في حب العزلة والصمت
1 – التمس وقتًا ملائمًا، تفرَّغ فيه لنفسك، وأكثر من التفكُّر في إحسانات الله.
دع المستطرفات، واختبر لك مطالعات، توليك انسحاق القلب لا اشتغال البال.
لو اجتنبت فضول الكلام، والتجول في البطالة، واستماع الأخبار والأحاديث، لوجدت وقتًا كافيًا وملائمًا للعكوف على التأملات الصَّالحة.
إنَّ أعاظم القديسين، كانوا يتجنبون معاشرة الناس، قدر استطاعتهم، ويؤثرون التَّعبد لله في الخلوة.
2 – لقد قال أحد القدماء:" ما كنت قطُّ بين الناس، إلاَّ عدت إنسانًا منتقصًا" (سنيكا: الرسائل 7).
ذلك ما نختبره غالبًا، بعد المحادثات الطَّويلة.
الصمت الكامل أيسر من عدم الإفراط في الكلام.
ألانزواء في البيت، أسهل من صيانة النَّفس، في الخارج، على ما ينبغي.
فمن رام أن يبلغ إلى الحياة الدَّاخليَّة الرُّحيَّة، فعليه أن " يعتزل الجمع" (يوحنا 5: 13) برفقة يسوع.
لا يظهر بأمان، إلاَّ من يرتاح إلى الخفية.
ولا يتكلَّم بأمان، إلاَّ من يرتاح إلى الصمت.
ولا يكون آمنًا في الرئاسة، إلاَّ من يرتاح إلى الخضوع.
ولا يأمر بأمان، إلاَّ من تعلَّم أن يحسن الطَّاعة.
3 – ولا يكون آمنًا في الفرح، إلاَّ من له، في نفسه شهادة ضميره الصَّالح.
غير أنَّ طمأنينة القديسين، كانت تملأها أبدًا مخافة الله، ولم يكن سطوعهم بعظيم الفضائل والنعم، لينقص من حذرهم وتواضعهم. أمَّا طمأنينة الأشرار، فأصلها الكبرياء والاعتماد على الذَّات، وعاقبتها غرور النفس. لا تعد نفسك بالطمأنينة في هذه الحياة، مهما خيّل إليك أنك راهبٌ صالح، أو ناسكٌ متعبد.
4 – كثيرًا ما وقع في أشدّ الأخطار، قومٌ أخيارٌ في نظر الناس، وذلك لفرط اعتمادهم على أنفسهم.
ومن ثم فخيرٌ للكثيرين أن لا يخلوا تمامًا من التَّجارب، بل أن يهاجموا بتواتر، لئلاَّ يفرطوا في الطُّمأنينة، فيترفَّعوا صلفًا، ويميلوا بإفراطٍ إلى التَّعزيات الخارجيَّة.
آه! كم يصون الإنسان نقاوة ضميره، إن هو لم يلتمس قطُّ فرحًا زائلًا، ولم يعكف على المشاغل العالمية!
آه! ما أعظم ما يملك من السلام والراحة، من يقطع كل اهتمامٍ باطل، ويتفرغ للتَّفكير في الأُمور الخلاصيَّة الإلهيَّة، ويضع في الله كلَّ رجائه!
5 – لا يكون أهلًا للتَّعزية السَّماويَّة، إلاًّ من يتدرب، بنشاط، على الانسحاق المقدَّس.
إن رمت انسحاقًا يبلغ إلى الصَّميم، فادخل مخدعك، وأقص عنك ضوضاء العالم، كما كتب:" تندَّموا في مخادعكم" (مزمور 4: 5).
إنك لواجدٌ، في مخدعك، ما تفقده غالبًا في الخارج.
إن لزمت مخدعك، وجدته عذبًا، وإن أكثرت من هجره، أورثك السَّأم.
إن أقمت به، ولزمته حسنًا، منذ بدء هدايتك، أصبح لك، في ما بعد، الصديق الحبيب، والعزاء الجزيل العذوبة.
6 – في الصمت والسكينة، تتقدَّم النَّفس العابدة، وتتعلَّم مكنونات الكتب المقدسة.
هناك تجد مجاري دموع، تغتسل وتتنقَّى فيها كلَّ ليلة، لتزداد ألفة مع خالقها، بقدر ما تعيش بعيدةً عن كل ضجةٍ دنيويَّة.
فمن اعتزل المعارف والأصدقاء، دنا إليه الله مع ملائكته القدّيسين.
خيرٌ للمرء أن يتخَّفى ويعنى بذاته، من أن يأتي الآيات، وهو غافلٌ عن نفسه.
حميدٌ في الرجل العابد، أن لا يكثر الخروج من مخدعه، وأن يتجنب الظهور بين الناس، ولا يرغب في النظر إليهم.
7 – ما بالك تروم النظر إلى ما لا يسوغ لك اقتناؤه؟ "فالعالم وشهوته يزولان" (1 يوحنا 2: 17).
رغائب الحواس تدفعك إلى التَّفسُّح، ولكن إذا مرت تلك السَّاعة، فماذا يبقى لك سوى عناء الضَّمير وتشتت القلب؟
ربَّ ذهابٍ في الفرح، عقبه إيابٌ في الحزن، وسمرٍ حافل بالسرور، تبلَّج عنه صبحٌ كئيب!
هكذا كلُّ لذَّةٍ جسدية: تستغوي فتدخل، لكنها أخيرًا تلدع فتهلك.
ما عساك أن تراه في مكان آخر، ولا تراه هنا؟
ها هي ذي السماء والأرض وجميع العناصر، فمنها كونت جميع الأشياء.
8 – أين تستطيع أن ترى شيئًا يمكن أن يدوم طويلًا تحت الشمس؟
قد تظنُّ أنك ترتوي، ولكنك لن تنال مرامك.
لو رأيت جميع الأشياء حاضرةً أمامك، فهل ذلك إلاَّ رؤيا باطلة؟
إرفع عينيك إلى الله في العلاء، وابتهل من أجل خطاياك وغفلاتك.
دع الأباطيل لذوي الأباطيل، أما أنت، فاعكف على ما أمرك به الله.
أغلق عليك بابك، وادع إليك يسوع حبيبك.
أُمكث معه في مخدعك، فإنك غير واجدٍ مثل هذا السلام في مكان آخر.
لو لم تستفض إلى الخارج، وتسمع لشيءٍ من لغط البشر، لبقيت في سلام أوفر.
أما وقد لذَّ لك استماع الأخبار، فلا بد أن تعاني بسببه اضطراب القلب.