منتدى الفرح المسيحى  


العودة  

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  رقم المشاركة : ( 1 )  
قديم 07 - 02 - 2015, 08:09 PM
الصورة الرمزية sama smsma
 
sama smsma Female
† Admin Woman †

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو
  sama smsma غير متواجد حالياً  
الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 8
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : قلب طفلة ترفض أن تكبر
المشاركـــــــات : 91,915

رحلة صعود _ أنتوني بلووم

رحلة صعود _ أنتوني بلووم


الصلاة الربانية رحلة صعود

بقلم المطران أنتوني بلووم



بالرغم من أنها بسيطة جداً، وتستعمل بشكل دائم، إلا أن الصلاة الربانية معضلة كبيرة وصلاة صعبة. أنها الصلاة الوحيدة التي أعطاها الرب، وبالرغم من ذلك عندما نقرأ سفر أعمال الرسل لا نجدها مستعملة قط من قِبَل أي أحد، هذا الأمر لا يتوقعه أحد من الكلمات التي تُقدِّم الصلاة في إنجيل لوقا (1:11): "يارب علمنا أن نُصلي كما علم يوحنا أيضاً تلاميذه". لكن عدم اقتباسها لا يعني عدم إستعمالها، وبطريقة ما الصلاة الربانية ليست فقط صلاة بل طريقة كاملة للحياة يتم التعبير عنها في شكل صلاة، فهي صورة الصعود التدريجي للنفس البشرية من العبودية إلى الحرية.


الصلاة ذات بنية محكمة بالغة الدقة. عندما تسقط حصاة في بركة يمكننا أن نُلاحظ إنتشار الموجات من المكان الذي سقطت فيه الحصاة وهي تتباعد شيئاً فشيئاً نحو الضفاف، أو بالعكس يمكننا أن نبدأ من الضفاف ونتتبع الموجات إلى مصدر الحركة. هكذا وبالطريقة نفسها، يمكن تحليل الصلاة الربانية إما بدءاً من الكلمات الأولى أو من الأخيرة. الأسهل جداً هو أن تبدأ التقدم من الخارج نحو مركز الصلاة، غير أنه بالنسبة للمسيح وللكنيسة الطريقة الأخرى هي الصحيحة.


هذه صلاة بنوَّة - " آبانا " - وبالرغم من أنها من الممكن أن تستعمل من قِبَل أي أحد يدنو من الله، إلا أنها تُعبِّر فقط وبشكل وافٍ عن علاقة أولئك الذين في كنيسة الله، الذين في المسيح قد وجدوا طريقهم إلى أبيهم، لأنه فقط من خلال المسيح وفيه قد صرنا أولاداً لله.


هذا التعليم عن الحياة الروحية من الممكن أن يكون مفهوماً بصورة أفضل عندما نضعه بالتوازي مع قصة الخروج وفي نطاق خبرة التطويبات. نرى الصلاة الربانية كطريق صعود، مبتدئين بالكلمات الأخيرة ومنتقلين نحو الكلمات الأولى. نقطة بدايتنا في نهاية الصلاة توضح حالة العبودية والكلمة الأخيرة في البداية توضح حالة بنوتنا.

لكن نجنا من الشرير:


شعب الله الذي جاء حراً إلى أرض مصر، أصبح بشكل تدريجي مُستعبداً. ظروف معيشتهم جلبت إليهم حالة العبودية. العمل صار أثقل فأثقل، ظروف المعيشة صارت بائسة أكثر فأكثر، لكن هذا لم يكن كافياً لكي يجعلهم يتحركون نحو الحرية الحقيقية. إذا إزداد البؤس إلى حد معين، قد يؤدي إلى التمرد، إلى العُنف، إلى محاولة الهروب من الحالة المؤلمة غير المحتملة، غير أنه لا العصيان ولا الهروب يجعلنا أحراراً بشكل جوهري، لأن الحرية أولاً وقبل كل شيء هي حالة داخلية فيما يتعلق بالله والنفس والعالم المحيط.

كل مرة يحاولون فيها ترك البلاد، كانت مهام جديدة وأعمال أثقل تُعطى لليهود. عندما كان عليهم أن يصنعوا الطوب اللِبنِ، رفضوا إعطائهم التبن اللازم لذلك، وقال فرعون: "ليذهبوا هم ويجمعوا تبناً لأنفسهم" (خر 7:5)، "ليُثقَّل العمل على القوم حتى يشتغلوا به" (خر9:5). فقد أراد أن يُستَنزفوا بالكامل، وأن ينغمسوا بالتمام في العمل والسُخرة، حتى لا يكون لديهم أي تفكير مرة أخرى في التمرد أو النجاة. بالطريقة نفسها، لا رجاء لنا طالما نحن مفتونين برئيس هذا العالم، أي الشيطان، وبكل القوات التي تحت تصرفه، لإستعباد الأرواح والأجساد الإنسانية، وإبعادهم عن الله الحي. ما لم يأتِ الله بنفسه وينجينا، لن يكون هناك نجاة، بل عبودية أبدية. نجد هذا المعنى ذاته في الكلمات الأخيرة للصلاة الربانية : "لكن نجنا من الشرير". النجاة من الشرير هو بالضبط ما تم في أرض مصر بواسطة موسى، والذي يتحقق في سر المعمودية بقوة الله المعطاة لكنيسته. إن كلمة الله تدوّي في هذا العالم، تدعو كل شخص إلى الحرية، وتقدم الرجاء الآتي من السماء لأولئك الذين فقدوا الأمل على الأرض. إن كلمة الله هذه تعظ وتدوّي في داخل النفس الإنسانية، وتجعل من الإنسان تلميذاً للكنيسة، تجعله واقفاً في المدخل كشخص سمع النداء وجاء للإستماع، لأن "الإيمان بالخبر والخبر بكلمة الله" (رو 17:10).

عندما يكون التلميذ المبتدئ مصمماً على أن يصير إنساناً حراً في ملكوت الله، تتخذ الكنيسة عدَّة خطوات. ما الفائدة من سؤال العبد، الذي مازال تحت سلطان سيده، إذا كان يريد أن يكون حراً؟ إذا تجاسر وطلب الحرية التي عُرضت عليه، سوف يعاقب بقسوة في اللحظة التي يُترَّك فيها وحيداً مع سيده مرة أخرى. فبسبب الخوف وإدمان العبودية، لا يستطيع الإنسان أن يطالب بالحرية إلى أن يتحرر من سلطان الشيطان أولاً. لذلك قبل طرح أي سؤال على الشخص الواقف هناك، يتم تحريره من سلطان ابليس، برجاء جديد في الخلاص الإلهي.


هذا هو المعنى من طقس جحد الشيطان الذي يمارس في بداية طقس سر المعمودية في الكنائس الأرثوذكسية – كما في الكنائس الكاثوليكية. أنه فقط عندما يتحرر الإنسان من قيود العبودية، يتم سؤاله أن يجحد الشيطان وأن يقبل السيد المسيح. والكنيسة تضمه إليها ويكون عضواً في جسد المسيح فقط بعد أن يُقدِّم جواباً حراً. إن الشيطان يريد عبيداً، أمّا الله فيريد أناساً أحراراً على توافق معه في الإرادة. بالنسبة لحادثة الخروج، كان الشر متمثلاً في مصر وفرعون، وكل ما هو مرتبط بهما، أعني أن يتم إطعامهم ويبقوا أحياء، بشرط أن يكونوا عبيدأً خاضعين. وبالنسبة لنا فعل الصلاة - الذي هو عمل نهائي للتمرد ضد العبودية وجوهري أكثر من حمل السلاح - هو في نفس الوقت نوع من الرجوع إلى شعورنا بالمسؤولية وإنتمائنا لله.


