رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
البشريّة المريضة
بيت الداء وحقيقة الدواء(1) ثمّة مَن يدّعي أنّ الله خلق الموت وثمّة مَن يعتبر الكثير من الرذائل، كالزنى واللواطية، حاجات طبيعية في الناس. إنّ اعتماد نظرة كهذه إلى الأمور يؤثّر في مجمل أخلاقية الشعوب والأفراد. بالنسبة لنا ما نقوله هو إنّ البشريّة مريضة ومرضها نردّه إلى ما نسمّيه "السقوط". يستحيل علينا أن نفهم مِمَ عانى الإنسان عبر التاريخ ما لم تكن لنا نظرة صحيحة إلى ما كان عليه قبل السقوط وما حلّ به في السقوط، ما هي الخطيئة؟ لماذا الخطيئة مرتبطة بالمعصية؟ ما الذي تسبّبت به خطيئة آدم وحوّاء؟ كيف انتقل تأثير سقوط آدم وحوّاء إلى كل الجنس البشري؟ لماذا تجسّد ابن الله؟ ما الذي اشترك فيه الربّ يسوع من جهة ما للإنسان الساقط وما الذي لم يشترك فيه؟ ما الذي حقّقه الربّ يسوع؟ كيف جيّر الروح القدس ما حقّقه الربّ يسوع للجنس البشري؟ أي نهج بات على الإنسان أن ينهجه ليخلص ويحقّق قصد الله له؟ كل هذا في ضوء ما ورد في الكتاب المقدّس ولدى الآباء القدّيسين في الكنيسة. على هذه وغيرها من الأسئلة المصيرية، والإجابات الواضحة والدقيقة بشأنها، يتوقّف سداد موقف المؤمن، من جهة تدبير الله الخلاصي للإنسان وسلامة مسيرته الروحية في كل زمان ومكان. نقول هذا لأنّ في التداول، بين المؤمنين، أفكاراً ليست من تراث الأرثوذكسية. ولا غرو فانفتاح عالمنا على كل فكر يجعل التلفيق (الاختلاط) في المواقف ميسّراً. هذا لا يجد فيه الكثيرون ما يضير بل ما يُغني، لكنّه، في الحقيقة، يؤذي ويشوِّش ويشوِّه. السبب هو أنّ الفكر عندنا، في الكنيسة، ليس للفكر ولا هو بمعزل عن حياتنا المسيحيّة. فكرنا اللاهوتي مرتبط، عضوياً، بالحياة الروحية، وهو خارطة الحياة الجديدة. مستحيل على المؤمن أن تستقيم حياته الداخلية ما لم يكن فكره اللاهوتي أرثوذكسياً. من هنا أهميّة العقيدة القويمة عندنا، ومن هنا حرصنا على التمسّك بما انحدر إلينا من الآباء القدّيسين أكبر الحرص. في إطار هذا الفهم، بالذات، للأمور نُقبِل على ما تمدّنا به الكنيسة الأرثوذكسية المقدّسة من إجابات على أسئلتنا أعلاه. لم يخلق الله الإنسان، في الأساس، لا خالداً ولا غير خالد (القدّيس ثيوفيلوس الأنطاكي، القرن 2 م). كان، في ذاته، قابلاً لكِلا الأمرَين معاً، الخلود وعدم الخلود. سيره في هذا الاتجاه أو ذاك كان رهناً بإرادته هو، بسلوكه في طاعة الله، في الوصيّة الإلهيّة، أو بعدم سلوكه فيها. الخلود، عندنا، لا يعني الحياة إلى الأبد بل الحياة الأبدية. هناك فرق كبير بين الاثنين. الحياة إلى الأبد معناها الحياة إلى ما لا نهاية، فيما الحياة الأبدية، وفق إنجيل يوحنا (17: 3)، هي "أن يعرفوك [الآب السماوي] أنتَ الإله الحقيقي وحدكَ ويسوع المسيح الذي أرسلتَه". أن يعرفوك بمعنى أن يدخلوا في شركة المحبّة معكَ إلى الأبد، "أنا فيهم وأنتَ فيّ... كما أنّك أنتَ، أيّها الآب، فيّ وأنا فيك ليكونوا هم أيضاً واحداً فينا" (يو 17: 23، 21). هذا في ما خصّ الخلود. أمّا في ما خصّ عدم الخلود، أو الموت، فلا يعني، عندنا، الفناء بل ما أسماه الربّ يسوع نفسه "عذاباً أبدياً" (مت 25: 46) إذ يُلقَى فاعلو الظلم (لو 13: 27) في "النار التي لا تُطفأ حيث دودهم لا يموت" (مر 9: 45 ? 