09 - 02 - 2015, 06:21 AM
|
|
|
† Admin Woman †
|
|
|
|
|
|
توبة أهل نينوى _ إفرام السرياني
يونان النبي بقلم إفرام السرياني
خرج يونان العبراني من البحر، وأخذ يبشر في نينوى الوثنيين غير المختونين. دخل النبي المدينة الشهيرة، وبصوته الرهيب ألقى الرعب فيها. لقد ألقى أبن أمتاي الرعب حين كرز في المدينة الأولى بين الأمم، فارتجّت حينئذ لصوته كما يرتجّ البحر الهائج. هيّج البحر بنزوله إليه، وجعل اليابسة تضطرب بوطئه إياها.
لهربه هاج البحر، والأرض أرتعدت في كرازته. هدأ البحر بصلاته، والأرض ثبتت بتحنن الإله العظيم. في جوف الحوت الكبير كان يصلي، وأهل المدينة الكبيرة نينوى هكذا كانوا يفعلون. الصلاة خلّصت يونان من الحوت، والتوسل أنقذ نينوى من الخراب.
هرب يونان من وجه الله، وأهل نينوى من النعيم، فأغلق العدل الإلهي عليهم وكأنهم مدينون. قدموا لله توبة ليعفو عن كل زلاتهم، وهكذا يخلصون من حق السماء وحكمها. لقد أمر الرب أن يُحفظ يونان، ويلقى على اليابسة سالماً.
تعلم يونان من التجربة أنه من العدل أن يحيا التائبون، ذلك أن النعمة قدّمت له من ذاته مثالاً. عندما تاب خرج سالماً من البحر، وهكذا يكون حال نينوى المدينة الغارقة في الخطايا والتائبة عنها. اضطربت المدينة كما البحر لصوت يونان الخارج من العمق. فتح الصديق يونان فمه وارتعدت نينوى لسماع صوته.
العبراني يكرز ناشراً الموت بين سامعيه والمدينة تضطرب. وقف الطبيب كارزاً بين الجبابرة، ومن الخوف الآتي أرتعدوا كالأطفال. لقد جعل قلوب الملوك تتقطع عند سماع صوته ذلك إنه دمّر عليهم مدينتهم.
بصوت واحد قطع عليهم كل رجاء فروى المدينة من كأس مملوء غضباً. سمع الملوك هذا الصوت وارتبكوا ثم تواضعوا خالعين التيجان عن رؤوسهم، رغبة في التوبة. سمع الرؤساء واضطربوا وعوض الثياب البّراقة لبسوا المسوح. سمع الشيوخ المكرمون وللحال جعلوا رأسهم في الرماد.
سمع الأغنياء وللحال فتحوا للفقراء خزائنهم. سمع الدائنون وللحال مزقوا كل ما لديهم من صكوك. سمع المدينون وفكروا أن يفوا دينهم بالعدل. أسرع كل واحد يتوسل لله من أجل خلاصه. ما من أحد رضي بأن يخدع الآخر لأنه انما كان يريد أن يربح نفسه.
ما أن سمع السارقون صوت يونان حتى أسرعوا يعيدون ما سلبوا من أغراض. أما الذين سُرقوا ونُهبوا فتجاهلوا الأمر وتركوا كل شيء لسارقيهم. كل واحد كان يدين نفسه ويظهر المحبة لصديقه.
سمع القتلة صوت يونان فاعترفوا أمام الحكام مزدرين بالخوف. سمع الحكام اعترافهم فعفوا لأنه وسط ذلك الغضب الرهيب لم يستطيعوا المحاكمة. كل واحد كان يحاول زرع المحبة حتى يحصد هو أيضاً المغفرة. سمع الخطاة فاعترفوا بخطاياهم. سمع العبيد فكرموا أسيادهم. سمع الأغنياء والوجهاء فتنازلوا عن كبريائهم.
توبتنا بالمقارنة بتوبة أهل نينوى هي كحلم. تضرعنا بالمقارنة بتضرعهم هو كظل يتوارى بسرعة، إتضاعنا بالمقارنة بإتضاعهم ما هو إلا مجرد مظاهر خارجية. لقد قدّم أهل نينوى احسانات كثيرة فهل بمقدورنا نحن أن نضع حدّاً للجشع؟ كان أهل نينوى يحرّرون عبيدهم، فهل نشفق نحن على المحرَّرين؟
عندما أرسل النبي إلى مدينة نينوى الغارفة في ديون الخطايا، لم يسلحه حكم الله العادل بسيوف ورماح بل بالكرازة سلحه. أرسل يونان كطبيب لكي يداوي جراحاتهم ويشفي أمراضهم بأدوية نافعة. إنها أدوية رهيبة وقاسية وفعالة. ذلك أن النعمة الإلهية قد أرسلته لا ليدمّر المدينة بل ليعيد إليها السلام.
لم يدعهم يونان إلى التوبة مظهراً لهم أن المريض إنما إلى الطبيب يسرع، بل أغلق عليهم كل أبواب الرجاء. ذلك إنهم كانوا خائفين من قرار الله.
سمعت نينوى صوت قراره وبأصوات وصلوات عادت إلى الطريق القويم، وللحال بدّل الله قراره، ذلك أن التوسل إليه يقتدر كثيراً في فعله. لقد مرضوا من خطاياهم فلجأ إلى صوته الرهيب كالسيف يرعبهم ولا يقتلهم بل بمجرد رؤيتهم إياه يرتدون عن شرورهم التي توّلد الأمراض.
طبيباً كان الذي جاء يشفي السقماء. شهّر سيفه أمام المرض، شاهدته المدينة فاضطربت للحال، ذلك أنه كان واقفاً خارج المدينة وسيف الغضب في يده. نهض المرضى من أسرتهم خوفاً وسارعوا إلى التوبة. وكالسيف قطع صوته مناطق كانت عفنة منذ زمن، وطهّر الجروح الصعبة الشفاء. وكالطبيب داوى يونان المرض بعصا قوته.
