رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
مصطلح "آباء الكنيسة".. هل من أصول؟؟ كانت هناك قاعدة في المجامع التي تلت مجمع نيقيه وهي: “إن قانون إيمان مجمع نيقيه كافٍ للحُكْمِ على أرثوذكسيّة أي تعليم”. كما كان القديس كيرلس الكبير كثيرًا ما يستهلّ كلماته بالعبارة الآتية: “آباؤنا المغبوطون علّمونا”. لقد أراد بهذه العبارة التأكيد على أنّه لم يأتِ بجديد، وأنّ ما يعيد صياغته وفقًا لمتغيّرات عصره لم يخالف ما تسلّمه، ولكنه يبني عليه. فالبناء الآبائي قائم على أساس واحد هو المسيح؛ رأس الزاوية. ولكن مَنْ هو المسيح؟ فَهْمُ المسيح هو ما كان يحميه الآباء من تشويهات الهراطقة وادعاءات الجهَّال، « كي لا نكُون فيما بعد أطفالاً مُضطربينَ ومحمولينَ بكلّ ريح تعليمٍ، بحيلة النّاس، بمَكْرٍ إلى مَكيدة الضَّلال » (أفسس 4: 14). لم يكن تعبير “الآباء” وليد الصدفة؛ فلقد أسميناهم آباء لأنهم ولدونا من الروح في المسيح من خلال كرازتهم وتعاليمهم، وبذلك صرنا أبناء شرعيين لآباء شرعيين أجمعت عليهم الكنيسة، لا كالهراطقة الذين وَلَدوا لهم بنينًا من رحمٍ آخر غير كلمة الله الحيّة والباقية إلى الأبد. كثيرًا ما نقرأ في كتابات الآباء العبارات التالية: نحن نؤمن.. كما قال المسيح.. كما تسلّمنا من الرُسُل.. كما تؤمن الكنيسة.. كما تُعلِّم الكنيسة.. إلخ، وهي كلّها عبارات تؤكِّد على أنّ الآباء لم يكونوا أفرادًا منعزلين يُخلِّقون إيمانًا ولاهوتًا، ولكنهم كانوا امتدادًا حيًّا لمَنْ سبقوهم، كما أنّهم بذارٌ حيّة لنا نحن الذين جئنا من بعدهم. لذا فقد كان لآبائنا، آباءٌ، تتلمذوا عليهم وقبلوا الروح من أفواههم. لم يبزغوا فجأة في سماء الكنيسة، ولكنّهم عرفوا كيف يتتلمذوا، لذا صاروا فيما بعد مُعلِّمين. إنّ الأمور التي نتعلّمها في الصبا تنمو مع النفس وتصبح معها واحدًا. فأستطيع هكذا أن أقول في أي مكان كان الطوباوي بوليكاربوس يجلس للتحدُّث. كما أذكر كيف كان يدخل ويخرج ويعيش، وأيًّا كان منظره الطبيعي ومحادثاته إلى الجماعة، وكيف كان يتكلّم على علاقاته بيوحنّا وبالآخرين الذين رأوا الربّ، وكيف كان يُذكِّر بأقوالهم، وما هي الأمور التي سمعها منهم بشأن الربّ ومعجزاته وتعليمه، وكيف حصل بوليكاربوس على كلّ ذلك من شهود عيان على كلمة الحياة، وكان يرويها وفقًا للأسفار المُقدّسة، وتلك الأمور أيضًا بالرحمة الإلهيّة التي صُنعت إليّ، أصغيت إليها بعناية، محافظًا على ذكرها، لا في الورقة، بل في قلبي. (القديس إيريناؤس) كانت عادة قديمة أن يكون المُعلِّم أبًا لتلاميذه، لذا فقد خاطب القديس بولس أهل كورنثوس في رسالته الأولى قائلاً: « لأنّه وإن كان لكم ربواتٌ من المرشدين في المسيح، لكن ليس آباءٌ كثيرون. لأني أنا ولدتكم في المسيح يسوع بالإنجيل » (1كو4: 15). من يتعلَّم من فمٍ آخر، فإنّه يُدعَى له ابنًا، كما يُدعَى الأخير له أبًا (القديس إيريناؤس) والآباء هم الأقرب زمنيًّا لعصر المسيح، يفصلهم عنه بضعة أجيال. منهم مَنْ تتلمذ على تلاميذه المباشرين وذهب ينقل الخبر والخبرة إلى الكنيسة، ومَنْ صار منهم مُكرَّس القلب والذهن تسلَّم من التلاميذ عصا الرعاية، لتبقَى الخبرة منقولة فمًا لأذن، لتشرح وتُفسِّر ما يختلط على البعض من نصوص دوّنها التلاميذ الأوائل. الكلمات