إذن الحالة الأولى التي تبدأ بها قصة الخروج، والتي نبدأ بها نحن، هي إكتشاف العبودية، وهي لا يمكن حلها بفعل التمرد أو الهروب، لأننا سواء أن تمردنا او هربنا سنظل عبيداً، ما لم نعيد تأسيس أنفسنا فيما يتعلق بالله وبكل أحوال الحياة، بالطريقة التي تعلمها أولى التطويبات: "طوبى للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السموات" (مت 3:5). الفقر في حد ذاته - حالة عبد - لا يقدم جواز سفر إلى ملكوت السموات، فمن الممكن للعبد أن يُحرم ليس فقط من الممتلكات الدنيوية بل من الممتلكات السماوية أيضاً. مثل هذا الفقر يكون أكثر سحقاً من مجرد الحرمان مما نحتاجه للحياة الأرضية. يقول القديس يوحنا ذهبي الفم أن الإنسان الفقير ليس هو ما لا يقتني شيئاً بقدر ما هو الإنسان الذي يرغب في ما لا يقتنيه.


الفقر لا يرجع في الأساس إلى ما هو عندنا وما هو ليس عندنا، بل في درجة إشتياقنا إلى ما هو بعيد المنال. عندما نفكر في وضعنا الإنساني يمكننا أن نكتشف بكل سهولة أننا فقراء تماماً ومعدمون، لأن كل ما نمتلكه ليس هو لنا أبداً، مهما كانت درجة الغنى أو الثراء التي نبدو عليها. عندما نحاول القبض على أي شيء نكتشف عاجلاً أنه قد ذهب. وجودنا غير متأصل في شيء إلا كلمة الله الخلاقة ذات السيادة، التي دعتنا من العدم الكلّي إلى حضوره. الحياة والصحة التي نمتلكها لا نستطيع الإبقاء عليها، وليس فقط الصحة بل الكثير من خواصنا النفسية والجسمانية: رجل بذكاء حاد، في دقيقة وبسبب إنفجار شريان برأسه، يصبح مُخرفاً وينتهي ذكاؤه تماماً. وفي عالم المشاعر، ولبعض الأسباب التي يمكن تفسيرها أو لا يمكن تفسيرها - مثلاً بسبب إنفلونزا أو إرهاق - قد لا نستطيع أن نشعر في الوقت المناسب، وكما نريد، بالتعاطف مع شخص كنا نود كثيراً أن نشاركه الشعور، أو نذهب إلى الكنيسة ونجد قلوبنا وكأنها من حجارة.


هذا هو الفقر في معناه الأساسي، لكن هل يجعلنا هذا الفقر أولاداً لملكوت السموات؟ لا، لأننا إذا شعرنا في كل لحظة من لحظات حياتنا بحالة من التعاسة، بأن كل شيء يهرب منّا، إن كنّا مدركين فقط لحقيقة أننا لا نمتلك شيئاً، هذا لا يجعلنا أولاد ملكوت الحب الإلهي الممتلئين بالفرح، بل نكون الضحايا البؤساء لحالة نكرهها وليست لنا قوة على تغييرها.


هذا يجعلنا نعود لكلمة "فقراء (مساكين) بالروح"، فالفقر الذي يفتح ملكوت السموات يكمن في هذه المعرفة: بما أن لا شيء مما لي أملكه فعلاً، إذن كل ما هو لي هو عطية محبة - محبة إلهية أو بشرية - وهذا يجعل الأمور مختلفة كليةَّ. لو أدركنا حقيقة أنه ليس لنا وجود في ذواتنا، ومع ذلك نوجَّد، يمكننا القول بأن هناك فعل مُساند للحب الإلهي لا ينقطع أبداً. إذا تيقنّا أنه مهما كانت ممتلكاتنا، لا نستطيع مطلقاً إرغامها أن تكون ملكنا، إذن كل شيء هو محبة إلهية، وهذا يظهر واضحاً وبشكل ملموس في كل لحظة من لحظات حياتنا، وبالتالي يكون الفقر هو أصل الفرح الكامل لأن كل ما هو لنا إنما يبرهن على محبة الله.


لا يجب علينا أبداً أن نحاول تخصيص أشياء لأنفسنا لأن تسمية شيء ما "ملكنا"، وليس عطية ثابتة من الله، يعني أقل وليس أكثر. لو كانت هذه الأشياء ملكي، تكون غريبة عن علاقة المحبة المتبادلة. لو كانت هذه الأشياء له وأنا أمتلكها من يوم إلى يوم آخر، ومن لحظة إلى لحظة أخرى، تكون ناتجة من فعل المحبة الإلهية المتجدد بشكل مستمر. ثم نأتي إلى فكرة مفرحة: "الشكر لله لأنها ليست لي، لأنها لو كانت لي، لكان ذلك معناه إمتلاك، إلا أنه للأسف بدون محبة".


إن العلاقة التي تأخذنا إليها هذه الفكرة هي ما يدعوه الإنجيل ملكوت الله. إن أولئك الذين يستلمون كل الأشياء من الملك في علاقة المحبة المتبادلة هم فقط الذين ينتمون إلى الملكوت، وهم لا يريدون أن يكونوا أغنياء، لأنه أن تكون غنياً معناه أن تكون مُجرداً من المحبة بينما تمتلكك الأشياء. إن اللحظة التي نكتشف فيها الله في داخل وضعنا البشري، ونكتشف أن كل شيء يخُصَّ الله، وأنه مصدر كل شيء، عندئذ نبدأ بدخول هذا الملكوت الإلهي ونكتسب الحرية.


إنه فقط عندما أدرك اليهود بتوجيه وإرشاد موسى النبي أن حالة عبوديتهم تتعلق بالله وليس مجرد حالة من صنع البشر، أنه فقط عندما إتجهوا إلى الله وأعادوا تأسيس العلاقة التي تخص الملكوت، صار من الممكن أن يحدث شيئ. وهذا حقيقي بالنسبة لنا جميعاً، لأنه فقط عندما ندرك أننا عبيد، عندما نتحقق بأننا مُعدمين، وعندما ندرك أيضاً بأن هذه الأمور تحدث في نطاق الحكمة الإلهية، وأن كل الأشياء مضبوطة بالقدرة الإلهية، يمكننا أن نتجه إليه ونقول: "نجنا من الشرير".



وكما دعا موسى اليهود للهروب من مصر، وأن يتبعوه في ظلام الليل لعبور البحر الأحمر، هكذا أيضاً يتم إحضار كل فرد إلى البرية، حيث تبدأ حقبة جديدة. يكون هناك حراً لكن ليس بعد يتمتع بمجد الأرض الموعودة، لأنه قد أخذ معه من أرض مصر، روح العبد، عادات العبد، إغراءات العبد، ومسألة تنشئة وتعليم إنسان حر تأخذ وقتاً أكثر - بشكل لا متناه - عن مجرد إكتشاف حقيقة إستعباده. إذ أن روح العبودية تظل قريبة جداً، ومعاييرها مازالت تعمل وفعالة جداً: العبد له مكان يريح فيه رأسه، العبد مطمئن لغذائه، العبد له مقام إجتماعي وإن كان وضيع، هو شخص آمن لأن سيده مسئول عنه. لذلك مسألة أن يكون الشخص عبداً - مهما كان ذلك مؤلماً وفي حالة مزرية من المزلة والخزي - هو أيضاً شكل من أشكال الآمان، بينما أن تصير إنساناً حراً، هذا يجعلك في حالة من عدم الآمان الكامل، إذ نأخذ مسؤولية قدرنا على عاتقنا، وأنه فقط عندما تكون حريتنا متأصلة في الله، نصبح آنذاك آمنين على نحو جديد، وبشكل مختلف إختلافاً كلياً.