عندما يقدم الأطباء الدواء للمرضى يلجأون أحياناً إلى التملق حتى يتقبلوها منهم. أمّا يونان فبعكس الأطباء فعل ذلك بصوت قوي وتهديد عظيم والمرضى عند رؤيتهم عصا كلها غضب ورجز هربوا للحال من أسرتهم. ومن شدّة الخوف والهلع شفي السقماء من أمراض شهواتهم وتعافوا.
انقطعت مغريات الملوك المتنوعة ومعها موائد الرؤساء الفخمة. لماذا آتي على ذكر كل هذا؟ ذلك أنه إن لم يعد الأطفال يرضعون فكيف يرضون هم بالتنعم؟ وان كانت الحيوانات قد حرمت شرب الماء فمن ذا الذي سيشرب الخمرة حتى الثمالة؟ إذا كان الملوك قد لبسوا المسح فمن ذا الذي يرضى أن يلبس ثياباً براقة؟ وإذا كانت النساء العاهرات قد تعقلن وتعففن فمن ذا الذي يفكر بالزواج؟ إذا كان المشاغبون قد هدأوا وهم يرتعدون خوفاً فمن ذا الذي يقدر على الضحك؟ وإذا كان الكل يبكون وينوحون فمن الذي يجد ساعة للهو؟
إن أدان السراق أنفسهم فمن ذا الذي يطمع بشيء بعد؟ إن سقطت المدينة فمن ذا الذي يتطلع للحفاظ على بيته؟ القي الذهب على الأرض ولا أحد يلتقطه. كشفت الجواهر ولا أحد يسلبها. أغلق الجهال أعينهم حتى لا يروا محاسن النساء. أسرعت النساء إلى إخفاء محاسنهم حتى لا يشكك الناظرون. اجتهد كل واحد في شفاء نفسه وقريبه حتى يخلص الجميع.
أخذ كل منهم يحث قريبه على التضرع والصلاة والاعتراف حتى غدت المدينة جسداً واحداً. لم يطلب أي منهم الخلاص لنفسه وحدها بل أخذ يصلي من أجل خلاص الجميع. ذلك أن المدينة كلها وكإنسان واحد قد دعيت لأن تسلّم إلى الخراب والدمار.
توسّل الصديقون من أجل خلاص الخطأة. صرخوا إلى الله حتى يستجيب لطلبة الصديقين. هيّئ سريعاً ذهنك أيها الحبيب لتعاين كيف كان الجميع في نوح كبير. فبكاء الأطفال أثار الشفقة إلى درجة أنه جعل المدينة كلها تبكي متوجهة، وصراخ الأبناء ودموعهم مزّق قلوب الوالدين وأحشائهم.
عند صدور ذلك الصوت الرهيب نتف الشيوخ شعرهم وانتحبوا. والشباب عند رؤيتهم الأمر الحاصل رفعوا الصوت وصرخوا. صرخ الجميع صراخاً أليماً لأنهم رأوا أنفسهم يموتون جميعاً ويدفنون في آن. تمسك الأولاد بأمهاتهم والأمهات جذبن أولادهن لأنقاذهم من الموت، أمّا الأطفال والرضع فاندفعوا يبكون في أحضان أمهاتهم بكاءً أليماً.
كانوا يقيسون الأيام التي تنبأ عنها يونان صبحاً ومساءً ليعرفوا كم بقي لهم منها، يمرّ اليوم وهم ينتحبون بالدموع لأن أوان الموعد قريب. أخذ الأبناء يسألون والديهم وهم يذرفون الدمع: يا أباءنا قولوا لنا، نحن أولادكم الأحباء كم انقضى وكم يبقى من تلك الأيام التي تنبأ عنها ابن امتاي العبراني؟ قولوا لنا ما هي الساعة التي حددها لنا لنترك إلى الجحيم أحياء؟ قولوا لنا متي يأتي دمار المدينة ويوم هلاكنا الذي شاع خبره في المسكونة كلها؟ قولوا لنا متي سيشاهد العابرون هذا المشهد المرير؟ ما إن سمع الآباء هذا الكلام حتى اعتراهم الحزن وسكبوا دموعاً مرّة ولم يستطيعوا الجواب لأن الحزن كان قد سدّ أفواههم. ومن أجل تعزية أبنائهم المحبوبين وحتى لا يزيدوا من تعاستهم أمسكوا أحشاءهم وامتنعوا عن سكب العبرات. كانوا يخشون قول الحقيقة ذلك أن اليوم الذي تنبأ عنه يونان قد غدا قريباً. وكما أراد إبراهيم أن يعزي أسحق عندما تنبأ دون أن يعلم هكذا فعل أهل نينوى عندما تنبأوا دون أن يعلموا وذلك من أجل تعزية أولادهم.
لقد حاول اسحق الحمل الناطق أن يستعلم من أبيه قائلاً: "يا أبي أين هي الضحيّة؟". وإبراهيم لم يجب ولم يكشف عن السرّ حتى لا يحزن أسحق وتتشوّه بالتالي تقدمته، ذلك أنه فكر في كيفية اقناع ولده، وفي محاولته هذه تنبأ عن أمور مجهولة انطلاقاً من أمور مجهولة. لم يرد أن يجيب عن السؤال فقال له الحقيقة. كان يخشى أن يقول "أنت هو" فتنبأ عن أمور أخرى، ذلك أن لسان إبراهيم كان يعلم أكثر من قلبه فتباطأ القلب وتنبأ اللسان.
