رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
استقبال الصوم بالفرح _ ساويرس الأنطاكي كان بداخل تابوت العهد المقدس لوحا الناموس والوصايا المكتوبة بأصبع الله، وعصا هارون العجيبة التي أفرخت أوراقاً وثماراً في ليلة واحدة بعد أن كانت قد قطعت، والوعاء الذهبي الذي كان يحتوي على المن النازل من السماء. وقد استولى الفلسطينيون على التابوت بعد أن هزموا الاسرائيليين في معركة قد خططوا لها. وإذ أغضبوا الله عاقبهم وضربهم بالقروح التي يستعصى شفاؤها، فوضعوا التابوت على عربة، وأعادوه بكل احترام مع ذبائح كثيرة معترفين بخطاياهم. غير أنه مع عودة التابوت من عند الأعداء بهذه الطريقة العجيبة الإلهية، دون ان يُجهد في ذلك أحد من الاسرائيليين ودون معركة، كانت أذهانهم بعيدة عن ذكر الله لدرجة أن العجائب العظيمة التي رأوها لم توقظ ضمائرهم، فلم يحمدوا الرب صانع هذه العجائب، في حين أنه كان ينبغي أن يتهللوا ويفرحوا فرحاً روحياً مثلما فعل داود النبي، فقد تهلل ورقص أمام تابوت العهد عندما أتوا به إلى الهيكل في ظروف مماثلة. فماذا يقول الكتاب المقدس عن أولئك الذين رأوا التابوت في الظروف الأولى؟ "وضرب أهل بيتشمس لأنهم نظروا إلى تابوت الرب. وضرب من الشعب خمسين ألف رجل وسبعين رجلاً" (1 صم 6: 19). عندما أسمع ذلك فإني أرتعب وأرتجف لأن دورة هذه الأربعين المقدسة لم ترجع إلينا من عند الفلسطينيين، بل من السموات عينها، إذ أن الأمر بالصوم صدر إلينا من هناك. إني أنحني أمامه بالتحية. وليس ذلك فقط، بل أستقبله بسرور وأتهلل وأفرح. وأدعوكم أيضاً أن تحذوا حذوي لأنه يلزم أن يكون الفكر سليماً حتى يصير العمل سليماً، فالفكر مصدر العمل. أن الصوم لا يجلب ألواحاً حجرية، بل ينقلنا إلى معية المسيح ذاته، الله، المشرع والملك، الذي صام هذا الصوم من أجلنا. متى كان الطبيب المداوي محتاجاً إلى الأدوية؟ الأدوية للمرضى، فكيف يكون ذلك الذي لم يعرف خطية معدوداً ضمن المرضى؟ لكنه لأجلنا ولأجل خلاصنا تجسد وتانس، ولأجلنا صام، وليس عن ضرورة. ويشهد بذلك بولس الرسول إذ يقول: "فإنكم تعرفون نعمة ربنا يسوع المسيح أنه من أجلكم أفتقر وهو غني لكي تستغنوا أنتم بفقره" (2 كو 8: 9). إن الله ليس محتاجاً إلى شيء إطلاقاً. وبنعمته لنا قد قَبِل أن يصير فقيراً من أجلنا وهو الغني. قال بولس الرسول هذه الكلمة العظيمة لكي يبين أموراً كثيرة. يقول: "إنكم تعرفون نعمة ربنا يسوع المسيح". أننا في حاجة إلى أبصار روحية حادة لكي نفهم ذلك. فإن الغني بطبعه قد جعل نفسه فقيراً لأجلنا، إذ أخضع ذاته فصار إنساناً فقيراً مع أنه الله في نفس الوقت. كيف يستطيع من لا يكون غنياً بطبعه أن يجعل نفسه فقيراً؟ وما هو الغنى الذي عسى أن يعطيه لنا من هو ليس سيداً لكل الأشياء بجوهره؟ إن كل من يقول أن المسيح ذو طبيعتين بعد الاتحاد غير المنطوق به يعزو صوم المسيح إلى الطبيعة البشرية، وكذلك كل أعمال التدبير الإلهي المتواضعة، ويُقسم المسيح، ويُجرِّد الرب الغني من افتقاره الإختياري، فيهدم سر التقوى العظيم. لأن الله المتأنس لم يصم عن ضرورة، ولكنه صام لأجل تعليمنا. وعندما جاع بالحقيقة كان ذلك بإرادته وهو المُسيّر القوانين الطبيعية. كذلك أيضاً عندما جاء ليربط القوي بعظمة قدرته الإلهية ويأخذ أسلحته، "ولكن متى جاء من هو أقوى منع فإنه يغلبه وينزع سلاحه الكامل الذي اتكل عليه ويوزع غنائمه" (لو 11). فإن ذلك بالتأكيد كان من أجلنا نحن الذين كنا تحت سيطرة الشيطان، فقد أخذ المسيح التجربة على عاتقه وصد هجمات العدو وكان يرد بطريقة متواضعة بشرية على كلماته الماكرة. ويذلك أعطانا التعاليم التي يلزمنا السلوك بمقتضاها أثناء معاركنا، كما أعطانا التدريبات التي تسمو بنا نحو الكمال، وكذلك كسّر العدو وشلَّ قوته. ويقول بولس الرسول: "لأنه في ما هو قد تألم مجرباً يقدر أن يعين المجربين" (عب 2). إن ربنا يسوع المسيح برسمه لنا طريقة مواجهة التجربة، يعطينا معونة قوية تكفي لصدّ المجرب. فتجربة المسيح لم تكن إذن عن ضعف. وكيف تكون عن ضعف تلك التجربة التي أعطت المجربين المعونة؟! لذلك أيضاً فإن الملائكة قد تقدموا وكانوا يخدمونه، مع أن ملاكاً واحداً يستطيع بأمر الله أن يقهر الشيطان. يقول: "ثم تركه إبليس وإذا ملائكة قد جاءت فصارت تخدمه" (مت 4). وهكذا يتبين لنا أمران إلهيان. أولهما مسألة التعليم، وثانيهما مسألة الإرادة الحرة، إذ افتقر لأجل خلاصنا وصام عنا. فمن ذا الذي يحتقر الصوم كأنه أمر لا لزوم له بينما أظهر الله مخلصنا ضرورة الصوم لنا؟ ثم إذا كنا ملزمين بتنفيذ أوامر الملوك بمجرد إعلانها بواسطة أعوانهم، فعندما يصوم الله الكلمة المتجسد من أجلنا ويأمرنا أن نصوم مثله، أفلا يكون كل من لا يطيع فوراً متطاولاً مهيناً؟ وكما سمعنا المسيح يقول في الأناجيل: "من يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة أبدية وأنا أقيمه في اليوم الأخير .. ومن يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت فيَّ وأنا فيه" (يو 6). كذلك بما فعله من أجلنا نتصوره بوضوح كأنه يقول لنا: "من يصم صومي ينل الحياة الأبدية، ويثبت فيَّ وأنا فيه". وأيضاً بنفس الطريقة: "من يحمل صليبي ومن يفتقر بفقري، ومن يبشر بكلمتي، ومن يرتبط حقاً بما هو لي". لأنه إنما علّم لكي نعمل وليس لنتعدى وصاياه بتوانينا عن العمل. ومع كلٍ، لو افترضنا أن الصوم ليس ضرورياً ولا يُطهر النفس، فهل هذا شرف قليل أن نصوم مع المسيح؟ من يشترك مع الملك في أعماله ينل شرفاً. أفلا يكون للاقتداء بالمسيح إلهنا مكافأة إلهية؟ ألا يجب علينا أن نرغب في تلك الامتيازات الإلهية أكثر من الأشياء الزائلة؟ فبما أن الصوم أمر عظيم ضروري يقودنا إلى الله ويرفعنا إلى درجة الاقتداء به تعالى، فلنصم من اجل ربنا يسوع المسيح. إذ أننا نستطيع الصوم صوماً خاصاً وليس من أجل المسيح، مثل العشر عذارى اللواتي بعد أن أشعلن مصابيح البتولية وزينها بعناية، وبعد أن ذهبن للقاء العريس، لم يفزن كلهن بالدخول إلى العرس، فقد كان بينهن من أشعلن مصابيحهن من أجل أنفسهن وليس من أجل المسيح، لأنهن تحولن عن الشفقة على المحتاجين. هكذا فإننا نستطيع الصوم ولكن صومنا لا يكون من أجل المسيح. ولو أعلن أحد الملوك في إحدى مدن مملكته أن يريد أن يتزوج بإحدى فتيات المدينة التي يجدها في يوم معين أجمل من الأخريات شريفة طاهرة مهذبة، أفلا يجتهد حقاً كل من لديه فتاة في ان يجمع فيها كل زينة الروح والجسد حتى تصير أجمل فتاة، إبتغاءً شرف مصاهرة الملك؟ فليزين كل صائم صومه بكل زينة كأنه ابنته، خوفاً من أن يحسب الملك المسيح صومه غير مقبول. فإذا امتنعت عن الأكل ثم اقترب منك أحد هؤلاء الجالسين في الساحة يطلب منك صدقة أو أي شيء آخر مما هو عندك بوفرة ويسهل عليك جداً أن تعطيه إياه، فطردته بعيداً بدون شفقة ولم تفعل شيئاً من أجله، بل أكثر من ذلك، كما يحدث كثيراً، ربما شتمته أيضاً، ففي هذه الحالة تكون صائماً من أجل نفسك وليس من أجل المسيح. وأنك لتأتي عملاً مماثلاً لو حاسبت المدينين لك بالفضة او الذهب أو الفوائد المركبة حساباً عسيراً. ولكن إن كنت على النقيض من ذلك عادلاً بشوشاً ومحباً، تترك جزءاً مما لك عند الناس خفية وفقاً للإنجيل، ولا تهتم بهذا الجزء وتتناساه حتى لا تُظهر عملك، فلا يعرف شمالك ما يصنع يمينك، وتصنع رحمة لا يعلم بها إلا الله من أجل زوجة وأبناء ذلك الإنسان الذين يعولهم بعمله، فحينئذ تكون قد زينت صومك بزينة ملكية. وإذا كنت تصوم وتنشغل في نفس الوقت بالمحاكم والقضايا، فتقدم هذا للمحاكمة وتحبس ذاك في السجن. وتترك آخر يتمزق بالضربات، فحينئذ يكون صومك شريراً مرفوضاً، ويحوّل الملك وجهه عنك. وإذا كنت تطيل الصوم في حرمان شديد من الأطعمة وتتعدى الوقت المناسب، فتبتعد عن الطعام ولكنك تصير حزيناً عابساً، تغضب بمرارة نفس، وتهين وتشتم وتُجرّح، ترعى الغضب في روحك، وإذا نطقت بكلمات الاستهزاء غير الشريفة ومتّعت نظرك برؤية النساء والمسرحيات المُبتذلة، ومتّعت سمعك بالأغاني المائعة، فحينئذ تكون قد نسيت أن الوحل يملأ صومك. أيها الإنسان: إن لسانك قد يبس من العطش والحرمان من الأطعمة وليس به رطوبة، ذلك حتى يصير غير مخصب إزاء الإهانة والمشاجرة، فلا تجد الوسيلة التي تخدم بها تلك الأعمال جاهزة فوراً، فلا يحمو غضبك بسبب الصوم. إن الصوم يُعلّم الحزن، ويدعو إلى التواضع، ويُطهّر العين، فيضبط الإنسان نظراته غير المرتبة حتى لا يدخل الاضطراب إلى الروح وينتشر بسهولة في كل أمور الإنسان، فيؤخذ المرء في شباك الشهوة. فإذا كنت تصوم وتذهب بإرادتك إلى المراقص والملاعب المليئة بكل الترف وتستمع إلى الأغاني الماجنة، فإنك بذلك تعطي فرصة للذين لا يصومون أن يقولوا: "ماذا فعل الصائم أكثر منا؟ وفيم يكون أطهر منا؟ فيم هو أكثر محبة، أو أكثر وداعة؟ ألم يبدو أكثر قساوة؟ رؤيته مكروهة ومقابلته صعبة، وهو لا يتحمل حتى ليتحاشى الناس تحيته، وأكاد أرتعب خوفاً وأنا أتمثله يكاد يَعُضّ من يقترب منه. الأفضل للإنسان أن يأكل لحماً ويشرب خمراً من أن يكون في سلوكه مُنفراً بهذه الكيفية كالحيوانات المفترسة. وآخر يصوم ونجده جالساً مع المهرجين الذين يروون النكات في صالات الرقص، يستبيح لنفسه أن يكون جاحظ العينين في كل الأمور الفاضحة". ويتساءل البعض الآخر من الذين لا يصومون ولكنهم لا يتدخلون عبثاً فيما لا يعنيهم: "هل أنا أقل شأناً من الصائم؟ في رأيي أن فطري خير من الصوم المقترن بالأعمال السيئة". ويقول ذلك وهو يعتقد أنه بار، وربما يكون مريضاً بالبخل أصل كل الشرور وجذرها المُر. ويتبين لنا خلال هذا القول أن الذين يصومون وفي نفس الوقت يفعلون ما لا يتفق والصوم سوف يُحاسبون أيضاً على التجديف الذي يصير بسببهم. فبما أن الصوم أمر صالح وهو وصية الروح القدس، فثماره صالحة ويتمجد الله بها. إن بولس الرسول يعددها في رسالته إلى أهل غلاطية: "وأما ثمر الروح فهو محبة، فرح، سلام، طول أناة، لطف، صلاح، إيمان، وداعة، تعفف" (غل 5). إن لم يعطِ صومنا هذه الثمار .. فإن الرب مخلصنا سوف يقول لنا: "اجعلوا الشجرة جيدة وثمرها جيداً أو أجعلوا الشجرة رجية وثمرها ردياً، لأن من الثمر تعرف الشجرة" (مت 12). يلزمنا أن نعلم يقيناً أن زيادة الاهتمام بالمظاهر هو رياء قد أمسى عن ثمار الصوم غريباً. فالصوم من أجل الافتخار والمجد الباطل يُعّد نكبة ولا فائدة منه، لأنه مخالف لوصية ربنا له المجد بإخفاء الصوم الحقيقي إذ يقول: "ومتى صمتم فلا تكونوا عابسين كالمرائين، فإنهم يُغيرون وجوههم لكي يظهروا للناس صائمين. الحق أقول لكم أنهم قد استوفوا أجرهم. وأما أنت فمتى صمت فادهن رأسك واغسل وجهك. لكي لا تظهر للناس صائماً بل لأبيك الذي يرى في الخفاء. فأبوك الذي يرى في الخفاء يُجازيك علانية" (مت 6). إن المرائين لا يصومون، إنما يريدون أن يظهروا كأنهم نساك أطهار وهم يتمرغون في شهوات مخزية جداً. إن حالهم يدعو إلى الرثاء بسبب العذاب الذي ينتظرهم. أما نحن الضعفاء فلينجنا ربنا من قساوة الفريسيين وتشددهم المكروه، الذي يقول عنه الرب لرسله في الإنجيل: "أولاً تحرزوا لأنفسكم من ضمير الفريسيين الذي هو الرياء" (لو 12). وأنتِ أيضاً أيتها المرأة عندما تصومين، أقولها لك كلمة خاصة بالإضافة إلى الوصايا العامة، أحذري الغضب لأنه يستهوي النساء بسهولة. ولا تكوني شديدة نحو خدمِك، ولا تطيلي الخدمة، ولا تضيفي إليها شيئاً جديدأً، واطلبي المعتاد فقط خوفاً من أن يُهان الصوم بسببك. كوني محسنة لطيفة متواضعة مُسالمة قانعة حليمة. وإذا حدثتك نفسك برفع يدك للضرب، فتصوري الصوم كأنه ملكة مُهابة تمسك بك وتمنعك من أن تضربي. وعندما يتملكك هذا الشعور، حينئذ تسيطرين على قوة الغضب، وتتوجك الملكة، ولا تحتاجين إلى شيء، وتسيرين كل حياتك في هدوء وسكينة. فلنُزين صومنا بالأعمال الصالحة، لنجعل منه صوماً من أجل المسيح إلهنا حتى نحتفل بعيد القيامة ليس بخمير الخطايا العتيق بل بفطير الطهارة والحق والتجديد الكامل الإلهي. "إذاً لنُعيد ليس بخميرة عتيقة ولا بخميرة الشر والخبث بل بفطير الاخلاص". بالنعمة والرأفة ومحبة البشر اللواتي لذلك الذي دعانا. له المجد إلى أبد الآبدين آمين. |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
البطريرك الأنطاكي ساويرس|تصميم |
الأنبا ساويرس الأنطاكي |
نقل جسد القديس ساويرس الأنطاكي |
من أقوال الأنبا ساويرس الأنطاكي |
من أقوال الأنبا ساويرس الأنطاكي |