انتظار القيامة
قيامة الأجساد حقيقة من الحقائق الكبرى التي تنتظرها نفوسنا إذ هي قاعدة إيماننا ورجائنا بل هي إيمان جميع الأمم والشعوب وهى الأساس العظيم الذي بُنِيَت عليه الأديان حتى الوثنية، وعلى هذا الإيمان نشأنا وبهذا الرجاء نحيا ونموت ونُبعث أحياء في دار الخلود. وإذا راجعت أقوال رجال الله وتعليم الوحي التي أوردناها عن القيامة اتضحت لك هذه الحقيقة وقد دُعيت القيامة قيامة الأجساد حذراً من توهم فناء النفس وموتها مع الجسد ثم يقوم كلاهما معاً في يوم القيامة. لأنَّ الوحى يُعلِّمنا أنَّ الإنسان مُؤلَّف من جزئين أحدهما النفس الناطقة الخالدة والآخر الجسد الكثيف المأخوذ من تراب الأرض. فبالموت ينحلّ كيان الجسد ويعود إلى عناصره الأصلية. أمَّا النفس فإنَّها تبقى إلى الأبد لا تفنى ولا تتلاشى. لذلك قال سليمان الحكيم "فَيَرْجعُ التُّرَابُ إِلَى الأَرْضِ كَمَا كَانَ، وَتَرْجعُ الرُّوحُ إِلَى اللهِ الَّذِي أَعْطَاهَا" جا (7:12) ونتعلَّم من الكتاب أنَّ نفوس الأبرار تنتقل بعد الموت إلى الفردوس وتكون مع المسيح لتأخذ عربون السعادة والمجد (مت46، 34:25، لو22:16، لو43:23، يو26:11، يو3:14، 2كو5: 1ـ8، فى23:1، 1تس10:5) وتبقى نفوس الأشرار في سجن الظلام محفوظة إلى حكم اليوم العظيم (مت46، 41:25، لو24، 23:16، يه7، 6:1، 1بط19:3، 2بط9:2) وأمَّا نصيب النفس من السعادة الكاملة أو العقاب الكامل فلا يكون إلاَّ بعد أنْ تلبس النفوس أجسادها وتقوم في يوم القيامة.
وقد ورد في العهدين القديم والجديد ذكر قيامة البعض من الموت كإقامة إيليا ابن الأرملة 1مل (17: 22ـ24) وإقامة أليشع ابن المرأة الشونمية 2مل (4: 32ـ37) وإقامة المسيح لعازر بعد أربعة أيام يو (44، 43:11) وإقامة ابنة رئيس المجمع مت (9: 23ـ25) وابن الأرملة لو (15، 14:7) وإقامة بطرس الرسولطابيثا بعد موتها أع (40:9) وإقامة بولس الرسول الشاب أفتيخوس أع (20: 9ـ12) وذلك لكي تتأكد حقيقة القيامة.
وبما أنَّ النفوس غير مائتة وميَّالة من طبعها إلى البقاء في الأجساد البشرية لأنَّها جزء من الإنسان فيُعتبر افتراقها عن الأجساد مُخالفاً لطبيعتها فلا يُمكن أنْ يكون مؤبَّداً بل لابد من رجوعها واتحادها بأجسادها يوماً ما. وقد أقام مخلصنا الحجة على الصدوقيين وأثبت لهم القيامة بخلود الأرواح بقوله له المجد "وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ قِيَامَةِ الأَمْوَاتِ، أَفَمَا قَرَأْتُمْ مَا قِيلَ لَكُمْ مِنْ قِبَلِ اللهِ الْقَائِلِ: أَنَا إِلهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِلهُ إِسْحَاقَ وَإِلهُ يَعْقُوبَ؟ لَيْسَ اللهُ إِلهَ أَمْوَاتٍ بَلْ إِلهُ أَحْيَاءٍ" مت (32، 31:22) وقد كتب بولس الرسول إلى أهل تسالونيكى يقول "حَتَّى إِنَّنَا نَحْنُ أَنْفُسَنَا نَفْتَخِرُ بِكُمْ فِي كَنَائِسِ اللهِ، مِنْ أَجْلِ صَبْرِكُمْ وَإِيمَانِكُمْ فِي جَمِيعِ اضْطِهَادَاتِكُمْ وَالضِّيقَاتِ الَّتِي تَحْتَمِلُونَهَا، بَيِّنَةً عَلَى قَضَاءِ اللهِ الْعَادِلِ، أَنَّكُمْ تُؤَهَّلُونَ لِمَلَكُوتِ اللهِ الَّذِي لأَجْلِهِ تَتَأَلَّمُونَ أَيْضًا. إِذْ هُوَ عَادِلٌ عِنْدَ اللهِ أَنَّ الَّذِينَ يُضَايِقُونَكُمْ يُجَازِيهِمْ ضِيقًا، وَإِيَّاكُمُ الَّذِينَ تَتَضَايَقُونَ رَاحَةً مَعَنَا، عِنْدَ اسْتِعْلاَنِ الرَّبِّ يَسُوعَ مِنَ السَّمَاءِ مَعَ مَلاَئِكَةِ قُوَّتِهِ" 2تس (1: 4ـ7) فالبشر لا يحظون بالسعادة كاملة حاوية جميع الخيرات طالما استمرت النفس مفترقة عن الجسد لأنَّه كما أنَّ كل جزء انفصل عن الكل هو ناقص لا محالة، هكذا النفس المفترقة عن الجسد، فينتج من ثَمَّ أنَّ لابد من قيامة الأجساد حتى يستوفى الإنسان كله حظه من السعادة الكاملة. لهذا قضى عدل الله أنْ يُعَيِّن يوماً فيه يدين المسكونة بالعدل حيث يُلاقى كُلٍ مكافأته بحسب ما صنع. فستعود تلك الأجساد البالية التي عفت آثارها واندثرت تحت التراب طويلاً ويُسلِّم البحر الأموات الذين فيه. ويُسلِّم الموت والهاوية الأموات الذين فيهما ويُدان كل واحدٍ بحسب أعماله رؤ (13:20).
انظر إلى هذه الحياة تَرَ كثيرين من الأشرار متمتعين برغد الحياة ورفاهية العيش، غارقين في شهوات ولذَّات مختلفة. بينما تَرَ أكثر الأتقياء مضنوكين متوجعين يُلاقون البلايا المتعددة والآلام المختلفة. انظر أيضاً تَرَ منظراً أرهب وهو أنَّ الفضيلة منزوية مختفية والرذيلة قائمة منتصرة. فكيف يكون الله عادلاً لو لم يُعَيِّن يوماً فيه تُكلَّل الفضيلة بتاج الفخر والمجد. وتُعاقب الرذيلة ويظهر خزيها وينفضح عارها. ستكون إذاً قيامة "فَيَخْرُجُ الَّذِينَ فَعَلُوا الصَّالِحَاتِ إِلَى قِيَامَةِ الْحَيَاةِ، وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَى قِيَامَةِ الدَّيْنُونَةِ" يو (29:5) ستكون قيامة كي تنتصر الفضيلة وتُعاقب الرذيلة ويظهر البرّ ويخزى الإثم. ستكون قيامة كى تكون التزكية ونيل إكليل الحياة الذي وعد به الرب للذين يحبونه يع (12:1). ستكون قيامة كي نُعاين مجد الرب بوجهٍ مكشوف حين يُرفع الحجاب ونتغير إلى تلك الصورة من مجد إلى مجد كما من الرب الروح 2كو (18:3) ستكون قيامة كي يُضئ الفاهمون كضياء الجلد والذين ردوا كثيرين إلى البرّ كالكواكب إلى أبد الدهور دا (3:12).