أعتاد الفم أن يتعلم من القلب لكن الفم هنا هو الذي علّم إبراهيم الأسرار المستقبلة. قال إبراهيم لخدمه: "سأصعد مع اسحق إلى الجبل وسنعود إليكم. لقد أراد إبراهيم أن يكذب فتنبأ بالحقيقة. وهكذا فعل أهل نينوى عندما قالوا الحقيقة وهم يكذبون فتنبأوا بالحقيقة. قالوا لأبنائهم وهم يذرفون الدموع: يا أحباءنا لا تخافوا بل تشجعوا ! لأن الرب وهو المحب للبشر كثيراً لن يقضي على صورته الخاصة. فكما يجتهد الرسام في حفظ الصورة العديمة النسمة التي رسمها ويحرص عليها بكل إنتباه كذلك يحفظ الرب صورته الحيّة الناطقة من الشرور.
لن تدمّر مدينتنا فالنبي إنما يلجأ إلى التهديد ليدعونا إلى التوبة. كم من مرّة ضربتم أيها الأحباء وعرفتم منفعة الضربة؟ لقد أكتسبتم الحكمة وأصبحتم ورثاء لنا بواسطة التأديب. أمّا الحزن الآتي من الضربات فتحوّل عندكم إلى فرح. هكذا تنظرون إلى الله المحب للبشر الذي كأب يؤدب أبناءه ثم يتحنن عليهم. يؤدب ولا يميت بل بالأحرى يعيد إلى التوبة.
إن كنا نحن الآباء نؤدب أبناءنا بتهديد الضربات قاصدين تقويم العائلة كذلك يفعل الرب معنا. إنه يؤدبنا كأب ويهددنا بعصاه ولكنه يخلصنا بنعمته ويظهر لنا محبته ويتحنن علينا برأفته.
نحن لا نستطيع أن نحبكم كما أحب الله الناس. فتعزوا إذا أيها الأبناء وكفوّا عن البكاء فالمدينة لن تدمّر والغضب سوف يعبر.
تفوّه أهل نينوى بهذا الكلام ليعزوا أبناءهم فتنبأوا عن غير إرادة منهم لأن التوبة جعلت منهم أنبياء. قالوا كل هذا ولم يكفوا عن البكاء لأنهم وإن كانوا قد تعزّوا إلا أنهم كانوا يتوجعون من الألم. رهبة التهديد أطالت الصوم والصلاة وجعلتهم يجتهدون في استنفاد الموعد.
خرج الملك وأطلّ عليهم فاضطربت المدينة عندما رأته لابساً المسح. رأى الملك المدينة حزينة فاغرورقت عيناه بالدموع. بكت المدينة الملك عندما رأت التراب والرماد على رأسه وبكى الملك المدينة عندما رآها نائمة مرتدية المسوح. لقد حزن الكل. توجّعوا إلى درجة أنهم جعلوا الحجارة تشاركهم في المصاب.
ترى من ذا الذي صلى على هذا المنوال؟ ومن ذا الذي تضرع بمثل هذا الشكل؟ من تواضع هكذا أمام الله أم من أعلن هكذا عن أعماله الظاهرة والخفية؟ من الذي سمع صوتاً بسيطاً وتمزّق قلبه على خطاياه؟ ومن ذا الذي سمع قولاً وتزعزع فكره؟ من ذا الذي أصغى إلى صوت حزين وتخشع بالموت؟ أم من ذا الذي رأى بأم عينيه الإله المحب للبشر عن طريق التوبة؟ من ذا الذي رأى الصديق شاهراً سيفه والمدينة كلها تبكي وتصرخ؟
من ذا الذي كان باستطاعته تحمّل صوت بكاء الشباب والشيوخ والأطفال والنساء؟ الجميع كان ينوحون لأنهم سمعوا أن أيامهم قد انتهت ولا بّد لهم من أن ينزلواإلى الجحيم. فتضحى المدينة في حيرة إذ ليس هناك من دافن أو مدفون كون القضاء قد أدرك الجميع. فالشباب المستعدون للزواج ينتظرون الآن حتفهم المفاجئ.
من ذا الذي يحمل أوجاع العرائس؟ فبينما كنّ جالسات في قاعة العرس وعوض أن ينعمن بالفرح المنتظر أغلق عليهم مع عرسانهن مطروحين جميعاً للموت. من بإمكانه أن لا يبكي عندما يرى الملك باكياً ذلك لأنه سيبيت في الجحيم عوض أن يتربع في قصره الملكي وسيملك على اللذين يموتون معه ويصبحون رماداً مثله.
سمع الملك بدمار المدينة الوشيك وهو الذي اعتاد سماع جلجلة عربته الملكية وأدرك أن الموت سوف يقضي عليه وهو الذي اعتاد الرفاهية والراحة. ذلك أن المدينة إنما دعيت كلها لتنزل إلى الجحيم.
دعا الملك قواته الخاصة وبكوا معاً وفيما أغرورقت عيناه بالدموع قال لهم: في حروب كثيرة كنت منتصراً وأنتم بشجاعتكم أنتصرتم معي وتمجدتم! أما حربنا الآن فليست هي الحرب المأثورة حتى نخرج ونغلب. لقد سبق وأنتصرنا على شعوب كثيرة إلا أن رجلاً عبرانياً واحداً قد غلبنا الآن. صوتنا كان يخيف الملوك أما الآن فصوته المحزن قد جعلنا نضطرب جميعاً. لقد كنا نسلب المدن ونسيطر عليها أمّا الآن ففي مدينتنا أجنبي واحد يكبّلنا.
