ما هو موقف القرآن من التوراة والإنجيل؟
يمكن تلخيص موقف القرآن تجاه التوراة والإنجيل بأنه شهد أنهما مُوحىَ بهما من الله، وهما نور وهدى للعالم، وأكد على استحالة تحريف كلام الله، ودعى المسيحيين والمسلمين للعمل بأحكام الكتاب المقدس، وشهد لأمانة أهل الكتاب تجاه كتابهم، ويمكن تلخيص هذا الموقف كالآتي:
1-اعتراف القرآن بان الكتاب المقدس مُوحىَ به من الله وهو نور وهدى للناس:
فقال للرسول "وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ" (سورة النحل43)
"وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ" (سورة آل عمران 3، 4).
"إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ" (سورة المائدة 44)
"وَآتَيْنَاهُ (عيسى) الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ" (سورة المائدة 46)
تُرى لو أن الأسفار المقدسة تعرضت للتحريف هل كان القرآن يشيد بهما ويصفهما بأنهما نور وهدى؟!
2- استحالة تحريف كلام الله:
بينما يعترف القرآن ويقرٌّ بأن التوراة والإنجيل هي نور وهدى من الله لأنهما يشملان كلماته للبشرية، فإنه يؤكد على استحالة كلام الله "لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ" (سورة يونس 64)."وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ.. لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ" (سورة الأنعام 34، 115) "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" (سورة الحجر 9) وفي تفسير الجلالين أنه يحفظ ما انزله من التبديل والتحريف والزيادة والنقص.
فالإنسان الذي يدعى تحريف التوراة والإنجيل إما إنه لا يقر بأنهما كلام الله الذي يستحيل تبديله، وإما انه يشك في قدرة الله على حفظ كلامه، وفي كلا الأمرين عجبًا لأن الله يتعهد بحفظ كلامه " أنا ساهر على كلمتي لأجريها" (ار 1:12) والإنسان يشككك في هذا.
3- دعى القرآن اليهود والمسيحيين والمسلمين للعمل بأحكام التوراة والإنجيل:
فقال لليهود "وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ" (سورة المائدة 43)
وقال للمسيحيين "وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ" (سورة المائدة 47).
وقال للاثنين "قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ" (سورة المائدة 68)،وقال للمسلمين "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيدًا" (سورة النساء 136) "أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ" (سورة الأنعام 156).
تُرى لو أصاب التوراة والإنجيل التحريف فهل كان يحض القرآن على إقامتهما والعمل بإحكامهما؟! وكيف يطلب الله من اليهود والمسيحيين والمسلمين إقامة أحكام كتاب قد أصابه التحريف والتغيير والتزوير؟!
إذًا هنا الدليل واضح وضوح الشمس بان التوراة والإنجيل حتى القرن السادس كان صحيحان تمامًا، وهنا تسقط دعوى التحريف، لأنه لا يوجد إنسان كامل العقل يقول بإمكانية التحريف بعد القرن السادس حيث انتشر الكتاب في كل أرجاء المسكونة، وحيث انقسمت الكنيسة إلى شرقية وغربية، واضطهد مسيحيو الغرب مسيحيو الشرق أشد اضطهاد، فلو تجرأ طرف في تغيير آية واحدة ما كان يصمت الطرف الآخر قط.
4- شهادة القرآن لأمانة أهل التوراة والإنجيل:
"الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ" (سورة البقرة 146)
"لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ. يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ" (سورة آل عمران 113-114). "الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ" (سورة البقرة120).