46)، في "الظلمة الخارجية. هناك يكون البكاء وصرير الأسنان" (مت 8: 12 ? 13). الحياة الأبدية، من جهة طبيعة الإنسان، هي نعمة من فوق، فيما الموت هو ناتج انصراف الإنسان عن الله. لذا ليس الموت من صنع الله (حك 1: 13). موت الإنسان أتى به الإنسان على نفسه بعدما انقطع عن ربّه لما عصاه. طبعاً ما أراده الله للإنسان، منذ البدء، كان أن يشترك، بالنعمة، فيما لله، أي في الحياة الأبدية. لكنّ الله جعل تحقيق مبتغاه للإنسان رهناً بإرادة الإنسان نفسه، بحرّيته. الإنسان كان قادراً على أن يَقبل عطيّة الله وقادراً على أن يرفضها. الحياة والموت معاً كانا في يده: الموت إذا نبذ الوصيّة وعصى الله، والحياة إذا حفظ الوصيّة وأطاع الله. من هنا أهميّة الوصيّة الإلهية وطاعة الله. وصيّة الله لآدم كانت هذه: "من جميع شجر الجنّة تأكل أكلاً. أما شجرة معرفة الخير والشرّ فلا تأكل منها لأنّك يوم تأكل منها موتاً تموت" (تك 2: 16 ? 17). أولاً علينا أن نُدرك أنّ شجرة معرفة الخير والشرّ كانت خيراً (القدّيس يوحنّا الدمشقي) طالما الله أبدعها. لكنْ يبقى السؤال مطروحاً طبعاً: إذا لم يشأ الربّ الإله لآدم أن يأكل من شجرة معرفة الخير والشرّ فلماذا جعلها في الجنّة أمام عينيه؟ ألم تكن فخّاً له؟ كلا أبداً! وجود شجرة معرفة الخير والشرّ في الجنّة كان أمراً طبيعياً لأنّ الله خلق الإنسان حرّاً. الحرّية تتضمّن، فيما تتضمّن، أن يكون في وسع صاحبها أن يعرف الخير والشرّ. قمّة الحرّية، في الحقيقة، أن تعرف الشرّ وتنبذه وتتمسّك بالخير. هذا لأنّ الحرّية لا تتحقّق إلاّ في الخير، أما في الشرّ فتضيع لأن "مَن يعمل الخطيئة هو عبد للخطيئة" (يو 8: 34). أوصى الربّ الإله آدم أن لا يأكل من شجرة معرفة الخير والشرّ لا لأنّه لم يُردْه أن يأكل منها بالمطلق بل لأنّ آدم كان، بادئ ذي بدء، وفق ما يُفيدنا به آباء الكنيسة، في حال الطفولة الروحيّة. بتعبير القدّيس ثيوفيلوس الأنطاكي "كان طفلاً"، وبتعبير القدّيس إيريناوس الليّوني "كان خُلُقياً غير كامل". وقد أعطاه الربّ الإله وصيّة أن لا يأكل من الشجرة بقصد حمايته منها إذا ما خطر بباله أن يتناول من ثمارها قبل الأوان. ثمّ اللهُ لا يُعامِل الإنسان، بعدما خلقه حرّاً، بالإكراه، بل بالإيعاز، بالوصيّة. الله المحبّة لا يَفرض نفسه فرضاً. كان لا بدّ لآدم أن ينمو، أولاً، في النعمة والقامة الروحيّة، في طاعة الله ومحبّته. فقط إذ ذاك يصير بإمكانه أن يأكل من الشجرة دون أن يتأذّى. هنا يُشار، كما يُبدي آباؤنا (القدّيس ثيوفيلوس، القدّيس يوحنّا الدمشقي...)