النزول المزدوج
أَمَّا أَنَـا فَدُودَةٌ لاَ إِنْسَانٌ ( مز 22: 6 )
إنها مسافة لا تُقاس؛ تلك المسافة التي بين قول الرب قديمًا في خروج 3: 14 «أَهْيَه»، أو «أَنا هو» ( يو 18: 5 ، 6)، وقوله بعد ساعات معدودة في الجلجثة «أنا دودة»! وليمكننا فهم تلك المسافة بصورة أفضل دعنا نقسمها إلى نزولين لا نزول واحد. وما أعظمهما من نزولين نزلهما المسيح من أجلي ومن أجلك!
النزول الأول من السماء إلى الأرض؛ من حضن الآب إلى مذود بيت لحم. وذاك الذي مخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل ... الأزلي الأبدي ... الذي لا بداية أيام له ولا نهاية حياة، يقول عنه الملاك للرعاة: «تجدون طفلاً». واللابس النور كثوب، يصفه الملاك للرعاة بهذا الوصف: «طفلاً مُقمطًا». والذي يقول عنه سليمان إن السماء وسماء السماوات لا تسَعه، فكم بالأقل البيت الذهبي الذي بناه له!، يقول عنه الملاك: «تجدون طفلاً مُقمطًا مُضجعًا في مذود» ( لو 2: 12 ).
تفكري يا نفسي في أعجوبة الأعاجيب هذه. إنه أمر فوق المدارك أن الله العظيم يُقال عنه «تجدون طفلاً»، واللابس النور يلبس أقمطة كأي طفل صغير، بل ويضجع في المذود، كما لم يحدث مع باقي الأطفال. والذي لا تسَعه السماء وسماء السماوات لم يولد في بيت ذهبي أو حتى ترابي، بل وُلد في مذود إذ لم يكن له موضع في المنزل! فما أعظم هذا الاتضاع «الله ظهر في الجسد» ( 1تي 3: 16)، «والكلمة صار جسدًا وحلَّ بيننا» ( يو 1: 14). لكن هذا كله كان فقط المرحلة الأولى في اتضاعه، وليس كل الاتضاع، فهناك مرحلة ثانية يعبّر عنها هنا بالقول:«أما أنا فدودة لا إنسان».
في خطوة الاتضاع الأولى؛ نزل من السماء إلى الأرض «وُضع قليلاً عن الملائكة»، لكن الذي وُضع قليلاً عن الملائكة وُضع أيضًا قليلاً عن البشر «أما أنا فدودة لا إنسان»، وذلك عندما مضى إلى الجلجثة، وعُلق فوق الصليب.
وعن هذا النزول الثاني، يقول الرسول بولس: «نزل أيضًا أولاً إلى أقسام الأرض السُفلى» ( أف 4: 9) وهذا معناه الموت. فالمسيح لم يتجسد فقط بل إنه مات. ليس فقط ضمه مذود، بل ضمه أيضًا قبر. ليس فقط لفوه بالأقمطة، بل أيضًا لفوه بالأكفان. مُحيى الرميم الذي له وحده عدم الموت سيق للصلبِ واللحد!!