رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
تصحيح الفكر المشوه عن قمع الجسد وإخفاء الفضيلة
هناك دائماً خلط ما بين الحياة الرهبانية الخاصة وحياة الإنسان العامة، وهذا الخلط أتى بسبب الوعظ المنتشر وخاصةً من بعض الرتب الكنسية والخدام، والتركيز على أن اللي عاشوا مع الله رهباناً مع عدم ذكر أحد في الحياة وسط المجتمع العادي أنه عاش مع الله، لذلك تأصل المفهوم الرهباني النسكي التقشفي في موضوع خلاص النفس ونبذ العالم وأن كل من يحيا مع الله بعمق عميق ومعرفة قوية هو الراهب الذي ترك كل شيء واتجه للبرية، وعاش في حالة تقشف أهلته للقداسة... والتقشف هو نمط صارم من الحياة لكبح الشهوات، والانضباط الجسدي، وجهد الإرادة البطولي، وذلك بغية السيادة على الذات والسيطرة عليها... ولكن للأسف الشديد من منطلق هذا المفهوم أصبح هناك مجموعة من الناس يدعمون الفكر التقشفي، ويركزون على عدم المبالاة باللذة أو الألم، أو بالغنى أو الفقر، حتى أن البعض يُعلِّم عن احتقار الجسد ومتعة الحواس، وركزوا على أن الإنسان ينبغي أن يفرض على نفسه نظام قاسي من الحرمان، وبذلك يوطد سيطرة الروح على الجسد والإرادة على الغرائز والأهواء. وبذلك يكون قادر على أن يصنع الخير الأسمى بالجهد الذي يبذله لبلوغ الفضيلة، والنتيجة الطبيعية بعد ذلك يحاول بتواضع (كما يظن) أن يخفي فضائله، كما يقال عن بعض الرهبان في القصص الشهيرة المعروفة الذين أخفوا فضائلهم التي اقتبسوها بقدراتهم وإرادتهم. مع أن في الواقع (كما قال فرويد) أن هذا السلوك ذو علاقة بنمط من دفاع الأنا ضد "التفجّر الغريزي" للبلوغ. وهي تبدأ عند المراهق على وجهٍ خاص، فالمراهق يُحرَّم على نفسه كل لذة لحمايتها من شدة دوافعه المتهورة، ويهرب من ألوان اللهو ومن الرفق الذين من سنه أو من الأصدقاء الذين من حوله، رفاق عمره، وقد يتخلى عن الأناقة في اللبس وعن أي زينة حتى ولو كانت معتدلة عادية، بل قد يصل إلى ان يُقلِّص غذائه إلى الحد الأدنى الدقيق، وبذلك يعيش بجسد هزيل ويظن أنه وصل للقداسة حتى أنه بذلك أرضى الله... لكن علينا واجب في أن نُصحح هذه النظرة المشوهة لطابع الحياة الجديدة في المسيح يسوع ربنا، وعلى كل من يقرأ أن يفهم أننا لن نضع كلام ضد الرهبنة في ذاتها لأنها حركة محبة عن دعوة قلبيه خاصة، لكننا نُصحح وضع ومفهوم نُسب خطأ للرهبنة بسبب فكر الناس النابع من الإنسان العتيق الذي لم يدخل في نضوج تعليمي حسب الإنجيل الحي، عموماً يلزمنا العودة العميقة للكتاب المقدس لكي نفهم القصد من ضبط الجسد في حالة سوية ولكي نبتعد عن التشويش الحادث واللغط في التعليم، لأن الرسول يقول: [ أُقمع جسدي واستعبده حتى بعدما كرزت للآخرين لا أصير أنا نفسي مرفوضاً ] (1كورنثوس 9 : 27) طبعاً مشكلة فهم هذه الآية بسبب أن الكلمة الملازمة للقمع هي الاستعباد وهي تأتي دائماً في الذهن إلى العبودية والإذلال والقهر والتسلط وبذل الجهد وعمل