تظهر هذه الحالة من عدم الآمان في سفر صموئيل الأول، عندما طلب اليهود من النبي أن يجعل لهم ملكاً. كانوا لعدة قرون تحت قيادة الله المباشرة، وعرفوا طرق الرب بواسطة رجال قديسين، كما يقول عاموس "إن السيد الرب لا يصنع أمراً إلا وهو يعلن سره لعبيده الأنبياء" (عا 7:3)، فالنبي هو الشخص الذي يشركه الله في مقاصده. لكن في أيام صموئيل النبي، اكتشف اليهود مسألة أن يكونوا تحت مظلة الله فقط أنها حالة – بالمعنى الدنيوي - من عدم الآمان الكامل، لأنها تعتمد على القداسة، والتكريس، والقيم الأخلاقية التي يصعب البلوغ إليها، فإتجهوا إلى صموئيل النبي وطلبوا منه أن يجعل لهم ملكاً، لأنهم يريدون أن يكونوا مثل سائر الأمم، ولهم الآمان الذي تحظى به كل أمة.



لم يرد صموئيل النبي أن يوافق على أمر يراه إرتداداً وخيانة لله، لكن الرب قال له: "اسمع لصوت الشعب في كل ما يقولون لك، لأنهم لم يرفضوك أنت بل إياي رفضوا حتى لا أملك عليهم" (1صم 7:8). ويتبع هذا صورة كاملة عن الكيفية التي ستكون عليها حياتهم: "هذا يكون قضاء الملك الذي يملك عليكم. يأخذ بنيكم ويجعلهم لنفسه لمراكبه وفُرسانه فيركضون أمام مراكبه ... ويأخذ بناتكم عطَّارات وطبَّاخات وخبَّازات ... فأبى الشعب أن يسمعوا لصوت صموئيل وقالوا لا بل يكون علينا ملك". (1 صم 8). فهم يريدون شراء الآمان بثمن الحرية، ليس هذا ما يريده الله لنا، فالذي حدث مع صموئيل النبي هو عكس أحداث الخروج تماماً: إرادة الله هي أن يُترَّك ويُهجَّر آمان العبيد، ويُستبدل به عدم الآمان الذي للناس الأحرار في مسيرة تشكيلهم.



هذه حالة صعبة، لأنه بينما نحن قيد التشكيل، لا نكون قد عرفنا بعد كيف نكون أحراراً، ولا تأكدنا أننا لا نريد أن نكون عبيداً مرة أخرى. تذكَّر ما حدث لليهود في البرية، وكيف ندموا مرات كثيرة على الأيام التي كانوا مُستعبدين فيها لكن بطونهم شبعانة. وكم من المرات تذمَّروا على وضعهم الحالي بلا سقف ولا طعام، معتمدين على إرادة الله، الشيء الذي لم يتعلموه بعد، أن يثقوا في الله بالتمام، إذ أن الله يعطينا نعمة لكنه يترك لنا دوراً في مسيرة تحولنا إلى خليقة جديدة.




لا تدخلنا في التجارب:

ونحن مثل اليهود في مصر قد أمضينا كل حياتنا كعبيد، ولسنا بعد أناس أحرار حقاً في أرواحنا ورغباتنا وكياننا كله، فلو تُركنا لقدراتنا الخاصة ربما نسقط في التجارب. "لا تدخلنا في التجارب" - لا تعرضنا للإختبار العسير - يجب أن تذكرنا هذه الكلمات بالأربعين سنة التي قضاها اليهود في عبورهم المسافة القصيرة الممتدة بين أرض مصر وأرض الموعد. لقد إستغرقوا وقتاً طويلاً، لأنهم حينما كانوا يبتعدون عن الله، كان مسارهم يبتعد عن أرض الموعد. إذ أن السبيل الوحيد للوصول إلى أرض الموعد هو أن نسير على خطى الرب. عندما تعود قلوبنا إلى أرض مصر، ترجع خطواتنا من حيث أتت، ونضل الطريق. نحن جميعاً قد منحنا الله الحرية برحمته، نحن جميعاً في طريقنا، لكن من يستطيع أن يقول أنه لا يرجع خطوات بشكل متكرر أو أنه لا يحيد عن الطريق المستقيم؟ "لا تدخلنا في التجارب"، أي لا تسمح لنا يارب بأن نرتد أو نتقهقر إلى حالة عبوديتنا السابقة.



بعدما صرنا مدركين لحالة عبوديتنا، وبعد أن عبرنا من مجرد الرثاء والإحساس بالتعاسة إلى حالة إنسحاق القلب والمسكنة بالروح، حالة سجننا في أرض مصر تجيب عليه كلمات التطويبات التالية: "طوبى للحزانى الآن لأنهم يتعزون"، "طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض". هذا الحزن الذي هو نتيجة لإكتشاف الملكوت، وإكتشاف كل نفس لمسؤوليتها الخاصة، وإكتشاف مأسآة حالة العبودية، هو حزن أكثر مرارة من ذلك الحزن الذي من نصيب العبد البسيط. العبد يشتكي من ظروفه الخارجية، أما ذلك الحزين المُطوَّب من قبل الله لا يشتكي، فهو منسحق القلب، ومدرك أن عبوديته الخارجية ما هي إلا تعبير عن شيء أكثر مأسآوية إلى حد بعيد أي عبوديته الداخلية، وإنفصاله عن معيَّة الله. وهو لا يستطيع أن يهرب من هذه الحالة ما لم يُحقِّق الوداعة.



إن كلمة "الوداعة" كلمة صعبة وقد إكتسبت عدة معاني، ونظراً لأنها نادرة الممارسة جداً لا نستطيع أن نلجأ لخبرتنا مع الناس الودعاء كي تعطينا فكرة عن معنى الكلمة. نجد المعنى في إحدى الترجمات كالآتي: "سعداء أولئك الذي لا يطالبون بشيء"، وهذا معناه: "طوبى لأولئك الذين لا يسعون للإمتلاك". لأن اللحظة التي لا تريد فيها أن تمتلك شيئاً تصير حراً، لأن أي شيء تمتلكه تُمتلَّك أنت به. معنى آخر لكلمة وداعة نجده في ترجمة الكلمة اليونانية لكلمة سلافية تعني "يصير مُروّضاً". أي شخص أو حيوان تم ترويضه، لا يكون مجرد مرتعباً من العقاب وخاضعاً لسلطة سيده، بل تكون فيه عملية التربية قد تقدمت أكثر من ذلك، إذ يكون قد إكتسب خاصية جديدة، تجعله يفلت من شدة التأديب بسبب هذا الترويض.