أرتعدت مدينتنا نينوى أم الجبابرة واللبوة الرهيبة اضطربت كثيراً عند رؤيتها يونان العبراني. في كل المسكونة تزأر ويونان القوي يخيفها. ترى هل أضمحل نسل نبروت الجبار الذي شادها؟
قدّم الملك لقواته أفضل النصائح قائلاً: لا نتهاملن الآن ولا نهلكن كالأشقياء. عندما يواجه أي منّا تجربة ما بشجاعة ولو غلب يربح ربحاً مزدوجاً. فإن عاش يتمجد وإن مات يمدح كمجاهد شجاع. فلنقو إذا ونتشجع ونجاهد. إن لم نفذ نكون على الأقل قد تركنا للآخرين ذكراً حسناً. لقد سمعنا بقضاء الله العالدل وبمحبته للبشر. فحكم الله يهدد الأشرار والله ينقذ لأنه صالح ومحب للبشر. لنرهب إذاً قضاءه العادل ولنمتلئ من رحمته.
إن استنجدنا لقضاء الله العادل غمرتنا رأفاته. وفيما نحن ندرك عميق رأفات الله لنرتد الآن السلاح الكامل الجديد مواجهين هذه الحرب الجديدة التي تنتظرنا. فلا نزدرين إذاً بيونان ولا نكتفين بسماع كرازته. لقد سقطت في حزن عميق واهتمام كبير لأنني سمعت صوت المرعب الرهيب ورأيت مشهده المثير للشفقة.
سألت يونان أمام الجميع ممتحناً كلماته لكنه لم يخف. لم يضطرب ولم يخجل من أقواله. لم يتراجع عن أقواله لأن الحقيقة لا بد أن تُقال.
لقد أغريته ولم يقنع. أرعبته ولم يلن، أريته غنى فضحك مني. شهرت أمامه السيف فاستهزأ به. غريباً كان أمام السيوف والهبات. لم يتراخ أمام مغريات الهبات ولم يلن أمام السيوف بل ظل على موقفه ثابتاً بشجاعة غير عابئ بالمحالفة والتهديد. رأى السيف فهزئ به. أمام الفضة لم يتراخ. خرجت من فمه كلمة بسيطة ردعت أعمالنا كلها.
لم يخش أبداً قساوتي ولم يحاب وجه كرامتي. بل نظر إلى ثرواتنا ولم يعبأ بها فهي كالتراب الذي يداس. فهل أتى من أورشليم جاعلاً وجهه من نحاس؟ كلمته كانت مرآة لنا. رأينا الله يسكن فيه فيما هو يهددنا لأعمالنا القبيحة. شاهدنا في المرآة قضاء الله العادل يثور على أفعالنا الشريرة. بواسطته صدر حكم الله على المدينة.
لو جاء يكرز بالسلام والغلبة لظنناه عدواً يطمع في هدايا نقدمها له لقاء كلماته الحلوة التي تنبئ بالخيرات المقبلة. فالطبيب الحق يدخل على المريض ويعلمه بحقيقة مرضه حتى ولو أستوجب المرض الجراحة والكي المرير. ولم يجزع من قول الحقيقة لأنه لابد للضرس من أن يقلع. لم يجزع من الأفصاح عن الآلام للملك حتى ولو أستوجب إعطاءه شراباً دواءً مراً.
من ذا الذي يستطيع أن يدعوه كاذباً ذاك الذي كان يكرز بالغضب. لو كان كاذباً لتكلم وهو جالس لكنني أراه أكثر استقامة من كل الأطباء لأنه لم يأخذ حتى كسرة خبز لقاء أتعابه. إن كان الصديق يونان يصوم فكم علينا بالأحرى نحن الخطأة أن نهتم بالصيام. إن كان وهو بار يتوسل ويصلي إلى الله فكم علينا بالأحرى أن نفرش لأنفسنا المسوح مع الرماد. إن هذا الصديق يصوم ويصلي حتى لا يظهر للناس كاذباً. ترى هل يرفع الصوت في خراب مدينتنا حتى نثق بصحة كرازته؟ علينا أن نواجهه بالصوم والصلاة لأن النبي لم يخطئ بل خطايانا الكثيرة هي التي ستوارينا في التراب.
ليس العبراني هو الذي يقضي على مدينتنا بل الشر الذي فينا. أيها الأصحاب لنا عدو غير منظور وعلينا أن نحارب ذلك العدو بضراوة. لقد سمعنا بجهادات أيوب الصديق فشجاعته قد ذاع خبرها وتجربته كالبوق بشرت الغلبة على الشيطان في كل المسكونة. إن كان الشيطان هكذا يحارب الصديقين فكم بالأحرى يعمل ضدنا نحن الخطأة؟! فهو الذي خرج ودمّر البيت على أصحابه أبناء أيوب مازحاً الخمر بالدماء ومحطماً بلا شفقة عظامهم مع كؤوسهم.
لقد أنتصرنا نحن في الحرب على الملوك فلنهتم الآن بالنصرة على الشيطان في صلوات كثيرة. لتخرج جيوشنا الآن ولنحاربه بقوة. أخرجوا دروعكم والبسوا المسح. انزعوا الجعبة عندكم والجأوا إلى الصلوات. دعوا السيف جانباً واطلبوا الإيمان. حطمواالسهام وتمسكوا بالصوم. غلبتنا على الملوك والأعداء ليست بشيء فلنتغلب إذاً على الشيطان فتكون غلبتنا حينئذ أعظم من كل الإنتصارات والجهادات التي قمنا بها حتى اليوم. وكما تقدمتكم في حروب كثيرة أتقدمكم الآن في هذه الحرب الحاضرة.
وقف الملك ونزع عنه البرفير الملكي وليس المسح. والجنود أيضاً نزعوا عنهم اللباس وارتدوا السموح. فناح أهل نينوى الذين كانوا دوماً من قبل يرتدون لباساً فاخراً وذلك بسبب الآلام الآتية عليهم.
