رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
صراع البستان وبعد أن ختم يسوع صلاته ألتفت إلى تلاميذه في عزيمة وإصرار قائلًا لهم: ليفهم العالم أنني أحبُ الآب وكما أوصاني الآب هكذا أفعل. قوموا ننطلق من ههنا. وترك يسوع العلية، يتبعه تلاميذه الأمناء وهم لا يعلمون إلى أي مكان يتجهون، ولكن في حب ورضى يخضعون، وبلغت الساعة نحو الحادية عشر والنصف مساءًا، ورغم توافد مئات الألوف إلى أورشليم للاحتفال بالأعياد إلاَّ أن المدينة ظهرت في تلك الساعة وكأنها مدينة أشباح، إذ خلد الجميع للنوم في تلك الليلة القارصة البرودة، ماخلا أعدادًا صغيرةً متناثرةً جلسوا يصطلون ويتسامرون، وكل ما يشغلهم موعد ظهور المسيا الذي بات قريبًا على الأبواب، ليقيم مملكة إسرائيل.. مملكة المجد والفخار، وبينما أقفرت الشوارع من العابرين فيها لم تعد تسمع سوى أصوات فرقعات نعال جنود الحراسة، وأما الهيكل فهو يقظ بحراسه الذي ينتشرون في أربعة وعشرين موقعًا بجوار الأبواب والأفنية، جميعهم من الكهنة واللاويين.. كل نقطة حراسة بها عشرة لاويين مع كاهن واحد، وعندما يمر قائد الحرس يسمع صوت جندي الحراسة وهو يؤدي له التحية صارخًا " يا قائد حرس الهيكل. سلام لك". وسارت جماعة القديسين يتقدمها يسوع في سكون الليل الرهيب، وإذ أدرك التلاميذ أن العاصفة الشيطانية تدق الأبواب خافوا وخيّم الحزن الأسود عليهم، فلم يعد هناك ولا همسات الرجال معًا.. إنه الهدوء الذي يسبق العاصفة.. هوذا موكب القائد الذي أوشك على اقتحام أرض المعركة، وبقدر ما كان حزن وخوف التلاميذ عظيمًا، كانت جيوش الشياطين تعج بالبهجة والسرور، هؤلاء الذين تجمعوا بالآلاف يتَّتبعون ذاك الموكب الأليم، ولوسيفر رئيسهم يرتب كل الأمور بحكمة بالغة حتى لا يفلت منه أمرًا ما كبيرًا كان أم صغيرًا. وبينما كانت الجماعة تعبر الباب الشرقي إلى خارج أسوار المدينة، إذ بقافلة قادمة من مصر، يتصدرها عم يعقوب الذي يحرص على الحضور إلى أورشليم كل عام في مثل هذا الوقت، وهو يحكي لهم في تلك اللحظات عن ظهور شخص فريد منذ ثلاث سنين، وعن معجزاته العظيمة التي لم يصنعها أحد من قبل، ومن المنتظر أن يصنع فداءًا لإسرائيل في هذا العيد.. التقت القافلة الداخلة إلى أورشليم مع الجماعة الخارجة من أورشليم، وتبادلوا التحية، ولم يفطن أحد من رجال القافلة ولا عم يعقوب الذي كلت عيناه أن الشخص موضع حديثهم هو هو السائر أمامهم مع تلاميذه الأطهار. أما خارج الأسوار فقد لمعت الأنوار المتناثرة من الخيام المتزاحمة وكأنها أضواء شموع صغيرة، وسلكت الجماعة طريق وادي قدرون على الجانب الشرقي من أورشليم بين المدينة وجبل الزيتون، فالخارج من أورشليم يجد جبل الزيتون على يمينه وأسوار أورشليم على يساره، وفي وادي قدرون هذا مجرى مائي ضيق يمتلأ بالمياه أثناء فترة الأمطار ويُدعىَ باسم قدرون أو النهر الأسود نظرًا لاختلاط مياهه بالقاذورات