( فأَخَذا جُثمانَ يَسوعَ وَلَفاهُ بِأكفانٍ مَعَ الطِّيبِ ، كَما كانَت عادةُ اليهود في الدفنِ ) " يو40:19"
في العالم أقوام وأديان ومذاهب كثيرة . لكل منها عادات وطقوس تتفق مع عقائدها ، فلهذا تختلف طرق دفن الموتى في هذا العالم الكبير .
منذ القدم كان الأنسان يدفن موتاه بطرق مختلفة في مقابر خاصة . فنرى مثلاً في بلاد الرافدين مئات المقابر والتي تكشف لنا معلومات تفصيلية حول عادات دفن الموتى في تلك الحقبة الزمنية . في مدينة أور نجد معظم الناس قد دفنوا في مقابر الأسرة وتلك المقابر تقع تحت منازلهم مباشرةً كما هو الحال في مناطق سومر فنراهم جنباً الى جنب مع ممتلكاتهم المهمة التي تفيدهم في عالم الأرواح . أما طريقة الكفن فنجد الميت ملفوف بالحصير أو السجاد . أما الأطفال المتوفون ، فكانوا يضعونهم في جرار فخارية ، والأغنياء فتم العثور على قطع تمينة جداً في قبورهم ، ويعتقد بأنهم كانوا من العائلات المالكة . هذا ما قبل الفراعنة . أما الفراعنة فكانوا يحفظون موتاهم وخاصةً المنتسبين الى العائلة المالكة فكانوا يكرمون جسد الميت بتحنيطه وبناء له هرم ضخم كالموجودة اليوم في مصر .
أعطي موضوع دفن الموتى أهمية منذ بداية علاقة الله مع الأنسان بأبينا أبراهيم .
دفن الميت بأحترام يعني التعبير عن أكرامنا للجسد الذي خلقه الله ، والتعبيرعن المحبة لمن فارقنا الى عالم الأرواح ، عالم اللازمن ، عالم الخلود .
هناك طرق غريبة في العالم للتعامل مع جسد الميت ، فهناك من يحرق الميت لكي يتحول الى رماد وبعد ذلك يذرى أما في الهواء أو على مياه الأنهر الجارية كما يفعل الهندوس . وهناك من لا يحترم جسد الميت وخاصة أن كان الميت عدواً أو مجرماً ، فهناك من ينشره بمنشار أو يقطع بالفؤوس والسيوف ، أو يطرح في العراء بدون دفن أنتقاماً منه لكي تعبث به الحيوانات الضارة ، أو يطرح حياً للحيوانات كالأسود الجائعة كما طرح نبوخذنصر دانيال حياً في جب الأسود فحفظه الله من أنيابها ، وكذلك كان ينتقم نيرون في روما من المسيحيين الأوائل فيطرحهم للأسود لكي يتسلى مع أتباعه بمنظر هجوم الأسود الجائعة عليهم ، وكيف كانت تمزق تلك الأجساد وتلتهمها تلك الحيوانات المفترسة . جسد الميت يجب أن يحترم وحتى وأن كان عدواً سقط في أرض المعركة فعلى المنتصر أن يقدم لجسد ذلك الجندي المقتول كل الخدمات اللائقة بالأنسان الميت ويحفظ ذلك الجسد الى يوم السلم لأعادته الى خصومهم ومنهم الى ذويه
الكتاب المقدس نقل لنا صور كثيرة تعاملَ من خلالها الأنسان مع جثة الميت بوحشية ، مثال ( تعقب الآثمينَ في آثارهم والذين يفتنون شعبه أحرقهم بالنار) " 1مك 5:3" كذلك الحكم على منلاوس عظيم الكهنة وحسب الآيات (حكم على الأثيم منلاوس بالأعدام بواسطة آلة مستديرة على برج علوه خمسون ذراعاً مملوء رماداً . تهوى الآلة براكبها من جميع جهاتها الى الرماد . ففي ذلك المكان أصعد لكي يدفع به للهلاك بسبب جرائمه الفظيعة والكثيرة ومنها مذبح الرب الذي ناره ورماده مقدسان ، وفي الرماد ذاق موته ، فمات ولم يحصل على تربة يوارى فيها ) " مك 13: 5-7" .
وهكذا كانوا يتعاملون مع المجرمون بالحرق أو بالأدوات المبتكرة لغرض التعذيب والأنتقام من الميت . هناك من يسأل ويدافع عن شرعية حرق جثث موتاهم كما حرقت جثث آبائهم كالمنتمين الى المذهب الهندوسي ، لكن الميت يجب أن يدفن بأحترام تحت التراب لأنه خلق من التراب والى التراب يعود ، فيجب أن يدفن وفق الآية ( يا بني أذرف الدموع على الميت وأشرع في النياحة على ما يليق بمن نزلت به مصيبة شديدة وكَفّن جسده كما يحق ولا تتهاون بدفنه ...) " سي16:38" . وهكذا يضيف سيراخ في " 33:7 " فيقول ( ليشمل فضل عطيتك جميع الأحياء ، للميت لا ترفض نعمتك ) .
