغم من قلة المصادر التاريخية القديمة، أن الإنجيل وصل إلى ما يُسمَّى اليوم ”ألبانيا“، في حوالي منتصف القرن الأول. وكان من بين المؤمنين بالمسيح الأوائل جنود رومانيون من الحدود الشرقية للإمبراطورية الرومانية. كما كان هناك ميناء روماني اسمه ”ديراخيوم Dyrrachium“ (يُسمَّى الآن باسم المدينة الألبانية ”دوريس“)، وهذا الميناء هو المرسى في الحدِّ الغربي لطريق ”إغناطيا“، وهو الطريق الذي يربط بين المدن من آسيا الصغرى وبلاد البلقان، وإلى البحر الأدرياتيكي، عن طريق آبيا Via Appia في إيطاليا، الذي يصل إلى روما. + وفي كُتب الكنيسة المختصة بسِيَر الشهداء والقديسين، من يونانيين ولاتين وسريان، هناك سيرة لتذكار يوم 6 يوليو من عام 98 ميلادية، يُذكر فيها شخص اسمه ”آستيوس Asteios“ أسقف ”ديراخيوم Dyrrachium“ أنه دُهِنَ بالعسل وتُرك للنحل لكي يلدغه حتى الموت من أجل الإيمان. وفي اليوم التالي من كتاب ”سِيَر الشهداء والقديسين“، تذكار للشهداء ”بيريجرينوس Peregrinus“ وقديسين آخرين من ”أصل روماني“ أُغرقوا في البحر بأمر من حاكم مدينة ”ديراخيوم“. + وكلما نمت الكنيسة، فإن الجماعة المسيحية المتنوعة في هويتها القومية والمتمركزة في جنوب البلقان، كانت تتأصل في الحضارة والكنيسة والطقوس التي للعاصمة الجديدة للإمبراطورية الرومانية الشرقية: ”القسطنطينية“. هذه العاصمة الجديدة التي سُمِّيت أيضاً ”روما الجديدة“ (المُسمَّاة أيضاً ”بيزنطة“)، اتخذت هوية مسيحية مُميَّزة بعد أن أعلن الإمبراطور ”ثيئودوسيوس“ الأول المسيحية كديانة رسمية للإمبراطورية الرومانية الشرقية عام 394م. + وابتداءً من القرن السادس، أشاعت القبائل السلافية الفوضى في الحُكْم الإمبراطوري البيزنطي على بلاد البلقان، حيث غزت سلسلة جبال شبه الجزيرة ووديانها وسهولها وأنهارها. وطردوا سُكَّانها أو أحكموا السيطرة على مَن تبقَّى منهم فيها. هذه القبائل التي كوَّنت اتحادات فيدرالية هزيلة، وصلت حتى إلى القسطنطينية، مقتحمة حتى أسوارها مراراً وتكراراً. وأخيراً، اعتنق السلافيون المسيحية. والذين استقروا عند الحدود الشمالية من البلقان (الكروات والسلوفاك)، تبنُّوا الطقس اللاتيني من روما؛ بينما الذين في الجنوب (وهم: الألبان، والبلغار، والمقدونيون، والجبل الأسود، والصرب)، اتخذوا الطقس البيزنطي. + تأسيس كنيسة ”أوحريد Ohrid“. في عام 1018م، استعاد الإمبراطور باسيل الثاني السلطة الإمبراطورية في البلقان. ومن بين التغييرات التي قام بها أنه أسَّس كنيسة ”أوحريد“ لتكون مركزاً للعالم البيزنطي مـن غير المتكلِّمين باليونانية، لتكون كنيسة ذاتية الإدارة autonomous تحت رئاسة بطريرك القسطنطينية. كما حدد هذا الإمبراطور حدود الإيبارشيات لعدد 32 إقليماً كنسياً بممتلكاتها وامتيازاتها. + وهكذا جمعت ”كنيسة أوحريد“ الألبانيين والسلافيين المسيحيين تحت مظلتها؛ ولكنها حرَّكت الانقسام الكبير الذي فرَّق الغرب الكاثوليكي عن الشرق الأرثوذكسي بعد عام 1054م، حينما غزا الأتراك العثمانيون الإمبراطوريـة البيزنطية ابتداءً مـن القرن الرابع عشر. + ومنذ الغزو التركي العثماني، أصبح الألبانيون عُرضة للتحوُّل قسراً إلى الإسلام. ولأن القبيلتين اللتين كانتا سائدتين في ألبانيا: ”الغيج“ و”التوسك“، لم يكن لهما لغة مكتوبة بالحروف الهجائية؛ فقد عطَّل ذلك وجود أسفار الكتاب المقدس مكتوبة بحروف مقروءة، وكذلك سِيَر القديسين، والليتورجية المقدسة، وهي أدوات التعليم الكنسي للمسيحيين العوام. إلاَّ أنه بناء على مصادر أرثوذكسية، فإنَّ عدداً من الأُسر الأرثوذكسية الألبانية أصبحوا ”مسيحيين في الخفاء“. فلكي تستعيد هذه الأُسر هويَّتها وإيمانها المسيحي، فإنَّ ”التوسك“ في المناطق الجبلية في منطقة ”سباتيا“ كانوا يتخذون الأسماء والعادات الإسلامية، محافظين على الإيمان المسيحي الأرثوذكسي في الخفاء. وقد استمرت هذه الظاهرة حتى أواخر القرن التاسع عشر. + وفي عام 1744م، تلقَّت