رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
سرّ الله وسرّ الإنسان
مَن يعي نفسه ويكتشف حقيقتها يستيقظ فجأة ليرى الحقائق أمام عينيه ساطعة كشمس النهار، ويحيا حياة الهدوء والسلام العميق والسعادة في ملئها، وفي أشد الظروف قسوة يصبر ويعبرها بسلام ونظره مُعَلَّق على مجد القيامة الذي لا يزول متيقن أن وراء الصليب حتماً قيامة... في أعماقنا – إن دققنا – يوجد حنين جارف وشوق عظيم جداً وجوع لمعرفة الله والقرب منه للشركة معه ... لذلك - لو كنا أمناء - نظل نفتش ولسان حالنا: أين الطريق وكيف نسير ؟ وأحياناً نُريد أن نعرف أنفسنا ونفهمها ! لأننا نقع في حيرة من أمرنا إذ نجدنا تارة نريد أن نتوب ونقترب من الله جداً، وأحياناً أخرى نسير وراء الشهوة والخطية بكل جموح وعدم انضباط ونصير مثل مجنون مسك سيف وظل يطعن به نفسه !!!؛ وأحياناً أُخرى نبقى في حالة وسط لا نريد خطية ولا برّ، بل في ضيق وقلق دون أن نفهم السرّ، وفي النهاية كلنا في داخلنا صارخين بحزن: ماذا نُريد ؟ وإلى أين نذهب ؟ وكيف نسير ؟ ونأن في أنفسنا ونصرخ كيف نعرف أنفسنا ونفهمها ؟ ولكننا كثيراً ما نشعر بانقسام داخلي بين معرفتين، وهي إما أن نعرف الله فنكره أنفسنا ونبغضها جداً ونصير في خصومه معها لأننا نجدها تحرمنا منه بجموحها وعدم قدرتها على الثبوت في حالة التوبة بالبرّ ومخافة الله !!!... أو قد نعرف أنفسنا في ذاتها فنبتعد عن الله إذ نجده مانع عظيم أمام طموحنا ورغباتنا وأحلامنا، وقد نتخذ الآية حصن لنا وحجة دامغة على ذلك المفهوم: [ وقال للجميع إن أراد احد أن يأتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه كل يوم و يتبعني ] (لوقا 9: 23) فنجد صعوبة في التوفيق بين المعرفتين، فنجد أنفسنا بين أربعة أمور:
وهنا يكمُن سرّ الله وسرّ الإنسان، كيف ؟!!! [ فخلق الله الإنسان على صورته، على صورة الله خلقه ذكراً وأنثى خلقهم. وباركهم الله وقال لهم أنموا وأكثروا واملئوا الأرض .. ] (تكوين 1: 27 - 28 ) قبل السقوط نجد إن الإنسان – بطبيعة تكوينه وصورة الله المخلوق عليها – كان في حالة من الانسجام التام مع الله ومع نفسه، ولا يوجد خصومة أو تعارض بين رغباته وإرادته وإرادة الله، بل هناك انسجام واضح في لقاء حي مع الله والتعلَّم منه ... ويشرح القديس غريغوريوس النيصي سرّ حنين النفس وشوقها لله قائلاً: [ إذا كان الإنسان قد دُعيَّ للحياة ليكون شريكاً في "الطبيعة الإلهية"، فلا بدَّ أن يكون تكوينه أساساً يؤهَّله لهذه المشاركة ... كان من الضروري أن شيئاً من المماثلة الإلهية يُمزج بالطبيعة البشرية حتى تجعله هذه العلاقة يميل إلى ما تمُت إليه.. من أجل هذا وهب للإنسان كل السجايا الجديرة باللاهوت، حتى يتوق كل من هذه الفضائل (الحكمة ، البصيرة ... الخ) إلى مثيله في الله. ولأن الأبدية ملازمة للاهوتية على الإطلاق، كان لابُدَّ من أن لا تُحرم منها طبيعتنا، بل أن تُذوَّد بعنصر الخلود. وبفضل هذه الهبة الممنوحة، نجدها – النفس – مشدودة دائماً إلى ما يفوق قامتها، يحدوها دائماً الحنين إلى الأبدية. هذا ما تُشير إليه رواية خلق الإنسان في عبارة واحدة جامعة شاملة عندما تقول أن " الإنسان عُمل على صورة الله " (تكوين 1: 26 ) ] والقديس أثناسيوس الرسولي يعلّق على نفس الآية شارحاً معنى صورة الله في الرسالة عن الروح القدس قائلاً: [ يعني أن نفهم الإنسان باعتباره أبناً لله في الابن الحقيقي ]