عند مستهل خلاصنا من عبودية مصر، هناك شرط أمامنا وهو أنه يجب ترويضنا، أو بكلمات أخرى، يجب أن نُميّز في الوضع الذي نحن فيه عمق وأهمية وجود المشيئة الإلهية، وأن مسيرتنا لا يجب أن تكون حركة هروب أو تمرد بل حركة منقادة بواسطة الله، حركة تبدأ بملكوت السموات داخلنا وتنمو نحو الملكوت. أنها مرحلة تردد وجهاد داخلي: "لا تدخلنا في التجارب يارب، أحمينا في التجربة، ساعدنا في القتال الذي بدأ علينا".



والآن نحن عند النقطة التي يمكن فيها التحرك. لنرجع إلى قصة الخروج، عند إدراك اليهود بأنهم ليسوا مجرد عبيد بل شعب الله الذي صار مستعبداً بسبب ضعفهم الأخلاقي. كان لابُدَّ وأن يتكبدوا المخاطر، لأنه ليس هناك عبد قد تحرَّر قط بواسطة مالكه من قبل، وكان لابُدَّ أن يعبروا البحر الأحمر، ولم تكن أرض الموعد بعد عبور البحر مباشرة بل كانت هناك البرية الحارقة وكانوا على دراية بذلك، وقد علموا أنهم يجب أن يواجهوا صعوبات كثيرة في عبورهم للبرية. كذلك نحن أيضاً عندما نُقرِّر البدء بالتحرك الذي سوف يحررنا من عبوديتنا، يجب علينا أن نكون مدركين أننا سوف نُهاجم بقسوة، بالإغراءات، بالأعداء الداخليين أي بعاداتنا القديمة، بتلهفنا القديم للآمان، ويجب علينا أن نكون مدركين بأنه لا شيء نحن موعودين به سوى ما هو وراء البرية، أي أرض الموعد التي هي على مسافة بعيدة، ويجب علينا أن نقبل بأخطار الرحلة.




وأغفر لنا ذنوبنا:

هناك شيء واحد يقف كخط فاصل بين أرض مصر والبرية، بين العبودية والحرية، وهي اللحظة التي نبدأ فيها بالتصرف بشكل حاسم ونصير أناس جدد، مؤسسين أنفسنا في حالة أخلاقية جديدة بالكليةً. كان الخط الفاصل من الناحية الجغرافية هو البحر الأحمر، أما بالنسبة للصلاة الربانية الخط الفاصل هو "وأغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضاً للمذنبين إلينا".




كلمة "كما نغفر" هي اللحظة التي نأخذ فيها خلاصنا على عاتقنا، لأن ما يفعله الله يعتمد على ما نفعله نحن، وهذا الأمر له أهمية شديدة فيما يتعلق بالحياة العادية. لو أن هؤلاء الناس المرتحلين من أرض مصر إلى أرض الموعد، أخذوا معهم من مصر مخاوفهم وإستيائهم وكراهيتهم وشكاويهم، سيكونوا عبيداً في أرض الموعد، ولن يكونوا أناساً أحراراً حتى في عملية تكوينهم. لهذا السبب عند الخط الفاصل بين التجارب المحرقة وإغراءات العادات القديمة، يقف هذا الشرط الجوهري الذي لا يرخيه الله أبداً: كما تغفر، أي المقياس الذي تستعمله سيُستعمل معك أيضاً، وكما تغفر سيُغفر لك، وما لا تغفره سوف يُحتجز ضدك.



ليس الأمر هو أن الله لا يريد أن يغفر، بل لأننا عندما نأتي بلا غفران، نوقف سر الحبَّ ونرفضه، ولا يكون لنا مكان في الملكوت. إذ لا نستطيع أن نذهب أبعد من ذلك إن لم يُغفَّر لنا، ولا يمكن أن يُغفَّر لنا طالما نحن لم نغفر لكل واحد من أولئك الذين أساءوا إلينا.



هذا الأمر قاطع تماماً وحقيقي ودقيق، ولا أحد له أي حق في أن يتخيل نفسه في ملكوت الله أو ينتمي إليه، لو كان لا يزال في قلبه عدم المغفرة. المغفرة للأعداء هي الخاصية الأولى والأكثر إبتدائية للشخص المسيحي، عند عدم تطبيقها لا نكون بعد مسيحيين بالمرة، بل نكون لا نزال نهيم في برية سيناء المحرقة.


لكن المغفرة شي صعب التحقيق جداً. أن تمنح المغفرة في لحظة يلين فيها القلب وسط أزمة عاطفية هو أمر سهل نسبياً. لكن أن لا تُعامل بالمثل وتظل تغفر هو أمر نادراً ما يفعله أحد. في أغلب الأحيان، ما نسميه مغفرة هو وضع الآخر تحت الإختبار، لا شيء أكثر من ذلك، ويكون محظوظاً ذلك الذي سامحناه لو كان الأمر مجرد وضع تحت الإختبار وليس الأمر قابلاً لسحب الغفران وإعادة الدعوة. نحن ننتظر بلا صبر لنرى دليلاً على التوبة، نريد التأكد من أن التائب قد تغير فعلاً، لكن هذه الحالة من الممكن أن تدوم العمر كله، هكذا يكون موقفنا معاكساً تماماً لكل ما يعلمه لنا الإنجيل، ويأمرنا حقاً بأن نفعله. لذلك وصية المغفرة ليست جدولاً مائياً صغيراً يقع في الحد الفاصل بين العبودية والحرية بل لها عرض وعمق، أنها البحر الأحمر. لم يجتاز اليهود البحر بمجهودهم الذاتي في مراكب من صنع إنسان، بل أنشق البحر الأحمر بقوة الله، كان لابُدَّ وأن يقود الله عبورهم. لكن لكي ينقاد الإنسان بواسطة الله، يجب عليه أن يشترك في هذه الخاصية التي لله، خاصية القدرة على الغفران. الله يتذكر بمعنى أنه عندما نقع في خطأ ما يأخذ في الحُسبان – إلى الأبد وحتى نتغير – أننا ضعفاء وسريعي الزلل، لكنه لا يتذكر أبداً بمعنى الإتهام والإدانة ، إذ أنها لن تُتخذ ضدنا أبداً . إذ أن الرب سوف يقرن نفسه بنا، ويرتبط بحياتنا، وسيكون له وزناً أكثر لحمله وصليباً أثقل، صعوداً جديداً إلى الجلجثة، الأمر الذي ليست لنا رغبة أو قدرة على حمله.



لكي نستطيع أن نقول الطلبة الأولى التي ناقشناها - "نجنا من الشرير" - يتطلب هذا نوع من إعادة التقييم للقيَم، وموقفاً جديداً، بحيث يصعب علينا البدء بقولها إلا في صرخة نداء، إذ تكون غير مدعومة حتى الآن بتغيير داخلي فينا. نحن نشعر بشوق لا يمكن تحقيقه حتى الآن، وسؤال الله أن يحفظنا في التجربة هو نفسه سؤاله أن يصنع تغييراً جذرياً في حالتنا. لكن أن تكون قادراً على قول "أغفر كما نغفر" فذلك يكون أكثر صعوبة، فهو أحد أضخم معضلات الحياة. لذلك إذا كنت غير مستعداً أن تترك وراءك كل إمتعاض وإستياء لديك ضد أولئك الذين كانوا سادتك في العبودية ومراقبي سخرتك، فلن يمكنك العبور. أما إذا كنت قادراً على الغفران، وأن تترك وراءك في أرض العبودية كل العقلية الخانعة وكل طمعك وجشعك ومرارتك، فيمكنك العبور. وبعد ذلك تكون في البرية المحرقة، لأن عملية صياغة إنساناً حراً من عبد ستستغرق وقتاً.