هذا هو الرجاء الذي به نحيا ونسير على نوره في سلوك طريق الفضيلة لأنَّ الزارع على رجاء أنْ يحصد والمجاهد يجاهد على رجاء أنْ ينال إكليل الظفر والنصر. قال الرسول "وَلِمَاذَا نُخَاطِرُ نَحْنُ كُلَّ سَاعَةٍ؟ إِنِّي بِافْتِخَارِكُمُ الَّذِي لِي فِي يَسُوعَ الْمَسِيحِ رَبِّنَا، أَمُوتُ كُلَّ يَوْمٍ. إِنْ كُنْتُ كَإِنْسَانٍ قَدْ حَارَبْتُ وُحُوشًا فِي أَفَسُسَ، فَمَا الْمَنْفَعَةُ لِي؟ إِنْ كَانَ الأَمْوَاتُ لاَ يَقُومُونَ، «فَلْنَأْكُلْ وَنَشْرَبْ لأَنَّنَا غَدًا نَمُوتُ!»" 1كو (32، 30:15) وقال "وَلكِنْ إِنْ كَانَ الْمَسِيحُ يُكْرَزُ بِهِ أَنَّهُ قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ، فَكَيْفَ يَقُولُ قَوْمٌ بَيْنَكُمْ إِنْ لَيْسَ قِيَامَةُ أَمْوَاتٍ؟ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ قِيَامَةُ أَمْوَاتٍ فَلاَ يَكُونُ الْمَسِيحُ قَدْ قَامَ! وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَسِيحُ قَدْ قَامَ، فَبَاطِلَةٌ كِرَازَتُنَا وَبَاطِلٌ أَيْضًا إِيمَانُكُمْ، وَنُوجَدُ نَحْنُ أَيْضًا شُهُودَ زُورٍ للهِ، لأَنَّنَا شَهِدْنَا مِنْ جِهَةِ اللهِ أَنَّهُ أَقَامَ الْمَسِيحَ وَهُوَ لَمْ يُقِمْهُ، إِنْ كَانَ الْمَوْتى لاَ يَقُومُونَ. لأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمَوْتى لاَ يَقُومُونَ، فَلاَ يَكُونُ الْمَسِيحُ قَدْ قَامَ. وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَسِيحُ قَدْ قَامَ، فَبَاطِلٌ إِيمَانُكُمْ. أَنْتُمْ بَعْدُ فِي خَطَايَاكُمْ! إِذًا الَّذِينَ رَقَدُوا فِي الْمَسِيحِ أَيْضًا هَلَكُوا! إِنْ كَانَ لَنَا فِي هذِهِ الْحَيَاةِ فَقَطْ رَجَاءٌ فِي الْمَسِيحِ، فَإِنَّنَا أَشْقَى جَمِيعِ النَّاسِ. وَلكِنِ الآنَ قَدْ قَامَ الْمَسِيحُ مِنَ الأَمْوَاتِ وَصَارَ بَاكُورَةَ الرَّاقِدِينَ" 1كو (15: 12ـ20) وقال "هُوَذَا سِرٌّ أَقُولُهُ لَكُمْ: لاَ نَرْقُدُ كُلُّنَا، وَلكِنَّنَا كُلَّنَا نَتَغَيَّرُ، فِي لَحْظَةٍ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ، عِنْدَ الْبُوقِ الأَخِيرِ. فَإِنَّهُ سَيُبَوَّقُ، فَيُقَامُ الأَمْوَاتُ عَدِيمِي فَسَادٍ، وَنَحْنُ نَتَغَيَّرُ" 1كو (52، 51:15).
التفتوا إلى مشهد هذه الحياة فماذا ترون فيها من السعادة؟ أليست هي كمسرح تُمثل فيه كل يوم بل كل ساعة فصول محزنة مؤلمة. وأدوار مؤثرة مبكية من ظلم وسحق واغتصاب. كم من الدموع التي تُذرف. وكم من الأنَّات التي تتصاعد من القلوب. وكم من الأوجاع التي يتألم بها بنو البشر. لا نزال نسمع بزلازل وزوابع وعواصف وبراكين تُخرب ممالك برمتها وحروب يفنى فيها أعزّ الرجال. يوجد بلاء في البحر وشقاء في البر، وموت جشع لا يشبع يُرسل رسله إلى القصور المنيعة الباذخة كما يُرسلهم إلى الأكواخ الحقيرة. لا يزال العالم يرسل لنا حسكاً وشوكاً من الأتعاب والبلايا. هوذا البكاء والنحيب والأنين وزفرات الألم التي تتصاعد من القلوب كل يوم تشهد أنَّ لا سعادة في هذه الحياة. فلو حُكِمَ علينا أنْ ندوم إلى الأبد على هذه الأرض بدون رجاء بحياة أخرى يسكن فيها البرّ ونجد فيها السعادة والراحة الأبدية لحُسبت هذه الدنيا كسجن مؤبَّد للعقاب أو كمنفى عذاب للمجرمين. ولكن لنا إيمان يتوقع وينتظر حياة غير هذه الحياة. حياة أبدية لا بكاء ولا أنين فيها في نهارٍ طويل لا يعقبه ليل، ونور دائم لا يعتريه ظلام. نهار سعيد مفرح يُضئ على الدوام بأشعة الحق الأعظم في مقر المدينة السماوية ودار الأبدية السعيدة.