والمخلفات التي يلقيها سكان أورشليم فيه، وفي القديم عندما صنعت معكة أم آسا الملك تمثالًا لعبادته دقَّ آسا هذا التمثال وأحرقه في وادي قدرون (2 أي 15: 16) وعندما أزال حزقيا الملك مذابح الأوثان التي انتشرت في أورشليم طرحها في وادي قدرون هذا (2 أي 30: 14) كما إن يوشيا الملك الصالح أخرج من هيكل الرب الآنية التي صنعها الشعب للبعل واجتاد السماء، والساربة، وأحرقها في وادي قدرون (2 مل 23: 4، 6) فوادي قدرون يحمل رائحة عبادة الأصنام النجسة، وهوذا ابن الله يخوض معركة تحرير الإنسان المسكين من عبادة الشيطان المرذولة، ودُعي الوادي باسم وادي قدرون كما يقولون وادي النيل في مصر، وهذا الوادي تجده جافًا معظم أيام السنة فيما عدا فصل تساقط الأمطار. والتفت يسوع إلى تلاميذه وقال لهم بصوت آسيف: كلكم ستعثرون وتشكُّون فيَّ في هذه الليلة. مكتوب إني أضرب الراعي فتتبدد خراف الرعية، ولكن بعد قيامي أسبقكم إلى الجليل.. وكأن المعلم أراد أن يعلن لهم عن أمرين معًا الأول هو ضعفهم وهروبهم، والثاني هو صفحه عنهم ومغفرته لهم، ولهذا فإنه أعطاهم وعدًا باللقاء في الجليل. ولمعت أمام متى على الفور نبؤة زكريا النبي " أستيقظ يا سيف على راعيَّ وعلى رجل رفقتي يقول رب الجنود أضرب الراعي فتتشتَّت الغنم" (زك 13: 7) لم يكن وقع كلمات يسوع على التلاميذ بالأمر السهل، ولاسيما أنه كان قد أخبرهم منذ قليل بأن منهم سيخرج الخائن الغادر الذي يسلمه للموت، والآن يقول أن جميعهم سيشكُّون فيه!! وإذ رقب المعلم بعينه الإلهية حركات لوسيفر والتماسه من الله، أردف القول قائلًا: سمعان سمعان هوذا الشيطان قد طلبكم ليغربلكم كالحنطة، ولكني طلبتُ من أجلك لكي لا يفنى إيمانك. وأنت متى رجعت ثبت أخوتك. لقد ابتهج الشيطان باقتناص يهوذا أيما بهجة، فأخذ يناور ليقتنص البقية ولاسيما بطرس، وهكذا سيظل الشيطان يهاجم بشراسة أولئك الذين يحملون كنوزهم ويبحرون تجاه الملكوت، ولكن هيهات له، لأن الراعي الصالح لن يترك النفوس الأمينة فريسة للعدور الشرس. واضطربت نفس بطرس داخله، ولم يعرف كيف يجيب ولا يدري ماذا يقول، فمادام يسوع قال هذا فلابد أن يكون هكذا، ومع هذا فإن بطرس لم يطق الصمت فاندفع قائلًا: وإن شك فيك الجميع فأنا لا أشك أبدًا.. لا في هذه الليلة الليلاء ولا في غيرها. إني أضع نفسي عنك.وأجابه يسوع بلغة العالم بكل شيء: "أتضع نفسك عني؟ الحق أقول لك أنك في هذه الليلة قبل أن يصيح الديك مرتين تنكرني ثلاث مرات ". وإذ استكثر بطرس على نفسه السقوط في خطية الشك، فإذ بالسيد يعلن له أنه سيسقط في خطية أشد وأصعب وهي خطية الإنكار. وتنهَّد بطرس من أعماقه قائلًا: لا.. لا.. ولو اضطررت أن أموت معك لا أنكرك.. إني مستعد أن أذهب معك إلى السجن وإلى الموت.. وهكذا همهمَّ بقية التلاميذ بمثل هذه الكلمات.. هذا مستحيل!! كيف ننكرك؟..!! نحن معك حتى الموت.. ثم قال يسوع: حين أرسلتكم بلا كيس ولا مزود ولا أحذية هل أعوزكم شيء؟ التلاميذ: لا يا رب. يسوع: لكن الآن من له كيس فليأخذه ومزود كذلك، ومن ليس له فليبع ثوبه ويشتري سيفًا، لأني أقول لكم أنه ينبغي أن يتم فيَّ هذا المكتوب وأُحصى مع آثمة. لأن ما هو من جهتي له انقضاء. التلاميذ: يا رب هوذا هنا سيفان. وكان هذان السيفان مجرد سكينتان كبيرتان كانتا مع بطرس ويوحنا لإعداد خروف الفصح. يسوع: يكفي. وكأنه يريد أن يقول لهم: أنني أحدثكم عن سيف الروح الذي يساعدكم في حروبكم الروحيَّة ضد الشيطان الذي طلب أن يغربلكم، وأنتم تتكلمون عن سيوف مادية.. وماذا يفعل سيفان في يد حفنة من صيادي السمك في مواجهة جنود الهيكل وجنود الرومان والخدم والعبيد والغوغاء..؟! هل أنا غاوي أرميكم في التهلكة؟!، وما الداعي للسيف المادي إن كنت أنا سأسلم نفسي للموت بإرادتي وأتمّم المكتوب " وأُحصى مع آثمة".. أنظروا أنني لا أتكلم عن سيف مادي يفصل الرقاب عن الأجساد، ولهذا سترونني بعد قليل أمر بطرس برد سيفه إلى غمده، فهل أدعوكم إلى شراء سيف مادي وأنهيكم عن استخدامه؟! والآن هوذا أقدام الجماعة تطأ أعتاب جبل الزيتون، وما أشبه الليلة بالبارحة، فمنذ نحو ألف عام صعد داود حافيًا باكيًا مطاردًا من ابنه شالوم مُغطى الرأس وأحبائه يبكون معه، وهوذا التاريخ يعيد نفسه، فهوذا ابن ورب داود يسير مع تلاميذه من أورشليم إلى جبل الزيتون.. وكان التلاميذ يسيرون في إعياء، فمنذ استيقاظهم في الصباح الباكر في بيت عنيا، وحتى هذه الساعة المتأخرة لم ينعم أحدهم بالنوم، وقد قارب الليل على الانتصاف، بالإضافة إلى الإرهاق النفسي الشديد نتيجة الصدمات المتلاحقة التي تعرَّضوا لها، وإحساسهم القوي بأنهم مزمعون أن يدخلوا في عاصفة هوجاء قد تطيح بكل شيء.. كل شيء..، ورغم أن المسافة من العلية إلى جبل الزيتون لا تزيد عن كيلو مترًا واحدًا فإنها كانت ثقيلة عليهم جدًا، حتى تمنى كل منهم أن يجد له ملاذًا أمينًا فيلقي بنفسه وينام نومًا عميقًا، ويهرب من ذلك الكابوس المرعب. وأخيرًا وصلت الجماعة إلى بيت القصيد حيث " بستان جثسيماني " وهو عبارة عن حديقة متسعة ملكًا لأرسطوبولس، حيث تنتشر أشجار زيتون، وبها بيتًا ريفيًا يكفي لمبيت مجموعة كبيرة.. لقد إعتاد أغنياء اليهود أن يكون لهم حدائق خارج المدينة يروحون فيها عن أنفسهم، وكلمة " جثسيماني " كلمة آرامية، معناها معصرة الزيتون، ويقع البستان عند السفح الغربي لجبل الزيتون، ويرتفع هذا البستان نحو 140 قدمًا عن أورشليم، فمن السهل على الإنسان أن يعاين الجانب الشرقي للهيكل بحجارته الضخمة التي تثير الدهشة والإعجاب، ومنذ أيام قلائل أشار أحد التلاميذ للمعلم قائلًا: أنظر يا معلم هذه الأحجار وهذه الأبنية؟ فأجابه يسوع: أتنظر هذه الأحجار وهذه الأبنية؟.. لا يُترَك حجر على حجر إلاَّ وينقض. وتأمل يوحنا معصرة الزيتون وبقايا حبات الزيتون التي كانت تُعصر بين حجريها المستديرين، فيجري دمها أقصد زيتها في المسار الصخري حيث تمتلأ الآنية بالخير، ولاحظ يوحنا نظرة يسوع للمعصرة، فارتسمت أمام عينه نبؤة أشعياء التي نطق بها منذ سبعمائة عام " قد دست المعصرة وحدي ومن الشعوب لم يكن معي أحد. فدستهم بغضبي ووطئتهم بغيظي فرُشَّ عصيرهم على ثيابي فلطخت كل ملابسي" (أش 63: 3). لقد اختار يسوع بستان أرسطوبولس ليكون موقع القبض عليه، وليس بيته، حتى لا يسبب إزعاجًا وحرجًا لأهل البيت، فإنه جاء ليحل أتعاب وأوجاع الآخرين، وليس العكس، كما إنه أخذ على عاتقه أن يحمل الصليب بكل تضحياته وفضائحه - ما أحلى رِقتك يا يسوع وما أجمل لطفك..!! حتى وأنت في أشد الآلام لا يفوت عليك أمورًا صغيرة كهذه -، وأيضًا شاء المعلم أن يلاقي العدو وهو في حالة صلاة حارة عميقة وصراع، وليس في حالة راحة واسترخاء، وطالما شهد هذا البستان ساعات حلوة وذكريات عطرة للتلاميذ مع معلمهم، فلعلَّ يهوذا عندما تقوده أقدامه إلى هذا الموضع يراجع نفسه ويُغيّر موقفه!! " وفي الليل انطلق السيد المسيح قائد المعركة ضد قوات الظلمة، ليذهب إلى أرض المعركة، معلنًا خروجه للصليب.. ذهب في خطة مرسومة ينتظر موكبًا متواطئًا مع الظلام. كان ينتظر يهوذا مع موكب الظلمة كمن في شبه موعدٍ معه، وفي مكانٍ معروفٍ لديه. لم يتهرب السيد المسيح من موكب الظلمة.. خرجوا بمصابيح ليلقوا القبض على يسوع، آدم الثاني، مع إن القمر كان كاملًا. لقد ظنوا أنه ربما يختبئ بين الأشجار كما اختفى آدم الأول في جنة عدن وراء الشجر من وجه الله.. جاء الموكب مستعدًا، لعلهم خشوا من خسوف القمر لذلك حملوا المشاعل والمصابيح، وخشوا أن يُوجد مع تلاميذه أسلحة، لذلك جاءوا مسلحين مستعدين للدخول في معركة. ليس عجيبًا أن نجد ذات الفكر عبر العصور، فيتهم العالم الكنيسة بأنها تريد أن تقيم دولة داخل دولة، مع أن أسلحتها روحية، ومملكتها ليست من هذا العالم" (4). وعند باب البيت الريفي الذي اعتاد يسوع التردد عليه من قبل مع تلاميذه، قال لثمانية منهم: اجلسوا أنتم هنا حتى أمضي وأصلي هناك، ففي القديم عندما كان قلب إبراهيم مفعمًا بمشاعر عميقة ومعه ابنه الذبيح إسحق، قال للغلامين بروح الرجاء "اجلسا أنتما هنا.. وأما أنا والغلام فنذهب إلى هناك ونسجد ثم نرجع إليكما" (تك 22: 5).. لقد خشى المعلم على تلاميذه الثمانية من رؤيته في حزنه وكآبته، فأشفق عليهم وتركهم في البستان - ما أعظم لطفك يا يسوع!! - وأما بطرس وإبني زبدي الذين عاينوا أمجاده في التجلي فهم أقدر على تحمل رؤيته في هذا الضعف دون أن يهتز إيمانهم به.. توغل بهم في البستان، وصرَّح لهم قائلًا: نفسي حزينة جدًا حتى الموت.. والنفس هي مركز المشاعر والأحاسيس والعواطف البشرية، فهي تحزن وتفرح، وتصح وتمرض، وابن الله في تجسده اتخذ طبيعة بشرية كاملة من روح وجسد ونفس، - فلا يحق لك يا أبوليناريوس أن تدَّعي أن الله في تجسده أخذ جسدًا بدون روح بشرية، ولا