خبزنا كفافنا:كل ما كنا نقتنيه كعبيد في أرض مصر قد حُرمنا منه، لا سقف، لا ملجأ، لا طعام، لا شيء سوى البرية والله. لم تعد الأرض قادرة على إطعامنا، لا نستطيع الإعتماد الآن على الغذاء الطبيعي، لذلك نصلي "خبزنا كفافنا أعطنا اليوم". والله يعطيه حتى حينما نضل أو نتيه، لأنه إن لم يفعل سوف نموت قبل أن يمكننا الوصول إلى حدود أرض الموعد. يارب أبقينا على قيد الحياة، أعطنا وقتاً للتوبة بعد الخطأ حتى نأخذ المسار الصحيح.


عبارة "خبزنا اليومي" هي أحدى الترجمات المحتملة للنص اليوناني. هذا الخبز - الذي يدعى باليونانية epiousion - قد يكون خبز اليوم، وقد يكون أيضاً الخبز الذي فوق المادة. لقد فسَّر آباء الكنيسة بدءاً من أوريجينوس وترتليان هذا المقطع دائماً بالإشارة ليس فقط إلى الإحتياجات الإنسانية بل أيضاً إلى الخبز السري الذي لسر الإفخارستيا. ما لم نتغذى بهذه الطريقة الجديدة، بشكل سرائري، بالخبز المقدس – إذ أننا نعتمد الآن في وجودنا على الله فقط - لن نحيا. "إن لم تأكلوا جسد ابن الإنسان وتشربوا دمه فليس لكم حياة فيكم" (يو 53:6). أرسل الله لشعبه في البرية المن، وأعطاهم ماء من صخرة، التي ضُربت بعصا موسى. تلك العطيتان يرمُزان للسيد المسيح: "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله" (مت 4:4). هذه هي الآية التي إستدعاها الرب من العهد القديم (تث 3:8) لكي يقهر الشيطان. "الكلمة" في هذه الآية لا تعني مجرد لفظ بل هي أولاً وقبل كل شيء أقنوم الكلمة الذي يدوي إلى الأبد، الكلمة الحاملة كل الأشياء (عب 3:1)، وتعني أيضاً الكلمة المتجسد، يسوع الناصري. علاوة على ذلك، تعني الخبز المقدس الذي كان المن رمزاً له، الخبز الذي نتناوله في سر الشركة. والمياه التي تدفقت وملأت الجداول والأنهار بقيادة موسى النبي، هي رمز لتلك المياة التي وُعدَّت بها المرأة السامرية، وترمز أيضاً لدم المسيح الذي هو حياتنا.


إن قصة الخروج هي صورة مركبة للصلاة الربانية، وفي التطويبات نجد نفس مسيرة التقدم: "طوبى للجياع والعطاش إلى البر لأنهم يشبعون. طوبى للرحماء لأنهم يرحمون" (مت 5: 6، 7). أولاً يكون هناك جوع وعطش جسماني بسيط، تجرد من كل الأملاك التي كانت عطية الفساد، عطية أرضية من أسياد السخرة، ختم العبودية، ثم بعد ذلك في الطريق الذي يزداد فيه الحزن الذي للتطويبة الثانية، يتحول ذلك العطش والجوع الجسماني نحو البر في اللحظة التي نتحول فيها نحو الله. إذ يتكشَّف للإنسان بُعداً جديداً، بُعداً فيه الإشتياق والتلهف، بُعداً يُعرَّف في إحدى الصلوات السرية في الليتورجية بكلمة: "الملكوت الآتي"، وذلك عندما نشكر الله لأنه أعطانا ملكوته الذي نشتاق إليه. في القداس الإلهي يكون الملكوت حاضر، لكن في رحلة عبورنا في البرية يكون الملكوت لا يزال أمامنا، في وضع جنيني، مازال بعيد المنال. إن الملكوت داخلنا، كسلوك، كعلاقة، لكنه بلا شك ليس كشيء حي بالكامل الآن، بحيث يمكننا أن نتغذى عليه، وأن نبقى أحياء بواسطته. فهناك الجوع الجسماني الناتج من ماضينا وحاضرنا، وهناك الجوع الروحي الناتج من التطلع نحو مستقبلنا ودعوتنا.



"طوبى للرحماء لأنهم يرحمون". هذه الرحلة ليست رحلة شخص بمفرده، بالنسبة لحادثة الخروج كان خروجاً جماعياً لشعب الله، إذ إنطلقوا معاً كوحدة واحدة، جنباً إلى جنب. وبالنسبة للصلاة الربانية ودعوتنا، أنها الكنيسة، أنها البشرية، أنه كل شخص يسير في هذه الرحلة. وهناك شيء له أهمية كبيرة يجب أن نتعلمه، وهو الرحمة تجاه أخوتنا الذين يسافرون سوياً معنا. ما لم نكن مستعدين بأن نتحمل أعباء بعضنا البعض، وأن نحمل أثقال بعضنا البعض، وأن نقبل بعضنا البعض كما قبلنا المسيح، ليست هناك وسيلة لعبور البرية مطلقاً.


هذه الرحلة التي في الحرارة المحرقة، وفي العطش والجوع، وفي مسيرة التحول إلى إنسان جديد، هي وقت الرحمة، والمحبة المتبادلة، وإلا لن يأتي أحد إلى الموضع الذي تم إعلان ناموس الله فيه، ومُنح لوحي الشريعة. العطش للبر، والشبع، يمشيان يداً بيد مع الرحمة نحو رفاق الطريق الذين يمشون جنباً إلى جنب معنا خلال الحرارة والمعاناة، إذ أن العطش والجوع يعنيان أكثر كثيراً الآن من مجرد فقدان الطعام.



عندما يصل اليهود يوم ما إلى أسفل جبل سيناء، سيكونون قادرين على الفهم والوجود، لقد تم ترويضهم وصاروا شعب واحد، بوعي واحد، وإتجاه واحد، وقصد واحد. لقد صاروا شعب الله في حركة نحو أرض الموعد. وقلوبهم التي كانت مظلمة أصبحت أكثر شفافية وأكثر صفاءً. وهناك أسفل الجبل سوف يُعطَّى لهم - كل بحسب قوته وقابليته - أن يروا شيئاً من الله، (إذ أن "طوبى لأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله")، لكل واحد منهم على نحو مختلف، تماماً كما رأي التلاميذ الرب يسوع متجلياً على جبل طابور، بحسب إستطاعتهم على الإدراك.



عند هذه النقطة تحدث مأسآة جديدة، يكتشف موسى أن اليهود قد خانوا دعوتهم ويكسر لوحي الشريعة. إن اللوحين الذين أعطوا فيما بعد هما نفس اللوحين، إلا أن هناك إختلاف بينهم: ربما يظهر هذا الإختلاف في حقيقة أن موسى عندما أحضر اللوحين للمرة الثانية، كان وجهه يلمع، لدرجة لم يحتملها أحد - كذلك لم يستطع التلاميذ أن يحتملوا رؤية الرب المستعلن في كل مجده وشذاه - فما أعطي لهم هو ما يمكنهم أن يحتملوه، لكنه ناموس مكتوب بيد موسى ، وليس إستعلان إلهي للمحبة مكتوب بأصبع الله .



