مفهوم القوانين والقصاصات
بعد الاستماع إلى الاعتراف ونيل الصفح، لا بد من قصاصات وقوانين روحية تقوِّم ما التوى، وتصلح ما تهشَّم.
فالعقاب المُعطى لنا هو "بمثابة الدواء الذي يشفي أهواءنا ويعطينا الصحة" (القديس باسيليوس)،[36]
بالإضافة إلى أنه تقويم للتائبين وتأديب أبوي ناجم عن المحبة الإلهية (عبر12 : 6_8). فالعقاب، في المفهوم الأرثوذكسي، هو ليس لإيفاء عدل الله، إنما وسيلة لتأديب الخاطئ، تنبع من محبة الله للإنسان، وليس من سخطه أو غضبه.
فالله لما فرض العقاب على أوّلي الجبلة حين سقوطهما، على حد تعبير القديس يوحنا الذهبي الفم، "يبدو عقاباً وجزاءً. لكن في الحقيقة هذا نصيحة ودواء وعناية بالجروح التي نشأت بسبب الخطيئة".[37]
فالطرد كان عملاً من أعمال المحبة الإلهية؛ فالله لم يشأ إبقاءهما في الفردوس لئلا يأكلا من شجرة الحياة، فتصبح بذلك الخطيئة معهما أزلية. لذا جاء العقاب بالطرد إشارة إلى عناية الله بآدم، وليس سخطاً منه. من هنا فهمت الكنيسة أن القصاص هو لصالحنا وهونصيحة لنا، لكيلا نستمر في الخطأ.
طبعاً حق إعطاء القصاص مُنح للكهنة من الرب نفسه (يو20 : 23). لذلك عليهم أن يمارسوا هذا الحق بكل تمييز ودقة، ويعطوا القصاص الملائم للحالة المرضية، أي "أن يستعملوا الدواء النافع لكل مرض".[38]
فالقصاصات "لا يجب أن تكون بسيطة ومتعلقة بحجم الخطيئة، لكن يجب أن تُؤخذ بعين الاعتبار طوعية الخاطئ ....... لذا فالراعي بحاجة إلى حكمة منقطعة النظير، وعشرة آلاف عين، حتى يستطيع أن يرى مزاج النفس من كل النواحي. لأنه كما يوجد أناس يُقادون إلى الجهل، ويفقدون كل رجاء في خلاصهم، لأنهم لم يستطيعوا أن يحتملوا الأدوية الممقتة، هكذا يوجد آخرون يؤولون إلى الأسوأ، ويصبحون بلا رجاء، لأنهم لم تُفرض عليهم قصاصات موافقة لخطاياهم" (القديس يوحنا الذهبي الفم).[39]
لهذا على المؤمن أن يدرك، أن كل القصاصات والقوانين، ناتجة عن المحبة، فيقبلها بكل ثقة، ويسعى لتطبيقها بفرح، وبذلك يدرب نفسه لئلا يقع في الخطيئة ثانيةً. كما وعلى الأب الروحي أن يكون بدوره مميزاً في إعطاء الدواء المناسب، حتى يوصل المعترف إلى طريق الخلاص.
خاتمة
حاجة الإنسان إلى القرب من الله وعدم الابتعاد عنه، هي حاجة إلى الحياة والوجود. من هنا كان لابد للإنسان المعرض لأن يهجر الله، أن يملك عناصر ومؤهلات تعيده إلى الأحضان التي غادرها. فكان سر التوبة والاعتراف على مر العصور بمثابة باب من أبواب السموات التي تعيد الإنسان ثانية إلى الحظيرة، إذا ما هجرها، شريطة أن يصرخ من أعماقه بصدق: "قد أخطأت يارب".
هكذا فهمت الكنيسة أن سر التوبة والاعتراف حاجة لا بديل لها؛ فسعت في تنظيمها له سعياً حثيثاً، وشجعت المؤمنين على ممارسته وفقاً لأسس وعناصر وطقوس، تساعد على تنمية وخلق توبة صادقة، تطرق صرخاتها أبواب السماء.
هذا السر، كما ذكرت، يُتمم بواسطة الكاهن، الذي يستمد سلطته من الرب نفسه، فيمثل الكنيسة في الاستماع للمعترف وإعطاء الحل، ويعطي الإرشاد، ويفرض القوانين والعقابات المناسبة كتعبير عن محبة للإنسان الخاطئ، فيقوده بهذا إلى خلاصه، ويعيده إلى حظيرة الخراف.
هكذا فلندع التوبة بسرها تخلق فينا فكر المسيح، فنرى ما يرى، ونحب ما يحب، ونكره الأعمال التي يكرها، فتأخذ قلوبنا لتضعها في قلبه بحيث لا يفصل بيننا وبين المخلص حبيبنا شيء.[40] ولنسارع لأن نهتف قائلين: "افتح لي أبواب التوبة يا واهب الحياة".[41]