القديس أفراهاط
أولًا: سيرته:
1- ميلاده:
* وُلد في أواخر القرن الثالث أو بداية القرن الرابع الميلادي ببلاد فارس، وكان والداه من سلالة المجوس من عبدة الأوثان، أما هو فمنذ صبوته لم يسترح لفكر آبائه وحياتهم المملوءة بالرجاسات.
2- قبوله الإيمان:
أ- لا يزال الجدال قائمًا بخصوص أصله إن كان وثنيًا أم مسيحيًا. فالبعض يعتمد على عباراته عن الوثنيين حيث يقول: "نحن". والآخرون يرون في معرفته الواسعة للكتاب المقدس بعهديه واقتباساته الكثيرة دليلًا على انه من أصل مسيحي.
ب- اعتمد ودُعى يعقوب إما في عماده أو رهبنته أو سيامته أسقفًا. مما سبب خلطًا بينه وبين يعقوب من نصيبين المتوفى سنة 338 م.
3- وحدته:
* رأى أفراهاط أن يترك بلده كإبراهيم ويذهب إلى أديسا (الرها) فيما بين النهرين ليتشدد بإيمان المسيحيين هناك. وإذ كان يميل لحياة الوحدة سكن في مكان قريب من المدينة، ففاحت فيه رائحة المسيح الذكية وجاء الكثيرون يسترشدون به ويطلبون صلواته. بعد فترة ذهب إلى أنطاكية وقاوم الأريوسية.
* يبدو أنه ترك موضعه وذهب إلى منطقة أخرى بسوريا حيث ازداد في نسكه. فلم يكن يأكل إلا خبزًا ويشرب ماء مرة في اليوم مع بعض الخضراوات غير المطبوخة عندما كبر في السن.
4- أفراهاط الأسقف:
* يبدو أنه كان أسقفًا، كما يظهر من حديثه الذي وجهه إلى الرعاة (مقال 14).
5- أفراهاط والاضطهاد:
* سجل المقالة 21 عن الاضطهاد في تلك الحقبة لكي يشجع المؤمنين في مواجهة الاضطهاد.
6- حكمته:
ܐܦܪܗܛ
* افتقده تارة أنثيموس والى أنطاكية الذي صار فيما بعد سفيرًا في فارس. في طريقه عبر بأنطاكية عام 405 م.، وقدم للقديس أفراهاط ثوبًا جديدًا جاء به من بلاد فارس كهدية من بلد هذا المتوحد. وإذ كان بطبعه لطيفًا وبشوشًا تقبل الهدية وشكره عليها. وبعد قليل سأله أفراهاط: "إني أستشيرك في قضية تحيرني وتبلبل فكرى، وهى إنني منذ حوالي 16 عامًا عزمت أن يكون لي صديقًا واحدًا اخترته ليرافقني ويعيش معي. وكان هذا الصديق يعجبني جدًا ويعزيني ولم يحزنني قط، لكن جاء آخر من بلد بعيد وأراد أن يحتل مكانه، فأي الاثنين أقبل؟! أجاب الوالي: "الأول". ابتسم أفراهاط وقال له: "إن الصديق القديم هو ثوبي يلازمني هذه السنوات الطوال فكيف استبدله بآخر؟"! حينئذ ابتسم الوالي وأدرك أن أفراهاط يود الاعتذار عن قبول هديته بلطف، فاسترد الثوب وهو متعجب من حكمته ولطفه، إذ لم يرد أن يجرح إحساساته حتى في رفضه للهدية.
7- صراع ضد الأريوسية
* إذ نفى الإمبراطور فالنس ملاتيوس أسقف أنطاكية، وأثار الاضطهاد على الكنيسة بسبب فكره الأريوسى، دخل أفراهاط مدينة أنطاكية، وكان يشجع المؤمنين ويشددهم على الإيمان المستقيم، مبرهنًا لهم على لاهوت السيد المسيح. وكان الأريوسيون يعجزون عن مقاومته أو مجادلته من أجل النعمة التي وُهبت له خلال كلماته وحياته والعجائب التي كان الله يجريها على يديه. لذا كان الأريوسيون يهابونه ويريدون التخلص منه.
* يصف لنا ثيؤدورت قصة لقاء البار أفراهاط مع الإمبراطور فالنس حيث كتب: "على شمال نهر الأورنت يقع القصر. وعلى الجنوب يوجد رواق من دورين فسيحين، مبنى على سور المدينة، وبه أبراج عالية من كل جانب. وبين القصر والنهر يوجد طريق عام مفتوح للمارة القادمين من المدينة، يقود الباب في هذا الحي إلى البلدة في ضواحيها.