خرج الملك مع قواته وتفقد المدينة. أرسل مبشرين إلى كل ناحية يكرزون للناس بالتوبة ويقولون: ليمقت كل واحد شرّه حتى لا يجرح في الحرب ويموت قتلاً، ليسلّم السالب غنائمه، ليتعقل الجاهل، ليصر الغضوب وديعاً وليدخل المتنعم في صوم. فلا يبغضن أحد من بعد ولا يسلبن ولا يكن محزناً للآخرين وشاتماً. فإن غفرنا نحن العبيد لأخوتنا زلاتهم فسوف يغفر لنا الله ما ارتكبنا من زلات. هذه هي شيمة رتبتنا هكذا نغلب فتخلص المدينة.
هكذا كان رسل الملك ينشدون في المدينة العظيمة، ويدعون جميع الناس والحيوانات للصوم. وقف الملك كطبيب يداوي مريضته. لقد قدّس بالصوم فرقته وبه أعطاها درعاً للمجد وخوذة الخلاص. أسرع ليكرز فيها بجعبة الوداعة التي منها تخرج السهام وتصل إلى السماء. إنها سهام المحبة والإيمان والرجاء. وبعد أن سلّح الملك فرقته بالأصوام والصلوات أخذ يتفقد الجموع رجالاً ونساءً وهو يقول: "لنحارب كلنا بشجاعة ومروءة من أجل خلاصنا". لبس الملك المسوح حتى يتسلح الجميع مثله بالتواضع.
إن ابن الجبار الشجاع نبروت بعد أن ترك طرائده أخذ يحارب أهواءه كلها حتى يقتلها. فعوض الوحوش أخذ يذبح الخطيئة العدوّة. لقد ترك الوحوش الظاهرة واجتهد في محو الشر الذي فيه. عوض أن يجلس على مركبة مجده أخذ يسير في المدينة على قدميه داعياً الكل إلى التوبة. كان الملك يعبر في الساحات كلها ليطهرها من دنس الخطيئة. كان يسير بتواضع فظهر بذلك سنداً للمدينة المتزعزعة وحائلاً بينها وبين القوط والدمار.
رأى يونان كل هذا وتعجب. لقد أدهشه أبناء الأمم. رأى أعمال أهل نينوى وفضائلهم، وبكى نسل إبراهيم. رأى نسل كنعان يتبرر بالإيمان ونسل إبراهيم يزني مبتعداً عن الله. رأى قلوب أهل نينوى غير المختونة تختتن، فيما المختونون يلبثون في قساوة القلب. لقد عرف ملك نينوى مصدر الغضب المكروز به والناتج عن خطاياهم لذلك عمل على إبعاد الشرور.
لقد ظهر الملك طبيباً بالحقيقة إذ رأى بوضوح مصدر سقم المدينة وبعلاج الصوم والمسح والرماد شفى المدينة طارداً عنها الخطيئة. أتى يونان قاضياً يطالبهم بمسؤولية أعمالهم فرأى صومهم وغفر ذنوبهم.
اجتمع أهل نينوى ليطلبوا الرحمة من الرب ويهربوا من الموت. عرف أهل نينوى أن الصوم قادر على إيقاف قرار الموت ومنحهم الحياة. كان يونان يصوم بدوره خوفاً من أن يخلص أهل نينوى بالصوم ويظهر كاذباً، لكن التوبة محت قراره. هكذا علم سكان نينوى الحكماء أن الله رؤوف ورحوم ويمنح رحمة كليّة للتائبين إليه.
رأى أهل نينوى النبي قاسياً والله محباً للبشر. فتركوا الرجل القاسي ولجأوا إلى الأب الرحوم. لقد قطع يونان عليهم كل رجاء مهدداً إياهم لكن الصوم زاد في الرجاء ووعد بالحياة. الجو الذي كان شاحباً أضحى بفعل توبتهم لامعاً. ارتجفت المدينة لأذلال وتشددت بإحسانات أهلها. بقي الأطفال في أحضان أمهاتهم لأنهم تعلموا الصوم في أيام المحنة.
صرخ الشيوخ لابسين المسح والرماد فمدّدت لهم الحياة كما حصل مع حزقيا. بكى الشباب فحفظ الله بهم لهم أكاليلهم. تقبلت العرائس الحزن فرجعن إلى أخدارهن فرحات. حُرمت الحيوانات من شرب الماء فصرخت وأضحت الأصوات رهيبة عند الناس وعند الحيوانات. لكن حكم الله العادل سمع صراخهم فخلصت نعمته المدينة في يوم الدمار الذي هدّد به يونان.
كانوا إذ يصومون ويتوسلون باستمرار، لم تجف عينهم من دموع التوبة. لم يتوقف لسانهم عن طلب الرحمة. لم تصغ آذانهم إلى أي صوت آخر لأنها كانت منشة بسماع أصوات النحيب والبكاء والتوّجع. ما من أحد يشاهد فرحاً أو ضاحكاً أو لاعباً لأن الجميع كانوا منشغلين في قرع صدورهم من الحزن. أمّا دموعهم المتساقطة فكانت تثير الشفقة. لقد عرفوا التوبة والصوم والطهارة وعرف الجميع العفة رجالاً ونساءً.
عندما عاينت نعمة الله هذه الأمور تحنّنت على سكان نينوى واسبغت عليهم ندى الرأفة والحياة. فالله لا يريد موت الخاطئ إلى أن يعود ويحيا. أراد الله التوبة والخلاص لأنه صالح ومحب للبشر، رحوم وطويل الأناة، هو الآب مع الابن والروح القدس الذي له يليق المجد إلى دهر الداهرين آمين. حلّ الوفاق بين الغضوبين والشيوخ تسالموا والشباب تعقلوا والعذارى تطهرن. المتجاسرون والعبيد أضحوا ودعاء. تساوى الجميع في الطعام والشراب الأغنياء والفقراء، الحكام والعبيد، لأن الكل أتخذوا نيراً واحداً هو نير التوبة لينالوا به رأفات الله. قام الجميع بعمل واحد ناشدين غفراناً واحداً من الله.