يقف الناموس في المنتصف بين زمن اللا قانون وعهد النعمة، نستطيع أن نتتبع ثلاث مراحل للتقدم اللافت للنظر: نرى لامك القاسي في سفر التكوين، الذي يقول بأنه لو تمت آذيته سينتقم لنفسه سبعة وسبعين ضعفاً (تك 4: 24). وعندما نأتي إلى جبل سيناء، نسمع عين بعين وسن بسن، وعندما نأتي للسيد المسيح نسمع بأن يغفر الإنسان لأخيه إلى سبعين مرة سبع مرات . هذه هي مقاييس التمرد الإنساني ضد العدالة وضد النعمة.



يقول كومياكوف - لاهوتي روسي من القرن التاسع عشر - أن إرادة الله هي لعنة بالنسبة للشياطين، وهي ناموس بالنسبة لعبيد الله، وهي حرية بالنسبة لأولاد الله. هذا يبدو حقيقي جداً عندما نفحص التقدم التدريجي لليهود من مصر إلى أرض الموعد. لقد غادروا كعبيد إلا أنهم صاروا مدركين فقط لإمكانياتهم في أن يكونوا أولاد الله مستقبلاً. كان لابُدَّ وأن يتجاوزوا عقلية العبيد ويحققوا شخصية وقوام الأبناء. هذا تم بشكل تدريجي في سياق عملية طويلة ومؤلمة جدأً. نراهم ببطء يتم تشكيلهم إلى جماعة من عبيد الله، من أشخاص أدركوا أن ربهم ليس هو فرعون بل هو رب الجنود، الذين اعترفوا إليه مدينين له بالولاء والطاعة غير المشروطة. ويتوقعوا منه العقاب والثواب، عالمين أنه يقودهم إلى ما هو أبعد من معرفتهم، يقودهم إلى ما يحقق دعوتهم النهائية.



هناك فكر شائع جداً في كتابات النساك المسيحيين الأوائل وهو أن الإنسان يجب عليه أن يمر بهذه المراحل الثلاثة: عبد ثم أجير ثم ابن. إن العبد هو الشخص الذي يطيع بدافع الخوف، والأجير هو الشخص الذي يطيع بدافع المكافأة، والابن هو الشخص الذي يتصرف بدافع الحب. نستطيع أن نرى في قصة الخروج كيف أصبح شعب الله بشكل تدريجي أكثر من مجرد عبيد وأجراء، والناموس يقف – إن تكلمنا بشكل جغرافي - عند مستهل أرض الموعد.



عند هذا المنعطف، يكتشف كل واحد بحسب القدرة التي له، وبحسب عمق الروح الذي له، إرادة الله ذاته، وفكر الله ذاته، لأن هذا الناموس يمكننا أن نراه بعدة طرق: لو أخذناه بشكل رسمي، جملة بعد جملة، هو سلسلة من الوصايا: "أفعل ولا تفعل"، بهذا المعنى هو قانون في عقلية العهد القديم. لكن من ناحية أخرى، لو نظرنا إليه بعيون العهد الجديد، بعيون دعوتنا الإنسانية - وعدد الناس المتزايد الذين تأملوا في هذا الناموس على مدى الزمن بعد حادثة الخروج - نرى أن هذه الوصايا المتعددة، وهذه الأوامر، تندمج معاً في وصيتين هما محبة الله ومحبة القريب. أول أربعة وصايا من العشرة عن محبة الله، معبر عنها بشكل واقعي، ونجد في الستة وصايا الأخرى محبة القريب، أيضاً بشكل واقعي وعملي وملموس.



إن الناموس هو قانون وإنضباط لأولئك الذين مازالوا في مسيرة التشكيل، الذي ما زالوا في عملية التحول إلى البنوة، لكنه في نفس الوقت هو أيضاً ناموس العهد الجديد. إن المشكلة بين الإنسان والإنسان، وبين الإنسان والله، تكمن في تأسيس السلام الإلهي ، سلام في اسم الله، سلام غير مبني على التجاذب المتبادل أو العطف، بل مبني على الحقائق الأكثر أساسية: على بنوتنا المشتركة، على إلهنا المشترك، على تضامننا الإنساني، وفي النطاق الأضيق على تضامننا الكنسي. إن المحبة الإلهية والإنسانية (مجمل الوصايا) يجب أن يبلغوا - أولا وقبل كل شيء - إلى تأسيس العلاقات الصحيحة، العلاقة الصحيحة مع الله، ومع الناس، وأيضاً مع النفس.



لتكن مشيئتك:


قد رأينا أن الشرط الجوهري للوجود في البرية هو الغفران المتبادل، الآن خطوة أخرى ينبغي أن تؤخذ، بينما نجد في قصة الخروج الناموس الإلزامي الذي يُعبِّر عن فكر وإرادة الله، نجد في الصلاة الربانية طلبة: "لتكن مشيئتك". ليست "لتكن مشيئتك" إستعداداً خانعاً لتحمل مشيئة الله، كما نأخذ معناها في أغلب الأحيان. بل هي موقف إيجابي لأولئك المسافرين في طريق البرية، الداخلين إلى أرض الميعاد، والذين قد شرعوا في أن يجعلوا مشيئة الله حاضرة وحقيقية على الأرض كما هي في السماء.



يقول القديس بولس الرسول أننا مستوطنة سماوية . وهو يعني مجموعة من الناس مدينتهم الأصلية هي السماء، وهم في العالم لكي يغلبوه من أجل الله، وأن يحضروا إليه ملكوت الله - ولو لمقدار قليل. أنه نوع متميز من الغزو، غزو يختص بربح النفوس إلى مملكة السلام، جاعلاً منهم رعية لأمير السلام، غزو يجعلهم يدخلون في التآلف المتناغم الذي ندعوه ملكوت الله. أنه حقاً غزواً، غزواً صانعاً للسلام، بحيث يجعلنا حملان في وسط ذئاب، ويجعلنا بذور مبعثرة من قِبَل الزارع، بذور يجب أن تموت حتى تحمل ثماراً وتُطعِّم الآخرين.



بهذه الطريقة، نرى طلبة "لتكن مشيئتك" من واقع حالتنا كأبناء، نراها بشكل مختلف تماماً عن نوع الطاعة والخضوع أو المقاومة، الذي قد رأيناه في بداية الخروج، عندما حاول موسى أن يضع الشعب في حركة نحو الحرية. إذ أن الآن عندهم، وعندنا نحن أيضاً، فكر المسيح، الآن نعرف مشيئة الله، ولسنا بعد عبيداً بل أصدقاء . هو لا يعني علاقة مبهمة من النيات الحسنة، بل علاقة عميقة جداً تربطنا سوياً.



هذه هي الحالة التي بها نسير إلى داخل أرض الموعد، عندما نقول بطريقة جديدة "لتكن مشيئتك"، ليس كمشيئة غريبة، ليست كمشيئة قوية وقادرة على تحطيمنا، بل كمشيئة صرنا معها منسجمين بالكامل. وفي اللحظة التي نفعل ذلك، يجب علينا أن نقبل كل ما هو معنيُّ في كوننا أبناء لله، وفي كوننا أعضاء في الجسد الواحد. وكما جاء الرب إلى العالم لكي يموت من أجل خلاص العالم، هكذا نحن أيضاً مختارين لهذا الغرض، وقد يكلفنا هذا حياتنا ذاتها لكي ما نجلب السلام حولنا ونؤسس الملكوت.