الكنيسة الأرثوذكسية انتعاشاً بتأسيس الأكاديمية الجديدة في مدينة ”فوسكوبويا“. هذا المركز التعليمي للمتكلِّمين باليونانية، كان هو المعهد العلمي الوحيد الذي يقتني آلة طباعة، وأشاع الانتعاش الفكري للجماعات الألبانية واليونانية والسلافية منذ بداية القرن التاسع عشر. + وقد بُذِلَ في القرن التاسع عشر مجهود مشترك لتطوير شكل الكتابة الألبانية، وكان هذا متزامناً مع النهضة الأوروبية لتأكيد الهوية الوطنية والقومية. وقد قامت معظم المجهودات اللغوية من أجل الألبانيين على أكتاف الكهنة والرهبان اليونانيين الأرثوذكس، الذين كثيراً ما كانوا يُسجِّلون اللهجات الألبانية المتنوعة باستخدام الحروف اليونانية. + وخلال العقود (العقد 10 سنوات) الأخيرة من القرن التاسع عشر قامت حركات ألبانية وطنية يُشجِّعها ألبان يعيشون في مصر ورومانيا والولايات المتحدة الأمريكية. ومن بين هذه الشخصيات ”ثيئوفان“ (1882-1965)، وهو كاتب تعلَّم في جامعة هارفارد، ومؤلِّف موسيقي وسياسي؛ هاجر إلى الولايات المتحدة عام 1906 قاصداً أن يُنظِّم صفوف المهاجرين ليعملوا من أجل القضية الوطنية لألبانيا. + وبعد رسامة ”ثيئوفان“ هذا للكهنوت في بوسطن عام 1908، قام بترجمة الليتورجية المقدسة إلى اللغة الألبانية. ولأول مرة صلَّى الليتورجية باللغة الألبانية العامية بين الألبانيين المهاجرين في الولايات المتحدة. وفي عام 1911، انتقل ”ثيئوفان“ إلى أوروبا. وحينما أكملت ألبانيا استقلالها عن الإمبراطورية العثمانية عام 1912 (التي كانت تُسمَّى بـ ”رجل أوروبا المريض“)، عاد الأب ”ثيئوفان“ إلى ألبانيا، ودخل البرلمان. وبالإضافة لمجهوداته لتقدُّم الأُمة الألبانية، عمل مع الوطنيين الألبان، مسيحيين ومسلمين، ليُقيم كنيسة ألبانية أرثوذكسية مستقلة. + وفي العصر الحديث، في عام 1922، تأسَّست رابطة تعضدها الحكومة لإقامة مثل هذه الكنيسة بالرغم من اعتراضات البطريرك المسكوني. وبعد ذلك قام بطريرك الكنيسة الصربية الأرثوذكسية برسامة الأب ثيئوفان (الذي كان يعمل كوزير خارجية ألبانيا) متروبوليتاً (مطراناً) لمدينة ”دوريس“ التاريخية القديمة، وليكون هو الأسقف المتقدِّم داخل كنيسة ألبانيا الذاتية الإدارة. وبعد عام، قام المتروبوليت ثيئوفان بانقلاب ضد الحكومة، ليصير هو رئيس وزراء الدولة. + لكن هذه البداية المفاجئة للمتروبوليت ثيئوفان، انتهت هكذا سريعاً؛ إذ أن علاقات ألبانيا مع جارتها اليونان، وكذلك ارتباط الكنيسة مع البطريرك المسكوني، قد فترا. بالإضافة إلى أن سياساته الإصلاحية أثارت عداوة مُلاَّك الأراضي المسلمين. فبعد 6 أشهر من صعوده المفاجئ للسلطة، هرب المتروبوليت إلى المنفى، حيث عاد إلى الولايات المتحدة عام 1932، ورأس إيبارشية الألبان الأرثوذكس حتى وفاته عام 1965. + واليوم، وبعد أن أثار المتروبوليت التوترات بين الألبانيين واليونانيين، فإنَّ المسيحيين اليونانيين الأرثوذكس أظهروا كَرَماً كبيراً وموَّلوا الكنيسة الألبانية، إلاَّ أن المشاكل القومية والسياسية والاجتماعية ما زالت باقية. + ولكن هذه التحديات لم تمنع الكنيسة الأرثوذكسية في ألبانيا من مواصلة حملتها لإعادة بناء الأُمة الألبانية المستقلة حديثاً. فالكنيسة توزِّع آلاف الأطنان من الطعام والملابس والأدوية للتخفيف من المحن التي تعيشها العائلات الفقيرة من المسيحيين والمسلمين، أو التي يُقابلها الباحثون عن الملجأ من الصراعات العنيفة في البلقان. وقد امتدَّت مبادرات الكنيسة للرعاية الصحية، مثل وحدات علاج الأسنان، والعيادات العامة، حتى إلى القرى الجبلية. كما أن مشاريع التنمية الزراعية على المستوى المتسع، بما فيها من مشاريع الريِّ وتمهيد الطرق، قد خفَّفت من الأعباء على الأُسر الألبانية المعتبرة أنها الأفقر بين دول أوروبا. + ويقول المتروبوليت ”أناسطاسيوس“: [إن الكنيسة بحضورها وعملها قد أظهرت أنها قوة يُعترف بها، في تقديم النمو الروحي والثقافي والاجتماعي لكل ألبانيا] |
|