يحق لكما يا فلنتينوس وأوطاخي أن تدَّعيا أن الله في تجسده اتخذ جسدًا شبحيًا أو خياليًا، فجميع الآلام كانت محسوسة عنده.. نفسيَّة وجسديَّة -. ثم قال لهم: أمكثوا هنا وصلوا. إنه يعلمهم فائدة شركة القديسين وقت التجربة.. حقًا إن النفس المثقلة بالحزن تلتمس العزاء من صديق مخلص يشاركها المشاعر ويقتسم معها الأحزان.. دخل يسوع مع تلاميذه إلى البستان وكأنه داخل إلى هيكله، فترك ثمانية منهم كأنهم في الدار الخارجية، واصطحب ثلاثة وطلب منهم الصلاة وكأنهم يؤدون خدمة القدس، ودخل هو داخل الحجاب إلى قدس الأقداس حيث سكب نفسه أمام الآب كذبيحة حيَّة من أجل خلاص البشرية.. لقد انفرد عن تلاميذه الثلاث مقدار رمية حجر، وجثا على ركبتيه، وانسكب في صلاة عميقة، بلجاجة ودموع وصراخ مصليًا: يا أبتاه إن شئت أن تجيز عني هذه الكأس، ولكن لتكن لا إرادتي بل إرادتك.. يا أبتاه.. فمهما تكاثفت السحب ونشر الضباب ظلاله، لا يجب أن ننسى أن الله هو الأب الحنون. وأخذ يدهش ويكتئب.. عندما خشى يعقوب أب الآباء الموت وأن يباد هو وكل ماله على يد أخيه عيسو المستبيح،عبر مخاضة يبوق، وأجاز كل من معه الوادي " وبقى يعقوب وحده وصارعه إنسان حتى طلوع الفجر" (تك 32: 24) وهوذا الآن يعقوب الجديد قد انفرد عن الكل، ودخل في صراع مع قوات الظلمة.. هوذا أيوب الجديد يصرخ في صمته " ليت كربي وُزِن ومصيبتي رُفِعت في الموازين جميعها. لأنها الآن أثقل من رمل البحر.. لأن سهام القدير فيَّ وحُمتها شاربة روحي. أهوال الله مصطفة ضدي" (أي 6: 2 - 4).. ولعل ما حدث مع ابرآم " وإذا رعبة مظلمة عظيمة واقفة عليه" (تك 15: 12) كان رمزًا لما يحدث الآن. الآن بدأت حلقة الصراع الرهيب.. هوذا الحيَّة القديمة تزحف لكيما تلدغ نسل المرأة لدغة الموت، وعلى نسل المرأة أن يسحق رأسها.. الآن بدأت حلقات الصراع الرهيب بين يسوع وقوات الظلمة " غمر ينادي غمرًا عند صوت ميازيبك. كل تياراتك ولججك طمت عليَّ" (مز 42: 7).. الآن بدأت السحب تتجمع وتُشكّل ضبابًا كثيفًا.. الآن بدأت العاصفة العاتية تهب على المعلم.. الآن تجمعت كأس خطايا البشرية على مرّ السنين والأيام، ومن ثقل الحمل الذي وُضِع عليه خرَّ بوجهه على الأرض فتعفرت جبهته المقدَّسة بتراب الأرض.. في القديم عندما فقد أيوب أولاده " خرَّ على الأرض وسجد" (أي 21: 2) هوذا الآن أيوب الجديد يخرَّ على وجهه لأن الشيطان قد سبى أولاده.. الآن يقول: غطى الخزي وجهي.. الآن يبدو أمام الآب كخاطئ وكأثيم مغطى بالخطايا الثقيلة وغارق في الذنوب الشنيعة والآثام الفاضحة.. له صورة اللص القاتل الزاني المستبيح الخائن الجاحد المتكبر قاسي القلب الكذاب.. الذي لم يعرف خطية صار خطية لأجلنا، فصارت السماء بالنسبة له مثل نحاس والأرض كرصاص، وكأن صلواته القوية ودموعه لا تخترق حُجب السماء.. من قبل عندما قال "الآن نفسي قد اضطربت. وماذا أقول. أيها الآب نجني من هذه