وليدة النفس. لذا ندعو أولئك الذين علّمونا، آباء.. وكلّ من تعلَّم هو بمثابة ابن لمعلِّمه (كليمندس السكندري) إنّ البعض يتردَّد في قبول مصطلح الآباء استنادًا إلى كلمات الإنجيل القائلة: « ولا تَدْعُوا لكم أبًا على الأرْضِ، لأنّ أباكم واحدٌ الذي في السّماوات » (مت23: 9). وهذا يدفعنا للتساؤل عن مخاطبة الآباء الجسدانيين بهذا اللّقب؛ فمَنْ منّا لم يدعُ أباه الجسدي: أبي!! هل في هذا النداء الحميمي والذي يُوصِّف العلاقة بين الابن والوالد ما يُناقِض تعاليم المسيح؟؟ إنّ هذا الأمر يلقي بظلاله على إشكاليّة الفهم الحرفي للنصوص الكتابيّة والذي يُصدِّر وجهًا للمسيحيّة به سمات الأصوليّة. ومَنْ يقرأ السياق الذي وردت فيه كلمات المسيح يُدرِك تمامًا أنّ الخطاب كان موجّهًا للكتبة والفريسيين نقدًا وإدانةً لممارساتهم الزائفة؛ فهُم يُحبّون أن يظهروا في الطرقات بملابسهم الفخمة وأهدابهم الطويلة وعصائبهم العريضة على جباههم، ليدعوهم الناس: سيّدي سيّدي “رابي رابي”، إرضاءً لغرورهم الزائف. لذا كانت كلمات المسيح واضحة وقاطعة أنّ المُعلِّم والسيِّد هو المسيح الواحد مع الآب، ومن الآب تستمد كلّ أبوّه قيمتها. كما يُوجد فارقٌ كبيرٌ بين مَنْ يمشي بصولجان العظمة ليستقطب مديح وإعجاب وتكريم الآخرين، وبين مَنْ نالوا التكريم بعد نياحتهم. فتقنين مُصطلح “آباء الكنيسة” جاء في مرحلة لاحقة بعدما انتقل هؤلاء الآباء إلى الأقداس العُليا، وتمّ تقييم تعاليمهم على ضوء الإجماع الكنسي ونقاوة الحياة. هناك دائمًا خلط يحدث حينما يُستخدم التعبير بمعنَى مزدوج؛ فمثلاً نجد أن المسيح أعلن عن نفسه كـ“نور العالم”، ولكنّه دعَى المسيحيين أيضًا “نور العالم” هل هذا يعني أنّ المسيحيين متطابقين مع المسيح؟ بالطبع لا. كذلك نجد أنّ المسيح هو “الكرمة الحقيقيّة”، والعذراء تُلقِّبها الكنيسة بـ“الكرمة الحقيقيّة”، فهل العذراء مساوية للمسيح؟ بالطبع لا. لذا من الضروري أن نُفرِّق بين التعبير النسبي والتعبير المطلق لنفس الكلمة، لنستطيع أنْ نتعرّف إلى فكر المسيح المُدوَّن في الكتاب المُقدَّس. يروي لنا جان بوتي في كتابه “الله أبونا” أنّ الرابيين أرسلوا إلى رابي حنّان حفيد رابي هوني، لكيما يُصلِّي من أجل الأمطار، فلما جاءه التلاميذ أمسكوه من أهداب ثوبه قائلين: “أبَّا أبَّا، أعطنا المطر!” فما كان منه إلاّ أن صلَّى قائلاً: “يا سيّد الكون، افعل هذا لهؤلاء الذين لا يعرفون أن يميِّزوا ‘الأبَّا’ الذي يستطيع أن يمنح المطر، و‘الأبَّا’ الذي لا يستطيع.” فالاثنان آباء؛ ولكنّ ما بين أبوّة الله وأبوّة البشر بونٌ شاسع. وفي التقليد اليهودي نجد أنّ مُصطلح “الآباء” نعني به، بالدرجة الأولى، الآباء الأُوَّل؛ إبراهيم واسحق ويعقوب، فضلاً عن الآباء القدامَى الذي جاء ذكرهم في المشناه اليهوديّة تحت عنوان أقوال الآباء Pirqe Aboth. وفي العهد الجديد نجد أنّ داود هو « رئيس آباء » (انظر: أع2: 29). كما كان كلّ الشعب الفار من مركبات فرعون هم أيضًا « آباء » (انظر: 1كو10: 1). وفي المشناه اليهوديّة، كان اللَّقب الذي يُدعَى به كلّ من شمَّاي وهلِّل صاحبي المدرستيْن الأشهر في التأثير على المجتمع اليهودي قبل ولادة المسيح هو: “آباء العالم”، وهو نفس اللَّقب الذي أُطلق على رابي عقيبا ورابي إسماعيل