رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
الدرس الأخير
الدرس الأخير كان مختصرًا جدًا، ولكنه فعّال كثيرًا ويلخِّص ما سبقه من الدروس! فمن خلال سيرته الذاتية، وصفاته الشخصية، ورسائله الروحية عرفنا الكثير عن ذلك التلميذ الكبير. إنه سمعان الملقّب "بطرس" والذي كان مقدامًا سريع التأثّر، شديدًا في ردّ فعله، دون حساب للعواقب... ولكنه أصبح رسولاً حكيمًا واثقًا متّزنًا يعرف كيف يواجه الأمور وحتى العسيرة منها برحابة صدر، فيعطيها أفضليّاتها بكل تفهّم وتقدير بعد أن تتلمذ على يدَي معلمه العظيم القدير، حتى ذلك الدرس الأخير. من خلال دروسه الوافية، صاغت يد الرب من بطرس المتسرع المتقلقل شخصية لامعة قائدة، تركت بصماتها في بناء كنيسة المسيح وسلام هذا العالم . حيث كان له في المجتمع المسيحي الأول شرف القيادة وعظيم الأثر. كان ذلك آخر درس تلقّاه من الرب يسوع "قبيل صعوده إلى السماء" وكان نهاية المطاف في المعارف الروحية التي اكتسبها سامعًا طائعًا ومطبّقًا، ويا له من درس عظيم. بحكم طبعه الموروث، كان بطرس يحب دائمًا أن يبرز شخصه ويجلس في مقعد القيادة، ناظرًا حوله ومصغيًا إلى كل ما يقال، لعلّه يجد ثغرة يلج من خلالها لكي يبدي رأيه ويُظهر أفضليته... وقد بقي هذا شأنه حتى تلقّى ذلك الدرس المفيد. "لماذا تتداخل في شؤون غيرك؟" قالها المعلم بأسلوب رائع مليء بحكمة السماء. "إِنْ كُنْتُ أَشَاءُ أَنَّهُ يَبْقَى حَتَّى أَجِيءَ، فَمَاذَا لَكَ؟ اتْبَعْنِي أَنْتَ!" (يوحنا 22:21). وبفعل ذلك الدرس صار التلميذ معلّمًا ! فنحن نقرأ ما كتبه قائلاً: "فَلاَ يَتَأَلَّمْ أَحَدُكُمْ كَقَاتِل، أَوْ سَارِق، أَوْ فَاعِلِ شَرّ، أَوْ مُتَدَاخِل فِي أُمُورِ غَيْرِهِ" (1بطرس 15:4). فقد وضع خطية التداخل في أمور الغير بين كبار الخطايا كالقتل والسرقة وفعل الشر. وإذا ما نفذنا إلى عمق الإعلان الإلهي، وجدنا أن التداخل مرض روحي له أعراض كثيرة، بعضها واضح المعالم والبعض الآخر متخفٍّ في طيات الأذهان ومتغلغل في أعماق العواطف والميول. حتى إنه يقيم صداقاتٍ لا أساس حقيقيًّا لها، ويُنشئ عداواتٍ لا سبب منطقيًا لها. أولاً: مظاهره ( 1 ) نرى بعضًا من الأشخاص وقد كرّسوا ذواتهم لتصيّد أخطاء الآخرين وسقطاتهم، فهم يجدون لذّتهم في تقصّيها، وتسليتهم من خلال سردها وتضخيمها، في الوقت الذي فيه هم غارقون بما هو أدهى منها حتى الأذنين، وربما ذلك ليبعدوا الأنظار عن ذواتهم. ( 2 ) ومنهم، رغم ادعائه الإيمان، فهو لا يستطيع أن ينسى، ليس الإساءة فقط، بل ما يظنه خطأً إساءة إلى شخصيته التي تأبى إلا أن تحاول إظهار برها الذاتي وصلاحها الفريد. ( 3 ) ومنهم من يجد في نفسه الرغبة في استماع الأحاديث عن أخبار الضعفات والانتقادات والهزء بالغير أكثر من الحديث عن تعضيدات كلمة الله وتشجيعها للضعفاء والمغلوبين على أمرهم. ( 4 ) ومنهم من يسوءُه الاستماع إلى نصائح الذين يعظونه عن الغفران، والمسامحة، والابتعاد عن لوم الآخرين وتجريحهم، وتكرار الثلب بمناسبة وبغير مناسبة، واستبدال ذلك بمساعدة الآخرين على تجاوز صعوباتهم. ( 5 ) والأسوأ من هؤلاء جميعًا ذلك الذي يسعى كي يدمّر شخصيات الآخرين باتهاماته الباطلة، أو بالغمز واللمز والاستهزاء، لكي يقيم على أنقاضهم بنيان شخصيته المهلهلة، ثم يحاول تثبيت أركانها بتأليف القصص والأقوال من نسج خياله سعيًا للتعالي على غيره مهما كان الثمن الذي يتكلّفه الآخرون في سبيل ذلك. ثانيًا: العوامل المسببة له ( 1 ) الكبرياء والتشامخ، هذه الصفة التي يحملها البعض وهي بغيضة في نظر الله، "الَّذِي يَغْتَابُ صَاحِبَهُ سِرًّا هذَا أَقْطَعُهُ. مُسْتَكْبِرُ الْعَيْنِ وَمُنْتَفِخُ الْقَلْبِ لاَ أَحْتَمِلُهُ" (مزمور 5:101). وهنا نرى الروح القدس يربط بين الاستغابة والكبرياء بشكل واضح، فالمستكبر يحاول الحطّ من سمعة الآخرين لكي يرفع نفسه. ( 2 ) الفضول، وهو مسيطر على طبائع الكثيرين للتلهّي بأمور الغير، وهو خصلة موجودة كثيرًا في شرقنا الأوسط، فينظر المرء إلى جاره مثلاً، ماذا يأكل أو يشرب أو يلبس... إلى لائحة طويلة من الانتقادات والمواصفات لإشباع رغبة دفينة في النفس. ( 3 ) روح الانتقاد والدينونة. البعض لا يفتأون يوزعون دينوناتهم على الآخرين بسبب وبدون سبب، ولكن الكتاب يقول بصراحة: "مَنْ أَنْتَ الَّذِي تَدِينُ عَبْدَ غَيْرِكَ؟ هُوَ لِمَوْلاَهُ يَثْبُتُ أَوْ يَسْقُطُ" (رومية 4:14). ويقول الرب يسوع في موعظته على الجبل: "وَلِمَاذَا تَنْظُرُ الْقَذَى الَّذِي فِي عَيْنِ أَخِيكَ، وَأَمَّا الْخَشَبَةُ الَّتِي فِي عَيْنِكَ فَلاَ تَفْطَنُ لَهَا؟" (متى 3:7). ( 4 ) الحسد، وهو أيضًا من أشدّ العوامل التي تؤدي بالمرء للتداخل في أمور غيره حتى العداء، كما فعل إخوة يوسف. لقد نعتوه بـ "صاحب الأحلام"... أبغضوه وقصدوا قتله لولا عناية الله، فباعوه عبدًا وهو من لحمهم ودمهم. وليس أدلّ على ذلك أيضًا من حسد الكتبة والفريسيين للرب يسوع المسيح رغم كل لطفه وإحساناته إلى الكثيرين كما تقول الكلمة الإلهية: "فَجَمَعَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْفَرِّيسِيُّونَ مَجْمَعًا وَقَالُوا: مَاذَا نَصْنَعُ؟ فَإِنَّ هذَا الإِنْسَانَ يَعْمَلُ آيَاتٍ كَثِيرَةً" (يوحنا 47:11). ( 5 ) نقص المحبة، أو لنقل بشكل صريح "البغضة" لأن وجود محبة من نوع ما لبعض الأشخاص ليست محبة في نظر الرب الذي قال: "لأَنَّهُ إِنْ أَحْبَبْتُمُ الَّذِينَ يُحِبُّونَكُمْ، فَأَيُّ أَجْرٍ لَكُمْ؟ أَلَيْسَ الْعَشَّارُونَ أَيْضًا يَفْعَلُونَ ذلِكَ؟" (متى 46:5). فالبغضة متأصلة في القلب الذي لا يسمح لمحبة الله أن تدخل فتنيره وتنقّيه. ولكن حين تغمره تلك المحبة عندها يصبح رؤوفًا بالآخرين حساسًا لآلامهم، حريصًا على حرياتهم وخصوصياتهم. ثالثـًا: العلاج تقدم لنا كلمة الله صفات العلاج الناجع لذلك الداء الدفين، فتعلمنا أن الإيمان الحق، وتسليم الذات بالكامل للرب، والخضوع التام للمشيئة الإلهية كفيلة بتغيير مسار الحياة، وتهذيب طبائع النفس، وكبح جماح العواطف الخاطئة، وذلك يستوجب: ( 1 ) الصلاة المخلصة الجادة، بكل تصميم وإرادة حقيقية لوضع الذات تحت يد الرب الأمينة والتوسل إليه لامتلاك القلب بالكامل وإخضاعه لسلطانه المطلق. ( 2 ) الإذعان لإرشادات الكلمة الإلهية وتحذيراتها، والتقيّد بما تقرره تلك الكلمة وترك التبريرات والفلسفات التي يختلقها البعض لكي يريحوا ضمائرهم المتعبة، ويستمروا تحت تأثيرات العوامل الموروثة، والتربية المغلوطة والأهداف الشخصية، سائرين على نفس الدرب القديم. ( 3 ) والأهم من كل ذلك، فمن مطاليب كلمة الله المشددة "التواضع"، وليس المقصود بذلك التواضع الظاهري المفتعل، حيث أنك ترى في تواضع بعض الأشخاص قمة الكبرياء. لذا فالتواضع يجب أن يكون بحسب الكتاب: * منهجًا للنفس غير مرتبط بالأوضاع والظروف وغير قابل للاحتمالات أو متعلق بزمن معين أو شخص مقصود أو حالة خاصة. * هدفًا منشودًا ومطلبًا حقيقيًّا يتنامى بواسطة الصلاة والتضرع ويتثبت في العواطف والإحساسات يومًا بعد يوم إلى أن يصبح كاملاً. * عملاً نابعًا من أعماق نفس المؤمن الذي يشعر دائمًا بحاجته العظمى للتمثّل بشخص الرب يسوع المسيح، لا لسبب ما إلا حبًا بالرب وطاعة له حيث قال: "اِحْمِلُوا نِيرِي عَلَيْكُمْ وَتَعَلَّمُوا مِنِّي، لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ الْقَلْبِ، فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ. لأَنَّ نِيرِي هَيِّنٌ وَحِمْلِي خَفِيفٌ" (متى 29:11-30). فالرب القدير هو الذي يعطينا القوة والاستطاعة للتخلص من الأشياء التي يريد أن ينقينا منها لنصبح أدوات نافعة للسيد منتظرة لقاءه له كل المجد إلى الأبد. |
|