يعدنا الرسول قائلاً "فَإِنِّي أَحْسِبُ أَنَّ آلاَمَ الزَّمَانِ الْحَاضِرِ لاَ تُقَاسُ بِالْمَجْدِ الْعَتِيدِ أَنْ يُسْتَعْلَنَ فِينَا. لأَنَّ انْتِظَارَ الْخَلِيقَةِ يَتَوَقَّعُ اسْتِعْلاَنَ أَبْنَاءِ اللهِ.. فَإِنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ الْخَلِيقَةِ تَئِنُّ وَتَتَمَخَّضُ مَعًا إِلَى الآنَ. وَلَيْسَ هكَذَا فَقَطْ، بَلْ نَحْنُ الَّذِينَ لَنَا بَاكُورَةُ الرُّوحِ، نَحْنُ أَنْفُسُنَا أَيْضًا نَئِنُّ فِي أَنْفُسِنَا، مُتَوَقِّعِينَ التَّبَنِّيَ فِدَاءَ أَجْسَادِنَا لأَنَّنَا بِالرَّجَاءِ خَلَصْنَا. وَلكِنَّ الرَّجَاءَ الْمَنْظُورَ لَيْسَ رَجَاءً، لأَنَّ مَا يَنْظُرُهُ أَحَدٌ كَيْفَ يَرْجُوهُ أَيْضًا؟ وَلكِنْ إِنْ كُنَّا نَرْجُو مَا لَسْنَا نَنْظُرُهُ فَإِنَّنَا نَتَوَقَّعُهُ بِالصَّبْرِ" رو (8: 18ـ25).
لقد نلنا من الله هبات كثيرة ونِعَم غزيرة وبركات وافرة. لنا إيمان ثمين ورجاء حي ومحبة مقدسة لنا التبني وميراث المواعيد السماوية. لنا مجداً لا يُنعت ولا يضمحل مكتوب لنا في السموات. ولكن كل ذلك يُدعى عربوناً وباكورة إلى أنْ ننال الكمال في يوم القيامة ومَنْ يحصل على العربون لا يقف عنده بل لا يزال يتشوَّق وينتظر الحصول على الكمال. إنَّ الأسير يئن شوقاً إلى الرجوع لرؤية أولاده وأهله. والأولاد في المدرسة وهم صغار يَعِدُّون أيامهم وساعاتهم انتظاراً لميعاد خروجهم كي ينطلقوا بسرور للرجوع إلى بيوتهم والتمتع برؤية والديهم. فنحن الذين لا نزال مقيدين في الدنيا لا نجد راحة ولا نزال نئن مُنتظرين ذلك اليوم الذي نرى فيه وجه مُخَلِّصَنا. كل شيء يأبَى النقص ويريد الكمال، ومادمنا في الدنيا فنحن في حالة النقص والعَوز. إذ "هذَا الْفَاسِدَ لاَبُدَّ أَنْ يَلْبَسَ عَدَمَ فَسَادٍ، وَهذَا الْمَائِتَ يَلْبَسُ عَدَمَ مَوْتٍ".
إنَّ الذين انتقلوا وحازوا عربون المجد والسعادة لا يزالون حتى الآن منتظرين كمال الراحة ونيل ملء المجد حين تقوم أجسادهم بصورة عدم الفساد وعدم الموت. قال يوحنا اللاهوتي في رؤياه: أنه رأى تحت المذبح نفوس الذين قتلوا من أجل كلمة الله ومن أجل الشهادة التي كانت عندهم. أنهم أعطوا كل واحد منهم ثياباً بيضاء وقيل لهم أن يستريحوا زماناً يسيراً أيضاً حتى يكمل العبيد رفقاؤهم وأخوتهم أيضاً العتيدون أن يقتلوا مثلهم رؤ (11، 9:6).