حتمية دفن أجساد الموتى المؤمنين بالله كان يمارس منذ عهد ما قبل الناموس . فنجد أبينا أبراهيم كيف أهتم بدفن زوجته سارة فأشترى قبراً بالمال لدفنها ، أما حفيده يعقوب فكان طلبه من أبنه يوسف في مصر ، نقل جسده الى أرض كنعان لدفنه الى قرب عظام آبائه . فليس الأرواح فقط تتجاور ، وأنما العظام أيضاً ، وهكذا فعل يوسف ايضاً فأوصى أخوته من جهة عظامه " عب 22:11 " . بعد قرون أخذ موسى عظام يوسف الذي أستحلف بني أسرائيل بحلف قائلاً ( لا بد أن يفتقدكم الله فعليكم أن تنقلوا عظامي معكم من هذا المكان ) " خر 19:13" .
نقرأ في الكتاب المقدس بأن طوبيت قال لطوبيا ابنه ( إذ مِتُّ ، فادفن جسدي دفناً حسناً ... وإذ ماتت أمك فأدفنها الى جانبي في القبر ) " طو 4: 3-4"
قال السيد الرب ( ها أنا أفتح قبوركم وأخرجكم منها يا شعبي وأحضركم الى أرض أسرائيل ) " خر 12:37" . أذاً الله يطلب منا دفن موتانا في القبور . بعض الملعونين من قبل الله من بني أسرائيل لن ترى أجسادهم القبور ، بل طرحوا في العراء وعبثت بأجسادهم الكلاب وطيور السماء . نقرأ في " 1مل 14: 10-13 " عن غضب الرب على عائلة الملك يربعام ، لعنهم الرب لكي لا توارى أجسادهم في القبور . قال الرب قضاءه على لسان أخيا ، قائلاً لزوجة يربعام ( .. لذلك ها أنا مزمع أن أبتلي بيتك بشرٍ عظيم ، وأبيد كل ذكر من نسلك ، عبداً كان أم حراً ، وأفني بيتك كما تفني النار الروث الجاف ، فتأكل الكلاب كل من يموت لك في المدينة ، وتنهش طيور السماء كل من يموت لك في الحقل ، لأن الرب تكلم . ) وأضاف أخيا ( اما أنتِ فانهضي وانطلقي الى بيتك ، وحالما تدخلين المدينة يموت الولد ، فينوح عليه الأسرائيليون ويدفنونه ، لأن هذا وحده من نسل يربعام يوارى في قبر ، لأن الرب اله أسرائيل قد وجد فيه من دون سائر بيت يربعام ، شيئاً صالحاً )
في العهد الجديد ، جسد الأنسان مقدس جداً . فالجسد لم يخلق للخطيئة بل للطهارة ، قال الرسول ( لم يخلق الجسد للزنى ، بل للرب ، والرب للجسد ، والله قد أقام الرب يسوع من الموت ، وسيقيمنا نحن أيضاً بقدرته ! ) هكذا سيقيمنا نحن أيضاً . أذاً أجسادنا مقدسة لأنها أعضاء المسيح فيجب أن تكرم لأن الروح القدس ساكنٌ فيها منذ المعمودية ، لهذا ينصحنا الرسول بولس قائلاً ( أما تعلمون أن جسدكم هو هيكل للروح القدس الساكن فيكم والذي هو من الله ، ... أذاً ، مجّدوا الله في أجسادكم ) " 1قو6: 15- 20" . وحتى بعد الممات تدفن اجساد الموتى المؤمنين بأكرام وأحترام . فالمعجزات التي تنبعث من قبور القديسين تحصل نتيجة الروح القدس الماكث فيها ، والذي يعمل المعجزة . ليس القديس ، بل القديس يشفع في السماء لمن يطلب منه وبقوة الروح القدس الساكن في عظامه تحدث المعجزة . الكنيسة المقدسة تشهد لمعجزات كثيرة حدثت نتيجة لجوء مؤمن مريض أو محتاج الى طلب من الميت ، فيُلبى له الطلب . فتتابع الكنيسة بدراسة دقيقة تلك الحالة للأعتراف بها ومن ثم الى تطويب أو تقديس ذلك الميت بسبب تلك المعجزات .
هكذا كان لعظام آبائنا قدسيتها وقدرتها لعمل المعجزات ، وكما نقرأ في هذه الآية : ( فيما كان قوم يقومون بدفن رجل ميت . فما أن رأوا الغزاة قادمين حتى طرحوا الجثمان في قبر أليشع، وما كاد جثمان الميت يمس عظام أليشع حتى ارتدت اليه الحياة ، فعاش ونهض على رجليه ) " 2 مل 21:13" .
دفن جسد يوحنا المعمدان من قبل تلاميذه بعد قطع رأسه من قبل جلاد هيرودس الملك فدفنوه في قبر . أما جسد يسوع الطاهر فقد دفن بأحترام فائق من قبل يوسف الرامي ونقديموس حيث أعد لدفنه حوالي ثلاثين لتراً من طيب المر المخلوط بالعود ، فأخذ جثمان يسوع ولفاه بأكفان مع الطيب ، كما كانت عادة اليهود في دفن موتاهم ووضع في قبر جديد منحوت في الصخر لم يدفن فيه أحد من قبل . علينا أن لا ننسى دفننا الأول الذي قال عنه الرسول بولس في " كولو 12:2" ( فقد دفنتم معه في المعمودية ، وفيها أيضاً أقمتم معه ، عن طريق أيمانكم بقدرة الله الذي أقامه من بين الأموات ) .
نشكرالرب الخالق لأن كل شىء هو منه واليه يعود . ليتبارك أسمه القدوس الآن وعلى الدوام والى أبد الآبدين .