كانت المدينة ترتجف كالقصب في مهب الريح، وكالعصفور الذي يتمطى على الشوك. لم يعتقدوا أنهم سيدركون ضوء النهار. كانت المدينة مقيمة في أفواه الموت، تقرع مرتعدة عند أبواب الجحيم. يونان يعدّ الأيام والليالي وأهل نينوى يعدّون خطاياهم. كان يونان يصلي في مظلته حتى يخرج بالحقيقة وأهل نينوى في المدينة يتسولون حتى لا يموتوا، جزع يونان عند مشاهدته دموعهم لذا أخذ يراقب ما سيحدث للمدينة. كان يتفيأ بظل اليقطينة التي لم ينصبها بنفسه. لكنه كان يحترق وسط لهيب النار لأن المظلة يبست ويمين العلي ألقت على أهل نينوى ظلها.
رأى يونان أهل نينوى يرتجفون من غضب الله العادل. رأى رضعاً يصرخون من صوم وبكاء. رأى أطفالاً ينوحون وحملاناً وخرافاً يصرخون. رأى أحشاء الأمهات تتمزق وتبتهل إلى العلي. رأى شيوخاً يبكون ويلتجئون إلى الله فيما شيوخ إسرائيل غير ثابتين. رأى نينوى في توبة عظيمة وصهيون تزني وتتعلق بالأصنام. رأى نينوى بتوبتها توبّخ أورشليم الثائرة توبيخاً شديداً. رأى زانيات نينوى يتعلقن وبنات يعقوب يزنين بوقاحة صريحة. رأى كاذبات نينوى يقلن الحقيقة ونبيات صهيون الكاذبات يمتلئن غشاً.
في نينوى حطمت الأصنام جهاراً وفي أورشليم سُجد لها خفية. لقد أستفاد يونان من الأمم كما أستفاد قبله أنبياء كثيرون ذلك عندما استقبل كاهن الأصنام موسى وأسدى إليه النصح، وحين أستقبلت أرملة صرفت صيدا إيليا، وحين رحبت القبائل الغريبة بداود بعد أن طرده شاول ملك إسرائيل. رأى يونان نينوى كنية مجتمعة مجاهدة، بينما هيكل الله في أورشليم جعله اليهود هيكل لصوص.
أبدى ملك نينوى إحتراماً وإكراماً للرب. ثم أخذ أهل نينوى يبكون أحياءهم. ناح الجميع على أبناءهم وأهلهم. نوح كبير وبكاء مرّ. ذلك أنهم جميعاً كانوا يعتقدون أن موعد نزولهم إلى الجحيم قد غدا قريباً. وكلما انقضت الأيام كلما أزدادت الدموع حتى خيّل إليهم أنهم ليسوا بعد بموجودين.
اليوم الذي تدمر فيه المدينة آت إن لم يتوبوا. لذا بكوا وغرقت المدينة في الدموع حتى أن تراب الأرض المبلل تحوّل إلى وحول.
أندفع الآباء والأبناء ينوحون معاً على موتهم المحتم. تأمل الآباء في جمال أبناءهم الذي سيضمحل وغشيت الظلمة أعينهم حزناً. ظنوا جميعاً أن الأرض ستتزلزل فرفعوا الصوت بالبكاء إلى أن وصل إلى عنان السماء. ذهب الشيوخ والعجزة إلى القبور يبكون. ذلك أنه لن يوجد هناك من يَدفن أو من يُدفن. تراءى الحوت المرّ لعيني كل منهم لذا أخذوا يصرخون من الوجع لأنهم لا يعلمون أي موت كان ينتظرهم.
حين سمعوا الأرض تتشقق تمزّق قلبهم وتحيّروا في الموت الذي كان في النهاية ينتظرهم. تغيّرت سحنة وجوههم عندما فكرواً أن الأرض سوف تنقلب رأساً على عقب. الملك وهو لابس المسح يتألم لأنه لن يوجد في الغد والجميع يأكلون الرماد ويبتهلون إلى الله. يدعون أصحابهم للشبع من رؤيتهم قبل نزولهم إلى الجحيم.
عندما دنا المساء وقف الجميع أمام الموت يمسك كل منهم بيد الآخر وينوحون معاً. حلّ الليل الأخير وانتظروا الساعة التي فيها سيسمعون صوت الخراب والدمار. خيّل إليهم أن المدينة ستدمّر في العشاء. جا وقت العشاء ولم يحدث شيء. فاعتقدوا أن الفوضى والخراب سيحلان في الليل. حلّ الليل ولم يُسلموا إلى الهلاك. ثم اعتقدوا أن نهايتهم انما تكون في وسط الظلام. تلاشت الظلمة دون أن يصابوا بشيء ثم فكروا بأن المدينة ستدمّر في الصباح. لاح الصباح وازداد رجاؤهم. وفي الساعة التي انتظروا فيها هلاكهم أكتنفهم الفرح، فرح الجميع، الأقرباء والأصدقاء، ومجّدوا الله الذي رحمهم جميعاً.
كان يونان يراقب عن بعد كل ما يجري ويخشى أن يظهر كاذباً. وفي الساعة التي كان ينتظر فيها سقوط المدينة، في هذه الساعة بالذات أنقذت المدينة. فالرب صالح حين رأى دموعهم تحنّن عليهم. لقد توقّع أهل نينوى الموت فماتوا مسبقاً وكانوا بالتالي أمواتاً غير مدفونين. ذلك أن رهبة الأمور التي كانت تنتظرهم قد أماتتهم وهم بعد أحياء. كان يونان ينتظر أن يصابوا بالجنون والمخاوف من هول الشدائد لأنهم أضحوا كالخيال.