هناك إختلاف بين الله الملك كما كان يُرى في أرض مصر أو في البرية المحرقة، وكما يُرى في الحالة الجديدة التي لأرض الموعد. كانت النظرة الأولى هي إن مشيئته سوف تسود على أية حال، ومهما كانت المقاومة التي يقوم بها شخص سوف تُحطَّم، فالطاعة تعني الخضوع. أما النظرة الثانية فهي أن هذا الملك - كما أظهر التدريب التدريجي - ليس كمراقب العبيد أو سيد السخرة، لكنه ملك ذو نية حسنة، وأن طاعته تُحوِّل وتُغيِّر الجميع، وأنه يمكننا أن نكون ليس فقط رعايا بل شعبه الخاص، جيشه المتحرك نحوه . وأخيراً، نكتشف الملك في المعنى الكامل لهذه الكلمة، كما يلخصها القديس باسيليوس الكبير : "يستطيع كل حاكم أن يحكم، الملك فقط هو الذي يستطيع أن يموت من أجل رعاياه". نرى هنا ذلك الإرتباط الوثيق بين الملك ورعاياه، أي بمملكته، وأنه مهما يحدث للملكة يحدث للملك، وليس فقط إرتباط وثيق بل فعل محبة خاضع يجعل الملك أن يأخذ محل رعاياه.



الملك صار إنساناً، تجسد الإله، ودخل في المصير التاريخي للإنسانية، ولبس الجسد الذي يجعله جزء لا يتجزأ من الكون كله، بمأسآته التي تسبب فيها السقوط البشري. ويذهب إلى عمق الحالة الإنسانية ذاتها، وحتى إلى حكم وإدانة جائرة وموت، وخبرة مفارقة الله، فصار قادراً على الموت.



ليأت ملكوتك:


الملكوت الذي نتكلم عنه في هذه الصلاة هو ملكوت هذا الملك. إن لم نكن في وحدة معه، ومع كل سمات الملكوت - الذي نفهمه الآن بطريقة جديدة - نكون غير إكفاء لكي ندعى أولاد الله، أو أن نقول "ليأت ملكوتك". لكن ما يجب أن ندركه هو أن هذا الملكوت الذي نطلبه هو ذلك الملكوت الذي تحدده التطويبات الأخيرة: "طوبى للمطرودين من أجل البر"، "طوبى لكم إذا عيروكم وطردوكم وقالوا عليكم كل كلمة شريرة من أجلي"، فلكي يأتي الملكوت علينا أن ندفع الثمن المحدد في هاتين التطويبتين. الملكوت الذي نتكلم عنه هو ملكوت المحبة، وبنظرة سطحية يبدو الدخول إليه أنه شيء لطيف جداً، إلا أنه ليس لطيفاً لأن المحبة لها جانب مأسآوي، فهي تعني الموت لكل منّا، الإماتة الكاملة لأنانيتنا، أي للذات المتمركزة حول نفسها، وليس مجرد الموت كما تذبل الزهرة بل الموت موتاً قاسياً، موت الصلب.


ليتقدس اسمك:


أنه فقط من خلال وضع الملكوت يمكن لأسم الله أن يتقدس بواسطتنا ويتقبل المجد منّا، لأنه ليست كلماتنا وإيماءاتنا - حتى ولو كانت طقسية - هي التي تعطي المجد لأسم الله، بل بكوننا الملكوت الذي هو شعاع ومجد خالقنا ومخلصنا. وهذا الأسم الذي نقدسه هو المحبة - الله الواحد في الثالوث.


أبانا الذي في السموات:


الصلاة الربانية - كما نراها الآن - لها أهمية وقيمة عامة كاملة، وهي تُصوِّر - ولو بترتيب عكسي - صعود كل نفس من عبودية الخطية إلى غنى الحياة في الله. أنها ليست مجرد صلاة، بل هي صلاة المسيحيين، أول كلمة - "أبانا" – هي كلمة مسيحية على نحو مميز. يقول الرب في إنجيل متى: " .. وليس أحد يعرف الابن إلا الآب ولا أحد يعرف الآب إلا الابن ومن أراد الابن أن يعلن له" (مت 27:11). أن تعرف الله كأب بشكل تقريبي، هذا معطى ليس فقط للمسيحيين بل للعديد من الناس، لكن أن تعرفه كأب بالطريقة التي أعلنها لنا المسيح، فهذا مُعطى فقط للمسيحيين في المسيح. خارج نطاق الوحي الإنجيلي يظهر الله لنا كخالق جميع الأشياء، وحياة يقظة وعابدة يمكنها أن تعلمنا أن هذا الخالق رحيم ومحب وكلي الحكمة، وبواسطة التشابه قد يقودنا للكلام عن خالق كل الأشياء بمفردات الأبوة، فهو يتعامل معنا بالطريقة التي يتعامل فيها الأب مع أولاده.



حتى قبل مجيئ المسيح، نجد في الكتاب المقدس مثالاً مميزاً لإنسان كان أممي على وجه التدقيق، لكنه أوشك على البلوغ لهذه المعرفة بالله التي تتعلق بالأبوة والبنوة، أنه أيوب. وقد نعت كأممي لأنه لا ينتمي لجنس إبراهيم، وهو ليس أحد ورثة مواعيد إبراهيم. هو أحد شخصيات العهد القديم الملفتة للنظر جداً بسبب نقاشه مع الله. الثلاثة رجال الذين جادلوه يعرفون الله كسيدهم الحاكم، فالله له كل الحق في أن يفعل ما فعله لأيوب، الله مستقيم في كل ما يفعله لأنه هو السيد الأعلى على كل الأشياء. وهذه هي بالضبط النقطة التي لم يستطع أيوب أن يقبلها، لأنه يعرف الله بشكل مختلف. إذ أنه يعرف من خلال خبرته الروحية أن الله ليس مجرد السيد الحاكم الذي على الكل يسود. هو لا يستطيع أن يقبله كشخص يستخدم قوة إستبدادية، ككائن كلي القدرة يستطيع وله الحق في أن يفعل أي شيء يريده. ولكن بما أن الله لم يقل شيئاً حتى الآن عن نفسه، نظرة أيوب تُعتبر رجاءً، رؤية نبوية، إذ لم يأت بعد إعلان الله ذاته عن أبوته.


عندما ظهر الرب لأيوب وجاوب على أسئلته، تكلم بلغة الإعلان للأمم، الذي تُصوَّرها كلمات المزمور: "السموات تحدث بمجد الله. والفلك يُخبر بعمل يديه" (مز 1:19). وأيوب يفهم كلمات الرب لأن "عمل الناموس مكتوباً في قلوبهم"، كما قال بولس الرسول مردداً كلمات إرميا النبي (إر 31: 33). يواجه الله أيوب برؤية لكل العالم المخلوق ويتفاهم معه، وبالرغم من حقيقة أن أيوب وجدَّ خاطئاً ظاهرياً إلا أن الله يعلن أنه أكثر إستقامة من مخالفيه، من أولئك الذين يعتبرون الله كحاكم أعلى دنيوي. بالرغم من أنه أخفق في الوصول لمعرفة حقيقية للأبوة الإلهية، إلا أنه تجاوز أصدقائه في معرفته بالله. نستطيع أن نقول أننا في العهد القديم نجد في أيوب الرؤية النبوية الأولى لأبوة الله، وخلاص البشرية الذي يمكن تحقيقه فقط بواسطة شخص معادل لله والإنسان معاً. وذلك عندما تحول أيوب بإتهام نحو الله قائلاً: "ليس بيننا مصالح (وسيط) يضع يده على كلينا" (أي 33:9). نرى فيه شخص قد فاق معاصريه في الفهم، لكنه ليس عنده بعد أساس لتأكيد إيمانه ومعرفته، لأن الله لم يكن قد تكلم بعد من خلال يسوع المسيح.