كان من عادة الرومانيين أنَّ القائد الظافر لدى حضوره إلى مدينته يأتي إلى بيته خِفيَة وهناك ينام مُستريحاً ويتمتع بأصحابه وأهل بيته مدة أسبوع أو أسبوعين إلى أنْ يأتي الوقت المُعيَّن الذي فيه يخرج من بيته ويدخل المدينة رسمياً علانيةً، وحينئذ يُعترف به وتُفتح له الأبواب ليدخل بالعز والمجد ويسير بموكب حافل في وسط المدينة إلى الكابيتول (دار الحكومة) بين هتاف الفرح وضجات السرور. هكذا أيضاً أولئك القديسون الذين جاهدوا وظفروا وانتقلوا ليحصلوا على عربون الراحة والسعادة إلى أنْ يأتي مُخلِّصنا من السماء ويكمل العبيد الرفقاء ونقوم معهم. حينئذ يقومون إلى المجد ويُعلن مجدهم في مواكب الأبرار وينالوا ملء السعادة ويُكلَّلون بإكليل النصر فوق عروش المجد الأبدى.
إنَّ إيماننا يُعلِّمنا أنَّ الجسد مهما قاسى من الآلام والتجارب ومهما تقطع وتمزق في هذه الحياة فسوف يعود ثانية ويقوم كاملاً بعد الفناء. وصحيحاً بعد المرض. ونيِّراً بعد الظلام. وغير مائت بعد الموت. وفي مجد بعد الفساد "يُزْرَعُ فِي فَسَادٍ وَيُقَامُ فِي عَدَمِ فَسَادٍ. يُزْرَعُ فِي هَوَانٍ وَيُقَامُ فِي مَجْدٍ. يُزْرَعُ فِي ضَعْفٍ وَيُقَامُ فِي قُوَّةٍ. يُزْرَعُ جِسْمًا حَيَوَانِيًّا وَيُقَامُ جِسْمًا رُوحَانِيًّا.. وَكَمَا لَبِسْنَا صُورَةَ التُّرَابِيِّ، سَنَلْبَسُ أَيْضًا صُورَةَ السَّمَاوِيِّ... إِنَّ لَحْمًا وَدَمًا لاَ يَقْدِرَانِ أَنْ يَرِثَا مَلَكُوتَ اللهِ، وَلاَ يَرِثُ الْفَسَادُ عَدَمَ الْفَسَادِ" 1كو (15: 42ـ44، 49، 50).
نعلم أنَّ النفس لا تقدر أنْ تعمل عملاً إلاَّ بواسطة الجسد الذي هو بمنزلة بيت ومسكن لها، وحواس الجسد بمنزلة آلات لها في كل شيء، وارتباط النفس بالجسد شيء لا يدرك، والعلاقة بينهما شديدة وليس مَنْ ينكر خلود النفس وأنَّها لدى خروجها من الجسد تلبث في حياة غير هذه الحياة. وتُسأل وتُجازى عن جميع أفعالها وهل من العدل أنْ تجازى النفس وحدها دون الجسد وهو الذي تعب وحمل مشاق الفضيلة وجاهد في الأتعاب والأوصاب والأسهار والأصوام. أو هو الذي انغمس في الرَّذيلة وتلذَّذ بالشهوات وشبع من الَّلذات لعمري لو كانت النفس وحدها هي التي تقوم في القيامة لتأخذ المجد وحدها لِمَا رضىَ الجسد هذه القسمة الظالمة، ولِمَا تحمَّل المشاق والأتعاب والجراح ومقاومة الأهواء، وقلَّ مَنْ يُناضل عن الإيمان حتى الموت أمام المُغتَصِبِين والمُضَطَهِدِين. وبَطُلَ مَنْ يُقدِّم جسده حريقاً للنار أو مأكلاً للوحوش أو ضحية للعذاب لأجل الإيمان والفضيلة. ولو كان الأمر كذلك لكانت دماء الشهداء ضاعت هدراً وسُفكت جُزافاً ولَحُسِبَ قبولهم العذاب بفرح تهوراً وشهامتهم ضعفاً وشجاعتهم جبناً. ولِمَا كان لواحدٍ منهم فضل أو مكافأة على ما فعل وحينئذ يحق للجسد أنْ يتمتع بما يشاء من اللذات بحسب أهوائه بما أنَّه لا يُشارك النفس في نعيمها ومسرَّتها ولكن الأمر ليس كذلك بل أنَّ عدل الله قضى أنْ يشترك الجسد في الجزاء مع النفس ويدخل معها في إرث الملكوت لأنَّه كان شريكاً ورفيقاً في شدائدها وأتعابها وجهادها في كل شيء. إذاً الجسد سوف يقوم ويلبس صورة سماوية لأنَّ هذا الفاسد لابد أنْ يلبس عدم فساد وهذا المائت يلبس عدم موت.
