رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
معلّم الذمّة \ الاب الروحي
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي دوما معلّم الذمّة تسمية أخرى للأب الروحي. الحياة الروحيّة، أي الحياة المسيحيّة، لا تُرتَجل، لا سيما في هذا الزمان الرديء. قلّما عادت العائلة مخزنَ الحكمة الإلهيّة المعيشة. هناك تقليد تآكل ولم يبقَ منه غير الفتات. تحوُّلُ العالم إلى قرية، خصوصاً بالإعلام والضغط الإجتماعي الدهري المحتفّ بالناس، أتيا على معظم التراث الكنسي الوجداني الحيّ المنحدر إلينا من مئات السنين. لذا كلٌّ بحاجة إلى من يهديه السبيل في مسير الحياة في المسيح. الدخول إلى داخل القلب وتبيّن الطريق فيه إلى الملكوت أصعب، بما لا يقاس، من ولوج أدغال الأمازون. في القلب جبال ووديان فكرية وفيه مستنقعات ومهاوٍ وفخاخ، وفيه أيضاً مروج وحدائق غنّاء. أنت بحاجة إلى دليل مختبَر يقتادك وإلاّ تضيع. أن تعرف نفسك وأن تعرف كيف تسلك في الإلهيّات ضرورة يبقى الإنجيل، من دونها، باباً موصداً. أن تتعلّم الـ "كيف" شرط المعرفة الحقّ. هناك معرفة نظريّة وهناك معرفة خبريّة. طبعاً المعرفة النظريّة لازمة لكل مؤمن. ما لم تقرأ ما في الكتب، أو ما لم تسمع ما ورد في الكتب سَمْعَ الأذن لا تفهم ما بإمكان العقل ومن واجب العاقل أن يحصّله من فهم. ولكن ما لم يكن اطّلاعك الكتبي في معرض اختبار ما قرأت، من خلال مَن خَبِرَ ويختبر التراث المعيش، فإنّك تكون كمَن يقرأ كتاباً في جراحة الأعصاب ويظنّ أنّه صار بإمكانه أن يُجري عمليات جراحيّة في الدماغ. المشكلة، اليوم، بخاصة، أنّ الناس يقرأون، أو يطّلعون على نحو مجتزأ، على بعض ما ورد في الإنجيل، ثمّ يتكلّمون عليه. بعد ذلك يحسبون أنّهم صاروا من العارفين. وينتهي بهم المطاف بأن يتعاطوا الإنجيل كلاماً، ويردّدون ما يُروى من قصص وتعليقات، هنا وثمّة، فيما يكون سيرهم الكياني وفق بقايا الناموس الطبيعي فيهم وما التقطوه بالخبرة، حسناً ورديئاً، دون حسّ أو تمييز يُذْكَر بين ما هو من النعمة وما هو من الروح الخبيث وما هو من الطبيعة. العائلة، في الأساس، كانت هي حاملة الوجدان الكنسي. الوضع اليوم تغيّر. العائلة غزتها الدهريّة. أكثر الذين يتردّدون على الكنائس ويقرأون أو حتى يصومون ويتغنّون بمحبّة الله يؤدّون، بالأحرى، ما يؤدّونه خارجيّاً، فيما يسلكون بيسر في الحقد والحسد والزنى والكذب والرشوة وسواها، ويعتادونه بحيث يُسمّون الموبقات بغير أسمائها ويبرِّرون ما يأتونه كعن ضعف أو يجدون لأنفسهم ألف سبب تخفيفي. الواقع الواقع أنّنا قلّما نجد، اليوم، اختلافاً في الفكر العام بين المسيحيّين وغير المسيحيّين أو في سلوك هؤلاء وسلوك أولئك. حسّ الإلهيّات أصابه الضمور إلى حدّ بعيد. وفي غياب العائلة المسيحيّة، إلاّ قليلاً، ما هو البديل؟ مَن الذي يُحيي الحسّ الداخلي؟ مَن الذي يربّي الناس على معرفة الذات؟ مَن الذي يعينهم في كيفية حفظ الوصايا الإلهيّة؟ البديل هو، بالضبط، معلّم الذمّة. هو الأب الروحي، والأم الروحيّة حيثما وُجدت. طبعاً يتّجه الذهن، تلقاء، في البحث عن معلّمي الذمّة، إلى الكهنة، بخاصة، وكذا إلى الأساقفة. هذا أمر طبيعي. تقليدياً هؤلاء وأولئك كانوا يُختارون من الأتقياء والقدّيسين، لذا كانوا يُعينون. اليوم غلب، لدى الرعاة، هاجس المعرفة اللاهوتيّة النظريّة والطقوسيّة والرعاية الاجتماعيّة على همّ التقوى والقداسة. التقوى والقداسة مسيَّبان أو معتبران تحصيلاً حاصلاً. بكلام آخر اهتمام الكهنة والأساقفة صار، بالأحرى، طقوسياً نفسانيّاً اجتماعيّاً ولما يعد روحيّاً. لذا صار التبجّح والانتفاخ عنوان الأكثرين. في هذه الحال بتّ ترى من الرعاة مّن يعظون جيّداً ويعلّمون جيّداً ويكتبون جيّداً ويرتّلون جيّداً وينظّمون الرحلات والسهَرات والحملات الماليّة بشكل جيّد، دون أن ترى فيهم، إلاّ قليلاً، علائم التقوى أو التواضع أو الوداعة. يُعثرك، مثلاً، تعامل العديد منهم مع المال أو صلفهم أو كلامهم على بعضهم البعض، أو سعيهم إلى أذيّة بعضهم البعض، أو حتى استرخاؤهم بإزاء قوانين الكنيسة والعفّة. المؤمنون يرون ذلك، أكثره، ويسمعونه فيضمر إحساسهم بالأكثر. الرؤساء الذين يسمحون لأنفسهم بما لا تسمح به الوصيّة والقانون الكنسي يُفسدون الناس وهم لا يعلمون أو لا يبالون. الناس يتعلّمون من سلوك الرعاة أكثر مما يتعلّمون من أقوالهم. الراعي الذي يكلّمك بشيء ويعمل شيئاً آخر لا يعود الناس يسمعونه ولو سمعوه. لا يحملون كلامه، من بعد، على محمل الجدّ. فإذا لم يكن الرعاة مثالاً طيّباً فماذا تفعل إذ ذاك؟ لا شكّ أنّك تجد نفسك في مأزق كبير! من هنا أنّ الحاجة في تنشئة الرعاة أوّلاً هي إلى التربية الروحيّة، إلى التتلمذ على معلّمي ذمّة معروفين ومشهود لهم بالتقوى والمعرفة الروحيّة. أن يتعلّم رعاة المستقبل كيف يتوبون وكيف يطيعون وكيف يعيشون في الفقر من أجل الله وكيف يتّضعون وكيف يكشفون مكنونات قلوبهم وكيف يسهرون في الصلاة وكيف يصومون وكيف ينكسرون في تعاملهم بعضهم مع البعض الآخر، وكيف ينظرون في حركة نفوسهم ونواياهم وكيف يجاهدون من أجل حفظ الأمانة لله ونقاوة القلب وكيف يصمتون وكيف يَقبلون التقريع والملاحظة وكيف يَخدمون بغيرة ويتعبون ولا يطلبون الراحة وكيف يقولون: "سامحني" وكيف يبكون سائلين العليّ أن يعينهم على تجاربهم، أن يتعلّم رعاة المستقبل كل ذلك بحاجة إلى تنشئة من هذا النوع تمتدّ ما لا يقل عن السنتين إلى الثلاث السنوات. فقط ساعتذاك إذا ما انكبّوا على قراءة كتب اللاهوت والعلوم المساعِدة يكون انكبابهم في السياق السليم والإطار الصحيح، في النقاوة لا في النجاسة. من دون التنشئة الروحيّة نكون كمَن يعطي سلاحاً وتدريباً على حمل السلاح لمَن لا روح وطنيّة لهم. هؤلاء بدل أن يذودوا عن الوطن، يفتكون بأبنائه ويستأسرونهم لأهوائهم ويستعبدونهم لمقاصدهم. فقط الراعي التقيّ القدّيس الذي يستعمل كلّ كتاب وكّل نشاط بقصد التقوى والقداسة يمكن أن يكون راعياً لخراف المسيح وإلاّ استحال ذئباً من حيث يدري ولا يدري. ومَن لا يصلح لأن يكون مثالاً في مخافة الله والمحبّة والفقر والوداعة والتواضع لا يصلح للرعاية ولو كانت له ألف شهادة دكتورا. شهادة معلّم الذمّة تأتي أوّلاً! اليوم التيار ليس في هذا الاتجاه بكل أسف. نحن نسير في الاتجاه المعاكس. تُرى هل يعي الرعاة ما هم فاعلون وإلى أين يسوقون هذا الشعب القطيع؟!! لا شكّ أنّنا بحاجة إلى صحوة ضمير ونعمة الله لنُصلح ما فَسُد من ممارساتنا الراهنة، وما أكثرها! |
|