* حيث أن كان البار أفراهاط عابرًا هذا الطريق العام في طريقه إلى ساحة تدريب الجنود ليقوم بعمل رعوي لشعبه. وإذ كان الإمبراطور يتطلع إلى أسفل من بهو القصر ورآه سائرًا مرتديًا عباءة عادية من جلد الماعز ويسير بسرعة بالرغم من تقدم سنه، أدرك أنه أفراهاط الذي التصقت به كل المدينة، فصرخ الإمبراطور: "أين أنت ذاهب؟ أخبرني". بمهارة وسرعة بديهة أجاب "لأصلي من أجل الإمبراطورية".
* قال الإمبراطور: "كان الأفضل أن تبقى في مسكنك وتصلى وحدك كراهب".
* قال الرجل القديس: "نعم، إني ملتزم بالعمل هكذا، وأنا دومًا أفعل هذا حتى الآن مادام قطيع المسيح في آمان. لكن الآن إذ القطيع مرتبك وفي خطورة ومحنة عظيمة يتعرض للافتراس بالوحوش، يلزمني ألا أترك وسيلة لأعمل بها على إنقاذ الرضيع. أخبرني يا سيد، لو أنني كنت فتاة أجلس في حجرتي وأنظر وإذا بوهج لهيب يسقط على البيت واشتعلت النار في بيت أبى، فماذا يلزمني أن أفعل؟ أخبرني هل أبقى جالسًا في الداخل ولا أبالى بالبيت وقد اشتعلت فيه النيران وأنتظر حتى تقترب إلى النار؟ أم أترك موضعي وأجرى هنا وهناك وأحضر ماءً وأحاول إطفاء النار؟ حتمًا ستقول لي الأمر الأخير، فإن هذا ما يليق أن تفعله الفتاة الجادة الشجاعة وهذا هو ما أفعله الآن يا سيد. إنك تشعل النار في بيت أبينا، ونحن نسرع ساعين لإطفائها". هكذا قال أفراهاط هذا، فهدده الإمبراطور، لكنه لم يعد بعد يتكلم.
* هدد أحد حجاب القصر الإمبراطوري البار بعنف شديد، فكان مصيره الآتي: كان موكلًا إليه الاهتمام بالحمام. في الحال بعد المناقشة نزل ليهيئ الحمام للإمبراطور. وعند دخوله فقد صوابه ونزل في المياه المغلية قبل مزجها بالماء البارد فلقى مصرعه.
* جلس الإمبراطور منتظرًا إياه ليخبره بأن الحمام مُعد ليدخله. ولكن إذ طالت مدة انتظاره، أرسل بعض رجاله ليخبروه عن سبب التأخير. دخلوا وصاروا يبحثون عنه في الحجرة فاكتشفوا أن الحاجب ميتًا في الماء المغلي.
* عرف الملك ذلك وعرف من معه قوة صلوات أفراهاط، لكنهم لم يتخلوا عن تعاليمهم الشريرة، إذ تقست قلوبهم مثل فرعون. وإذ عرف الإمبراطور المخبول لم يتعظ من المعجزة بل هاج جنونه ضد التقوى.
* لم يمض إلا وقت قليل ومات فالنس في حريق، فاستراحت الكنيسة من مقاومته.
8- نياحته:
* عاد القديس إلى توحده واختلى بها مقدما صلواته عن العالم حتى تنيح حوالي عام 345 م.
* تعيد له الكنيسة اليونانية في 29 يناير، واللاتينية في السابع من أبريل.
ثانيًا: كتاباته:
1- عدد المقالات:
* ترك لنا القديس أفراهاط 23 مقالة سُميت المقالات أو البراهين، وهى تضم ثلاث مجموعات:
* المجموعة الأولى: تتكون من عشرة مقالات كُتبت حوالي عام 336/337 م. عن الإيمان، والمحبة، والصوم، والصلاة، والحروب، والرهبان، والتائبين، وقيامة الموتى، والتواضع، والرعاة.
* المجموعة الثانية: تتكون من اثنتي عشرة مقالة، كُتبت حوالي سنة 343/344 م. أثناء الاضطهاد. موضوعاتها هي: الختان، الفصح والاحتفال به في الرابع عشر من نيسان، السبت، الابتعاد عن الخصام، تمييز الأطعمة، دعوة الأمم، يسوع المسيا، البتولية، العطاء، الاضطهاد، الموت والأزمنة الأخيرة.