إنَّنا ننتظر ونتوقع برجاء سماء جديدة وأرضاً جديدة يسكن فيها البرّ لأنَّ هذه الحياة يفلح فيها الشرير. وينجح فيها المنافق. وفيها يمتد الفجور وينتشر، ويظهر أهل الشر بأبهى المظاهر. بينما أهل التُّقَى مُحتقرين مُذلِّين ألم يقل الرسول عن كثيرين من رجال الله أنَّهم "تَجَرَّبُوا فِي هُزُءٍ وَجَلْدٍ، ثُمَّ فِي قُيُودٍ أَيْضًا وَحَبْسٍ. رُجِمُوا، نُشِرُوا، جُرِّبُوا، مَاتُوا قَتْلاً بِالسَّيْفِ، طَافُوا فِي جُلُودِ غَنَمٍ وَجُلُودِ مِعْزَى، مُعْتَازِينَ مَكْرُوبِينَ مُذَلِّينَ، وَهُمْ لَمْ يَكُنِ الْعَالَمُ مُسْتَحِقًّا لَهُمْ. تَائِهِينَ فِي بَرَارِيَّ وَجِبَال وَمَغَايِرَ وَشُقُوقِ الأَرْضِ" عب (11: 36ـ38). فهؤلاء وغيرهم لم يحتملوا كل هذه الآلام إلاَّ على رجاء القيامة. ولذلك يقول الرسول: "وَآخَرُونَ عُذِّبُوا وَلَمْ يَقْبَلُوا النَّجَاةَ لِكَيْ يَنَالُوا قِيَامَةً أَفْضَلَ" عب (35:11) لذلك نؤمن ونرجو هذه الحياة الجديدة التي يشرق فيها البرّ ويتلألأ مجد الفضيلة "وَهُنَاكَ يَسْتَرِيحُ الْمُتْعَبُون. الأَسْرَى يَطْمَئِنُّونَ جَمِيعًا، لاَ يَسْمَعُونَ صَوْتَ الْمُسَخِّرِ. الصَّغِيرُ كَمَا الْكَبِيرُ هُنَاكَ، وَالْعَبْدُ حُرٌّ مِنْ سَيِّدِهِ" أي (3: 17ـ19) هناك تستحيل أتعابنا إلى راحة. ويتبدل نوحنا بالفرح. ونخلع ثوب الحزن. ونكتسي لباس البهجة والبهاء هناك "سَتُعْتَقُ مِنْ عُبُودِيَّةِ الْفَسَادِ إِلَى حُرِّيَّةِ مَجْدِ أَوْلاَدِ اللهِ " رو (21:8).