الساعة.. أيها الآب مجد أسمك " جاءت الإجابة فورية، وسُمع صوت الآب من السماء قائلًا " مجَّدتُ وأُمجّد أيضًا " أما الآن فبالرغم من أنه يتألم " نفسي حزينة جدًا حتى الموت " وينسكب في الصلاة، إلاَّ أن عليه أن يصلي ثانية وثالثة. جثا يسوع على ركبتيه ثم خرَّ على وجهه، يحارب قوات الظلمة كإبن الإنسان الطاهر القدوس الذي بلا خطية وليس للشيطان شيء فيه ولكنه ارتضى أن يحمل خطاياي وخطايا العالم كله.. جثا كإنسان بلا معونة من اللاهوت يصارع لوسيفر وكل قواته، ولوسيفر يلوح له بسلاح الموت، وهو صامت صامد لا يتراجع عن موقعه ولا عن موقفه قيد أنملة.. هنا في جثيماني تدور معركة حامية الوطيس بين يسوع الطاهر القدوس حامل خطايانا، وبين جيوش وحشود رهيبة وأشباح لا حصر لها، حتى صار يسوع محصورًا وسط أمواج عاتية، تجتاحه تيارات جبارة، ودوامات عنيفة، ومع كل هذا فقد وضع في نفسه أن يتحمل كل شيء من أجل نجاة البشرية حتى لو أسلم ذاته لسلطان الظلمة عدة ساعات تبدأ من الآن وتنتهي بلفظ أنفاسه على الصليب. عجبًا.. هوذا الشهداء الذين قاسوا الأهوال لم يحزنوا كحزنه.. لماذا؟ هل هو أضعف منهم؟ كلاَّ، لكن السبب أن هؤلاء ينالون تعذيات السماء، أما يسوع فقد رفض أية تعزية حتى يأخذ العدل الإلهي حقه بالكامل.. أنه ذبيحة المحرقة التي يجب أن تُحرق بالكامل لإرضاء العدل الإلهي.. ذبيحة الخطية وذبيحة الإثم اللتان يجب أن تُحرقا بالنار.. لقد أصرَّ أن يشرب الكأس حتى الثمالة.. إن نبؤات داود التي نطق بها منذ ألف عام تتحقق الآن " اكتنفتني حبال الموت وسيول الهلاك أفزعتني. حبال الهاوية حاقت بي. أشراك الموت انتشبت بي" (مز 18: 4، 5) " يمخض قلبي في داخلي وأهوال الموت سقطت عليَّ. خوف ورعدة أتيا عليَّ وغشيني رعب. فقلت ليت لي جناحا كالحمامة فأطير وأستريح" (مز 55: 4 - 6).. حقًا أن ابن الإنسان يجوز في هذه اللحظات ما جاز فيه يونان النبي وهو في جوف الحوت " قد اكتنفتني مياه إلى النفس. أحاط بي غمر. ألتف عشب البحر برأسي. نزلت إلى أسافل الجبال. مغاليق الأرض عليَّ إلى الأبد. ثم أصعدت من الوهدة حياتي أيها الرب إلهي" (يون 2: 5، 6) إن ابن الإنسان يُعصَر الآن في معصرة الغضب الإلهي عوضًا عن كل إنسان خاطئ أثيم.. دخل رجل الآلام في معصرة غضب الله ليس بلاهوته، لأن اللاهوت منزَّه عن الألم، بل بناسوته، ولم يكن هذا المنظر الفريد ليسوع مألوفًا لدى التلاميذ.. سمعوا تأوهاته وأناته، لأنه أراد أن يُسلّم للكنيسة ضرورة الصلاة العميقة وقت حلول التجارب والمصائب، ولمعت أمام التلاميذ عبارة يسوع التي قالها منذ قليل " بعد قليل لا ترونني " وأحسوا أنهم أمام كابوس مرعب، فأخذوا يتهامسون: -ما هذا الذي يحدث؟! -لماذا يتألم السيد هكذا؟! -هل سيتركنا؟! -كيف تكون الحياة بدونه!.. أنها الضياع بعينه.. أنها الشقاء بذاته.. أنها العناء كل العناء. ومع همساتهم وتساؤلاتهم وتوقعاتهم وأحزانهم تهاونوا