لم يقدّر يونان حقّ التقدير شدائد أهل نينوى ولم يرث لحالهم بل طلب أن يهلكوا جميعاً. أمّا الله فقد تحنن عليهم وحرّرهم من الخوف وأعاد المدينة إلى الحياة. فرح الجميع وامتلكهم أفضل رجاء عندما شاهدوا الغضب يتحوّل إلى رحمة. وخرّوا على ركبهم يصلون ورفعوا الأيدي شاكرين الله الذي برحمته خلصهم من الموت ومنحهم الحياة وهم الذين كانوا يتوقعون الموت الأكيد.
عندما رأى يونان أن خلاص أهل نينوى سيظهره كاذباً اضطرب إلى حد كبير. أمّا سكان نينوى فأخذوا يلاطفونه قائلين: لا تحزن يا يونان لأننا من خلال تبشيرك وجدنا حياة جديدة وعرفنا الرب جابل الكل وخالقهم! لا تخف ! أنت لم تظهر كاذباً لأن شرنا كله قد فني وإيماننا قد أرتقى. بك وجدنا التوبة وتزودنا من ذخائر الله.
قل لنا يا يونان بماذا كنت ستنتفع لو خربت المدينة ومتنا جميعاً؟ ماذا كنت ستربح يا ابن أماسي لو أبتلعنا الجحيم كافة؟ لماذا تحزن يا من شفيتنا من الشرور؟ إن جمهور شعب نينوى يشكرك على إحساناتك. أتتنهد لأنك لم تودِ بالمدينة إلى الهلاك بل إلى معرفة الله أوصلتها؟ لماذا تنوح على الذين بالتوبة قد خلصوا؟ الآن وقد كللت فلتبتهج نفسك لما حدث! لقد أبهجت الملائكة في العلاء وعليك أنت أن تبتهج على الأرض. فالله مع الملائكة في السماء يفرحون من أجلنا. ليتعظم فكرك أكثر فأكثر لأن الجميع قدموا الإكرام لله. تعزّى إذاً لأن المدينة والملك يخرون لك بإبتهاج!
لقد رأيت كيف نجا الرضع من الموت فتعزَّى إذاً وصلي من أجل حياتهم. أنظر إلى الأطفال كيف حفظوا، وضع يدك على رأسهم لتباركهم. بارك المدينة التي أنقذت من غير توقع رجاء. هذه المدينة التي فيها سيلهج بذكرك كثيراً. أبعد عنك النوح وكفّ عن الصوم وامنحنا يا نبي الله نعمة وبركة.
قال أهل نينوى ليونان كل هذا الكلام بل أكثر منه كي يضعوا حداً لحزنه الظاهر في غير أوانه فيما هو مقيم خارج المدينة. ذهب إليه أهل المدينة وعاينوا مشهداً مريعاً. رأوا يونان قائماً وسمعوا أصواتاً تصدر عنه كل منها يدين الآخر. سمعوا يونان يدافع عن نفسه أمام الله ويجيب بنفسه عنه. ذلك أن الروح القدس الذي كان يتكلم من فمه ويحكم كان هو نفسه ينطق من داخله. فبدأ وكأن هناك شخصين. فالله والنبي يتبادلان الحكم.
سمع الجمهور يونان يدافع في آن عن نفسه في ما يختص باليقطينة وعن المدينة والله معاً. كان يتفوه بكلمات وكأنها صادرة عن شخصين يتكلمان بلسان واحد. فيونان يتكلم مع الله والله يجيب بواسطة يونان نفسه. يا له من محام! كيف أن لسانه هذا كان يدافع معاً عن نفسه وعن الله؟!
كانت الجموع المحتشدة هناك تسمع كيف كان يونان في حديثه يلتقي مع الله ثم يدافع عن نفسه وهو يقول: "يا سيدي وإلهي لماذا تركتني هكذا اتألم ولماذا جعلتني أبدو كاذباً؟ وكأنه لم يكفك يارب كل هذا بل جعلت اليقطينة التي كانت تحفظني من الحر تيبس والشمس تحرقني. لذا فأنا أطلب الموت، فخذ روحي يارب فإني حزين جداً من أجل اليقطينة.
وللحال أجابه الروح القدس من فمه بأن لسانه يدينه. ثم أخذ يحاربه وفمه يوبخه مبرراً الله. سمعت جموع المدينة من فم يونان دفاع الله عنهاز قال الرب: "أنت تحزن من أجل اليقطينة التي لم تربها ولم تتعب من أجلها، هذه اليقطينة التي نبتت وعند الفجر يبست. فكم أحزن أنا بالتالي من أجل مدينتي. فخذ من مثل اليقطينة التي يبست مثلاً وعبرة. لتكن اليقطينة إذاً لك مرشداً تتعلم منها الفهم والحكمة وتدرك من خلالها عظيم أوقات الله.
أنت تحزن من أجل اليقطينة وأنا من أجل المدينة. تطلب المظلة الواقية لنفسك وهلاك المدينة من جذورها. أين هي حكمة يونان؟ لماذا تفضل اليقطينة على المدينة؟ تترأف على يقطينة هزيلة وتقسو على المدينة. كيف عظمت في عينيك إلى هذا الحدّ اليقطينة الفاسدة على أهل نينوى التائبين، أعليت شأن الأوارق أكثر من الكائنات العاقلة.
ما إن سمع أهل نينوى هذا الكلام حتى مجدوا الله الذي يحكم لصالح مدينتهم. لقد تحنن الجابل على جبلته والخالق على خليقته، والسيد على عبيده وأصدر من فم يونان حكماً عادلاً. أما يونان الذي غُلب عن غير إرادة منه فأعطى مجداً لله وصدَّق في حكمه على حكم الحاكم.