حقًا أن أهل الكتاب يعرفون الكتاب كما يعرفون أبنائهم، ولكنهم يحبون الكتاب ويحافظون عليه أكثر من محبتهم وحفاظهم على أولادهم، والمسيحيون يتلون آيات الله أثناء الليل، آيات الله الصحيحة، ولو كان قد أصابها شيئًا من التحريف هل كان القرآن يدعوها آيات الله؟! ولو أمة المسيحيين المشار إليها هنا بالفضيلة قامت بالتحريف، فهل كان القرآن يصفها بأنها الأمة المؤمنة بالله واليوم الآخر؟! لقد ظهر الإيمان العملي في أمة المسيحيين، فأمروا بالمعروف وأنهوا عن المنكر وسارعوا للخيرات.. حقًا انهم من الصالحين وليسوا من المحرَّفين لذلك رفع القرآن من شأنهم وجلّ قدرهم قائلًا "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ" (سورة البقرة 62) وجعلهم المرجع الذي يرجع إليه في حالة الشك "فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ" (سورة يؤنس 14) وأوصى المسلمين بآداب الحوار معهم "وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ" (سورة العنكبوت46) ومن هذه الشهادات يتضح بأجلى بيان أن الكتاب المقدس بعهديه كان صحيحًا ونورًا وهدى وعلى البشر جميعًا إقامة أحكامه، فلو كان قد تعرض للتحريف فكيف يشهد له القرآن بالصحة، تصوَّر انك تشهد على إنسان كذاب وقاتل بأنه إنسان صادق وبريء وتطالب بإطلاق سراحه وتصديق أقواله وأنت تعلم جيدًا كذبه وشروره. ألا تعتبر أنت متسترًا عليه في جريمته؟! وألا يعكس هذا انك صاحب ضمير ميت؟! ومع هذا فإن البعض يتساءل:
أليس ما ورد في سورة النساء 46، وسورة البقرة 75، وسورة المائدة 41 يفيد بتعرض الكتاب المقدس للتحريف؟ فدعونا نتعرض إلى هذه النصوص ونرى رأى كبار المفسرين فيها (هذا الجزء خاص بالخدام):
1- "مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ" (سورة النساء 46) فقال الطبري "أن اليهود كانوا يسبون محمدًا ويؤذونه بأقبح القول: ويقولون له "اسمع منا غير مسمع" كقول القائل للرجل يسبه "اسمع لا أسمعك الله" إما كلمة "راعنا" فقد فسرها بالإسناد عن ابن وهب بأن الراعن هو الخطأ في الكلام.. وبناء على هذا لا يكون اليهود قد حذفوا شيئًا من نصوص الكتاب، أو زادوا عليه شيئًا، بل حوَّروا معنى الكلام بلى اللسان" (الطبري 8: 433) وفسرها الرازي بأن قومًا من اليهود اعتادوا أن يدخلوا على محمد ليسألوه المسألة فيجيبهم عليها، ومتى خرجوا من عنده يحرفون كلامه.
2-" أفتطمعون أن يُؤمِنُوا لكم وقد كان فريق عنهم يسمعون كلام الله ثم يحرّفوه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون "(سورة البقرة 75) فقال الطبري "يحرفونه.. أي يبدلون معناه وتأويله".
3-"يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ"(سورة المائدة 41) فقال الرازى في المجلد الثالث عن تفسير القرآن "أن المراد بالتحريف هو إلقاء الشُبه الباطلة والتأويلات الفاسدة، وصرف اللفظ عن معناه الحق إلى معنى باطل بوجوه الحيل اللفظية، كما يفعل أهل البدع في كل زمان بالآيات المخالفة لمذاهبهم". ومن أقوال أئمة المسلمين في استحالة التحريف قول فخر الدين الرازي "أن تحريف التوراة والإنجيل ممتنع لأنهما كانا كتابين بلغا من الشهرة والتواتر إلى حيث يتعذر ذلك فيهما" وقال البيضاوي "ومهيمنًا عليه أي رقيبًا بحفظه من التغيير".
وفي تفسير البيضاوي للنص "وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ" (سورة المائدة ) قال "مهيمنًا" أي رقيبًا على سائر الكتب يحفظها من التغيير ويشهد لها بالصحة والثبات.
وفي تعليق البيضاوي أيضًا على النص "مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا" (سورة الجمعة) قال "مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ" علموها وكلفوا العمل بها. ثم "لم يحملوها" لم يعملوا بها، ولم ينتفعوا بما فيها "كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا" كتابًا من العلم يتعب في حملها ولا يستعبد بها، وفي هذا إشارة إلى عدم مس التوراة بالتحريف بل دليل على عدم فهمها والعمل بها لأن الحمار إذا حمل أسفارًا لا يفهمها لكنه لا يحرفها ولا يغيرها.
ونختم حديثنا في هذا الشأن بسؤال يطرحه البعض:
ألم تتعرَّض التوراة للتحريف ولذلك جاء عيسى بالإنجيل؟ نقول أن الإنجيل لم يأتِ لكيما يصحح أخطاء ألمت بالتوراة، بل من منطق القرآن أن الإنجيل جاء تصديقًا لما جاء بالتوراة " وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ" (سورة المائدة 46).