في تنفيذ وصية المعلم، فضربهم عدو الخير بالنعاس وأطبق أجفانهم.. ومن يقدر أن يفتحها..؟! ثقلت رؤوسهم ودخلوا في نوبة من التثاؤب والنعاس.. نام التلاميذ رغم أنهم سمعوا معلمهم يمدحهم منذ قليل ويشجعهم " أنتم الذين ثبتوا معي في تجاربي" (لو 22: 28). ويعود المعلم للتلاميذ فيجدهم نيامًا، فلم يقدروا أن يثبتوا معه كما ثبت أتباع داود مع مليكهم المُطارد من ابنه، ويعاتب يسوع تلاميذه: أما قدرتم أن تسهروا معي ساعة واحدة؟! حقًا الآلام الرهيبة التي يجوز فيها الراعي الصالح لم تمنعه من افتقاد قطيعه وإسداء النصح لهم: اسهروا وصلوا لئلا تعثروا.. فالصلاة هي التي تسد كافة الثغرات التي يعبر منها عدو الخير للنفس. وعاد يسوع إلى صلاته وآلامه وصراعه، وللأسف عاد التلاميذ إلى نومهم هربًا من الواقع المخيف.. عاد يسوع يصارع قوات الظلمة: يا أبا الآب كل شيء مستطاع لك. فأجز عني هذه الكأس. ولكن ليكن لا ما أريد أنا بل ما تريد أنت.. فالإرادة البشرية رغم أنها تأبى الذل والهوان والعار والفضيحة، فإنها مع هذا ستظل خاضعة للإرادة الإلهية.. وبدأ الصليب يلقي بظلاله على نفسه الطاهرة، فكيف يمكن للقدوس أن يحمل أدناس الخطاة؟! كيف يحمل الطاهر نجاسات الفسقة والزناة؟! كيف يحمل البار عار الأثمة؟! كيف يحمل الصادق الأمين كذب الكاذبين ونفاق الأفاقين؟! كيف يُحسب الذي هو أنقى من السماء مع اللصوص والقتلة وعبدَّة الشيطان..؟! إن قوات الظلمة تشن هجومًا عارمًا على نفس الحبيب بغية تحطيمه بالصليب، وهو لا يكفَّ عن لجاجة الصلاة.. كيف يبدو وكأنه القاتل والزاني والسارق والخائن والمتكبر والكذَّاب والمنافق والعاصي والأثيم.. لقد تجمعت عصارة كل الخطايا المتشابكة المتلاحقة المرَّة لكل البشر في كل زمان، وعليه أن يتجرعها، وأصعب ما في هذه الكأس هو أن الآب يحجب وجهه عنه.. لقد كانت هذه الكأس ماثلة أمام عينيه دائمًا، فعندما تقدم يعقوب ويوحنا يطلبان أن يكونا واحدًا عن يمينه والآخر عن يساره في ملكه قال لهما " أتستطيعان أن تشربا الكأس التي أشربها أنا وأن تصطبغا بالصبغة التي أصطبغ بها أنا. فقالا له نستطيع" (مر 1: 28) وها هوذا ذات التلميذين يعقوب ويوحنا اللذان أبديا استعدادهما لحمل الصليب ناما في أول الطريق، ولم يدركا معاناة السيد.. حقًا ما أشدَّ هذه المحنة القاسية يا يسوع التي لم يقدر أن يدركها أقرب الأقرباء إليك فوقعوا فريسة للنوم، وصار النعاس لذيذًا في أجفانهم الثقيلة، وتناسوا حتى الصلاة الربانية الني علمتهم إياها من قبل " أبانا الذي في السموات.. ولا تدخلنا في تجربة لكن نجنا من الشرير".. وتناسوا تحذيراتك " اسهروا إذًا وتضرعوا في كل حين لكي تُحسبوا أهلًا للنجاة " ولم يتوقعوا أن نتيجة نومهم هذا ستظهر بعد قليل عندما يفرون من على المسرح تاركين معلمهم للموت.. وعاد المعلم إلى تلاميذه ثانية قائلًا لبطرس: يا سمعان أنت نائم؟ أما قدرت أن تسهر ساعة واحدة؟ أهكذا.. أما قدرتم أن تسهروا معي ساعة واحدة؟.. اسهروا وصلوا لئلا تدخلوا في تجربة. وكأنما يريد أن يقول لبطرس: أأنت الذي ستضع نفسك عني، وتسلم نفسك للموت من أجلي، ولا تقدر أن تصلي معي ساعة واحدة..؟! وكأنه أراد أن يقول لتلاميذه: ألم أقل لكم أن الشيطان طلبكم لكي يغربلكم.. ألم أوصيكم أسهروا وصلوا حتى تُحسبوا أهلًا للنجاة؟!! ثم أردف يسوع كلامه قائلًا: أما الروح فنشيط وأما الجسد فضعيف. حقًا أن الروح تجذب الإنسان إلى السماء بينما الجسد يشده للهاوية.. وعاد يسوع إلى صلاته وتضرعاته ودموعه، ورغم برودة الليل القارصة لارتفاع جبل الزيتون عن مستوى البحر كثيرًا، فإن قطرات العرق صارت تتصبب من جبينه بلون الدم، وهي حالة نادرة الحدوث، فلا تحدث إلاَّ عند انفجار الشعيرات الدموية المحيطة بالغدد العرقيَّة عندما يكون الإنسان في قمة الانفعال فيندفع هذا مع ذاك.. الدم مع العرق. وظهر في الأفق ملاك أنار المكان حول المعلم بنور سمائي رائع.. سجد الملاك لجابله، وأخذ يسبحه ويباركه ويقويه قائلًا: لك القوة والمجد والبركة والعزة إلى الأبد يا عمانوئيل إلهنا وملكنا.. إنه رب الملائكة ولا يتحرك ملاك إلاَّ بإذنه، فهو الذي سمح لهذا الملاك بالظهور وقت الضيقة الشديدة، ليُعلّمنا أنه متى انسكبنا في صلواتنا وقت الضيقة فإن الملائكة تحوطنا.. أما يسوع فلم يكف عن الجهاد في الصلاة. عجبًا.. كيف يتألم الطاهر القدوس إلى هذه الدرجة؟! كيف يصرخ ويصلي ويبكي؟! لقد دخل يسوع في حزن وبكاء وصراخ ودهش واكتئاب، لا احتجاجًا على إرادة الآب لأنه خاضع لإرادته، وليس تراجعًا عن مشوار الصليب لأنه قبله بإرادته، وهل ننسى أنه عندما طلب منه بطرس أن يتخلى عن الصليب قال له المعلم " أذهب عني يا شيطان".. فلماذا الصلاة والبكاء؟! إنها المشاعر الإنسانية، لأنه شابهنا في كل شيء ما خلا الخطية وحدها، فالآلام النفسية الواقعة على يسوع هي آلام حقيقية، لأنه آخذ طبيعة بشرية حقيقية، ولذلك كان الحزن والبكاء والألم والصلاة والصراع الرهيب مع قوات الظلمة التي غطت المكان بغمامة سوداء.. هوذا رئيس هذا العالم قد أتى بقواته الغازية مُجردًِا قواته للهجوم على يسوع.. وكم كانت تلك الآلام النفسية قاسية حتى كادت تقتل يسوع قبل الصليب.. وكان الجو باردًا، وسكتت الريح تشارك جابلها آلامه، ولا يُسمع في الأفق إلاَّ صوت ناي حزين ينفخه أحد رعاة الأغنام الساهرين، ينعي زوجته التي ماتت وتركت له ثلاثة أطفال.. نهض يسوع من تراب الأرض وأقبل على التلاميذ قائلًا: ناموا الآن واستريحوا.. قد أتت الساعة وهوذا ابن الإنسان يُسلَّم إلى أيدي الخطاة. قوموا لنذهب. هوذا الذي يسلمني قد اقترب.. وكأنما يريد أن يقول لهم: ناموا الآن إن قدرتم أن تناموا.. |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
حدث في البستان |
آدم الجديد فى البستان |
يازهرة فى البستان |
البستان |
+على أبواب البستان+ |