الإرادة البطولي، مع أن أقماع الجسد واستعباده في هذه الآية لا يدل على الإذلال إطلاقاً، فقمع الجسد واستعباده غير إذلاله الموجود في المعنى القاموسي العام للكلمة والتي يتبادر للذهن فور سماعها، لأن الجسد ليس فيه شر ولا في جميع غرائزه الطبيعية حتى ننبذه ونرفضه ونذله، بل المشكلة في داخل نفس الإنسان التي تقود الجسد، لأن الجسد هو رداء النفس، وهو في ذاته صناعة الله القدوس، فليس فيه ما هو غير منسجم مع طبيعة الإنسان النقية التي خُلق عليها، لكن الذي حدث أن الإنسان سقط وانفصل عن الله مصدر حياته وقداسته، فانقاد وراء شهوات قلبه الداخلية، لأن لو الجسد مصدر الشرّ في ذاته، ما كان أتى وقت إلا والإنسان في حالة شهوة لا تتوقف، لكن الإنسان يتأثر فقط حينما تتحرك رغباته الداخلية وتأثر على مشاعره العاطفية وتقوده نحو الشهوة ليسقط فيها بحرية إرادته ورغبته الخاصة، والإنسان حينما يسقط فأنه يسقط بكليته وليس بجزء فيه.. عموماً المعنى المقصود عند الرسول في قمع الجسد هو الانضباط وعدم الانفلات من عمل النعمة التي نالها من الله، أي حراسة ما ناله من الله، أو وضع الجسد تحت حراسة آمنة ومشددة محترزين من شكل الأمان الزائف، لأن أحياناً ممكن أن يعتقد الإنسان أن طالما تسكن قلبه النعمة أنه غير مُعرَّض للسقوط، فيستهين ويترك نفسه بلا ضابط أو رابط فيسقط بسهولة بدون تحفظ، والكتاب المقدس في موضوعه يُشير لضبط النفس والتي تعني المثابرة أو الترويض والتجلد والذي يعني السيطرة [ واستعجل يوسف لأن أحشاءه حنت إلى أخيه و طلب مكانا ليبكي فدخل المخدع وبكى هناك. ثم غسل وجهه وخرج وتجلد وقال قدموا طعاماً ] (تكوين 43: 30 – 31) وفي هذه الآية واضح السيطرة على انفعالات النفس الظاهرة في الجسد وضبطها عند اللزوم، وعموماً نستطيع أن نفهم من خلال الكتاب المقدس أن ضبط النفس يأتي بمعنى الحفظ بكل قوة [ اقبل إليها (الحكمة) بكل نفسك واحفظ طرقها بكل قوتك ] (سيراخ 6: 27) ... وعموماً لا نجد أي ملامح لقهر الجسد وسحقه أو احتقاره، أو حتى للنفس في تعليم الرب يسوع أو من خلال رسائل الرسل، وحتى في شكل الزهد الذي قد نستوحيه أو نراه في الإنجيل وأعمال الرسل من جهة الطعام أو الملبس أو حتى النشاط الجنسي الزيجي أو فيما يتعلّق بالممتلكات والتخلي عنها أو في أي شيء يخص الجسد لأن المسيح الرب يسأل فقط عن ما يقف عائقاً في طريق تبعيته [ قال له يسوع أن أردت أن تكون كاملاً فاذهب وبع أملاكك وأعطِ الفقراء فيكون لك كنزٌ في السماء وتعال اتبعني ] (متى 19: 21)، ولم يقل الرب هذا القول لكل واحد بل لأنه رأى في قلب هذا الغني تعلق خاص بالغنى في داخله وبسببه مش قادر يتبع طريق الحياة، فالغنى والأموال عنده هما الأساس ويضع الرب في المرتبة الثانية، فلكي تنضبط نفسه ويدخل في طريق الحق والحياة ينبغي أن يتخلى من قلبه عن ما يعيقه في طريق الحياة وتبعية المخلص الصالح... عموماً ضبط النفس هو سلوك إيجابي كنتيجة