الحقيقة أن الإنسان موضوع سرور الله وسرّ شبع ربنا يسوع - حسب التدبير - وقد أظهره بمعنى بديع في الكتاب المقدس عند لقاؤه بالسامرية: فقال لها يسوع أعطيني لأشرب، لأن تلاميذه مضوا إلى المدينة ليبتاعوا طعاماً، فبعد لقاء السامرية أتى التلاميذ بالطعام [ ... سأله تلاميذه يا مُعلم كُل. فقال لهم أنا لي طعام لآكل لستم تعرفونه أنتم، فقال التلاميذ بعضهم لبعض: ألعل أحد أتاهُ بشيء ليأكل. قال لهم يسوع: طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني وأُتمم عمله ] ( أنظر يوحنا 4: 31 – 34 )
من هنا نقدر أن نميز ونعي تمام الوعي، لماذا يُفتش الله عن الإنسان باستمرار وإصرار مهما كانت خطاياه فادحة وعيوبه خطيرة، وهذا ما نلاحظه في جلوسه مع الخطاة والأثمة كما حدث مع المرأة الخاطئة والسامرية وغيرها، ونتحسس موضوعنا وسطهم ... وندرك أيضاً لماذا يُفتش الإنسان عن الله بحنين وشوق داخلي يظهر في كل الديانات !!! فمنذ السقوط ونسمع قول الله [ آدم أين أنت ] !!! (أنظر تكوين 3: 9) وأيضاً نجد صوت الإنسان يصرخ في عبادة الله بطرق مختلفة، عله يجد الطريق، وهو يُعبر بطريقة ضعيفة بأنين داخلي [ أين أنت يا الله ]: [ أين الطريق إلى حيث يسكن النور ] (أيوب 38: 19) [ صارت لي دموعي خبزا نهاراً وليلاً إذ قيل لي كل يوم أين إلهك ] (مزمور 42: 3) [ ثم ذكر الأيام القديمة موسى وشعبه أين الذي أصعدهم من البحر مع راعي غنمه أين الذي جعل في وسطهم روح قدسه ] (أشعياء 63: 11) [ تطلع من السماوات وانظر من مسكن قدسك ومجدك أين غيرتك وجبروتك، زفير أحشائك ومراحمك نحوي (هل) امتنعت !!! ] (أشعياء 63: 15)
نستطيع الآن أن نفهم ما هو سرّ المرض الإنساني على ضوء ما شرحناه سابقاً: فالإنسان المريض روحياً والمتعب في داخله – وهذا التعب ينعكس على كل أعماله التي تظهر قلق قلبه المستتر – هو إنسان تاهت منه نفسه وقد انغلقت على نفسها – انعزلت – وأخفت سرها، فتاه معها حل مشكلته الحقيقية المخفية فيه !!!
لقد تشتتنا في هذا العالم المضطرب وعيشنا الجسدي، وحملنا كل هم وغم في أنفسنا، وانطمست المعالم الإلهية فينا، والموت أصبح يسري في داخلنا بسبب سلطان الأهواء الذي يعمل في أعماق قلوبنا من الداخل، حتى صارت ثمارنا فاسدة [ كذب ونفاق وذات وكبرياء وتعصب... وغيرها من الأمور الناتجة من سلطان الخطية والموت ]... إننا نجد الإنسان بتاريخه الطويل والمتعب، قد انغمس في هموم الدنيا والخطية والشهوة وتعظم المعيشة، وتعظيم الذات التي أصابته بالعمى ولهته عن التفتيش الدائم عن الله القدوس مُحيي النفس، فقد نسى الإنسان نفسه ولم يعرف حقيقتها ولم يعرف مصيره: [ أعلم من أين أتيت وإلى أين أذهب. وأما أنتم فلا تعلمون من أين آتي ولا إلى أين أذهب ] (يوحنا 8: 14)
|
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
بالنسبة لطول أناة الله على الإنسان إذ يرى الله لا يعاقب الإنسان في الحال |
يشوع وسرّ الهزيمة |
يشوع وسرّ الراحة |
لماذا يرى البعض أن الجسد عائق للحياة مع الله وان كل ما فيه دنس وشرّ |
مريم وسرّ الفداء |