، إلى أنّ السقوط مردّه لا أَكْلُ آدم من الشجرة الحرام بل عصيانُه لله، مخالفته للوصيّة. هذا وحتميّة الأكل من الشجرة، في الوقت المناسب، يتضمّن، استنتاجاً، أنّ الإنسان، متى نما في الروح، يصير قادراً على أن يعرف ما هو الشرّ، في عمقه الكياني، دون أن يختبره. طبعاً هذا غير ممكن بشرياً، لكن الروح هو الذي يجعل الأمر ممكناً. بهذا المعنى القدّيسون الذين امتلأوا من روح الربّ هم أكثر الناس معرفة بماهية الخطيئة وعمقها الكياني. هناك معرفة للخطيئة كفعل، هذه لم يكن آدمُ قبل السقوط ليعرفَها لو أقام في الطاعة لله. وهناك معرفة للخطيئة في عمقها الكياني، في بُعدها الروحي، هذا بالذات ما كان قد تسنّى لآدم أن يعرفه لو حفظ نفسه بالوصيّة، وبمعرفته له كان لُصوقُه بالخير لِيَقوى وانشدادُه لربّه ليتعزّز. هكذا كانت حرّيته، في الحقيقة، لِتتحقّق وتكتمل، من حيث إنّ تمام الحرّية هو الخيار الكياني العميق لحقّ الله ومحبّته بإزاء الشرّ في الكيان والكون. كلامنا أعلاه يتضمّن أنّ الله نفسَه يعرف المضمون الروحي للشرّ دون أن يختبر الشرّ كفعل وإلاّ ما كان خلَق الإنسان حرّاً ولا خلَق له شجرة معرفة الخير والشرّ. دليلنا على ذلك ذوق الربّ يسوع المسيح للموت. لم يعرف الربّ يسوع الخطيئة، لكنّه عرف عمقها الكياني المتمثِّل في الموت. لذا ذاق الموتَ كإنسان وعرف عمق الموت في الكيان بروحه دون أن يذوق الموتَ كإله، حيث إنّ الله منزّه عن الموت. هذا يأتي بنا إلى موضوع الطاعة. لِمَ الطاعة أساسية لدخول الإنسان الحياة الأبدية؟ هناك، في الحقيقة، نوعان من الطاعة: الطاعة الخارجية والطاعة الداخلية. الطاعة الخارجية تكون متى قال لك أحد، لغاية في نفسه، تعال إلى هنا فتأتي. اذهب إلى هناك فتذهب. افعل هذا فتفعله. لا تفعل ذلك فلا تفعله. الطاعة الخارجية، إذاً، تكون لآخر يأمرك جاعلاً إياك أداة له. أما الطاعة الداخلية فتكون متى أوصاك آخرُ، حرصاً عليك ومحبّة بك، بما هو خير لك. من ذلك مثلاً طاعتك للطبيب في ما يوصيك به بشأن صحّتك، وطاعتك للميكانيكي في ما يوصيك به بشأن سيارتك. كلّما كان طبيبك قديراً كلّما استدعى ذلك أن تكون طاعتك له أعظم. الطاعة الكاملة تكون لله. لماذا؟ لأنّه هو العارف تماماً بك وبما يناسبك. الله لا يأتيك كغريب عنك بل كأقرب من نفسك إليك. ولا يوصيك إلاّ بما هو خير لك. مشيئته أن تكون لك حياة أبدية. وأنت متى أطعته حقّقت لنفسك الخير الذي يريده لك. من هنا كون حياة الإنسان، في العمق، من طاعته لله ولا حياة له من غير طاعة. هذا والقول صحيح إنّ الإنسان لو أطاع الله، بدءاً، لما ذاق الموت وعرف الفساد. طاعته لله، قبل السقوط، هي أعطته المناعة الروحيّة. حفظته في كنف الله، في النعمة، في الحياة. فلمّا عصى الإنسانُ الله سقط وكان سقوطه عظيماً! |
|