فيما بعد. وقد كان لقب “أب” يُعطَى لمؤسّسي المدارس اليهوديّة من الرابيين الكبار حسبما جاء في تفسير Pulpit على إنجيل متّى. وبحسب الموسوعة اليهوديّة، كتب سولومون شختر Solomon Schechter وكاسبر ليفياس Caspar Levias أنّ موسَى يُدعَى “أبو الحكمة / أبو الأنبياء” كما كان رابي هوشعيا “يُدعَى أبو المشناه”. لذا فالأبوّة التي رفضها المسيح هي الأبوّة المذهبيّة والتي تنتمي لأحد المدارس اليهوديّة القديمة، تلك التي كانت تستقطب اليهود لتعيد صياغة فهمهم لنصوص العهد القديم وأوامره ونواهيه. لذا فرّق المسيح بين ما هو من موسَى وما هو من الآباء؛ « لهذا أعطاكم موسَى الختان، ليس أنّه من موسَى بل من الآباء، ففي السبت تختنون الإنسان » (يو 7: 22). وفي الخطبة التي ألقاها الشهيد إستفانوس قبيل استشهاده، دعى الحاضرين: « الأخوة والآباء » (انظر: أع 7: 2)، وهو نفس التعبير الذي استخدمه القديس بولس (انظر: أع 22: 1). كما ذكر القديس بولس والقديس يوحنّا، «الآباء»، في سياق الحديث عن العَلاقة بين الأب وبنيه (انظر: أف 6: 4؛ 1يو 2: 13-14). ومن الشهادت المُبكِّرة، نقرأ في وثيقة “شهادة بوليكاربوس” (70 م. - 166 م.) أنّ بوليكاربوس دُعي “أبو المسيحيين”؛ كما كان يُخاطِب أوريجانوس، بعض الأساقفة بكلمة “بابا”، في حوراه مع هيراقليدس، وهو التعبير الذي أصبح يُعبِّر عن البطريرك السكندري أولاً، ومن بعده الروماني، حسبما جاء في “موسوعة المسيحيّة” The Encyclopedia of Christianity في جزئها الأوَّل. ويُحدِّث كليمندس الروماني، الكورنثيين، داعيًا إياهم للعيش في وئامٍ؛ “متناسين الإهانات، سالكين في المحبّة والسلام، ثابتين على الرصانة، في كلّ ظرفٍ، نظير آبائنا (يقصد الرسل) الذين أظهرنا لكم مَثَلَهم”. ومن الجدير بالذكر أنّ تلك الكلمة كانت مُستخدمة في دوائر تعليم الفلاسفة مثل؛ فيثاغورث وسينيكا. يُطالِعنا ديفيد ل. هولمز David L. Holmes بعنوان لمقالٍ مثير للدهشة: “هل لقب الأب / الأم يصلح للقادة البروتستانت؟” وهو المقال الذي نشره في عدد ديسمبر من دوريّة “القرن المسيحي” The Christian Century. ومن اللاّفت للنظر أنّه أكّد، في المقال، أنّ بعض الكنائس البروتستانتيّة في بداياتها التكوينيّة أطلقت على مؤسِّسيها لقب “أب” ومنهم جون ويسلي مؤسِّس الميثوديست والذي أطلقوا عليه لقب “الأب ويسلي”. ويكمل في مقالاته أنّ لفظة “أب” قد تلاشت من القاموس البروتستانتي الحديث كنتيجة لحصول القادة البروتستانت على درجات علميّة فصار لقب من حصل على الدرحة العلميّة؛ “دكتور” وجاءت كلمة “راعٍ” لتتماشَى مع السند الكتابي الذي يبحثون عنه في مواقفهم وقناعتهم الإيمانيّة، حسبما كتب. وفي بحثنا عن استخدام الكلمة بين الجماعات البروتستانتيّة يجب أن نُراعي أنّ المواقف البروتستانتيّة مختلفة من طائفةٍ لأخرى ومتباينة من مجتمعٍ لآخر، فاللّفظة تبقَى خيار الجماعة وليست قانونًا يسري على الجميع. من هنا يمكننا أن نلمح أن الرفض المعاصر لكلمة “أب” لم يكن موقفًا أيديولوجيًّا بروتستانتيًا منذ عهد التأسيس ولكنّه تحوُّلٌ حديثٌ نسبيًّا، ممّا يغلق الجدل حول إمكانيّة استخدام الكلمة من عدمه. فالإشكاليّة البروتستانتيّة مع الآباء هي في دور الأب في الكنيسة ومدى “سلطة” كلماته في التعبير عن الإيمان والحياة. |
|