فتشجعوا ولتتأيد قلوبكم يا مَنْ تجاهدون ضد الخطية. وتشددوا بهذا الوعد بالرجاء الموضوع لكم في السموات، وسوف تنتهي أحزان العالم وشدائده وأنَّه لقريب انتهاء تلك المخاوف والانزعاجات التي نصادفها في طريقنا، كل ذلك له نهاية، وكل ما له نهاية فهو قريب. أنَّه لقريب شمس شروق ذلك النهار السعيد بعد انقضاء ليل هذه الحياة المظلمة، قال السيد "إِنَّكُمْ سَتَبْكُونَ وَتَنُوحُونَ وَالْعَالَمُ يَفْرَحُ. أَنْتُمْ سَتَحْزَنُونَ، وَلكِنَّ حُزْنَكُمْ يَتَحَوَّلُ إِلَى فَرَحٍ. اَلْمَرْأَةُ وَهِيَ تَلِدُ تَحْزَنُ لأَنَّ سَاعَتَهَا قَدْ جَاءَتْ، وَلكِنْ مَتَى وَلَدَتِ الطِّفْلَ لاَ تَعُودُ تَذْكُرُ الشِّدَّةَ لِسَبَبِ الْفَرَحِ، لأَنَّهُ قَدْ وُلِدَ إِنْسَانٌ فِي الْعَالَمِ. فَأَنْتُمْ كَذلِكَ، عِنْدَكُمُ الآنَ حُزْنٌ. وَلكِنِّي سَأَرَاكُمْ أَيْضًا فَتَفْرَحُ قُلُوبُكُمْ، وَلاَ يَنْزِعُ أَحَدٌ فَرَحَكُمْ مِنْكُمْ " يو (16: 20ـ22) " لِذلِكَ لاَ نَفْشَلُ، بَلْ وَإِنْ كَانَ إِنْسَانُنَا الْخَارِجُ يَفْنَى، فَالدَّاخِلُ يَتَجَدَّدُ يَوْمًا فَيَوْمًا. لأَنَّ خِفَّةَ ضِيقَتِنَا الْوَقْتِيَّةَ تُنْشِئُ لَنَا أَكْثَرَ فَأَكْثَرَ ثِقَلَ مَجْدٍ أَبَدِيًّا. وَنَحْنُ غَيْرُ نَاظِرِينَ إِلَى الأَشْيَاءِ الَّتِي تُرَى، بَلْ إِلَى الَّتِي لاَ تُرَى. لأَنَّ الَّتِي تُرَى وَقْتِيَّةٌ، وَأَمَّا الَّتِي لاَ تُرَى فَأَبَدِيَّةٌ " 2كو (4: 16ـ18).
وإنْ ثقلت علينا الآلام فلنرفع عيوننا إلى السماء لنرى تباشير الفرح ونتأمل مجد القديسين. ولنعلم أنَّ هذا الفاسد لابد أنْ يلبس عدم فساد. وهذا المائت يلبس عدم موت. فإنَّ هذا الوعد يُقوِى عزائم القديسين والشهداء في جهادهم ودخولهم مواقع العذاب بفرح ولقاء المنون بجزل. لهذا الوعد وعلى هذا الرجاء قدَّموا أجسادهم لحريق النار ولحومهم للتجريد والتمزيق وعظامهم لِتُنشَر، وعيونهم لِتُقَوَّر. وأعناقهم لِتُجَزّ بحد السيف ولم يرهبوا الجلد والنشر والتقطيع والتمزيق والحريق. ولم يخشوا بأس الوحوش الضارية التي هشَّمتهم. ولا العجلات المرهفة التي قطَّعتهم. ولا الحراب المسنونة التي طعنتهم ولا الصفائح المحمية التي شُووا عليها. بل قابلوا ذلك بفرح عظيم لأنَّهم تيقنوا أنَّ هذا الفاسد يلبس عدم فساد. وهذا المائت يلبس عدم موت. فرحوا لأنَّهم آمنوا أنَّ جراحاتهم لابد أنْ تُضَمَّد وتتلألأ بالمجد في القيامة ويعود جسدهم بعد التهشيم صحيحاً قوياً، وغير مائت وبدون فساد. فلِيُقطَّع الجسد ويتمزق إرباً إرباً ويُشوَّه بالجراح ولِيَمُت ويتبدد ويعود تراباً ويُذرَى في الهواء. فلابد أنْ يعود ثانية حياً بلا فساد. لأنَّ حبة الحنطة إنْ لم تدفن في التراب وتموت لا تحيا وما لم تُصادفها المياه والحرارة والبرد وكل نوائب الحقل لا تستطيع أنْ تُزهر وتُثمر ولكن إنْ ماتت تأتى بثمرٍ كثيرٍ (يو 24:12).