* المجموعة الثالثة: تتكون من مقالٍ واحد، كتبت عام 345، عنوانها خصلة العنب.
2- إلى من وُجهت المقالات؟
* وجَّه أفراهاط مقالاته إلى من دعاهم "أبناء العهد" أو "جماعة القيامة". يبدو أن هذه الجماعة تعود إلى أصل يهودي، وبالأخص إلى رهبان قمران الذين عاشوا بالقرب من البحر الميت. وهم يضمون مجموعة من الإكليروس أساقفة وكهنة وشمامسة بل ومنهم من هم من الشعب. هم جماعة بتوليون ناسكون يكرسون حياتهم للعبادة ولا يمارسون أعمالًا تجارية أو زراعية أو أية وظيفة تدر مالًا، ذابوا فيما بعد في التنظيمات الرهبانية.
3- سمات كتاباته:
أ- جاءت هذه المقالات إجابة على أسئلة موجهة إليه من صديق له أو جماعة من الإخوة يعانون من الضيق ويستفسرون عن بعض المسائل الإيمانية والروحية.
ب- لم يذكر الكاتب اسمًا لأحد ولا موضعًا ما، ولا انتقد الرئاسات الدينية، حتى لا تحمل أي تحيز شخصي.
ج- لما كان أصل الجماعة التي كتب إليها يهوديًا فلا نعجب من اقتباسه الكثير من العهد القديم، وقيامه بمقابلات بين شخص وآخر مثل تقدمة هابيل وتقدمة قايين، وصوم موسى والصوم الذي فرضته إيزابيل. لكن ما يشغله بالأكثر المقابلة بين شخصية يسوع مخلصنا وكثير من شخصيات العهد القديم.
د- في اقتباساته من الكتاب المقدس لم يلتزم بالنص، إنما غالبًا ما كان يكتب النص من ذاكرته. وقد أحصت مارى جوزيف بيار هذه الاقتباسات سواء الصريحة أو بالتلميح فوجدت أنها 2691 أما Wright فأحصى 794 نصًا من العهد القديم و446 من العهد الجديد.
4- الخطوط العريضة للمقالات
المقالة الأولى في الإيمان:
* يقدم الإيمان بكونه بناءً، حجره الأساسي هو السيد المسيح، يكتمل هذا البناء ليصير هيكلًا للآب ومسيحه. أما مواد البناء فهى الأعمال الصالحة. يقدم أمثلة لإيمان شخصيات من العهدين القديم والجديد، وفاعلية الإيمان في حياتهم وخدمتهم.
المقالة الثانية في المحبة:
* يوضح ارتباط الناموس والأنبياء بوصية المحبة، مؤكدًا أن الله إله الحب والرحمة والمغفرة. ويطالبنا بالمحبة نحو إخوتنا، مقتبسًا تسبحة المحبة التي أوردها الرسول بولس (1كو13)،قدم السيد المسيح محبته لنا عمليًا قبل أن يدعونا لمحبة الله والقريب.
المقالة الثالثة في الصوم:
* الصوم الطاهر مقبول، وهو ليس مجرد الامتناع عن الطعام، بل عن الشر. قدم أمثلة لأصوام أناسٍ قديسين وأخرى لأشرارٍ وردوا في الكتاب المقدس. وأوضح عظمة صوم يسوع، لأنه إن كان صوم دانيال أنقذ الشعب كله، فماذا يكون صوم السيد المسيح.
المقالة الرابعة في الصلاة:
* تتميز المقالة الرابعة لأفراهاط. بأنها من أقدم الرسائل المسيحية الموجودة عن الصلاة. وتتميز بالآتي:
أ- غنية بالأمثلة الإنجيلية التي تؤكد ضرورة نقاوة القلب كشرط لقبول الصلاة.
ب- الصلاة هي تقدمة داخلية أو ذبيحة لله. يقبلها الله خلال نقاوة القلب ويعلن عن قبوله لها بنزول ملاك ناري يحملها كتقدمة مقبولة لدى الله، وقد كشف الله عن ذلك خلال نزول نيران من السماء تلتهم تقدمات مؤمنين الأبرار في العهد القديم. بهذا قدم لنا القديس أفراهاط التفسير التقليدي الجذاب ليشرح لنا كيف أن هابيل عرف قبول ذبيحته بنزول نار من السماء عليها، وعرف قايين رفض ذبيحته إذ لم تلمس النار السماوية ذبيحة قايين. وواضح أنه استعار هذه العلامة من العبارات الكتابية مثلما ورد عن ذبيحة داود (1أى 26:21) وذبيحة سليمان (2أى1:7) حيث ذكر الكتاب المقدس نزول النار.