إن سر البنوة وسر الأبوة مترابطين، فأنت لا تستطيع أن تعرف الآب ما لم تعرف الابن، ولا تستطيع أن تعرف الابن ما لم تكن الآب، إذ ليست هناك معرفة من خارج. تعتمد علاقتنا مع الله على فعل إيماني، ويتم تكميلها بواسطة إستجابة الله التي تحضر فعل الإيمان هذا إلى الإثمار. الطريق الذي نصير فيه أعضاء المسيح هو فعل إيماني، ويتم تحقيقه بواسطة الله في سر المعمودية. وبطريقة معروفة لله فقط ولأولئك الذين دعوا وتجددوا نصير بالشركة ما للمسيح بالولادة. أنه فقط بصيرورتنا أعضاء المسيح نصير أولاد الله. يجب أن لا ننسى أن أبوة الله هي شيء أكثر من مجرد تصرف فيه دفء ومودة، بل أنها أبوة حقيقية وصادقة تماماً: الله يصير في المسيح أب لأولئك الذين يصيرون أعضاء في جسد المسيح، لكن إرتباط الشخص بالمسيح لا يتم بأي نوع من العاطفة المهلهلة، بل يتطلب ذلك جهاد نسكي قد يأخذ العمر كله، ويكلف أكثر بكثير مما قد يظن الشخص في البداية.


حقيقة أننا نصير واحداً مع المسيح، معناه أن ما يُطبَّق على المسيح يطبَّق علينا، وأنه يمكننا - بكيفية مجهولة لبقية العالم - أن ندعو الله أبانا، لم يعد ذلك بواسطة التشابه مع الأبوة البشرية، لم يعد ذلك بلغة التوقع أو النبوة، بل بواسطة السيد المسيح. هذا له تأثير مباشر على الصلاة الربانية: من ناحية، الصلاة يمكن أن تستعمل من قبل أي أحد، لأنها صلاة عمومية، هي سلم صعودنا نحو الله، ومن الناحية الأخرى، هي صلاة خصوصية بلا شك ومقصورة على البعض، لأنها صلاة أولئك الذين هم في المسيح أولاد الآب الأبدي، صلاة أولئك الذين يستطيعون أن يتكلموا معه كأبناء.


عندما ننظر للصلاة الربانية في معناها العمومي، من الأفضل أن ندرسها ونحللها كمسيرة صعود، لكنها ليست الطريقة التي أعطاها المسيح لأولئك الذين - فيه ومعه - هم أولاد الله، لأنه بالنسبة لهم لم يَعُد الأمر صعوداً بل هو حالة، أي وضع قائم. في الكنيسة نحن أولاد الله، وهذه الكلمة الأولى " أبانا " تُرسّخ هذه الحقيقة وتجعلنا أن نتخذ موقعنا حيثما ننتمي. أنه ليس شيء حسن أن نقول نحن غير جديرين بهذه الدعوة. لقد قبلناها وهي لنا. قد نكون الابن الضال وسوف يكون علينا أن نجاوب بشأنها، لكن ما هو مؤكد هو أنه لا شيء يستطيع أن يحولنا أو يرجعنا للخلف إلى حالة لم تعد لنا.



عندما رجع الابن الضال إلى أبيه، وكان على وشك قول: "لست مستحقاً بعد أن أدعى لك ابناً. اجعلني كأحد أجراك" (لو 19:15)، سمح له الأب فقط بأن ينطق الكلمات الأولى: "يا أبي أخطأت إلى السماء وقدامك ولست مستحقاً بعد أن أدعى لك ابناً"، وهنا أوقفه أبوه عن تكملة الكلام. نعم هو غير مستحق، لكنه ابن بالرغم من عدم استحقاقه. أنت لا تستطيع أن تتوقف عن أن تكون عضو في عائلتك، مهما تفعل سواء إن كان سلوكك مستحق أم لا. مهما كنا، مهما كانت حياتنا، مهما كان عدم استحقاقنا بأن ندعى أولاد لله أو بأن ندعو الله أبانا، ليس لنا مفر. لأن هذا هو موقعنا. هو أبانا ونحن مسؤولين عن علاقة البنوة. نحن قد خلقنا بواسطته كأولاده، وأنه فقط برفضنا لحق ولادتنا نصير ابناء ضالين. تخيل لو أن الابن الضال لم يرجع، بل أستقر وتزوج في الأرض الغريبة، الطفل المولود من هذا الزواج سوف ينتمي لأب الابن الضال طبيعياً. لو رجع هذا الطفل إلى أرض أبيه الأصلية سوف يستقبل كواحد من العائلة، لو لم يرجع سوف يكون مسؤولاً عن عدم عودته، وإختياره للبقاء كغريب عن عائلة والده.



أنه سر المعمودية الذي هو عودة الأطفال من أجيال كثيرة إلى عائلة الأب. ونحن نُعمد الطفل بنفس الروح التي بها نُعالج طفل رضيع مولود بمرض. لو أنه فكر لاحقاً بشكل خاطيء أنه كان الأنسب له لو أنه أبقى على مرضه أو عجزه، لكي يكون بلا فائدة للمجتمع، وحراً من عبء الإلتزامات الإجتماعية، هذه مسألة أخرى. الكنيسة في تعميدها للطفل تشفيه لكي تجعل منه عضواً مسؤولاً في المجتمع الحقيقي الوحيد.


رفض الإنسان لمعموديته يعادل رفض فعل شفاء. ونحن في سر المعمودية لا نصير أصحاء فقط بل نصير أعضاء في جسد المسيح بشكل طبيعي.



عند هذه النقطة، بدعوتنا الله "أبانا" نكون قد أتينا إلى صهيون، إلى قمة الجبل، وعند قمة الجبل نجد الآب، والمحبة الإلهية، وإستعلان الثالوث. وبالضبط خارج الأسوار هناك التل الصغير الذي ندعوه الجلجثة، حيث يمتزج في هذا المشهد التاريخ والأبدية معاً. من هناك يمكننا أن نستدير وننظر إلى الوراء. هذا هو الموضع الذي يجب للمسيحي أن يبدأ منه حياته المسيحية، بعد أن حقق هذا الصعود، ويجب أن يبدأ بقول الصلاة الربانية بالترتيب الذي أعطاه لنا الرب، كصلاة الابن الوحيد، كصلاة الكنيسة، كصلاة كل فرد منّا في تآزرنا مع الجميع، وكصلاة شخص يصلي كابن من خلال الابن الوحيد. ويمكننا آنذاك فقط أن نهبط من قمة الجبل، خطوة بعد خطوة، لكي نلاقي أولئك الذين مازالوا في طريقهم أو أولئك الذين لم يبدأوا طريقهم بعد.







رد مع اقتباس
 


الانتقال السريع

قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً
الموضوع
صعود تابوت العهد إلى أورشليم صعود مريم إلى بيت زخريّا
رحلة صعود للجنيه المصري أمام الورقة الخضراء
أنتوني جوشوا
رحلة صعود الشاطر وساعة الصفر لفض اعتصام رابعة والإخوان يحشدون واجتماع طارئ للنور بنشرة منتصف الليل
صعود الذهب من ادنى مستوى له في 4 أشهر مع صعود اليورو


الساعة الآن 05:28 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024