لعمل الروح القدس في القلب، لأن حينما يتوب الإنسان ويعود لله الحي يعمل في قلبه الروح القدس ويجدد حياته كل يوم وباستمرار ليتقدس وبسهولة ويستطيع أن يضبط جسده وإخضاع ذاته للنعمة بقوة الله [ وإنما أقول اسلكوا بالروح فلا تكملوا شهوة الجسد. لأن الجسد (الإنسان العتيق) يشتهي ضد الروح والروح ضد الجسد وهذان يقاوم أحدهما الآخر حتى تفعلون ما لا تريدون. ولكن إذا انقدتم بالروح فلستم تحت الناموس. وأعمال الجسد (الإنسان العتيق) ظاهرة التي هي: زنى، عهارة، نجاسة، دعارة، عبادة الأوثان، سحر، عداوة، خصام، غيرة، سخط، تحزب، شقاق، بدعة، حسد، قتل، سُكر، بطر، وأمثال هذه التي اسبق فأقول لكم عنها كما سبقت فقلت أيضاً، أن الذين يفعلون مثل هذه لا يرثون ملكوت الله. وأما ثمر الروح فهو: محبة، فرح، سلام، طول أناة، لطف، صلاح، إيمان، وداعة، تعفف. ضد أمثال هذه ليس ناموس. ولكن الذين هم للمسيح قد صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات. أن كنا نعيش بالروح فلنسلك أيضاً بحسب الروح. ] (غلاطية 5: 13 – 25) ففي النهاية المقصود كله [ أن كنا نعيش بالروح فلنسلك بحسب الروح ] لذلك نقمع الجسد ونستعبده لحساب المسيح الرب فنخضعه بالروح، وذلك لكي لا نذله بل نكرمه في المسيح، لأن الخطية والشر والفساد هما إذلال للجسد، وتكريمه في المسيح الرب لأنه يُجمَّل ويصبح في مجد بالزينة السماوية أي زينة الروح القدس من طهارة وعفة ونقاوة وتقديس وتخصيص للعريس السماوي لأن الجسد للرب [ الأطعمة للجوف والجوف للأطعمة والله سيبيد هذا وتلك، ولكن الجسد ليس للزنا بل للرب والرب للجسد ] (1كورنثوس 6: 13) عموماً نحن لا نذل أنفسنا بل نخضها للرب وتظهر ملامحه فينا: [ حاملين في الجسد كل حين إماتة الرب يسوع لكي تظهر حياة يسوع أيضاً في جسدنا ] (2كورنثوس 4: 10)ومن الأهمية اننا نُدرك أنه واجب علينا أن نحفظ الجسد الذي هو صنع الله القدوس الحي، لأن أي أدنى إهمال فيه من جهة عدم الحفاظ على صحته وقوته بكل جانب فيه، هو خطية عظيمة ضد من صنعه لنا، لأن الله سلمنا هذا الجسد لكي يكون الرداء الصالح والطاهر والنقي الذي لنا، لذلك علينا أن نقوته ونربيه بكل لياقة وتدبير حسن وفق ما نلنا من نعمة ووعي، وحذاري من أن نحتقر ما أعطاه الله لنا أو نقوده نحو الشرّ والفساد، لأن إرادتنا النابعة من رغباتنا هي التي تقود أجسادنا، واعلموا يا إخوتي أن الفضيلة ليست جهد إنساني، بل هي ما يتفضل علينا الله ويهبنا إياه، لذلك من يظن أنه صاحب فضيلة فهي منه وليست من الله، لذلك يحاول أن يخفيها (وهذا حقه)، أما من نال الفضائل الإلهية فهو يمجد بها الله وليس من حقه أن يخفيها أو يظهرها، بل يترك الله يفعل ما يشاء بدون أن يتدخل، لأن كل من سيرى أن أعماله بالله معمولة سيُمجد الآب الذي في السماوات، لذلك نحن لا نخفي شيء الله وهبه لنا، لكننا نخفي ما نحصل عليه بإرادتنا ونفتخر به لأننا لم نأخذه بل صنعناه... |
|