ج- ليست هذه النقطة هي فقط التي تربط التقليد اليهودي بما كُتب في هذه المقالة. لكن مفهوم الصلاة كبديل لذبائح الهيكل، الأمر الذي كان منتشرًا في اليهودية بعد تدمير الهيكل الثاني سنة 70 م.
د- الصلاة هي سلم يعقوب، إذ بالصليب (السلم الإلهي) نلتقي بمخلصنا، ونتمتع بالسماويات، ونختبر الإلهيات.
ه الصلاة هي عمل داخلي يترجم خلال السلوك. فأكد ضرورة الاستعداد للصلاة بأن يهتم الإنسان بالسلوك الداخلي، وخصوصًا مسامحة الآخرين.
و- كل حياتنا صلاة، هذا لن يتعارض مع تخصيص أوقات للصلاة (صلوات السواعي) تسندنا لكي نحيا كل نسمات عمرنا صلاة دائمة.
ز- صلاة المحبة التي تتحقق باجتماع اثنين أو ثلاثة باسم ربنا يسوع مستجابة. لكن أن وُجد المؤمن وحده كما كان دانيال في الجب ويونان في الحوت... فقد لا نجتمع مع الغير جسديًا لكننا نجتمع معهم بمشاعر الحب!
ح- مقالة أفراهاط عن الصلاة أوضحت كيف شهد القديس عن غنى التقليد الشرقي عن روحانية نقاوة القلب وقدم عدة أفكار صارت مشهورة فيما بعد.
المقالة الخامسة في الحروب:
* في المقالة الخامسة عالج الأب أفراهاط موضوع (الحرب) وقد قدم أمثلة كثيرة للحروب على كل المستويات منذ أيام قايين قاتل أخيه حتى رؤى دانيال عن الحروب بين الممالك المتوالية إلى مجيء السيد المسيح، وأيضًا مقاومة ضد المسيح للكنيسة. وقد استطرد في شرح رؤى دانيال النبي.
* ركز الأب أفراهاط على الكبرياء كعلة الحروب، وأن هذه الحروب لن تتوقف حين يتم مُلك السيد المسيح -ابن الإنسان- في مجيئه الأخير.
المقالة السادسة عن الرهبان
* إذ يكتب عن الرهبان بكونهم مسيحيين جادين ومثاليين في التمتع بالعهد الجديد والحياة المقامة، يركز الأب أفراهاط على النقاط التالية:
أ- التوبة هي طريق الملكوت، لذا يليق بالراهب أن يمارس التوبة في جانبها الإيجابي والسلبي، كالسهر ومحاربة الشر وممارسة أعمال المحبة والوحدة.
ب- أوضح أن الرهبنة هي حياة عرس مُفرح لا ينقطع، يليق بالراهب أن يحفظ ثوب العرس طاهرًا.
ج- الرهبنة هي معركة مستمرة ضد قوات الظلمة، وضد الشهوات الجسدية، لذا يليق بالراهب ألا يختلط بالنساء، فقد سقط جبابرة خلال التهاون في هذا الأمر.
د- للمرأة دورها الإيجابي في الخلاص، ويليق بالراهبات أن يتشددن في جهادهن.
ه يحتاج الراهب إلى روح التمييز، فيميز كل روح ويتعرف على حيل إبليس.
و- يقدم مقارنة بين آدم الأول وآدم الأخير واهب القيامة.
المقالة الثالثة والعشرون عن بركة في عنقود:
* في المقالة الثالثة والعشرين يتحدث عن "بركة في عنقود". فالصديقون هم بركة العالم، إن زالوا منه زال العالم. وإن كانت صلوات الأبرار أحيانًا لا تُستجاب في بعض الظروف، لكن يبقى دومًا أبرار في العالم كغنى له. بموت السيد المسيح انتزعت الخصلة من العنقود، فدُمرت أورشليم، وانتقلت البركة إلى الشعوب بالمسيح. هذه هي البركة الإلهية أو عطية الله للشعوب ألا وهى حضور المسيح واهب السعادة الحقيقية.
_____
(*) المرجع:
القديس أفراهاط - القمص تادرس يعقوب