لقد أرتضى الله الجزيل الرآفات أن يستخدم صوت يونان المرعب من أجل خلاص المدينة. أمّا يونان فقد دخل في نزاع حاد مع الله حتى تهلك المدينة ولا يظهر بالتالي كاذباً. ابتهجت الجموع كلها وهي تسمع وتشاهد يونان مغلوباً من الله على أمره. لكنهم حين أدركوا أن الله يعزيه أسرعوا يكرمونه. ازفوه في احضانهم فدخل المدينة كملك وجلس فيها بمجد. اجتمع حينئذ التائبون حوله وسجدوا كلهم له وقدموا له هدايا وعشوراً وما جمعوه في فترة حزنهم.
فتح الملك خزائنه وقدّم له الهدايا الثمينة. كل فم في نينوى مجّد يونان الداخل إليها على عربة ملكية. الحوت جلب يونان من البحر، وعلى اليابسة في مدينة نينوى عظمة الملك وجميع الشعب. قاده السمك في البحر وفي عودته إلى أورشليم أرسل الملك رؤساء ليهيئوا له كل ما كان يحتاج إليه. لقد أرشد الله الحوت وأعلمه أين يتوجه كذلك أرشد الملك النبي في طريق عودته.
عند دخوله المدينة خرج الملك بمجد للقائه. ذاك الذي أرتعد خوفاً من كرازته يتقدم الآن للقائه. لقد قدمت المدينة كلها الأكرام له عند مجيئه. وكان الملك يخشى ألا يدرك يونان ما حصل في المدينة فيعود إلى تخريبها.
عندما اقترب يونان من حدود أورشليم أبلغ مرافقيه بأن يعودوا إلى بلادهم. لقد فعل ذلك لأنه خشي أن يروا في أورشليم وثنية وجحوداً كبيراً. خاف أن يتعلم التائبون وخائفو الله الجحود من أهل أورشليم فيعودوا إلى ذبائح الأصنام. كان يخاف من تجدد الجرح الذي كان الله قد عالجه وأوصاهم أن يعودوا إلى نينوى، لكنهم لم يسمعوا له، قالوا له: لا تبعدنا عنك أيها النبي، دعنا ندخل معك أرض إسرائيل ونتعلم منها الفضائل والشرائع والأعمال الحسنة القويمة والأمثال والأقوال. دعنا ندخل ونشاهد الأرض التي لا تعرف الوثنية بل الإيمان والإستقامة. دعنا نتعرف على الجذور الصالحة التي منها نبتّ. نتوسل إليك أيها النبي وكأجرة لنا أن تسمح لنا بالدخول معك.
كانوا يتفوهون بهذا الكلام ويونان رأسه إلى الأرض يفكر كيف يستطيع اقناعهم بالعودة. كان يخشى العبرانيين كونهم أشراراً جاحدين لذلك طلب الموت لنفسه حتى يتحرر من هذا المأزق.
أخذ النبي يتعلل أمامهم بعلل واهية ويقول: "اليوم عيد كبير في بلادنا والغريب لا يستطيع أن يدخل. فأنتم وإن كنتم مؤمنين لا تستطيعون أن تدخلوا ذلك أنكم غير مختونين. عودوا بسلام وفرح إلى وطنكم وإلى الملك الذي أرسلكم وبعد إنتهاء العيد يمكنكم أن تأتوا من جديد.
حزنوا جداً لهذا الكلام وقبّلوه باكين وعادوا. وبعد أن أبتعد النبي رأوا في الموضع الذي كانوا فيه جبلاً عالياً وفكروا بالصعود إليه ليروا الأرض عن بعد. صعدوا إلى قمة الجبل ومن هناك رأوا المنطقة كلها. وتعجبوا إذا شاهدوا أناساً يقدمون الذبائح للشياطين. كما شاهدوا التماثيل على المرتفعات والأصنام على الأبواب. يدخل الواحد منهم، ويقّدم السجود للأصنام والآخر يقدّم خروفاً ويهرق دماً للشياطين. لقد شاهدوا هناك أشياء لا تصدّق. شاهدوا كل الألاعيب والفنون الشيطانية.
أخذوا يقولون: ربما نشاهد حلماً فنحن نرى إسرائيل كسدوم. أهؤلاء هم أحفاد إبراهيم حقاً أم أن الشياطين تظهر لنا خيالات؟ هل هرب الجحود من بلدنا وجاء يستوطن ههنا؟ هل عادت الأصنام التي حطمناها إلى هنا مقبولة محترمة؟ تلك الأصنام التي لم تأت من بلادنا فقط بل ومن أماكن أخرى لا نعرفها. في بلادنا لا نسجد للحية أمّا هنا فيسيجدون للحيات. في بلادنا نريق دم الحيوانات أما هنا فيريقون دماء أبنائهم وبناتهم.
وحيث أن الشعب الذي أقتبل ناموس الله على يد موسى يقيم الأصنام ويسجد لها فلنهرب إذاً من هذا الشعب الشرير ولنبتعد عن أعمالهم الرديئة. فأرض إسرائيل هي التي سيحلّ بها الخراب لا أرض نينوى. تفوهوا بهذا الكلام وفقلوا عائدين إلى وطنهم خائفين وهم يمجدون الله.
لنمجد نحن أيضاً الله الذي بواسطة أهل نينوى قد منحنا نموذجاً للتوبة وعربوناً للخلاص. وكما خلص الله أهل نينوى بواسطة يونان هكذا يخلص دائماً شعبه بواسطة ابنه الوحيد. ويدين الشعب الإسرائيلي التينة غير المثمرة التي تحجب الخلاص وثمار التوبة عن الأمم. باسم ربنا يسوع المسيح الذي يليق به المجد والقوة مع أبيه وروحه القدوس الآن وكل أوان وإلى دهر الداهرين آمين.
|